مصر حديثه معاصره
Egypt - Egypte
مصر الحديثة والمعاصرة
مصر في العهد العثماني:
بعد مقتل السلطان قانصوه الغوري بايع المصريون طومان باي سلطاناً على مصر. فعرض عليه السلطان سليم حكم مصر على أن يعترف بتبعيته للدولة العثمانية، لكن طومان باي أنف أن يكون خاضعاً للسلطان العثماني، فتوجه العثمانيون بقيادة السلطان سليم إلى مصر والتقوا مع المماليك فهزموهم بالريدانية سنة 1517، ودخل سليم الأول القاهرة منتصراً، وخطب له على منابرها، ومنذ ذلك الوقت أصبحت مصر ولاية عثمانية تولاها من جهةِ العثمانيين خاير بك الذي خان مليكه الغوري في معركة مرج دابق. وبقي العثمانيون في مصر حتى إعلان الحماية البريطانية عليها سنة 1914م، وهي فترة طويلة يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل.
تبدأ المرحلة الأولى منذ أن دخل العثمانيون إليها حتى نهاية القرن السابع عشر تقريباً، وهي مرحلة يمكن وصفها بأنها مرحلة النفوذ العثماني.
تميزت هذه الفترة بمحاولة الدولة العثمانية بسط سيطرتها على البلاد وتنظيم إدارتها، حيث أبقى العثمانيون الزعماء المحليين خارج المدن في مواقعهم واعترفوا بزعامة مشايخ البدو في المناطق الشرقية والغربية وصعيد مصر، ومع أن علاقة زعماء القبائل كانت مستقرة تجاه السلطات العثمانية فإنها لم تكن كذلك مع المماليك الذين لجؤوا إلى تلك المناطق وكانوا يتحينون الفرص المواتية لاسترجاع سيادتهم على مصر. ولكن مع بداية القرن السابع عشر وظهور بوادر ضعف الدولة العثمانية أصبحت مصر مسرحاً لحروب داخلية أسهمت فيها بعض طوائف الجند المختلفة (التفكجية - الجنليان - السباهية - الزرباوات) فكانت تثير الشغب وتنقلب على من لا ترضى به من الولاة، ولا أدل على ذلك من قتلهم الوالي إبراهيم باشا سنة 1604م الذي لم يأبه إلى مطالبهم، ومن أشهر ولاة هذه الفترة مصطفى باشا زوج أخت السلطان سليمان القانوني الذي لم يحظ بمحبة المصريين لعنجهيته وتعاليه، وسليمان باشا( 1525)، وسنان باشا (1568) صاحب المنشآت العمرانية والمبرات الخيرية، ومسيح باشا (1574) الذي أحبه المصريون لعدله وعفته واستقامته، ومنهم أيضاً قره مصطفى باشا (1622) الذي ابتليت مصر في أيامه بالأوبئة والكوارث إلى جانب مظالمه التي ألحقها بالأهالي.
المرحلة الثانية تبدأ في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وتنتهي بقدوم الحملة الفرنسية إلى مصر أواخر القرن الثامن عشر. في هذه الفترة بلغ الضعف مداه في السلطنة العثمانية؛ فاستغلت طبقة المماليك هذا الظرف لمصلحتها وأعادت سيطرتها على مصر من خلال احتكارها الوظائف المهمة كإمارة الحج والقائم مقام والدفتر دار، ومن أشهر الشخصيات المملوكية في هذه الفترة إيواز بك الذي تولى منصب شيخ البلد سنة 1695 وعثمان بك ذو الفقار أمير طائفة الفقارية، وقاسم بك أمير طائفة القاسمية. وقد ازداد نفوذ هؤلاء الأمراء إلى حد لم يعد للوالي العثماني في نظرهم شأن يذكر، لكن النزاعات التي شجرت بينهم نجم عنها فتن وحروب دامية ظهر بعدها بعض البيوتات العسكرية التي أنجب بعضها شخصيات تولت رتبة الصنجقية (وحدة إدارية أصغر من الولاية) وإمارة الحج ومشيخة البلد طوال النصف الأول من القرن الثامن عشر، ومن تلك الشخصيات حسين بك الصابونجي وعلي بك الكبير الذي احتل بقواته بلاد الشام متحدياً أوامر السلطان العثماني. وعلي بك مملوك شركسي تدرج في المناصب حتى أصبح صنجقاً وأميراً للحج بآن واحد، وقد مكنه موقعه من القضاء على منافسيه من المماليك وشيوخ القبائل العربية، وأرغم والي مصر محمد راقم باشا على أن يقره على مشيخة البلد، ثم سعى إلى عزل الوالي العثماني وأصبح الحاكم الفعلي لمصر، فوطد الأمن وقام بإصلاحات كثيرة أكسبته محبة الأهالي، وملأ الفراغ الذي أحدثه ضعف السلطنة العثمانية، ثم تاقت نفسه إلى الانفصال عنها حينما أصدر عملة نقدية باسمه وخطب له على منابر مصر. وبعدما اطمأن إلى ترسيخ موقفه تطلع إلى التوسع خارج مصر، فأرسل مملوكه محمد بك أبو الذهب على رأس حملة إلى الحجاز في أعقاب حركة تمرد قادها أحد الأشراف فأخمدها واتجه إلى الشام طمعاً بثرواتها ومواردها، ولكن تخلي أبو الذهب عن فتوحاته في بلاد الشام وعودته المفاجئة إلى مصر ألجأته إلى حليفه ظاهر العمر المتغلب على فلسطين، وانتهى الأمر بمقتله سنة 1773م، لتصبح مصر خاضعة لسيطرة محمد بك أبو الذهب الذي أعلن ولاءه للسلطان مع وجود الوالي العثماني فيما يشبه الإدارة الثنائية، واستمر الوضع على هذه الحال حتى قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798م.
المرحلة الثالثة: تبدأ بوصول الحملة الفرنسية إلى مصر وتنتهي بالاحتلال البريطاني سنة 1882م.
تعرض الوطن العربي منذ بداية العصر الحديث للعديد من محاولات السيطرة الاستعمارية على بحاره وسواحله، وإذا كانت بعض تلك المحاولات قد منيت بالإخفاق، بما فيها الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت، لكن هذه الحملة نجحت بالوصول إلى مصر وجنوبي بلاد الشام، وكان من نتائجها المباشرة أن أخرجت المنطقة من عزلتها الطويلة وأثارت اهتمام الغربيين ليس في مصر وحدها وإنما في جميع بلدان المنطقة العربية.
