مصر قديمه
Egypt - Egypte
مصر القديمة
لمصر وبلاد الرافدين والشام مكانة في سجل الحضارة البشرية القديمة لا تدانيها مكانة، فقد حملت شعوب هذه البلاد مشعل الحضارة آلاف السنين وضعت في أثنائها القواعد الرئيسة لأسس الحضارة الإنسانية في الكتابة واللغة والفن والدين والإدارة والعلوم التطبيقية والعمارة.
اعتاد الإنسان في الشرق العربي القديم أن يستنبط تسمية للأماكن من أخص صفة فيها، ولما كانت أرض مصر رسوبية سوداء؛ فقد أطلق الإنسان المصري على بلده اسم كمت Kemet أي السوداء أو تحبباً السمراء. كما أطلق المصري القديم على مصر أسماء هي ألقاب مقدسة، تنم على إعجاب وتشريف. أما تسمية مصر فقد جاءت من بلاد الشام حيث ورد اسم مصر لأول مرة في رسالة بعث بها «رب عدي» أمير جبيل إلى أخناتون (نحو 1367- 1347ق.م) بصيغة (ماتو مصري) وماتو لفظة أكادية تعني الأرض، وبعد ذلك وردت هذه التسمية في النصوص الفينيقية والآشورية والكلدانية والمعينية والآرامية والسريانية، أما العرب فقد سمّوها مصر ، وشاعت في اللغات الغربية التسمية Egypt للدلالة على مصر، فسمّاها اليونان والرومان «آيجيبتوس» ثم شاعت في اللغات الأوربية المعاصرة (Aegypten¨ Egypt Egypte¨ Egipto¨).
وقد دلت الدراسات الأثرية على أن الإنسان سكن مصر منذ بداية العصور الحجرية القديمة، وتبين الدراسة المقارنة لجماجم يرجع تاريخها إلى عصور ما قبل الأسرات (4000ق.م) والعصور التاريخية؛ أن مصر سكنت بعنصرين رئيسين: الأول إفريقي وكانت له جماجم متطاولة، والآخر جاء من شرق مصر وله جماجم مستديرة، وقد طغى الأخير على العنصر الأقدم (الزنجي)، وأكد الباحثون رأيهم هذا من خلال الآثار الرافدية والشامية التي عُثر عليها في مصر، فضلاً عن الخصائص اللغوية العربية الموجودة في اللغة المصرية القديمة، سواء من حيث المفردات أم النحو، وكذلك عبادة الآلهة التي أدخلها المهاجرون العرب الشرقيون إلى مصر، وكان من أعظم الآلهة «الإله حورس» (إله عربي شرقي وصفه الدميري في كتابه «الحيوان» وصفاً ينطبق على الصقر الحر العربي تسمية وشكلاً).
أما فيما يتعلق باللغة والكتابة المصريتين، فقد تأثرت اللغة المصرية بالمهاجرين الذين قدموا إلى مصر منذ نهايات العصور الحجرية، نتيجة للجفاف الذي ألمَّ بمنطقة الصحراء الكبرى الإفريقية، كما وصلت إلى مصر هجرات قدمت من بلاد الشام عن طريق سيناء وطريق باب المندب والبحر الأحمر عموماً، وهكذا طُبعت اللغة المصرية القديمة بطابع عربي سواء بنحوها أم مفرداتها، وقد أطلق اليونان على الكتابة المصرية اسم (الكتابة الهيروغليفية) التي اشتقت منها كل الكتابات اللاحقة في مصر (الهيراطيقية، الديموطيقيه)، وفي العصر البطلمي استخدم المصريون الكتابة القبطية، وقد سادت هذه الكتابة حتى بداية العصر الإسلامي بمصر.
مراحل التاريخ المصري القديم:
ـ تاريخ العصور الحجرية المصرية:
إن تاريخ مصر هو سلسلة مترابطة الحلقات، وإنجاز كل عصر فيه يرتكز على ما قدمته العصور السابقة، ولا يمكن لأي باحث بتاريخ مصر أن يحيط به ويفهمه إلا إذا بدأ بدراسة أقدم حلقة فيه، وهي العصور الحجرية.
- العصور الحجرية القديمة:
بسبب طول هذه العصور، فقد قسمها الباحثون إلى ثلاثة عصور (العصر الحجري القديم الأسفل والأوسط والأعلى) وقد عثر الباحثون على آثار العصر الأول (2300000- 100000ق.م) في الصحارى المصرية، أوفي التلال القريبة من الوادي، وتتكون من فؤوس حجرية، بعضها مهذب بحيث أصبح للفأس ثلاثة أوجه وشكلها العام هرمي، أما آثار العصر الحجري الأوسط (100000- 35000ق.م) في مصر، فكان أغلبها على شكل رقائق تمثل نصالاً، ذات هندسية صغيرة الحجم، ومما هو جدير بالذكر أن الباحثين لم يعثروا على هياكل عظمية للإنسان الذي عاش في مصر في العصرين السابقين، وفيما يخص العصر الحجري القديم الأعلى (35000- 12000ق.م) فقد اكتُشفت آثاره في جنوبي مصر.
- العصر الحجري المتوسط:
يمتد هذا العصر من 12000 إلى 8000ق.م، ويعدّ مرحلة انتقالية بين العصر الحجري القديم الأعلى والعصر الحجري الحديث، وقد شملت آثاره الأدوات الحجرية الصغيرة الدقيقة الحادة؛ ذات الأشكال الهندسية المختلفة التي سادت في العصر السابق.
- العصر الحجري الحديث:
يمتد هذا العصر في مصر من 8000 إلى 3200ق.م، وقد تعددت إبداعات الإنسان الحضارية وتنوعت في هذا العصر، بحيث يمكن القول إن ثورة حضارية متعددة المظاهر قامت في هذا العصر، فقد أصبح الجفاف في المشرق العربي القديم حقيقة واقعة، مما دفع الإنسان إلى إبداع الزراعة كي يوفر غذاءه بنفسه، فالطبيعة أصبحت غير قادرة على تقديم الطعام له، ولذلك هاجر الإنسان من الصحارى إلى السهل الرسوبي على جانبي النيل والدلتا، بعد أن أخذ النيل شكل مجراه الحالي منذ نحو 14000ق.م، وقد اضطرته الزراعة إلى إقامة المسكن بجانب زرعه، ومن تجمع المساكن نشأت القرى والمدن، كما دفعه فائض محصوله إلى إبداع الفخار لحفظه. وهكذا نشأت التخصصات وقامت المشاغل لإنتاج الفخار والأدوات الزراعية وأدوات الزينة، مما أدى إلى نشوء الحرف، وأخيراًً لابد من الإشارة إلى ظهور الإدارة في هذا العصر، وقد ساعد على وجود إدارة مبكرة في مصر عاملان رئيسان: الأول حاجة المجتمع الزراعي إلى الأمن الذي يحفظ له محصوله من عبث العابثين، والثاني طبيعي يتمثل بإحاطة مصر بصحراوين قاحلتين، لا يستطيع الإنسان تجاوزهما؛ لأن جفاف الصحراء سيقتله. وينبغي الإشارة إلى أن البذور الأولى في الفن والدين والإدارة والكتابة واللغة قد نمت في هذا العصر،الذي يمثل آخره مرحلة العصر الحجري النحاسي 4500-3200 ق.م، وسُمّي كذلك لأن المصري تعرّف استخراج النحاس من فلذاته واستخدامه في صناعة أدواته إلى جانب الحجر، وقد سادت في هذا العصر حضارتان الأولى: «حضارة نقادة» قامت في أقصى جنوبي مصر بالصعيد، ولذلك كانت نشأتها ذاتية لم تؤثّر ولم تتأثر بغيرها من الحضارات، والثانية «حضارة جرزة» قامت في شمالي مصر، ولذلك أثّرت وتأثرت بالحضارة الرافدية والسورية، ويشهد على ذلك الآثار الصوانية والمقامع الفلسطينية والآثار الرافدية المتعددة من فخار وأختام أسطوانية ومظاهر فنية، وقد عدَّ الباحثون وصول هذه الآثار إلى مصر دليلاً على وصول هجرة بشرية عظيمة إليها من المشرق العربي القديم، وقد حملت معها إلهها «حور» الذي مثلَّه الصقر الحر العربي في الحضارة المصرية القديمة، ولذلك سُمّي المهاجرون «شمسوحور» أي عبّاد حورس، وقد طبعت هذه الهجرة مصر بطابعها اللغوي والديني والفني والبشري إلى حد بعيد. وكان من أهم مظاهر سيادة عُبَّاد حورس، إعتلاؤهم عرشي مملكتين واحدة في الدلتا والثانية في الصعيد، وقد تُوّج ملوك كل مملكة بتاج خاص بمملكتهم، واستطاع الشمال الذي اتخذ من »دمنهور« الحالية عاصمة له، أن يوِّحد مصر بضم الجنوب إليه، وليس من المستبعد أن «أون» (هليوبوليس أو عين شمس) كانت عاصمة مصر الموحَّدة، ولكن هذه الوحدة لم تدم طويلاً، فقد انفصل الجنوب عن الشمال وأصبحت مصر تتكون من مملكتين ولكل منهما عاصمة سياسية وأخرى دينية، ومعبود وملك وتاج، فقد كان التاج الأبيض لمملكة الصعيد والتاج الأحمر لمملكة الدلتا.
