غاليون
Gauls - Gaulois
الغاليون
الغاليون (Gauls بالإنكليزية وGauloisبالفرنسية) أحد الشعوب الأوربية القديمة، ظهروا في نهاية عصر البرونز وبداية عصر الحديد في الأجزاء الجنوبية الغربية من ألمانيا، ثم انتشروا بعد ذلك وتوزعت مناطق سكناهم بين الجزر البريطانية غرباً وآسيا الصغرى (تركيا) شرقاً، ولكن تبقى أشهرها وأعظمها بلاد الغال (أي فرنسا).
تسمياتهم وأصولهم
والغاليون Galli هو الاسم الذي أطلقه الرومان عليهم، على حين كانوا يسمون أنفسهم كلتيينCeltes، وقد دعاهم الإغريق غلاطيين Galates، ويعتقد أن هذه التسميات الثلاث تعود إلى أصل واحد مشترك. وهم ينتمون إلى الفرع الغربي في مجموعة الشعوب الهندو ـ أوربية، وتربطهم صلة وثيقة بفرعها الإيطالي الذي ينتسب إليه الرومان.
لم يترك الغاليون مصادر كتابية تتحدث عن تاريخهم وحضارتهم، والمعروف عنهم مستقى من الكتَّاب الإغريق والرومان، وعلى رأسهم يوليوس قيصر، ومن مخلفاتهم الأثرية واللغوية والتراث الشعبي الإيرلندي.
لم يشكل الغاليون (أو الكلتيون) وحدة إثنية حقيقية، فقد اختلطوا بالشعوب التي سكنوا بين ظهرانيها، ولذلك فإن مظاهر وحدتهم تتجلى في الجانبين الحضاري واللغوي بالدرجة الأولى.
لايُعرف كثير عن نشأتهم وموطنهم الأول، سوى ما ذكره هيرودوت في تاريخه، من أن نهر الدانوب ينبع من بلاد الكلتيين. ويرى بعض الباحثين أن أسلافهم كانوا صناع حضارة عصر البرونز المتأخر في جنوبي ألمانيا والمناطق المحاذية لها في سويسرا وشرقي فرنسا، ولكن مما لاشك فيه أن تشكل الشعب الكلتي جرى في عصر الحديد، وعلى وجه الخصوص في القرن الثامن قبل الميلاد،في حضارة هالشتات Hallstatt (نسبة إلى أشهر مواقعها في غرب النمسا حالياً)، فقد شهدت أوربا شمال الألب ثورة تقنية كبيرة على أيدي الكلتيين الذين أدخلوا إليها استعمال الحديد، وازدادوا بذلك ثروة وقوة، ويشهد على ثراء الطبقة الأرستقراطية غنى مدافنها بالأسلحة والأدوات المختلفة. ولم يعد الزعماء كما في السابق يحرقون ويوضع رماد جثثهم في جرار فخارية، بل صاروا يدفنون بأبهة فائقة؛ إذ كان الميت يوضع تحت رمز مكانته الاجتماعية وهو العربة ذات الدواليب الأربعة،ومعها جميع الأشياء المفضلة لديه كالسيف والرمح والخوذة، وكان يوضع إلى جانبه آنية مليئة بالطعام والشراب لتكون زاداً له في رحلته إلى العالم الآخر.
دامت حضارة هالشتات حتى أواسط القرن الخامس ق.م تقريباً، وأرست أسس ازدهار الحضارة الكلتية في أوربا،وقد أعقبها حضارة لاتينLa Téne (نسبة إلى موقع أثري في غربي سويسرا) التي دامت قرابة أربعة قرون (450 ـ 50ق.م)، والمعروفة في اللقى الأثرية والمصادر الأدبية الكلاسيكية. وقد ازدهر فيها الفن الكلتي الباكر،وتظهر فيها آثار الطبقة المحاربة الكلتية المتمثلة في قبور تضم عربات قتال ذات عجلتين والسيوف والخناجر والدروع. وقد وصل فن تصنيع الحديد آنذاك إلى الذروة، واشتُهرت المصنوعات الحديدية الكلتية في كل أوربا.
هجراتهم وتاريخهم
تعد الهجرات من السمات المميزة للكلتيين، وتسمح الشواهد الأثرية بتتبع تلك الهجرات التي بدأت موجتها الأولى في القرن الثامن ق.م، متوجهة إلى جنوبي فرنسا وشبه الجزيرة الإيبرية. وفي مطلع القرن الرابع ق.م، بدأت موجة أخرى كبيرة باتجاه إسبانيا وبريطانيا وشمالي إيطاليا، ولعلها حصلت نتيجة ضغط القبائل الجرمانية القادمة من الشمال، للتغيرات المناخية في أوربا التي صارت آنذاك أكثر رطوبة وبرودة، وكذلك التزايد السكاني والطمع في خيرات البلدان الجنوبية.
وقد أدى انتشارهم في شبه الجزيرة الإيبرية واختلاطهم بسكانها القدماء إلى نشأة ما عُرف باسم الإيبريين الكلتيين (Celtibères) الذين اصطدم بهم القرطاجيون حين سيطرتهم على المناطق الشرقية من إسبانيا، ثم عملوا مرتزقة في جيش هانيبال، وقاوم أولئك الكلت الإيبريون الاحتلال الروماني وخاضوا حرباً بطولية شهيرة دفاعاً عن عاصمتهم نومانتيا Numantia عام 133ق.م، ولم يتمكن الرومان من كسر شوكتهم حتى عام 72 ق.م.