وصل نابليون إلى الإسكندرية في يوليو/تموز 1798م، بهدف قطع الطريق ما بين بريطانيا ومستعمراتها في الشرق. وبعد معركة غير متكافئة مع المماليك دخل نابليون إلى القاهرة وعمل من فوره على توزيع منشور على المصريين يبين لهم أن من بين الأسباب التي كانت وراء حملته هو تخليص مصر وأهلها من جو المماليك، لكن المصريين لم يأبهوا لذلك، وقاموا بالثورة تلو الثورة ضد قواته في حين أقدم الأسطول البريطاني على تدمير الأسطول الفرنسي بموقعه أبي قير بعد شهر من وصوله إلى مصر ، وأدرك نابليون حرج موقفه فقرر القيام بحملته المخفقة على بلاد الشام ثم انسحب سراً في أعقابها من مصر عائداً إلى بلاده سنة 1799م، ثم لحقت به قواته سنة 1801م بشروط إنكليزية. ومع أن الحملة الفرنسية لم تحقق أهدافها فقد عدها المؤرخون حدثاً مهماً أيقظ الوطن العربي من سباته، ونبهت المنطقة إلى أهميتها السياسية والحضارية والاقتصادية، مهدت جميعها لانتقال مصر إلى عصر جديد.
عاد الصراع ثانية بين الفئات المتغلبة (عثمانيين ومماليك) بعد خروج الفرنسيين وظهرت فئة أخرى وسط هذا الصخب ممثلة بطبقة الأعيان من تجار وعلماء كان لها دور مهم في مواجهة الفرنسيين، فرأت أن من حقها انتزاع الدور الذي كان للمماليك وكذلك العثمانيين بعد أن تبين عجزهم عن حماية مصر، من جانب آخر كان لمشاركة المصريين في الإدارة التي سمح بها الفرنسيون أثر فعال في تحفيز المصريين لإدارة شؤونهم بمعزل عن الأتراك والمماليك؛ لهذا فقد تصدت تلك الطبقة ممثلة بعلمائها وعلى رأسهم عمر مكرم والتمست من السلطان تعيين محمد علي (قائد الجنود الألبان) والياً على مصر، فصدر فرمان السلطان سنة 1805م مؤيداً هذا الخيار.
أمضى محمد علي السنوات الأولى من ولايته بتدعيم نفوذه في البلاد، فتخلص من رقابة عمر مكرم والعلماء الذين ساندوه للوصول إلى الحكم، ثم التفت إلى المماليك فقضى على نفوذهم بعد حادثة القلعة 1811م، وحينما استعانت به الدولة العثمانية للقضاء على الحركة الوهابية قام بمهمته على الوجه الأكمل وقاد الحملات العسكرية إلى الشام ومد نفوذه إلى بلاد اليمن والسودان مدفوعاً بفكرة إعادة بناء الدولة العثمانية التي كانت تعاني الضعف الشديد في هذه الفترة، وحينما أدرك بثاقب نظره ما تبيته الدول الغربية تجاه الدولة العثمانية عمل على بناء جيش وأسطول قويين، وفق أحدث تقنيات عصره، و انشأ المدارس العسكرية بمختلف فنونها وتخصصاتها واستقدم الخبراء والضباط الأجانب لهذه الغاية وأرسل العديد من البعثات إلى الدول الأوربية وخاصة فرنسا حليفته التقليدية للاستعانة بخبراتها، أما على الصعيد الاقتصادي فقد تطورت مصر تطوراً ملحوظاً في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة، الأمر الذي لفت إليه أنظار الدول الغربية التي أخذت تنظر إلى مشروعاته التنموية بعين الريبة والشك فسارعت إلى استغلال خلافاته مع السلطان العثماني محمود معلنة وقوفها إلى جانب السلطان بذريعة ( حماية الشرعية الدولية)، ووجهت إليه إنذاراً يقضي بسحب قواته من المناطق التي تعدها جزءاً من الدولة العثمانية، ثم حاصرت سواحل بلاد الشام ومصر، وانهار المشروع الذي كان يسعى إلى تحقيقه.
بعد وفاة محمد علي استلم حفيده عباس بن طوسون مقاليد الحكم في مصر، ولم يتحقق في عهده شيء كثير، وبعد وفاته سنة 1854م خلفه عمه محمد سعيد بن محمد علي باشا حيث بدأ التدخل الأجنبي في شؤون مصر الداخلية منذ أن منح امتياز حفر قناة السويس لشركة فرنسية وللتجار والمغامرين الأجانب الذين كان لهم دور كبير في العبث بمقدرات مصر في ظل حماية قناصلهم، وفي عام 1863 م أُسندت باشوية مصر إلى إسماعيل بن إبراهيم باشا الذي استكملت مصر في أيامه استقلالها الداخلي بعد أن منحه السلطان العثماني لقب «خديوي»، على أن النفوذ الأجنبي تفاقم في عهده وأدى إلى وقوع مصر في عجز مالي هدد اقتصاد البلاد إثر افتتاح قناة السويس، فلجأ إلى الاقتراض من بعض البيوت المالية الغربية (أوبنهايم وروتشيلد) بشروط مجحفة، ومن أجل ضمان تسديد هذه الديون أُرغم إسماعيل على إدخال وزراء أجانب فيما عرف بالوزارة المختلطة، وتم رهن واردات مصر لتسديد هذا الدين على مدى 65 سنة الأمر الذي أثار المشاعر الوطنية عند غالبية الأهالي، فجاهر العلماء والأعيان بعداوتهم لتلك الوزارة مطالبين بوزارة وطنية مسؤولة، وانحاز إسماعيل لهذه المطالب فكان الثمن إقالته من منصبه وتعيين ولده توفيق بدلاً منه سنة 1879م. في عهد توفيق ازداد نفوذ الدول الغربية وأصبحت مصر عرضة لفرض الحماية عليها بعد أن استجاب الخديوي الجديد لجميع الشروط التي أملتها عليه لجنة تصفية الديون المشكلة من مندوبين بريطانيين وفرنسيين، ومندوب واحد لكل من ألمانيا- النمسا- إيطاليا، إلى جانب مندوب واحد من مصر. فأدرك الزعماء الوطنيون من أبناء مصر خطورة الموقف وقرروا التصدي للوصاية الأجنبية، وتحرك الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي على خلفية تسريح عدد من الضباط، وطالب بتشكيل وزارة وطنية مع دعوة البرلمان إلى الانعقاد ووضع دستور وطني يراعي حقوق الجميع، لكن فرنسا وبريطانيا عارضتا هذا التوجه وأرسلتا مذكرة مشتركة هيأت للتدخل العسكري البريطاني في يوليو/تموز 1882م.