الوحدة المصرية في مطلع العصور التاريخية:
سعت مملكة الصعيد إلى تحقيق الوحدة مع مملكة الدلتا، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، خاضت حروباً قاسية، توجت بالوحدة بين البلدين، ويعدّ دبوس الملك العقرب وصلاية الملك نعرمر من أهم الآثار التي تدل رسومها على الحروب التي دارت بين الطرفين، فالملك العقرب حارب أهل الشمال وانتصر عليهم، ولكن نعرمر هو الذي حقق الوحدة بين القطرين بدليل تتويجه بتاج الصعيد الأبيض والشمال الأحمر، وهكذا توحدت مصر نحو3200 ق.م وأصبح نعرمر أول ملك في أول أسرة مصرية حاكمة، ويبدو أنه حمل لقب مينا[ر] Menes.
- العصر العتيق والدولة القديمة (3200- 2230 ق.م):
يطلق الباحثون المحدثون على عصر الأسرتين الأولى والثانية اسم العصر العتيق (3200-2780ق.م) أو العصر الثني، نسبة إلى مدينة ثني الموطن الأول لملوك هذا العصر، ومن أهم آثار هذا العصر، المصاطب؛ إذ بنى كل ملك من ملوك الأسرة الأولى مصطبتين واحدة في الشمال والأخرى في الجنوب لتكون إحداهما (ربما الشمالية) مقبرة للملك، كما يُذكر للملك مينا بناء عاصمة للدولة عند رأس الدلتا هي «منف» فيما بعد، أما فيما يتعلق بالدولة القديمة فقد بدأت بالأسرة الثالثة (2780ق.م) وانتهت نحو2230ق.م، وبذلك تكون قد ضمت الأسر: الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة. ويطلق الباحثون عليها اسم العصر المنفي نسبة إلى مَنُف العاصمة، أو عصر بناة الأهرام بسبب ما شاده أهله من أهرامات لم يعرف لها التاريخ مثيلاً.
ومن أهم ملوك هذا العصر:
- الملك زوسر: مؤسس الأسرة الثالثة والذي تحول شكل المقبرة في عهده من المصطبة إلى الهرم (الهرم المدرج) بسبب تحول في عقيدة المصري الدينية نحوعبادة الشمس.
- الملك سنفرو: مؤسس الأسرة الرابعة التي تعدّ من أعظم الأسر الحاكمة المصرية في عصر الدولة القديمة، وقد شاد ملوكها أعظم الأهرامات وحققوا إدارة مركزية قوية لم يشهدها تاريخ مصر، فشاد سنفرو أول هرم كامل صحيح النسب في دهشور، وقام بأوسع الصلات التجارية مع الساحل السوري، فقد جاء على حجر بالرمو أنه استقبل أربعين سفينة محملة بخشب الأرز السوري.
- الملوك خوفو[ر] وخفرع ومنكا ورع: بناة الأهرام الثلاثة التي مازالت قائمة بأبهة وجلال على هضبة الجيزة، وانتهى عصر الدولة القديمة لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية.
- الفترة الانتقالية الأولى (2230 ـ1050ق.م):
انتهت أيام الدولة القديمة لأسباب اقتصادية في معظمها، فقد شيّد ملوك هذه الدولة أهرامات عظيمة غير ذات فائدة اقتصادية، كما خصصوا الضيع والأراضي الزراعية ليُصرف من ريعها على إجراء الطقوس الدينية إلى أبد الآبدين، ومنحوا الكهنة الأراضي وأعفوهم من كثير من الواجبات، مما أثقل كاهل فئات مصرية أخرى أقل حظاً.
وبذلك ساد مصر ضعف شديد، نتج منه استقلال حكام الأقاليم، وتدفق القبائل البدوية العربية إلى شمالي مصر والدلتا، وانقطاع التجارة مع بلاد الشام، واضطراب الأمن، واستمرت هذه الأوضاع طوال عصر الأسرتين السابعة والثامنة في الدلتا ومنطقة العاصمة منف، ولكن الأوضاع استقرت في عصر الأسرتين التاسعة والعاشرة، وساد مصر ثلاث قوى رئيسة هي:
- قوة البدو العرب الذين تمركزوا في الدلتا واتخذوا من منف عاصمة لهم.
- قوة الأهناسيين الذين تمركزوا في منطقة الفيوم وعاصمتهم اهناسيا.
- قوة الطيبيين، وقد اتخذوا من طيبة عاصمة لهم.
ونشبت حرب ضروس بين هذه القوى، انتهت بانتصار طيبة، وبتوحيد مصر للمرة الثانية بزعامة منتوحتب الثاني.
- عصر الدولة الوسطى (2050 ـ 1786ق.م)
يعد الملك منتوحتب الثاني مؤسس الأسرة الحادية عشره أعظم ملوك هذه الأسرة؛ إذ أعاد وحدة مصر، وحمى حدودها الشرقية، وبنى معبداً ومقبرة إلى الغرب من طيبة؛ إذ مهَّد بجانب الجبل المطل على طيبة مسطحين يعلو أحدهما الآخر، وبنى عليهما معبده ومقبرته، وكان هذا الإبداع المعماري ملهماً لمهندس الملكة حتشبسوت في بناء معبدها على الطراز نفسه بجانب معبد الملك ومقبرته.
خلّف منتوحتب الثاني عدة ملوك اتخذوا الاسم نفسه الذي يرتبط بالإله «منتو»، ولكن أيام هذه الأسرة انتهت عام 1991ق.م وجاءت بعدها الأسرة الثانية عشرة، وكان مؤسسها الملك أمنمحات الأول، وقد ساد اسم أمنمحات (أمون في المقدمة) وسنوسرة (ابن الآلهة وسرة) أسماء ملوك هذه الأسرة، ومما يُذكر لهم نقل العاصمة من أقصى الجنوب إلى منطقة اللشت شمالي الفيوم؛ حيث بنوا أهراماتهم، وحماية حدود مصر الشرقية، وازدهار التجارة المصرية مع الساحل السوري، فالنصوص المصرية تذكر أن سفن الأسطول المصري كانت مبنية بخشب الأرز السوري، فضلاً عن أن اللغة المصرية القديمة بلغت قمة الازدهار في تاريخ مصر القديم كله، لكن هذه الدولة ضعفت لأسباب داخلية (التنافس بين أفراد الأسرة الحاكمة على العرش) ولأسباب خارجية (هجرة الزنوج إلى مصر من الجنوب وهجرة القبائل العربية من الشمال؛ مما أدى إلى إضعاف الاقتصاد المصري، وبذلك انتهت أيام هذه الدولة عام 1786ق.م.
الفترة الانتقالية الثانية (1786 ـ 1575ق.م):
تعد الفترة الانتقالية الثانية من أشد فترات التاريخ المصري ضعفاً، إذ استقل حكام الأقاليم المصرية بأقاليمهم وتعرضت البلاد للسيطرة الأجنبية، سواء من الشمال أم من الجنوب، وقد شملت هذه الفترة حكم الأسرات من الثالثة عشرة إلى السابعة عشرة. تعرضت مصر في أثنائها لاحتلال الهكسوس[ر]؛ إذ تعد سيطرة الهكسوس على مصر سيطرة فعلية منذ عام 1730ق.م أعظم حدث سلبي في تاريخ مصر في أثناء حكم هذه الفترة؛ حين سيطروا على مصر زمن الأسر الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة. ويعني اسمهم عند مانيثون «الحكام الرعاة» وعند غاردنز «حكام البلاد الأجنبية». وعندما قوي أمراء طيبة (سقنن رع وابناه كامس وأحمس) طردوهم بالقوة من مصر، ولاحقوهم إلى فلسطين، وبذلك قامت في مصر الدولة الحديثة.
عصر الدولة الحديثة (1575 ـ 1087ق.م):
تعدّ الدولة المصرية الحديثة من أعظم الدول التي قامت في مصر في تاريخها القديم، وليس من المبالغة في القول: إن لكل شعب عصر بطولة، وعصر بطولة مصر الفرعونية تحقق بعد قيام الدولة الحديثة؛ فقد أقام المصريون امبراطورية تمتد من الفرات شمالاً إلى السودان جنوباً، وكانت الدولة المصرية مرهوبة الجانب، تتمنى كل الدول المعاصرة لها في المنطقة أن تقيم معها صداقة وعلاقات حسنة.
ضمت الدولة المصرية الحديثة ثلاث أسر حاكمة قوية (الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والأسرة العشرين) وفي مطلع عصر الأسرة الثامنة عشره سارت الأمور على منوال الماضي في الإدارة والدين والفن وعلاقات مصر الخارجية، وقد حرص ملوك الأسرة الأوائل من مؤسس الأسرة الملك أحمس الأول إلى الملكة حتشبسوت على إعطاء الاهتمام الداخلي الأولوية على سواه، ولكن في عهد الملكة حتشبسوت (1490 ـ 1467ق.م) برز حزبان لكلٍ أنصاره ومبادئه للنهوض بمصر، تزعمت الملكة الحزب الأول وجلّ مؤيديها من كبار موظفي الدولة وكبير كهنة الإله آمون، وقد رأى أن نهوض مصر لا يتحقق إلا بالسمو الثقافي والازدهار الاقتصادي على الأمم المجاورة، أما الحزب الثاني فقد تزعمه تحوتمس الثالث[ر] (صاحب الحق الشرعي بعرش مصر) ورأى أن نهوض مصر لا يتحقق إلا بالقوة العسكرية التي تحقق لها التوسع والسيطرة على الأمم المجاورة.
فترة العمارنة:
استمرت مصر قوية عسكرياً واقتصادياً حتى عهد الملك أمنحوتب الثالث الذي مال إلى الدعة وآثر الراحة والإقبال على ملذات الدنيا، فضعفت المملكة وأغرى ضعفها أعداءها بالقضاء على امبراطوريتها في بلاد الشام، وكان لهم ما أرادوا، فقد خلفه بعد ابنه أمنحوتب الرابع (أخناتون) الذي كان فيلسوفاًً مبدعاً، هدته فلسفته إلى إبداع مجموعة من المبادىء الإنسانية الراقية التي تسمو بالإنسان عن القتل والطمع والكذب والنفاق، وقد عارضه في دينه هذا كهنة الإله آمون، الذين تضرّرت مصالحهم، وهكذا انقسمت الأمة المصرية بين مؤيد لأخناتون ومعارض له، وغني عن القول: إن هذا الصراع المرير أضعفها وأغرى أعداءها بالهجوم على أملاكها في بلاد الشام. ومما هو جدير بالذكر أن الممالك السورية التي أخلصت لمصر المودة كتبت لأخناتون وأبيه الرسالة تلو الرسالة تطلب النجدة ولكن ما من مجيب. حتى فقدت مصر معظم امبراطوريتها في بلاد الشام عند موت أخناتون، وأصبح الحثيون بزعامة شوبيلوليوما، والآموريون بزعامة عبدي عشرتا وابنه عزير سادة بلاد الشام تقريباً.
حكم مصر بعد أخناتون كل من توت عنخ أمون[ر] والكاهن آي وأخيراً قائد الجيش حورمحب (1335- 1308ق.م)، ولم ينجب حورمحب ولياً للعهد فانتقل الحكم إلى رعمسيس الأول قائد جيشه، وبذلك تأسست أسرة جديدة غلب على ملوكها مع الأسرة التي تلتها اسم رعمسيس، ولذلك أطلق عليه «أسرة الرعامسة» مثلما أُطلق على سابقتها تسمية «أسرة التحامسة» لشيوع اسم تحوتمس في أسماء ملوكها.
الأسرة التاسعة عشرة (1308 ـ 1194ق.م):
تعدّ الأسرة التاسعة عشرة من أسر مصر العظيمة، ومنذ بداية عصر هذه الأسرة طمح ملوكها إلى إعادة الامبراطورية الضائعة في بلاد الشام، فأعاد الملك ستي الأول تكوين الجيش المصري وقسّمه إلى ثلاث فرق سمّاها باسم الآلهة المصرية العظيمة (آمون/رع/بتاح)، وأصلح الطريق الذي يصل شرقي مصر عبر سيناء بفلسطين، وقد استفاد ابنه رعمسيس الثاني من إنجازات أبيه، فقاد فرق أبيه بعد أن أضاف إليها فرقة الإله «سِتْ» إلى سورية لإعادة قادش إلى السيطرة المصرية، ووقعت معركة قادش الشهيرة ضد الحثيين بزعامة مواتيلا.
استمر العداء بين مصر والمملكة الحثية عشرين سنة، وفي العام الحادي والعشرين قبلت مصر أن تعقد معاهدة صلح مع خيتا، وليدرأ الطرفان عن نفسيهما خطر شعوب البحر[ر].
شغل الملوك الذين حكموا مصر بعد رعمسيس الثاني بدرء خطر شعوب البحر التي صارت تهاجم غرب الدلتا المرة تلو المرة، وكانت الحرب سجالاً، وكان من أشهرهم الملك مرنبتاح، ولكن حكم هذه الأسرة انتهى بسبب التنازع على العرش بين أمرائها، وقد تلتها فترة سادت فيها الفوضى إلى أن جاء الملك «ست نخت» وأسس أسرة جديدة هي الأسرة العشرون، فأعاد الأمور إلى نصابها وقضى على الاضطراب وأعاد النظام إلى البلاد.
الأسرة العشرون (1194 ـ 1087ق.م):
يعدّ عصر الأسرة العشرين امتداداً لعصر الأسرة السابقة، إذ واصلت هذه الأسرة جهودها في القضاء على خطر شعوب البحر الذي تمركز في غرب البلاد المصرية، فقد خاض الملك رعمسيس الثالث ضدهم معركتين: الأولى في السنة الخامسة والثانية في السنة الحادية عشرة من حكمه، أما الحملة العسكرية العظيمة ضد شعوب البحر والتي قضت على خطرهم تماماً فكانت في السنة الثامنة من حكمه على الأرض السورية، إذ اجتازت شعوب البحر المضائق، ودمرت خيتا وأُغاريت وكركميش، ثم انحدرت جنوباً تحمل نساءها وأطفالها وأمتعتها على عربات تجرها الثيران، وعسكرت في وسط سورية ـ ربما محطة للاستراحة قبل تقدمها إلى دلتا النيل ـ ولكن رعمسيس الثالث لم يمهلها فخاض ضدها معركة حامية الوطيس على أرض فلسطين الحالية، وقضى عليها، كما خاض ضدها معركة بحرية ناجحة في ساحل مصر الشمالي، وهكذا قضت مصر على شعوب البحر ولم تقم لهم قائمة بعد رعمسيس الثالث.
تسلّم عرش مصر بعد رعمسيس الثالث ثمانية ملوك تسموا جميعاً باسم رعمسيس، ولكن مصر عانت الضعف الشديد في عهودهم، ولذلك استطاع الكهنة الاستيلاء على الحكم وتأسيس أسرة جديدة هي الأسرة الحادية والعشرون.
العصر المتأخر من الأسرة الحادية والعشرين إلى نهاية عصر الأسرات:
بدأ هذا العصر بالأسرة الحادية والعشرين (1087- 945ق.م)، ولكن مصر كانت تحت حكم أسرتين ملكيتين: الأولى في الشمال وكان على رأسها الملك «سمندس» الذي امتد حكمه من الدلتا إلى أسيوط، وكانت عاصمته تانيس (صان الحجر)، والثانية في الجنوب وعلى رأسها الكاهن حريحور الذي اتخذ من طيبه عاصمة له، وقد ساد الوئام بين الأسرتين المالكتين، نتج منه مصاهرة بينهما أدت إلى توحيد الأسرتين تحت حكم بنزم ملك الجنوب، لكن مصر كانت ضعيفة في علاقاتها مع بلاد الشام لدرجة أن ملك جبيل طرد رسول الملك المصري حريحور لأنه لا يملك ثمن الأخشاب التي يرغب في شرائها من جبيل.