المرحلة الرابعة 1882 ـ 1914م: تميزت هذه المرحلة بخضوع مصر من الناحية الاسمية للسيادة العثمانية، لكنها عملياً كانت تخضع لقوات الاحتلال البريطاني، حيث أصبح اللورد كرومر Cromer هو الحاكم الفعلي لمصر. ولم يكن توفيق سوى أداة بيد البريطانيين، أما عن علاقة مصر بالدولة العثمانية فقد تم الاتفاق بين بريطانيا والباب العالي على أن الوجود البريطاني في مصر ما هو إلا وجود مؤقت هدفه إقرار النظام واستقرار سلطة الدولة ممثلة بالخديوي، وتم الاتفاق على أن يكون لكل من الدولتين مندوب يقوم بتقديم تقريره إلى دولته ريثما يعم السلام في مصر، ولكن بريطانيا وتحت ذريعة حماية الأجانب واستخدام بعض الضباط البريطانيين لتدريب القوات المسلحة المصرية أخذت تماطل في قضية الانسحاب، وانتهى الأمر بتوقيع اتفاقية مع الباب العالي تتضمن اشتراط موافقة الدول ذات المصالح الإقليمية في المنطقة على الانسحاب من مصر، ومع أن بعض هذه الدول رفضت هذا الاتفاق لأنه سيؤثر في ميزان القوى في المنطقة لمصلحة بريطانيا فإنها ما لبثت أن تراجعت عن مواقفها عبر اتفاقات سرية تقاسمت مناطق النفوذ فيما بينها وكانت مصر من نصيب بريطانيا. وعلى العموم تم في عهد توفيق إرسال المزيد من القوات المصرية بقيادات بريطانية للقضاء على الحركة المهدية، وخضع السودان لنوع من الحكم الثنائي (مصري - بريطاني) ومات توفيق سنة 1892 تاركاً خلفه سجلاً حافلاً بذكريات مريرة في نفوس المصريين.
أصدر السلطان عبد الحميد فرماناً بتعيين عباس حلمي بن توفيق حاكماً على مصر، ويبدو أن الخديوي الشاب كان ميالاً للمطالب الشعبية، فانحاز إلى الحركة الوطنية التي كان يتزعمها مصطفى كامل، ولكن هذا العهد شهد عدداً من الشخصيات المشكوك في ولائها لمصر (نوبار باشا - رياض باشا- بطرس غالي - مصطفى فهمي) تقلدت مناصب حساسة بدعم من المقيم البريطاني كرومر، فكانت عائقاً أمام طموحات تلك الحركة، وفي عام 1906 حدثت مأساة دنشواي التي تبدى فيها فقدان الجانب الإنساني والأخلاقي عند السلطات البريطانية، فكانت ردود الأفعال غاضبة في الوسط الجماهيري، وكان لمصطفى كامل رئيس الحزب الوطني دور رئيسي في إبراز ما آلت إليه الأوضاع عبر صحيفة اللواء، وكانت تلك الحادثة سبباً في عزل كرومر، وفي سنة 1908 توفي مصطفى كامل فتابع خليفته محمد فريد مسيرة الحزب على الخطى نفسها، وحينما اشتعلت الحرب العالمية الأولى أعلنت بريطانيا الحماية على مصر منهية بذلك تبعيتها للدولة العثمانية التي دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا.
مصر في الحقبة المعاصرة: يمكن تقسيم هذه الحقبة إلى فترتين، تبدأ الأولى مع بداية الحرب العالمية الأولى وتنتهي بثورة 1952.
عانت مصر كغيرها من المناطق العربية الخاضعة للدول المشاركة في الحرب، ففي أثناء القتال خضعت مصر للأحكام العرفية وجيء بالمصريين من قراهم ومحالهم لتسخيرهم في الأشغال العامة، وصودرت أملاكهم ومحاصيلهم ودوابهم لتكون في خدمة الجيش البريطاني، ومع بداية الحرب استبدلت بريطانيا بعباس حلمي عمه حسين كامل بن إسماعيل، وكان هذا أداة طيعة بيد البريطانيين، وبعد وفاته عام 1917 جاء من بعده أخوه أحمد فؤاد الذي اتخذ لقب ملك، واستمر حاكماً لمصر حتى وفاته سنة 1936، وأهم الأحداث التي شهدتها مصر في أيامه ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول رئيس حزب الوفد الذي اعتقل مع بعض الناشطين في حزبه، ثم سُرحوا لتهدئة الثورة، وفي عهده أيضاً صدر تصريح 28 شباط/فبراير، ورفعت الحماية عن مصر سنة 1922 ووضع دستور جديد للبلاد مع بعض التحفظات لمصلحة بريطانيا، وشهدت مصر صراعاً حاداً بين الأحزاب المؤيدة للملك المدعوم بريطانياً وتلك المعارضة لها، وأجبرت بريطانيا على إبرام معاهدة 1936 التي حققت لمصر استقلالها وألغت تحفظات شباط/فبراير 1922.
بعد وفاة أحمد فؤاد خلفه على العرش ابنه فاروق، وحينما نشبت الحرب العالمية الثانية كانت مصر وجارتها ليبيا مسرحاً من مسارحها، وبعد الحرب طالبت الحكومات المصرية المتعاقبة بجلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان، لكن الحادث الأبرز كان تفاقم القضية الفلسطينية والإعلان عن قيام دولة إسرائيل سنة 1948 حيث شاركت مصر في حربها إلى جانب البلاد العربية الأخرى، وقد فضحت نتائج تلك الحرب عجز الأنظمة العربية وخيانة بعضها، الأمر الذي عجل بقيام ثورة تموز/يوليو 1952.
تعود أسباب الثورة المعاصرة في مصر إلى إحساس المصريين بأن مواردهم وثرواتهم الوطنية قد استنزفت لمصلحة قوى أجنبية ومغامرين تمكنوا من السيطرة على مقاليد الحكم في ظل أسرة محمد علي، الذين كانوا يعبثون بحقوق الأمة ومواردها على مدى عقود طويلة، وكان من نتائج الصراع المتأجج بين تلك العناصر أنها أدارت ظهرها إلى ما يهدد أمن البلاد من مخاطر جسيمة بدأت بالاحتلال البريطاني سنة 1882 وانتهت بالإعلان عن قيام دولة إسرائيل سنة 1948. ولعل أهم ما يعبر عن هذا الصراع أن ما يزيد على 20 تشكيلاً وزارياً تم في عهد الملك فاروق 1936- 1952 لمصلحة فئة كانت غارقة في حياتها المترفة، لهذه الأسباب أخذت شوارع القاهرة تشهد بين الحين والآخر اضطرابات وتحركات شعبية نجم عنها بنهاية الأمر قيام الجيش المصري بثورته المعروفة في تموز/يوليو 1952 واستيلائه على مقاليد الحكم معلناً إلغاء النظام الملكي.