- الأسرة الثانية والعشرون (945 ـ 730ق.م):
دأب الليبيون في الهجرة إلى مصر كلما سنحت لهم الفرصة، وبذلك استطاعوا التطوع بالجيش المصري، وبمرور الزمان ازداد عددهم بالجيش ووصل أحد الليبيين المهاجرين إلى أن يكون رئيس الحامية الحربية الليبية في منطقة الفيوم، ووصل ليبي آخر في الوقت نفسه إلى منصب كهنوتي رفيع في أهناسيا، وبذلك جمع الليبيون السلطتين الدينية والعسكرية في أيديهم وتمكنوا من تأسيس حكم الأسرة الليبية، وهكذا أصبح شاشنق الأول ملكاً على مصر كلها، واستمر أحفاده يحكمون مصر حتى عهد شاشنق الرابع، وتلا ذلك حكم الأسرتين الثالثة والرابعة والعشرين.
- الأسرتان الخامسة والعشرون والسادسة والعشرون (عصر اليقظة) (750ـ 525ق.م):
رفض كهنة آمون الاعتراف بشاشنق الأول ملكاً على مصر، ولذلك هاجر قسم كبير منهم إلى الجنوب واتخذوا من مدينة نباتا عاصمة لحكمهم، وبعد ذلك تسلّم عرش نباتا الملك النوبي بعنخي، الذي غزا مصر وأخضعها لحكمه.
الاحتلال الآشوري لمصر:
سادت ظاهرة فريدة في منطقة الشرق العربي القديم، فما من قوة تنشأ في جزء منه إلا وتسعى إلى السيطرة على المنطقة كلها، حيث يكمن أمنها وازدهارها الاقتصادي. وهكذا سعت آشور إلى السيطرة على بلاد الشام، وتم لها هذا الأمر بعد جهود بذلها سنحاريب وأسرحدون، وأدركت مصر أن الاحتلال سيكون مصيرها، ولذلك أخذ ملكها «طهرقا» يعمل على تشجيع الفلسطينيين ومدن الساحل السوري عامة على الثورة ضد آشور، ومن المحتمل أن مصر كانت وراء ثورة صور التي جاء أسرحدون بنفسه وحاصرها. ثم تركها محاصرة، واتجه إلى مصر حيث استولى على عاصمتها منف، وبذلك اعترف كل حكام الأقاليم المصرية بسلطان آشور عليهم، ودفعوا الجزية إلى ملكها، وبعد سنوات قليلة ثار الملك طهرقا على الآشوريين، فما كان من الملك الآشوري آشور بانيبال إلا أن أرسل جيشاً قضى على الثورة، واتجه جنوباً إلى طيبه واحتلها، وحاول المصريون الثورة للمرة الثانية، إلا أن الآشوريين غلبوهم على أمرهم ووصلوا إلى طيبة.
- الأسرة السادسة والعشرون (656 ـ 525ق.م):
يعد بسمتك مؤسس هذه الأسرة من ملوك مصر العظام، إذ استطاع طرد الآشوريين من مصر بمساعدة من ملوك ليديا، كما استطاع ضم الجنوب إلى مملكته في الدلتا، حكم بعد بسمتك عدة ملوك (نخاو الثاني، بسمتك الثاني، أبريس، أحمس الثاني، بسمتك الثالث) وكان نخاو الثاني المميز بينهم في أعماله وإنجازاته.
عمل ملوك هذه الأسرة جاهدين على بعث المظاهر الحضارية المصرية التي سادت في عصر الدولتين القديمة والوسطى، سواء أكان في اللغة أم الفن أم الدين أم ألقاب الفراعنة أم طريقة كتابة النقوش، ولكن القدر لم يمهلهم، إذ سرعان ما تعرضت مصر للغزو الفارسي.
السيطرة الفارسية على مصر:
استطاع الفرس السيطرة على مصر بعد معركة بلوزيوم (تل الفرما) بقيادة الملك قمبيز عام 525ق.م، ولكن مصر لم تقبل حكم الأجنبي، فقامت بتأسيس الأسرات الحاكمة المعاصرة للفرس على أجزاء من أرضها (الأسرة السابعة والعشرون)، واشتبكت بمعارك طاحنة مع الفرس، وكانت تتلقى المعونة العسكرية من أثينا، وهكذا استمرت الحرب سجالاً بين الطرفين من عام 404ق.م إلى عام 332ق.م. وقد حكمت في هذه الفترة الأسر المصرية الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون والثلاثون. وفي عام 333ق.م هزم الإسكندر المقدوني الفرس في معركة إيسوس، ودخل مصر في السنة التالية، فرحب به المصريون؛ لأنه خلصهم من الحكم الفارسي الظالم. مات الإسكندر عام 323ق.م، فاقتسم قواده امبراطوريته، وكانت مصر من نصيب القائد «بطلميوس». وبذلك تأسست أسرة حاكمة جديدة بمصر.
العصر البطلمي في مصر:
أصبحت مصر بعد موت الإسكندر تحت حكم بطلميوس مؤسس أسرة البطالمة[ر] والتي استمرت تتوارث الحكم حتى الاحتلال الروماني لمصر عام 30ق.م، ومن أهم مظاهر هذا العصر:
- نقل العاصمة إلى الإسكندرية وأصبحت الأرض المصرية نظرياً ملكاً للحاكم، وقد مُنحت أحسن الأراضي وأوسعها للإغريق وخاصة الجند، وأصبح الفلاحون المصريون بذلك أجراء يعملون في الأراضي الملكية، أو يملكون مساحة صغيرة من الأرض. واحتكرت الدولة زراعة النباتات الزيتية وإنتاجها مثل السمسم والخروع وزيت الكتان والقرطم والحنظل، كما احتكرت التجارة فاستوردت الخشب والمعادن والنبيذ وزيت الزيتون والفاكهة والعبيد والخيول وصدّرت في المقابل القمح.
- الكتابة واللغة: استخدم البطالمة اللغة المصرية القديمة في اللوائح والقوانين والقرارات وخاصة ماكان متعلقاً منها بشؤون الضرائب، واستخدم البطالمة في كتاباتهم الهيروغليفية والديموطيقية المصريتين، كما استخدموا الكتابة القبطية ذات الحروف اليونانية حيث يُرى هذا واضحاً بالنقوش الكتابية على حجر رشيد، الذي نُقش في العصر الإغريقي بالخطوط المذكورة أعلاه.
مصر في العصر الروماني:
بعد صراع مرير بين الحاكم الروماني أوكتافيوس من جهة وأنطونيوس وكليوباترا[ر] من جهة ثانية، تُوّج هذا الصراع بمعركة اكتيوم البحرية في البلاد الإغريقية عام 31ق.م، فهُزم أنطونيوس وكليوباترا وتراجعا إلى مصر، ولكن أوكتافيوس لحق بهما ودخل الإسكندرية عاصمة البلاد عام 30ق.م، فانتحر أنطونيوس وكليوباترا وبذلك أصبح أوكتافيوس سيد مصر، وأعلن مصر ولاية رومانية مرتبطة بشخص الامبراطور. ووضع لها نظاماً خاصاً، بحيث أصبح محرماً على أيّ عضو من أعضاء مجلس الشيوخ أو السياسيين الكبار زيارة مصر إلا بموافقة الإمبراطور. واستمرت مصر ولاية رومانية يحكمها والٍ روماني حتى عام 18هـ/639م، حين فتحها العرب المسلمون بقيادة عمرو بن العاص.
وهكذا كانت مصر جزءاً من المشرق العربي جغرافياً وتاريخياً وحضارة ووحدة مصير، فأنتج كل هذا حتمية تاريخية، انعكست على أحداث المشرق العربي منذ بداية التاريخ حتى اليوم، فما من حدث عظيم وقع في المشرق إلا وتأثرت به أو أثّرت فيه؛ فكان أمن مصر من أمنه، وكانت أركان الحضارة الإنسانية التي تجلت في وحدة اللغة والفن والدين راسخة رسوخ الجبال في وجدان مصر، صدّقها وعزّزها إيمانها برسالة الإسلام السمحاء، واحتفاظها باللغة العربية، لتستمر مسيرة وحدة المصير والوحدة الحضارية التي تعود إلى آلاف السنين حتى اليوم.