في المرحلة الأولى، بعد نجاح الثورة تولى اللواء محمد نجيب رئاسة الجمهورية - وبدأ العمل على إصدار قوانين جديدة ألغت الملكيات الزراعية الكبيرة، وتم الاتفاق مع السلطات البريطانية على حل مسألة السودان، لكن قيادة الثورة تعرضت لبعض الأزمات في عام 1954 نجم عنها تصفية بعض القوى التي كانت تمثل عائقاً أمام تطبيق الأهداف التي قامت من اجلها وأصبح جمال عبد الناصر - أكثر الضباط الأحرار فاعلية - رئيساً لمجلس الثورة، وبدأت في عهده مفاوضات الجلاء مع السلطات البريطانية، انتهت بسحب قواتها من مصر في حزيران/يونيو 1956، وأخذت الحكومة الجديدة تعمل على وضع الخطط التنموية للنهوض في المجالات المختلفة، ومن ضمنها إنشاء السد العالي وبناء المؤسسة العسكرية لمواجهة الخطر الصهيوني المتنامي، لكن القوى الغربية رأت في هذا التوجه خطراً يهدد مصالحها فأخذت تضغط على الحكومة المصرية من خلال الانسحاب من مشروعات التمويل، ومنع إمدادها بالسلاح فكان الرد المصري كسر طوق احتكار السلاح والإعلان عن تأميم قناة السويس؛ فتعرضت مصر للعدوان الثلاثي في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، وأرغمت الدول المعتدية على الانسحاب من مصر بعد أن وقف العالم برمته إلى جانبها وبلغ المد القومي ذروته حينما وقفت الثورة المصرية ممثلة بقائدها جمال عبد الناصر إلى جانب حركات التحرر في جميع أنحاء الوطن العربي، وحينما تعرضت سورية للتهديد من جانب القوات التركية وقفت مصر إلى جانبها وجاء قيام الوحدة السورية - المصرية استجابة منطقية لمواجهة تلك التحديات في شباط/فبراير 1958 وأصبح جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة، ويبدو أن قوانين التأميم التي صدرت في فترة قيام الوحدة أضرت بمصالح بعض الفئات التي كانت على صلة ببعض الأنظمة العربية المحافظة والتي رأت في هذه الوحدة خطراً على أنظمتها الملكية فقامت بحركة الانفصال في أيلول/سبتمبر 1961م وكان هذا أحد أسباب حركة الانفصال، وفي العام التالي وقفت مصر إلى جانب اليمن في ثورتها فتعرضت العلاقة المصرية السعودية إلى أزمات حادة استمرت طوال عهد عبد الناصر، وفي عام 1967م تعرضت سورية مرة ثانية للتهديدات ولكن هذه المرة من جانب إسرائيل فأعلن عبد الناصر وقوفه إلى جانبها وأغلق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، لكن إسرائيل باغتت الوطن العربي بعدوانها الخاطف يوم 5 حزيران/يونيو 1967م واحتلت شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة إضافة إلى الجولان والضفة الغربية، فقدم عبد الناصر استقالته من منصبه يوم 9 حزيران لكنه عاد عنها بضغط من الجماهير داخل مصر وخارجها، وبعودته أعلن لاءاته الثلاثة ورفع شعار (إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة) وشرع بإعادة بناء قوات مصر المسلحة وباشر حرب الاستنزاف في الوقت الذي نجحت فيه القوى التي كانت على صلة بالدوائر الاستعمارية على تأجيج الصراع بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الأردني، وحاول عبد الناصر قدر المستطاع تطويق تلك الأزمة وأدركته الوفاة في أثنائها في أيلول/سبتمبر 1970. تولى أنور السادات رئاسة الجمهورية بعد أن تعهد بالالتزام بمبادئ الثورة والسير على خطى سلفه عبد الناصر، لكنه مالبث أن دخل في صراع مع المجموعة التي كانت مقربة من عبد الناصر، واتهم بعضهم بالخيانة وقلب نظام الحكم سنة 1971م، واتخذ إجراءات مناهضة لنهج عبد الناصر فيما عرف بثورة التصحيح. أما على صعيد العلاقات الخارجية فقد وجه ضربة قوية إلى العلاقة مع الاتحاد السوڤييتي حينما قرر إقصاء الخبراء السوڤييت وإلغاء معاهدة الصداقة المصرية السوڤييتية بالوقت الذي مهد الطريق لعلاقات ودية مع الولايات المتحدة. على الصعيد العسكري قام السادات بالاتفاق مع القيادة السورية بشن حرب مفاجئة في تشرين الأول/أكتوبر 1973م كان الهدف منها لفت أنظار العالم إلى ما عرف بقضية الشرق الأوسط لإجبار القوى الدولية على اتخاذ خطوات مناسبة لحل تلك الأزمة تجاه التعنت الإسرائيلي، وكان من نتائج تلك الحرب عقد اتفاقيتي فك الارتباط على الجبهة المصرية 1974 - 1975 واستئناف العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية وتركيز الجهود على إحلال السلام بالمنطقة عبر الوسائل السلمية، أما الخطوة الأغرب فكانت قيام السادات بزيارة مفاجئة لإسرائيل سنة 1977م مهدت لاتفاقية كامب ديفيد سنة 1978 فعزل بتلك الخطوة مصر عن محيطها العربي وقطعت معظم الدول العربية علاقاتها بمصر وعلقت عضويتها في جامعة الدول العربية التي نقل مقرها إلى تونس.
أثار السادات بتصرفاته ردود أفعال واسعة في الداخل والخارج، وانتهى الأمر باغتياله على يد بعض أفراد الجماعات الإسلامية يوم احتفاله بيوم العبور 6 تشرين الأول/أكتوبر 1981م. وتولى نائبه الرئيس الحالي محمد حسني مبارك مقاليد الحكم لمرحلة انتقالية، ثم تحول الانتقال إلى بقاء في السلطة حتى اليوم، أبرز ما تحقق فيها أن مصر عادت إلى جامعة الدول العربية، وهي تحاول العودة لتأدية دور إقليمي فاعل وسط حمى الأزمات التي تعصف بالمنطقة بدءاً من الأزمة في دارفور وانتهاء بأحداث العراق، لكن الضغوط الأمريكية من جهة، وقيود اتفاقية كامب ديفيد من جهة ثانية كانت عائقاً ولا تزال للحيلولة دون عودة مصر إلى موقع الريادة الذي عرفته مطلع النصف الثاني من القرن الماضي.
مصطفى الخطيب
Egypt - Egypte
مصر الحديثة والمعاصرة
مصر في العهد العثماني:
بعد مقتل السلطان قانصوه الغوري بايع المصريون طومان باي سلطاناً على مصر. فعرض عليه السلطان سليم حكم مصر على أن يعترف بتبعيته للدولة العثمانية، لكن طومان باي أنف أن يكون خاضعاً للسلطان العثماني، فتوجه العثمانيون بقيادة السلطان سليم إلى مصر والتقوا مع المماليك فهزموهم بالريدانية سنة 1517، ودخل سليم الأول القاهرة منتصراً، وخطب له على منابرها، ومنذ ذلك الوقت أصبحت مصر ولاية عثمانية تولاها من جهةِ العثمانيين خاير بك الذي خان مليكه الغوري في معركة مرج دابق. وبقي العثمانيون في مصر حتى إعلان الحماية البريطانية عليها سنة 1914م، وهي فترة طويلة يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل.
تبدأ المرحلة الأولى منذ أن دخل العثمانيون إليها حتى نهاية القرن السابع عشر تقريباً، وهي مرحلة يمكن وصفها بأنها مرحلة النفوذ العثماني.
تميزت هذه الفترة بمحاولة الدولة العثمانية بسط سيطرتها على البلاد وتنظيم إدارتها، حيث أبقى العثمانيون الزعماء المحليين خارج المدن في مواقعهم واعترفوا بزعامة مشايخ البدو في المناطق الشرقية والغربية وصعيد مصر، ومع أن علاقة زعماء القبائل كانت مستقرة تجاه السلطات العثمانية فإنها لم تكن كذلك مع المماليك الذين لجؤوا إلى تلك المناطق وكانوا يتحينون الفرص المواتية لاسترجاع سيادتهم على مصر. ولكن مع بداية القرن السابع عشر وظهور بوادر ضعف الدولة العثمانية أصبحت مصر مسرحاً لحروب داخلية أسهمت فيها بعض طوائف الجند المختلفة (التفكجية - الجنليان - السباهية - الزرباوات) فكانت تثير الشغب وتنقلب على من لا ترضى به من الولاة، ولا أدل على ذلك من قتلهم الوالي إبراهيم باشا سنة 1604م الذي لم يأبه إلى مطالبهم، ومن أشهر ولاة هذه الفترة مصطفى باشا زوج أخت السلطان سليمان القانوني الذي لم يحظ بمحبة المصريين لعنجهيته وتعاليه، وسليمان باشا( 1525)، وسنان باشا (1568) صاحب المنشآت العمرانية والمبرات الخيرية، ومسيح باشا (1574) الذي أحبه المصريون لعدله وعفته واستقامته، ومنهم أيضاً قره مصطفى باشا (1622) الذي ابتليت مصر في أيامه بالأوبئة والكوارث إلى جانب مظالمه التي ألحقها بالأهالي.
المرحلة الثانية تبدأ في النصف الثاني من القرن السابع عشر، وتنتهي بقدوم الحملة الفرنسية إلى مصر أواخر القرن الثامن عشر. في هذه الفترة بلغ الضعف مداه في السلطنة العثمانية؛ فاستغلت طبقة المماليك هذا الظرف لمصلحتها وأعادت سيطرتها على مصر من خلال احتكارها الوظائف المهمة كإمارة الحج والقائم مقام والدفتر دار، ومن أشهر الشخصيات المملوكية في هذه الفترة إيواز بك الذي تولى منصب شيخ البلد سنة 1695 وعثمان بك ذو الفقار أمير طائفة الفقارية، وقاسم بك أمير طائفة القاسمية. وقد ازداد نفوذ هؤلاء الأمراء إلى حد لم يعد للوالي العثماني في نظرهم شأن يذكر، لكن النزاعات التي شجرت بينهم نجم عنها فتن وحروب دامية ظهر بعدها بعض البيوتات العسكرية التي أنجب بعضها شخصيات تولت رتبة الصنجقية (وحدة إدارية أصغر من الولاية) وإمارة الحج ومشيخة البلد طوال النصف الأول من القرن الثامن عشر، ومن تلك الشخصيات حسين بك الصابونجي وعلي بك الكبير الذي احتل بقواته بلاد الشام متحدياً أوامر السلطان العثماني. وعلي بك مملوك شركسي تدرج في المناصب حتى أصبح صنجقاً وأميراً للحج بآن واحد، وقد مكنه موقعه من القضاء على منافسيه من المماليك وشيوخ القبائل العربية، وأرغم والي مصر محمد راقم باشا على أن يقره على مشيخة البلد، ثم سعى إلى عزل الوالي العثماني وأصبح الحاكم الفعلي لمصر، فوطد الأمن وقام بإصلاحات كثيرة أكسبته محبة الأهالي، وملأ الفراغ الذي أحدثه ضعف السلطنة العثمانية، ثم تاقت نفسه إلى الانفصال عنها حينما أصدر عملة نقدية باسمه وخطب له على منابر مصر. وبعدما اطمأن إلى ترسيخ موقفه تطلع إلى التوسع خارج مصر، فأرسل مملوكه محمد بك أبو الذهب على رأس حملة إلى الحجاز في أعقاب حركة تمرد قادها أحد الأشراف فأخمدها واتجه إلى الشام طمعاً بثرواتها ومواردها، ولكن تخلي أبو الذهب عن فتوحاته في بلاد الشام وعودته المفاجئة إلى مصر ألجأته إلى حليفه ظاهر العمر المتغلب على فلسطين، وانتهى الأمر بمقتله سنة 1773م، لتصبح مصر خاضعة لسيطرة محمد بك أبو الذهب الذي أعلن ولاءه للسلطان مع وجود الوالي العثماني فيما يشبه الإدارة الثنائية، واستمر الوضع على هذه الحال حتى قدوم الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798م.
المرحلة الثالثة: تبدأ بوصول الحملة الفرنسية إلى مصر وتنتهي بالاحتلال البريطاني سنة 1882م.
تعرض الوطن العربي منذ بداية العصر الحديث للعديد من محاولات السيطرة الاستعمارية على بحاره وسواحله، وإذا كانت بعض تلك المحاولات قد منيت بالإخفاق، بما فيها الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت، لكن هذه الحملة نجحت بالوصول إلى مصر وجنوبي بلاد الشام، وكان من نتائجها المباشرة أن أخرجت المنطقة من عزلتها الطويلة وأثارت اهتمام الغربيين ليس في مصر وحدها وإنما في جميع بلدان المنطقة العربية.