محمود عبد الحميد أحمد
Egypt - Egypte
مصر القديمة
لمصر وبلاد الرافدين والشام مكانة في سجل الحضارة البشرية القديمة لا تدانيها مكانة، فقد حملت شعوب هذه البلاد مشعل الحضارة آلاف السنين وضعت في أثنائها القواعد الرئيسة لأسس الحضارة الإنسانية في الكتابة واللغة والفن والدين والإدارة والعلوم التطبيقية والعمارة.
اعتاد الإنسان في الشرق العربي القديم أن يستنبط تسمية للأماكن من أخص صفة فيها، ولما كانت أرض مصر رسوبية سوداء؛ فقد أطلق الإنسان المصري على بلده اسم كمت Kemet أي السوداء أو تحبباً السمراء. كما أطلق المصري القديم على مصر أسماء هي ألقاب مقدسة، تنم على إعجاب وتشريف. أما تسمية مصر فقد جاءت من بلاد الشام حيث ورد اسم مصر لأول مرة في رسالة بعث بها «رب عدي» أمير جبيل إلى أخناتون (نحو 1367- 1347ق.م) بصيغة (ماتو مصري) وماتو لفظة أكادية تعني الأرض، وبعد ذلك وردت هذه التسمية في النصوص الفينيقية والآشورية والكلدانية والمعينية والآرامية والسريانية، أما العرب فقد سمّوها مصر ، وشاعت في اللغات الغربية التسمية Egypt للدلالة على مصر، فسمّاها اليونان والرومان «آيجيبتوس» ثم شاعت في اللغات الأوربية المعاصرة (Aegypten¨ Egypt Egypte¨ Egipto¨).
وقد دلت الدراسات الأثرية على أن الإنسان سكن مصر منذ بداية العصور الحجرية القديمة، وتبين الدراسة المقارنة لجماجم يرجع تاريخها إلى عصور ما قبل الأسرات (4000ق.م) والعصور التاريخية؛ أن مصر سكنت بعنصرين رئيسين: الأول إفريقي وكانت له جماجم متطاولة، والآخر جاء من شرق مصر وله جماجم مستديرة، وقد طغى الأخير على العنصر الأقدم (الزنجي)، وأكد الباحثون رأيهم هذا من خلال الآثار الرافدية والشامية التي عُثر عليها في مصر، فضلاً عن الخصائص اللغوية العربية الموجودة في اللغة المصرية القديمة، سواء من حيث المفردات أم النحو، وكذلك عبادة الآلهة التي أدخلها المهاجرون العرب الشرقيون إلى مصر، وكان من أعظم الآلهة «الإله حورس» (إله عربي شرقي وصفه الدميري في كتابه «الحيوان» وصفاً ينطبق على الصقر الحر العربي تسمية وشكلاً).
أما فيما يتعلق باللغة والكتابة المصريتين، فقد تأثرت اللغة المصرية بالمهاجرين الذين قدموا إلى مصر منذ نهايات العصور الحجرية، نتيجة للجفاف الذي ألمَّ بمنطقة الصحراء الكبرى الإفريقية، كما وصلت إلى مصر هجرات قدمت من بلاد الشام عن طريق سيناء وطريق باب المندب والبحر الأحمر عموماً، وهكذا طُبعت اللغة المصرية القديمة بطابع عربي سواء بنحوها أم مفرداتها، وقد أطلق اليونان على الكتابة المصرية اسم (الكتابة الهيروغليفية) التي اشتقت منها كل الكتابات اللاحقة في مصر (الهيراطيقية، الديموطيقيه)، وفي العصر البطلمي استخدم المصريون الكتابة القبطية، وقد سادت هذه الكتابة حتى بداية العصر الإسلامي بمصر.
مراحل التاريخ المصري القديم:
ـ تاريخ العصور الحجرية المصرية:
إن تاريخ مصر هو سلسلة مترابطة الحلقات، وإنجاز كل عصر فيه يرتكز على ما قدمته العصور السابقة، ولا يمكن لأي باحث بتاريخ مصر أن يحيط به ويفهمه إلا إذا بدأ بدراسة أقدم حلقة فيه، وهي العصور الحجرية.
- العصور الحجرية القديمة:
بسبب طول هذه العصور، فقد قسمها الباحثون إلى ثلاثة عصور (العصر الحجري القديم الأسفل والأوسط والأعلى) وقد عثر الباحثون على آثار العصر الأول (2300000- 100000ق.م) في الصحارى المصرية، أوفي التلال القريبة من الوادي، وتتكون من فؤوس حجرية، بعضها مهذب بحيث أصبح للفأس ثلاثة أوجه وشكلها العام هرمي، أما آثار العصر الحجري الأوسط (100000- 35000ق.م) في مصر، فكان أغلبها على شكل رقائق تمثل نصالاً، ذات هندسية صغيرة الحجم، ومما هو جدير بالذكر أن الباحثين لم يعثروا على هياكل عظمية للإنسان الذي عاش في مصر في العصرين السابقين، وفيما يخص العصر الحجري القديم الأعلى (35000- 12000ق.م) فقد اكتُشفت آثاره في جنوبي مصر.
- العصر الحجري المتوسط:
يمتد هذا العصر من 12000 إلى 8000ق.م، ويعدّ مرحلة انتقالية بين العصر الحجري القديم الأعلى والعصر الحجري الحديث، وقد شملت آثاره الأدوات الحجرية الصغيرة الدقيقة الحادة؛ ذات الأشكال الهندسية المختلفة التي سادت في العصر السابق.
- العصر الحجري الحديث:
يمتد هذا العصر في مصر من 8000 إلى 3200ق.م، وقد تعددت إبداعات الإنسان الحضارية وتنوعت في هذا العصر، بحيث يمكن القول إن ثورة حضارية متعددة المظاهر قامت في هذا العصر، فقد أصبح الجفاف في المشرق العربي القديم حقيقة واقعة، مما دفع الإنسان إلى إبداع الزراعة كي يوفر غذاءه بنفسه، فالطبيعة أصبحت غير قادرة على تقديم الطعام له، ولذلك هاجر الإنسان من الصحارى إلى السهل الرسوبي على جانبي النيل والدلتا، بعد أن أخذ النيل شكل مجراه الحالي منذ نحو 14000ق.م، وقد اضطرته الزراعة إلى إقامة المسكن بجانب زرعه، ومن تجمع المساكن نشأت القرى والمدن، كما دفعه فائض محصوله إلى إبداع الفخار لحفظه. وهكذا نشأت التخصصات وقامت المشاغل لإنتاج الفخار والأدوات الزراعية وأدوات الزينة، مما أدى إلى نشوء الحرف، وأخيراًً لابد من الإشارة إلى ظهور الإدارة في هذا العصر، وقد ساعد على وجود إدارة مبكرة في مصر عاملان رئيسان: الأول حاجة المجتمع الزراعي إلى الأمن الذي يحفظ له محصوله من عبث العابثين، والثاني طبيعي يتمثل بإحاطة مصر بصحراوين قاحلتين، لا يستطيع الإنسان تجاوزهما؛ لأن جفاف الصحراء سيقتله. وينبغي الإشارة إلى أن البذور الأولى في الفن والدين والإدارة والكتابة واللغة قد نمت في هذا العصر،الذي يمثل آخره مرحلة العصر الحجري النحاسي 4500-3200 ق.م، وسُمّي كذلك لأن المصري تعرّف استخراج النحاس من فلذاته واستخدامه في صناعة أدواته إلى جانب الحجر، وقد سادت في هذا العصر حضارتان الأولى: «حضارة نقادة» قامت في أقصى جنوبي مصر بالصعيد، ولذلك كانت نشأتها ذاتية لم تؤثّر ولم تتأثر بغيرها من الحضارات، والثانية «حضارة جرزة» قامت في شمالي مصر، ولذلك أثّرت وتأثرت بالحضارة الرافدية والسورية، ويشهد على ذلك الآثار الصوانية والمقامع الفلسطينية والآثار الرافدية المتعددة من فخار وأختام أسطوانية ومظاهر فنية، وقد عدَّ الباحثون وصول هذه الآثار إلى مصر دليلاً على وصول هجرة بشرية عظيمة إليها من المشرق العربي القديم، وقد حملت معها إلهها «حور» الذي مثلَّه الصقر الحر العربي في الحضارة المصرية القديمة، ولذلك سُمّي المهاجرون «شمسوحور» أي عبّاد حورس، وقد طبعت هذه الهجرة مصر بطابعها اللغوي والديني والفني والبشري إلى حد بعيد. وكان من أهم مظاهر سيادة عُبَّاد حورس، إعتلاؤهم عرشي مملكتين واحدة في الدلتا والثانية في الصعيد، وقد تُوّج ملوك كل مملكة بتاج خاص بمملكتهم، واستطاع الشمال الذي اتخذ من »دمنهور« الحالية عاصمة له، أن يوِّحد مصر بضم الجنوب إليه، وليس من المستبعد أن «أون» (هليوبوليس أو عين شمس) كانت عاصمة مصر الموحَّدة، ولكن هذه الوحدة لم تدم طويلاً، فقد انفصل الجنوب عن الشمال وأصبحت مصر تتكون من مملكتين ولكل منهما عاصمة سياسية وأخرى دينية، ومعبود وملك وتاج، فقد كان التاج الأبيض لمملكة الصعيد والتاج الأحمر لمملكة الدلتا.
الوحدة المصرية في مطلع العصور التاريخية:
سعت مملكة الصعيد إلى تحقيق الوحدة مع مملكة الدلتا، ومن أجل تحقيق هذا الهدف، خاضت حروباً قاسية، توجت بالوحدة بين البلدين، ويعدّ دبوس الملك العقرب وصلاية الملك نعرمر من أهم الآثار التي تدل رسومها على الحروب التي دارت بين الطرفين، فالملك العقرب حارب أهل الشمال وانتصر عليهم، ولكن نعرمر هو الذي حقق الوحدة بين القطرين بدليل تتويجه بتاج الصعيد الأبيض والشمال الأحمر، وهكذا توحدت مصر نحو3200 ق.م وأصبح نعرمر أول ملك في أول أسرة مصرية حاكمة، ويبدو أنه حمل لقب مينا[ر] Menes.
- العصر العتيق والدولة القديمة (3200- 2230 ق.م):
يطلق الباحثون المحدثون على عصر الأسرتين الأولى والثانية اسم العصر العتيق (3200-2780ق.م) أو العصر الثني، نسبة إلى مدينة ثني الموطن الأول لملوك هذا العصر، ومن أهم آثار هذا العصر، المصاطب؛ إذ بنى كل ملك من ملوك الأسرة الأولى مصطبتين واحدة في الشمال والأخرى في الجنوب لتكون إحداهما (ربما الشمالية) مقبرة للملك، كما يُذكر للملك مينا بناء عاصمة للدولة عند رأس الدلتا هي «منف» فيما بعد، أما فيما يتعلق بالدولة القديمة فقد بدأت بالأسرة الثالثة (2780ق.م) وانتهت نحو2230ق.م، وبذلك تكون قد ضمت الأسر: الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة. ويطلق الباحثون عليها اسم العصر المنفي نسبة إلى مَنُف العاصمة، أو عصر بناة الأهرام بسبب ما شاده أهله من أهرامات لم يعرف لها التاريخ مثيلاً.
ومن أهم ملوك هذا العصر:
- الملك زوسر: مؤسس الأسرة الثالثة والذي تحول شكل المقبرة في عهده من المصطبة إلى الهرم (الهرم المدرج) بسبب تحول في عقيدة المصري الدينية نحوعبادة الشمس.
- الملك سنفرو: مؤسس الأسرة الرابعة التي تعدّ من أعظم الأسر الحاكمة المصرية في عصر الدولة القديمة، وقد شاد ملوكها أعظم الأهرامات وحققوا إدارة مركزية قوية لم يشهدها تاريخ مصر، فشاد سنفرو أول هرم كامل صحيح النسب في دهشور، وقام بأوسع الصلات التجارية مع الساحل السوري، فقد جاء على حجر بالرمو أنه استقبل أربعين سفينة محملة بخشب الأرز السوري.
- الملوك خوفو[ر] وخفرع ومنكا ورع: بناة الأهرام الثلاثة التي مازالت قائمة بأبهة وجلال على هضبة الجيزة، وانتهى عصر الدولة القديمة لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية.
- الفترة الانتقالية الأولى (2230 ـ1050ق.م):
انتهت أيام الدولة القديمة لأسباب اقتصادية في معظمها، فقد شيّد ملوك هذه الدولة أهرامات عظيمة غير ذات فائدة اقتصادية، كما خصصوا الضيع والأراضي الزراعية ليُصرف من ريعها على إجراء الطقوس الدينية إلى أبد الآبدين، ومنحوا الكهنة الأراضي وأعفوهم من كثير من الواجبات، مما أثقل كاهل فئات مصرية أخرى أقل حظاً.
وبذلك ساد مصر ضعف شديد، نتج منه استقلال حكام الأقاليم، وتدفق القبائل البدوية العربية إلى شمالي مصر والدلتا، وانقطاع التجارة مع بلاد الشام، واضطراب الأمن، واستمرت هذه الأوضاع طوال عصر الأسرتين السابعة والثامنة في الدلتا ومنطقة العاصمة منف، ولكن الأوضاع استقرت في عصر الأسرتين التاسعة والعاشرة، وساد مصر ثلاث قوى رئيسة هي:
- قوة البدو العرب الذين تمركزوا في الدلتا واتخذوا من منف عاصمة لهم.
- قوة الأهناسيين الذين تمركزوا في منطقة الفيوم وعاصمتهم اهناسيا.
- قوة الطيبيين، وقد اتخذوا من طيبة عاصمة لهم.
ونشبت حرب ضروس بين هذه القوى، انتهت بانتصار طيبة، وبتوحيد مصر للمرة الثانية بزعامة منتوحتب الثاني.
- عصر الدولة الوسطى (2050 ـ 1786ق.م)
يعد الملك منتوحتب الثاني مؤسس الأسرة الحادية عشره أعظم ملوك هذه الأسرة؛ إذ أعاد وحدة مصر، وحمى حدودها الشرقية، وبنى معبداً ومقبرة إلى الغرب من طيبة؛ إذ مهَّد بجانب الجبل المطل على طيبة مسطحين يعلو أحدهما الآخر، وبنى عليهما معبده ومقبرته، وكان هذا الإبداع المعماري ملهماً لمهندس الملكة حتشبسوت في بناء معبدها على الطراز نفسه بجانب معبد الملك ومقبرته.
خلّف منتوحتب الثاني عدة ملوك اتخذوا الاسم نفسه الذي يرتبط بالإله «منتو»، ولكن أيام هذه الأسرة انتهت عام 1991ق.م وجاءت بعدها الأسرة الثانية عشرة، وكان مؤسسها الملك أمنمحات الأول، وقد ساد اسم أمنمحات (أمون في المقدمة) وسنوسرة (ابن الآلهة وسرة) أسماء ملوك هذه الأسرة، ومما يُذكر لهم نقل العاصمة من أقصى الجنوب إلى منطقة اللشت شمالي الفيوم؛ حيث بنوا أهراماتهم، وحماية حدود مصر الشرقية، وازدهار التجارة المصرية مع الساحل السوري، فالنصوص المصرية تذكر أن سفن الأسطول المصري كانت مبنية بخشب الأرز السوري، فضلاً عن أن اللغة المصرية القديمة بلغت قمة الازدهار في تاريخ مصر القديم كله، لكن هذه الدولة ضعفت لأسباب داخلية (التنافس بين أفراد الأسرة الحاكمة على العرش) ولأسباب خارجية (هجرة الزنوج إلى مصر من الجنوب وهجرة القبائل العربية من الشمال؛ مما أدى إلى إضعاف الاقتصاد المصري، وبذلك انتهت أيام هذه الدولة عام 1786ق.م.
الفترة الانتقالية الثانية (1786 ـ 1575ق.م):
تعد الفترة الانتقالية الثانية من أشد فترات التاريخ المصري ضعفاً، إذ استقل حكام الأقاليم المصرية بأقاليمهم وتعرضت البلاد للسيطرة الأجنبية، سواء من الشمال أم من الجنوب، وقد شملت هذه الفترة حكم الأسرات من الثالثة عشرة إلى السابعة عشرة. تعرضت مصر في أثنائها لاحتلال الهكسوس[ر]؛ إذ تعد سيطرة الهكسوس على مصر سيطرة فعلية منذ عام 1730ق.م أعظم حدث سلبي في تاريخ مصر في أثناء حكم هذه الفترة؛ حين سيطروا على مصر زمن الأسر الخامسة عشرة والسادسة عشرة والسابعة عشرة. ويعني اسمهم عند مانيثون «الحكام الرعاة» وعند غاردنز «حكام البلاد الأجنبية». وعندما قوي أمراء طيبة (سقنن رع وابناه كامس وأحمس) طردوهم بالقوة من مصر، ولاحقوهم إلى فلسطين، وبذلك قامت في مصر الدولة الحديثة.