وصل نابليون إلى الإسكندرية في يوليو/تموز 1798م، بهدف قطع الطريق ما بين بريطانيا ومستعمراتها في الشرق. وبعد معركة غير متكافئة مع المماليك دخل نابليون إلى القاهرة وعمل من فوره على توزيع منشور على المصريين يبين لهم أن من بين الأسباب التي كانت وراء حملته هو تخليص مصر وأهلها من جو المماليك، لكن المصريين لم يأبهوا لذلك، وقاموا بالثورة تلو الثورة ضد قواته في حين أقدم الأسطول البريطاني على تدمير الأسطول الفرنسي بموقعه أبي قير بعد شهر من وصوله إلى مصر ، وأدرك نابليون حرج موقفه فقرر القيام بحملته المخفقة على بلاد الشام ثم انسحب سراً في أعقابها من مصر عائداً إلى بلاده سنة 1799م، ثم لحقت به قواته سنة 1801م بشروط إنكليزية. ومع أن الحملة الفرنسية لم تحقق أهدافها فقد عدها المؤرخون حدثاً مهماً أيقظ الوطن العربي من سباته، ونبهت المنطقة إلى أهميتها السياسية والحضارية والاقتصادية، مهدت جميعها لانتقال مصر إلى عصر جديد.
عاد الصراع ثانية بين الفئات المتغلبة (عثمانيين ومماليك) بعد خروج الفرنسيين وظهرت فئة أخرى وسط هذا الصخب ممثلة بطبقة الأعيان من تجار وعلماء كان لها دور مهم في مواجهة الفرنسيين، فرأت أن من حقها انتزاع الدور الذي كان للمماليك وكذلك العثمانيين بعد أن تبين عجزهم عن حماية مصر، من جانب آخر كان لمشاركة المصريين في الإدارة التي سمح بها الفرنسيون أثر فعال في تحفيز المصريين لإدارة شؤونهم بمعزل عن الأتراك والمماليك؛ لهذا فقد تصدت تلك الطبقة ممثلة بعلمائها وعلى رأسهم عمر مكرم والتمست من السلطان تعيين محمد علي (قائد الجنود الألبان) والياً على مصر، فصدر فرمان السلطان سنة 1805م مؤيداً هذا الخيار.
أمضى محمد علي السنوات الأولى من ولايته بتدعيم نفوذه في البلاد، فتخلص من رقابة عمر مكرم والعلماء الذين ساندوه للوصول إلى الحكم، ثم التفت إلى المماليك فقضى على نفوذهم بعد حادثة القلعة 1811م، وحينما استعانت به الدولة العثمانية للقضاء على الحركة الوهابية قام بمهمته على الوجه الأكمل وقاد الحملات العسكرية إلى الشام ومد نفوذه إلى بلاد اليمن والسودان مدفوعاً بفكرة إعادة بناء الدولة العثمانية التي كانت تعاني الضعف الشديد في هذه الفترة، وحينما أدرك بثاقب نظره ما تبيته الدول الغربية تجاه الدولة العثمانية عمل على بناء جيش وأسطول قويين، وفق أحدث تقنيات عصره، و انشأ المدارس العسكرية بمختلف فنونها وتخصصاتها واستقدم الخبراء والضباط الأجانب لهذه الغاية وأرسل العديد من البعثات إلى الدول الأوربية وخاصة فرنسا حليفته التقليدية للاستعانة بخبراتها، أما على الصعيد الاقتصادي فقد تطورت مصر تطوراً ملحوظاً في مجالات الصناعة والزراعة والتجارة، الأمر الذي لفت إليه أنظار الدول الغربية التي أخذت تنظر إلى مشروعاته التنموية بعين الريبة والشك فسارعت إلى استغلال خلافاته مع السلطان العثماني محمود معلنة وقوفها إلى جانب السلطان بذريعة ( حماية الشرعية الدولية)، ووجهت إليه إنذاراً يقضي بسحب قواته من المناطق التي تعدها جزءاً من الدولة العثمانية، ثم حاصرت سواحل بلاد الشام ومصر، وانهار المشروع الذي كان يسعى إلى تحقيقه.
بعد وفاة محمد علي استلم حفيده عباس بن طوسون مقاليد الحكم في مصر، ولم يتحقق في عهده شيء كثير، وبعد وفاته سنة 1854م خلفه عمه محمد سعيد بن محمد علي باشا حيث بدأ التدخل الأجنبي في شؤون مصر الداخلية منذ أن منح امتياز حفر قناة السويس لشركة فرنسية وللتجار والمغامرين الأجانب الذين كان لهم دور كبير في العبث بمقدرات مصر في ظل حماية قناصلهم، وفي عام 1863 م أُسندت باشوية مصر إلى إسماعيل بن إبراهيم باشا الذي استكملت مصر في أيامه استقلالها الداخلي بعد أن منحه السلطان العثماني لقب «خديوي»، على أن النفوذ الأجنبي تفاقم في عهده وأدى إلى وقوع مصر في عجز مالي هدد اقتصاد البلاد إثر افتتاح قناة السويس، فلجأ إلى الاقتراض من بعض البيوت المالية الغربية (أوبنهايم وروتشيلد) بشروط مجحفة، ومن أجل ضمان تسديد هذه الديون أُرغم إسماعيل على إدخال وزراء أجانب فيما عرف بالوزارة المختلطة، وتم رهن واردات مصر لتسديد هذا الدين على مدى 65 سنة الأمر الذي أثار المشاعر الوطنية عند غالبية الأهالي، فجاهر العلماء والأعيان بعداوتهم لتلك الوزارة مطالبين بوزارة وطنية مسؤولة، وانحاز إسماعيل لهذه المطالب فكان الثمن إقالته من منصبه وتعيين ولده توفيق بدلاً منه سنة 1879م. في عهد توفيق ازداد نفوذ الدول الغربية وأصبحت مصر عرضة لفرض الحماية عليها بعد أن استجاب الخديوي الجديد لجميع الشروط التي أملتها عليه لجنة تصفية الديون المشكلة من مندوبين بريطانيين وفرنسيين، ومندوب واحد لكل من ألمانيا- النمسا- إيطاليا، إلى جانب مندوب واحد من مصر. فأدرك الزعماء الوطنيون من أبناء مصر خطورة الموقف وقرروا التصدي للوصاية الأجنبية، وتحرك الجيش المصري بقيادة أحمد عرابي على خلفية تسريح عدد من الضباط، وطالب بتشكيل وزارة وطنية مع دعوة البرلمان إلى الانعقاد ووضع دستور وطني يراعي حقوق الجميع، لكن فرنسا وبريطانيا عارضتا هذا التوجه وأرسلتا مذكرة مشتركة هيأت للتدخل العسكري البريطاني في يوليو/تموز 1882م.