عصر الدولة الحديثة (1575 ـ 1087ق.م):
تعدّ الدولة المصرية الحديثة من أعظم الدول التي قامت في مصر في تاريخها القديم، وليس من المبالغة في القول: إن لكل شعب عصر بطولة، وعصر بطولة مصر الفرعونية تحقق بعد قيام الدولة الحديثة؛ فقد أقام المصريون امبراطورية تمتد من الفرات شمالاً إلى السودان جنوباً، وكانت الدولة المصرية مرهوبة الجانب، تتمنى كل الدول المعاصرة لها في المنطقة أن تقيم معها صداقة وعلاقات حسنة.
ضمت الدولة المصرية الحديثة ثلاث أسر حاكمة قوية (الأسرة الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والأسرة العشرين) وفي مطلع عصر الأسرة الثامنة عشره سارت الأمور على منوال الماضي في الإدارة والدين والفن وعلاقات مصر الخارجية، وقد حرص ملوك الأسرة الأوائل من مؤسس الأسرة الملك أحمس الأول إلى الملكة حتشبسوت على إعطاء الاهتمام الداخلي الأولوية على سواه، ولكن في عهد الملكة حتشبسوت (1490 ـ 1467ق.م) برز حزبان لكلٍ أنصاره ومبادئه للنهوض بمصر، تزعمت الملكة الحزب الأول وجلّ مؤيديها من كبار موظفي الدولة وكبير كهنة الإله آمون، وقد رأى أن نهوض مصر لا يتحقق إلا بالسمو الثقافي والازدهار الاقتصادي على الأمم المجاورة، أما الحزب الثاني فقد تزعمه تحوتمس الثالث[ر] (صاحب الحق الشرعي بعرش مصر) ورأى أن نهوض مصر لا يتحقق إلا بالقوة العسكرية التي تحقق لها التوسع والسيطرة على الأمم المجاورة.
فترة العمارنة:
استمرت مصر قوية عسكرياً واقتصادياً حتى عهد الملك أمنحوتب الثالث الذي مال إلى الدعة وآثر الراحة والإقبال على ملذات الدنيا، فضعفت المملكة وأغرى ضعفها أعداءها بالقضاء على امبراطوريتها في بلاد الشام، وكان لهم ما أرادوا، فقد خلفه بعد ابنه أمنحوتب الرابع (أخناتون) الذي كان فيلسوفاًً مبدعاً، هدته فلسفته إلى إبداع مجموعة من المبادىء الإنسانية الراقية التي تسمو بالإنسان عن القتل والطمع والكذب والنفاق، وقد عارضه في دينه هذا كهنة الإله آمون، الذين تضرّرت مصالحهم، وهكذا انقسمت الأمة المصرية بين مؤيد لأخناتون ومعارض له، وغني عن القول: إن هذا الصراع المرير أضعفها وأغرى أعداءها بالهجوم على أملاكها في بلاد الشام. ومما هو جدير بالذكر أن الممالك السورية التي أخلصت لمصر المودة كتبت لأخناتون وأبيه الرسالة تلو الرسالة تطلب النجدة ولكن ما من مجيب. حتى فقدت مصر معظم امبراطوريتها في بلاد الشام عند موت أخناتون، وأصبح الحثيون بزعامة شوبيلوليوما، والآموريون بزعامة عبدي عشرتا وابنه عزير سادة بلاد الشام تقريباً.
حكم مصر بعد أخناتون كل من توت عنخ أمون[ر] والكاهن آي وأخيراً قائد الجيش حورمحب (1335- 1308ق.م)، ولم ينجب حورمحب ولياً للعهد فانتقل الحكم إلى رعمسيس الأول قائد جيشه، وبذلك تأسست أسرة جديدة غلب على ملوكها مع الأسرة التي تلتها اسم رعمسيس، ولذلك أطلق عليه «أسرة الرعامسة» مثلما أُطلق على سابقتها تسمية «أسرة التحامسة» لشيوع اسم تحوتمس في أسماء ملوكها.
الأسرة التاسعة عشرة (1308 ـ 1194ق.م):
تعدّ الأسرة التاسعة عشرة من أسر مصر العظيمة، ومنذ بداية عصر هذه الأسرة طمح ملوكها إلى إعادة الامبراطورية الضائعة في بلاد الشام، فأعاد الملك ستي الأول تكوين الجيش المصري وقسّمه إلى ثلاث فرق سمّاها باسم الآلهة المصرية العظيمة (آمون/رع/بتاح)، وأصلح الطريق الذي يصل شرقي مصر عبر سيناء بفلسطين، وقد استفاد ابنه رعمسيس الثاني من إنجازات أبيه، فقاد فرق أبيه بعد أن أضاف إليها فرقة الإله «سِتْ» إلى سورية لإعادة قادش إلى السيطرة المصرية، ووقعت معركة قادش الشهيرة ضد الحثيين بزعامة مواتيلا.
استمر العداء بين مصر والمملكة الحثية عشرين سنة، وفي العام الحادي والعشرين قبلت مصر أن تعقد معاهدة صلح مع خيتا، وليدرأ الطرفان عن نفسيهما خطر شعوب البحر[ر].
شغل الملوك الذين حكموا مصر بعد رعمسيس الثاني بدرء خطر شعوب البحر التي صارت تهاجم غرب الدلتا المرة تلو المرة، وكانت الحرب سجالاً، وكان من أشهرهم الملك مرنبتاح، ولكن حكم هذه الأسرة انتهى بسبب التنازع على العرش بين أمرائها، وقد تلتها فترة سادت فيها الفوضى إلى أن جاء الملك «ست نخت» وأسس أسرة جديدة هي الأسرة العشرون، فأعاد الأمور إلى نصابها وقضى على الاضطراب وأعاد النظام إلى البلاد.
الأسرة العشرون (1194 ـ 1087ق.م):
يعدّ عصر الأسرة العشرين امتداداً لعصر الأسرة السابقة، إذ واصلت هذه الأسرة جهودها في القضاء على خطر شعوب البحر الذي تمركز في غرب البلاد المصرية، فقد خاض الملك رعمسيس الثالث ضدهم معركتين: الأولى في السنة الخامسة والثانية في السنة الحادية عشرة من حكمه، أما الحملة العسكرية العظيمة ضد شعوب البحر والتي قضت على خطرهم تماماً فكانت في السنة الثامنة من حكمه على الأرض السورية، إذ اجتازت شعوب البحر المضائق، ودمرت خيتا وأُغاريت وكركميش، ثم انحدرت جنوباً تحمل نساءها وأطفالها وأمتعتها على عربات تجرها الثيران، وعسكرت في وسط سورية ـ ربما محطة للاستراحة قبل تقدمها إلى دلتا النيل ـ ولكن رعمسيس الثالث لم يمهلها فخاض ضدها معركة حامية الوطيس على أرض فلسطين الحالية، وقضى عليها، كما خاض ضدها معركة بحرية ناجحة في ساحل مصر الشمالي، وهكذا قضت مصر على شعوب البحر ولم تقم لهم قائمة بعد رعمسيس الثالث.
تسلّم عرش مصر بعد رعمسيس الثالث ثمانية ملوك تسموا جميعاً باسم رعمسيس، ولكن مصر عانت الضعف الشديد في عهودهم، ولذلك استطاع الكهنة الاستيلاء على الحكم وتأسيس أسرة جديدة هي الأسرة الحادية والعشرون.
العصر المتأخر من الأسرة الحادية والعشرين إلى نهاية عصر الأسرات:
بدأ هذا العصر بالأسرة الحادية والعشرين (1087- 945ق.م)، ولكن مصر كانت تحت حكم أسرتين ملكيتين: الأولى في الشمال وكان على رأسها الملك «سمندس» الذي امتد حكمه من الدلتا إلى أسيوط، وكانت عاصمته تانيس (صان الحجر)، والثانية في الجنوب وعلى رأسها الكاهن حريحور الذي اتخذ من طيبه عاصمة له، وقد ساد الوئام بين الأسرتين المالكتين، نتج منه مصاهرة بينهما أدت إلى توحيد الأسرتين تحت حكم بنزم ملك الجنوب، لكن مصر كانت ضعيفة في علاقاتها مع بلاد الشام لدرجة أن ملك جبيل طرد رسول الملك المصري حريحور لأنه لا يملك ثمن الأخشاب التي يرغب في شرائها من جبيل.