المرحلة الرابعة 1882 ـ 1914م: تميزت هذه المرحلة بخضوع مصر من الناحية الاسمية للسيادة العثمانية، لكنها عملياً كانت تخضع لقوات الاحتلال البريطاني، حيث أصبح اللورد كرومر Cromer هو الحاكم الفعلي لمصر. ولم يكن توفيق سوى أداة بيد البريطانيين، أما عن علاقة مصر بالدولة العثمانية فقد تم الاتفاق بين بريطانيا والباب العالي على أن الوجود البريطاني في مصر ما هو إلا وجود مؤقت هدفه إقرار النظام واستقرار سلطة الدولة ممثلة بالخديوي، وتم الاتفاق على أن يكون لكل من الدولتين مندوب يقوم بتقديم تقريره إلى دولته ريثما يعم السلام في مصر، ولكن بريطانيا وتحت ذريعة حماية الأجانب واستخدام بعض الضباط البريطانيين لتدريب القوات المسلحة المصرية أخذت تماطل في قضية الانسحاب، وانتهى الأمر بتوقيع اتفاقية مع الباب العالي تتضمن اشتراط موافقة الدول ذات المصالح الإقليمية في المنطقة على الانسحاب من مصر، ومع أن بعض هذه الدول رفضت هذا الاتفاق لأنه سيؤثر في ميزان القوى في المنطقة لمصلحة بريطانيا فإنها ما لبثت أن تراجعت عن مواقفها عبر اتفاقات سرية تقاسمت مناطق النفوذ فيما بينها وكانت مصر من نصيب بريطانيا. وعلى العموم تم في عهد توفيق إرسال المزيد من القوات المصرية بقيادات بريطانية للقضاء على الحركة المهدية، وخضع السودان لنوع من الحكم الثنائي (مصري - بريطاني) ومات توفيق سنة 1892 تاركاً خلفه سجلاً حافلاً بذكريات مريرة في نفوس المصريين.
أصدر السلطان عبد الحميد فرماناً بتعيين عباس حلمي بن توفيق حاكماً على مصر، ويبدو أن الخديوي الشاب كان ميالاً للمطالب الشعبية، فانحاز إلى الحركة الوطنية التي كان يتزعمها مصطفى كامل، ولكن هذا العهد شهد عدداً من الشخصيات المشكوك في ولائها لمصر (نوبار باشا - رياض باشا- بطرس غالي - مصطفى فهمي) تقلدت مناصب حساسة بدعم من المقيم البريطاني كرومر، فكانت عائقاً أمام طموحات تلك الحركة، وفي عام 1906 حدثت مأساة دنشواي التي تبدى فيها فقدان الجانب الإنساني والأخلاقي عند السلطات البريطانية، فكانت ردود الأفعال غاضبة في الوسط الجماهيري، وكان لمصطفى كامل رئيس الحزب الوطني دور رئيسي في إبراز ما آلت إليه الأوضاع عبر صحيفة اللواء، وكانت تلك الحادثة سبباً في عزل كرومر، وفي سنة 1908 توفي مصطفى كامل فتابع خليفته محمد فريد مسيرة الحزب على الخطى نفسها، وحينما اشتعلت الحرب العالمية الأولى أعلنت بريطانيا الحماية على مصر منهية بذلك تبعيتها للدولة العثمانية التي دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا.
مصر في الحقبة المعاصرة: يمكن تقسيم هذه الحقبة إلى فترتين، تبدأ الأولى مع بداية الحرب العالمية الأولى وتنتهي بثورة 1952.
عانت مصر كغيرها من المناطق العربية الخاضعة للدول المشاركة في الحرب، ففي أثناء القتال خضعت مصر للأحكام العرفية وجيء بالمصريين من قراهم ومحالهم لتسخيرهم في الأشغال العامة، وصودرت أملاكهم ومحاصيلهم ودوابهم لتكون في خدمة الجيش البريطاني، ومع بداية الحرب استبدلت بريطانيا بعباس حلمي عمه حسين كامل بن إسماعيل، وكان هذا أداة طيعة بيد البريطانيين، وبعد وفاته عام 1917 جاء من بعده أخوه أحمد فؤاد الذي اتخذ لقب ملك، واستمر حاكماً لمصر حتى وفاته سنة 1936، وأهم الأحداث التي شهدتها مصر في أيامه ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول رئيس حزب الوفد الذي اعتقل مع بعض الناشطين في حزبه، ثم سُرحوا لتهدئة الثورة، وفي عهده أيضاً صدر تصريح 28 شباط/فبراير، ورفعت الحماية عن مصر سنة 1922 ووضع دستور جديد للبلاد مع بعض التحفظات لمصلحة بريطانيا، وشهدت مصر صراعاً حاداً بين الأحزاب المؤيدة للملك المدعوم بريطانياً وتلك المعارضة لها، وأجبرت بريطانيا على إبرام معاهدة 1936 التي حققت لمصر استقلالها وألغت تحفظات شباط/فبراير 1922.
بعد وفاة أحمد فؤاد خلفه على العرش ابنه فاروق، وحينما نشبت الحرب العالمية الثانية كانت مصر وجارتها ليبيا مسرحاً من مسارحها، وبعد الحرب طالبت الحكومات المصرية المتعاقبة بجلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان، لكن الحادث الأبرز كان تفاقم القضية الفلسطينية والإعلان عن قيام دولة إسرائيل سنة 1948 حيث شاركت مصر في حربها إلى جانب البلاد العربية الأخرى، وقد فضحت نتائج تلك الحرب عجز الأنظمة العربية وخيانة بعضها، الأمر الذي عجل بقيام ثورة تموز/يوليو 1952.
تعود أسباب الثورة المعاصرة في مصر إلى إحساس المصريين بأن مواردهم وثرواتهم الوطنية قد استنزفت لمصلحة قوى أجنبية ومغامرين تمكنوا من السيطرة على مقاليد الحكم في ظل أسرة محمد علي، الذين كانوا يعبثون بحقوق الأمة ومواردها على مدى عقود طويلة، وكان من نتائج الصراع المتأجج بين تلك العناصر أنها أدارت ظهرها إلى ما يهدد أمن البلاد من مخاطر جسيمة بدأت بالاحتلال البريطاني سنة 1882 وانتهت بالإعلان عن قيام دولة إسرائيل سنة 1948. ولعل أهم ما يعبر عن هذا الصراع أن ما يزيد على 20 تشكيلاً وزارياً تم في عهد الملك فاروق 1936- 1952 لمصلحة فئة كانت غارقة في حياتها المترفة، لهذه الأسباب أخذت شوارع القاهرة تشهد بين الحين والآخر اضطرابات وتحركات شعبية نجم عنها بنهاية الأمر قيام الجيش المصري بثورته المعروفة في تموز/يوليو 1952 واستيلائه على مقاليد الحكم معلناً إلغاء النظام الملكي.
في المرحلة الأولى، بعد نجاح الثورة تولى اللواء محمد نجيب رئاسة الجمهورية - وبدأ العمل على إصدار قوانين جديدة ألغت الملكيات الزراعية الكبيرة، وتم الاتفاق مع السلطات البريطانية على حل مسألة السودان، لكن قيادة الثورة تعرضت لبعض الأزمات في عام 1954 نجم عنها تصفية بعض القوى التي كانت تمثل عائقاً أمام تطبيق الأهداف التي قامت من اجلها وأصبح جمال عبد الناصر - أكثر الضباط الأحرار فاعلية - رئيساً لمجلس الثورة، وبدأت في عهده مفاوضات الجلاء مع السلطات البريطانية، انتهت بسحب قواتها من مصر في حزيران/يونيو 1956، وأخذت الحكومة الجديدة تعمل على وضع الخطط التنموية للنهوض في المجالات المختلفة، ومن ضمنها إنشاء السد العالي وبناء المؤسسة العسكرية لمواجهة الخطر الصهيوني المتنامي، لكن القوى الغربية رأت في هذا التوجه خطراً يهدد مصالحها فأخذت تضغط على الحكومة المصرية من خلال الانسحاب من مشروعات التمويل، ومنع إمدادها بالسلاح فكان الرد المصري كسر طوق احتكار السلاح والإعلان عن تأميم قناة السويس؛ فتعرضت مصر للعدوان الثلاثي في تشرين الأول/أكتوبر من العام نفسه، وأرغمت الدول المعتدية على الانسحاب من مصر بعد أن وقف العالم برمته إلى جانبها وبلغ المد القومي ذروته حينما وقفت الثورة المصرية ممثلة بقائدها جمال عبد الناصر إلى جانب حركات التحرر في جميع أنحاء الوطن العربي، وحينما تعرضت سورية للتهديد من جانب القوات التركية وقفت مصر إلى جانبها وجاء قيام الوحدة السورية - المصرية استجابة منطقية لمواجهة تلك التحديات في شباط/فبراير 1958 وأصبح جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة، ويبدو أن قوانين التأميم التي صدرت في فترة قيام الوحدة أضرت بمصالح بعض الفئات التي كانت على صلة ببعض الأنظمة العربية المحافظة والتي رأت في هذه الوحدة خطراً على أنظمتها الملكية فقامت بحركة الانفصال في أيلول/سبتمبر 1961م وكان هذا أحد أسباب حركة الانفصال، وفي العام التالي وقفت مصر إلى جانب اليمن في ثورتها فتعرضت العلاقة المصرية السعودية إلى أزمات حادة استمرت طوال عهد عبد الناصر، وفي عام 1967م تعرضت سورية مرة ثانية للتهديدات ولكن هذه المرة من جانب إسرائيل فأعلن عبد الناصر وقوفه إلى جانبها وأغلق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، لكن إسرائيل باغتت الوطن العربي بعدوانها الخاطف يوم 5 حزيران/يونيو 1967م واحتلت شبه جزيرة سيناء وقطاع غزة إضافة إلى الجولان والضفة الغربية، فقدم عبد الناصر استقالته من منصبه يوم 9 حزيران لكنه عاد عنها بضغط من الجماهير داخل مصر وخارجها، وبعودته أعلن لاءاته الثلاثة ورفع شعار (إن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة) وشرع بإعادة بناء قوات مصر المسلحة وباشر حرب الاستنزاف في الوقت الذي نجحت فيه القوى التي كانت على صلة بالدوائر الاستعمارية على تأجيج الصراع بين منظمة التحرير الفلسطينية والجيش الأردني، وحاول عبد الناصر قدر المستطاع تطويق تلك الأزمة وأدركته الوفاة في أثنائها في أيلول/سبتمبر 1970. تولى أنور السادات رئاسة الجمهورية بعد أن تعهد بالالتزام بمبادئ الثورة والسير على خطى سلفه عبد الناصر، لكنه مالبث أن دخل في صراع مع المجموعة التي كانت مقربة من عبد الناصر، واتهم بعضهم بالخيانة وقلب نظام الحكم سنة 1971م، واتخذ إجراءات مناهضة لنهج عبد الناصر فيما عرف بثورة التصحيح. أما على صعيد العلاقات الخارجية فقد وجه ضربة قوية إلى العلاقة مع الاتحاد السوڤييتي حينما قرر إقصاء الخبراء السوڤييت وإلغاء معاهدة الصداقة المصرية السوڤييتية بالوقت الذي مهد الطريق لعلاقات ودية مع الولايات المتحدة. على الصعيد العسكري قام السادات بالاتفاق مع القيادة السورية بشن حرب مفاجئة في تشرين الأول/أكتوبر 1973م كان الهدف منها لفت أنظار العالم إلى ما عرف بقضية الشرق الأوسط لإجبار القوى الدولية على اتخاذ خطوات مناسبة لحل تلك الأزمة تجاه التعنت الإسرائيلي، وكان من نتائج تلك الحرب عقد اتفاقيتي فك الارتباط على الجبهة المصرية 1974 - 1975 واستئناف العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية وتركيز الجهود على إحلال السلام بالمنطقة عبر الوسائل السلمية، أما الخطوة الأغرب فكانت قيام السادات بزيارة مفاجئة لإسرائيل سنة 1977م مهدت لاتفاقية كامب ديفيد سنة 1978 فعزل بتلك الخطوة مصر عن محيطها العربي وقطعت معظم الدول العربية علاقاتها بمصر وعلقت عضويتها في جامعة الدول العربية التي نقل مقرها إلى تونس.
أثار السادات بتصرفاته ردود أفعال واسعة في الداخل والخارج، وانتهى الأمر باغتياله على يد بعض أفراد الجماعات الإسلامية يوم احتفاله بيوم العبور 6 تشرين الأول/أكتوبر 1981م. وتولى نائبه الرئيس الحالي محمد حسني مبارك مقاليد الحكم لمرحلة انتقالية، ثم تحول الانتقال إلى بقاء في السلطة حتى اليوم، أبرز ما تحقق فيها أن مصر عادت إلى جامعة الدول العربية، وهي تحاول العودة لتأدية دور إقليمي فاعل وسط حمى الأزمات التي تعصف بالمنطقة بدءاً من الأزمة في دارفور وانتهاء بأحداث العراق، لكن الضغوط الأمريكية من جهة، وقيود اتفاقية كامب ديفيد من جهة ثانية كانت عائقاً ولا تزال للحيلولة دون عودة مصر إلى موقع الريادة الذي عرفته مطلع النصف الثاني من القرن الماضي.
مصطفى الخطيب