- الأسرة الثانية والعشرون (945 ـ 730ق.م):
دأب الليبيون في الهجرة إلى مصر كلما سنحت لهم الفرصة، وبذلك استطاعوا التطوع بالجيش المصري، وبمرور الزمان ازداد عددهم بالجيش ووصل أحد الليبيين المهاجرين إلى أن يكون رئيس الحامية الحربية الليبية في منطقة الفيوم، ووصل ليبي آخر في الوقت نفسه إلى منصب كهنوتي رفيع في أهناسيا، وبذلك جمع الليبيون السلطتين الدينية والعسكرية في أيديهم وتمكنوا من تأسيس حكم الأسرة الليبية، وهكذا أصبح شاشنق الأول ملكاً على مصر كلها، واستمر أحفاده يحكمون مصر حتى عهد شاشنق الرابع، وتلا ذلك حكم الأسرتين الثالثة والرابعة والعشرين.
- الأسرتان الخامسة والعشرون والسادسة والعشرون (عصر اليقظة) (750ـ 525ق.م):
رفض كهنة آمون الاعتراف بشاشنق الأول ملكاً على مصر، ولذلك هاجر قسم كبير منهم إلى الجنوب واتخذوا من مدينة نباتا عاصمة لحكمهم، وبعد ذلك تسلّم عرش نباتا الملك النوبي بعنخي، الذي غزا مصر وأخضعها لحكمه.
الاحتلال الآشوري لمصر:
سادت ظاهرة فريدة في منطقة الشرق العربي القديم، فما من قوة تنشأ في جزء منه إلا وتسعى إلى السيطرة على المنطقة كلها، حيث يكمن أمنها وازدهارها الاقتصادي. وهكذا سعت آشور إلى السيطرة على بلاد الشام، وتم لها هذا الأمر بعد جهود بذلها سنحاريب وأسرحدون، وأدركت مصر أن الاحتلال سيكون مصيرها، ولذلك أخذ ملكها «طهرقا» يعمل على تشجيع الفلسطينيين ومدن الساحل السوري عامة على الثورة ضد آشور، ومن المحتمل أن مصر كانت وراء ثورة صور التي جاء أسرحدون بنفسه وحاصرها. ثم تركها محاصرة، واتجه إلى مصر حيث استولى على عاصمتها منف، وبذلك اعترف كل حكام الأقاليم المصرية بسلطان آشور عليهم، ودفعوا الجزية إلى ملكها، وبعد سنوات قليلة ثار الملك طهرقا على الآشوريين، فما كان من الملك الآشوري آشور بانيبال إلا أن أرسل جيشاً قضى على الثورة، واتجه جنوباً إلى طيبه واحتلها، وحاول المصريون الثورة للمرة الثانية، إلا أن الآشوريين غلبوهم على أمرهم ووصلوا إلى طيبة.
- الأسرة السادسة والعشرون (656 ـ 525ق.م):
يعد بسمتك مؤسس هذه الأسرة من ملوك مصر العظام، إذ استطاع طرد الآشوريين من مصر بمساعدة من ملوك ليديا، كما استطاع ضم الجنوب إلى مملكته في الدلتا، حكم بعد بسمتك عدة ملوك (نخاو الثاني، بسمتك الثاني، أبريس، أحمس الثاني، بسمتك الثالث) وكان نخاو الثاني المميز بينهم في أعماله وإنجازاته.
عمل ملوك هذه الأسرة جاهدين على بعث المظاهر الحضارية المصرية التي سادت في عصر الدولتين القديمة والوسطى، سواء أكان في اللغة أم الفن أم الدين أم ألقاب الفراعنة أم طريقة كتابة النقوش، ولكن القدر لم يمهلهم، إذ سرعان ما تعرضت مصر للغزو الفارسي.
السيطرة الفارسية على مصر:
استطاع الفرس السيطرة على مصر بعد معركة بلوزيوم (تل الفرما) بقيادة الملك قمبيز عام 525ق.م، ولكن مصر لم تقبل حكم الأجنبي، فقامت بتأسيس الأسرات الحاكمة المعاصرة للفرس على أجزاء من أرضها (الأسرة السابعة والعشرون)، واشتبكت بمعارك طاحنة مع الفرس، وكانت تتلقى المعونة العسكرية من أثينا، وهكذا استمرت الحرب سجالاً بين الطرفين من عام 404ق.م إلى عام 332ق.م. وقد حكمت في هذه الفترة الأسر المصرية الثامنة والعشرون والتاسعة والعشرون والثلاثون. وفي عام 333ق.م هزم الإسكندر المقدوني الفرس في معركة إيسوس، ودخل مصر في السنة التالية، فرحب به المصريون؛ لأنه خلصهم من الحكم الفارسي الظالم. مات الإسكندر عام 323ق.م، فاقتسم قواده امبراطوريته، وكانت مصر من نصيب القائد «بطلميوس». وبذلك تأسست أسرة حاكمة جديدة بمصر.
العصر البطلمي في مصر:
أصبحت مصر بعد موت الإسكندر تحت حكم بطلميوس مؤسس أسرة البطالمة[ر] والتي استمرت تتوارث الحكم حتى الاحتلال الروماني لمصر عام 30ق.م، ومن أهم مظاهر هذا العصر:
- نقل العاصمة إلى الإسكندرية وأصبحت الأرض المصرية نظرياً ملكاً للحاكم، وقد مُنحت أحسن الأراضي وأوسعها للإغريق وخاصة الجند، وأصبح الفلاحون المصريون بذلك أجراء يعملون في الأراضي الملكية، أو يملكون مساحة صغيرة من الأرض. واحتكرت الدولة زراعة النباتات الزيتية وإنتاجها مثل السمسم والخروع وزيت الكتان والقرطم والحنظل، كما احتكرت التجارة فاستوردت الخشب والمعادن والنبيذ وزيت الزيتون والفاكهة والعبيد والخيول وصدّرت في المقابل القمح.
- الكتابة واللغة: استخدم البطالمة اللغة المصرية القديمة في اللوائح والقوانين والقرارات وخاصة ماكان متعلقاً منها بشؤون الضرائب، واستخدم البطالمة في كتاباتهم الهيروغليفية والديموطيقية المصريتين، كما استخدموا الكتابة القبطية ذات الحروف اليونانية حيث يُرى هذا واضحاً بالنقوش الكتابية على حجر رشيد، الذي نُقش في العصر الإغريقي بالخطوط المذكورة أعلاه.
مصر في العصر الروماني:
بعد صراع مرير بين الحاكم الروماني أوكتافيوس من جهة وأنطونيوس وكليوباترا[ر] من جهة ثانية، تُوّج هذا الصراع بمعركة اكتيوم البحرية في البلاد الإغريقية عام 31ق.م، فهُزم أنطونيوس وكليوباترا وتراجعا إلى مصر، ولكن أوكتافيوس لحق بهما ودخل الإسكندرية عاصمة البلاد عام 30ق.م، فانتحر أنطونيوس وكليوباترا وبذلك أصبح أوكتافيوس سيد مصر، وأعلن مصر ولاية رومانية مرتبطة بشخص الامبراطور. ووضع لها نظاماً خاصاً، بحيث أصبح محرماً على أيّ عضو من أعضاء مجلس الشيوخ أو السياسيين الكبار زيارة مصر إلا بموافقة الإمبراطور. واستمرت مصر ولاية رومانية يحكمها والٍ روماني حتى عام 18هـ/639م، حين فتحها العرب المسلمون بقيادة عمرو بن العاص.
وهكذا كانت مصر جزءاً من المشرق العربي جغرافياً وتاريخياً وحضارة ووحدة مصير، فأنتج كل هذا حتمية تاريخية، انعكست على أحداث المشرق العربي منذ بداية التاريخ حتى اليوم، فما من حدث عظيم وقع في المشرق إلا وتأثرت به أو أثّرت فيه؛ فكان أمن مصر من أمنه، وكانت أركان الحضارة الإنسانية التي تجلت في وحدة اللغة والفن والدين راسخة رسوخ الجبال في وجدان مصر، صدّقها وعزّزها إيمانها برسالة الإسلام السمحاء، واحتفاظها باللغة العربية، لتستمر مسيرة وحدة المصير والوحدة الحضارية التي تعود إلى آلاف السنين حتى اليوم.
محمود عبد الحميد أحمد