وانطلق قسم من الكلتيين نحو شمالي إيطاليا واحتلوا منطقة سهل البو، بعد أن طردوا الإتروسكيين منها، واتخذوا مدينة ميلانو مركزاً لهم، ثم زحفوا نحو روما بقيادة زعيمهم برينوسBrennus وهزموا الجيش الروماني في معركة آلياAllia عام 387 ق.م، واحتلوا روما ونهبوها، ولم يصمد أمامهم سوى قلعة الكابيتول، وأخيراً جلوا عنها بعد سبعة أشهر مقابل فدية كبيرة.
وعندما حاول الغاليون مهاجمة أتروريا عام 225ق.م، صدهم الرومان ثم هزموهم قرب ميلانو، وقاموا بتأسيس مستعمرات عسكرية عدة هناك. وقد انضم كثير من هؤلاء الغاليين إلى جيوش هانيبال عند وصولها إلى إيطاليا عام 217ق.م.
ولكن ما إن انتصف القرن الثاني ق.م، حتى كان الرومان قد احتلوا سهل البو كاملاً وصولاً إلى جبال الألب، وجعلوا منه ولاية رومانية باسم بلاد الغال القريبة Gallia isalpina التي سرعان ما اعتنقت مظاهر الحضارة الرومانية، وصارت بعد قرن من الزمن جزءاً من إيطاليا، وغدا سكانها مواطنين رومان.
احتل الكلتيون جنوبي إنكلترا منذ القرن الخامس ق.م، وجاءتهم تعزيزات متكررة من المهاجرين، وأخيراً خضعت الجزر البريطانية كلها للتأثيرات الكلتية، وصارت إحدى معاقل الحضارة الكلتية، ولاتزال بقايا اللغة الكلتية حية حتى اليوم في اللهجات الاسكتلندية والأيرلندية. وقد دافعوا عن بريطانيا بشجاعة ضد الغزو الروماني، ولم يتمكن الرومان من إخضاعها حتى منتصف القرن الأول الميلادي، في عهد الامبراطور كلاوديوس (41 ـ 54ق.م).
تحرك الكلتيون شرقاً مع نهر الدانوب في مطلع القرن الثالث ق.م، وهددوا منطقة البلقان وهاجموا بلاد اليونان، فاحتلوا مقدونية عام 279ق.م، وقتلوا ملكها، وزحف قسم منهم نحو مدينة دلفي المقدسة بهدف نهب كنوزها، ولكنهم صدوا عنها، فانطلقوا عبر مضائق الدردنيل إلى آسيا الصغرى، وعاثوا فيها قتلاً وتدميراً. وبعد معارك عنيفة تمكن الملك السلوقي أنطيوخوس الأول[ر] من كسر شوكتهم في معركة الفيلة عام 275ق.م، وخلّص المدن الإغريقية من غزواتهم، فمُنح لقب «المنقذ» (سوتير Soter) وأجبرهم على الاستقرار في أواسط الأناضول، في الإقليم الذي حمل اسمهم وهو غلاطية Galatia ولكنهم عادوا إلى الغزو والسلب والنهب حتى تمكن أمير برغامة من التغلب عليهم عام 184ق.م، وخلد انتصاراته على مذبح برغامة Pergamon الشهير الذي صور معاركه مع الغلاطيين.
وبعد أن احتل الرومان آسيا الصغرى جعلوا غلاطية ولاية رومانية بعد موت مليكها عام 25ق.م، وفي منتصف القرن الأول الميلادي زارها الرسول باولوس aulos وكتب رسالته المشهورة إلى الغلاطيين يدعوهم فيها إلى اعتناق المسيحية، كما زارها القديس هيرونيموس Hieronymos في القرن الخامس، وسمع أهلها يتكلمون الكلتية.
أما بلاد الغال Gallia التي حملت اسمهم، وكانت أشهر مواطنهم، فيعود وجودهم في شرقيها إلى أواخر عصر البرونز، ثم استوطنوا أقسامها الجنوبية والغربية في هجراتهم اللاحقة، وما إن جاء القرن الثالث ق.م؛ حتى كان الغاليون قد انتشروا في بقية أنحاء فرنسا. ولكن الرومان بعد أن سيطروا على إسبانيا في الحروب البونية الثانية، بدؤوا يتطلعون إلى جنوبي بلاد الغال التي تصلهم بها. وفي عام 125ق.م، استنجد بهم حلفاؤهم إغريق ماسيليا (مرسيليا) الذين كانت تهددهم القبائل الغالية، فاستغلوا ذلك للسيطرة على جنوبي فرنسا الذي جعلوا منه ولاية رومانية، ولايزال يُعرف حتى اليوم باسم بروفانسProvince من Provincia الرومانية. وسرعان ما انتشرت فيها مظاهر الحضارة الرومانية. وقد صار يوليوس قيصر Julius Caesar والياً عليها عام 59ق.م مدة عشر سنوات، فاستغل تهديد القبائل الجرمانية لبلاد الغال ليقوم باحتلالها وإخضاعها للحكم الروماني، ولكن الغاليين ثاروا عام 54ق.م بقيادة زعيمهم فيركنغيتوريكس Vercingetorixوأبدوا شجاعة فائقة في الدفاع عن حصن أليزياAlesia الذي سقط عام 52ق.م بأيدي الرومان، واضطر زعيمهم إلى الاستسلام، فسيق إلى روما وأُعدم هناك انتقاماً من غزو الغاليين لروما.
وقد احتفل الفرنسيون عام 1952 بمرور ألفي سنة على تلك المعركة، وبطلها فركنتغيتوريكس بوصفه أول مقاوم للاحتلال في تاريخ فرنسا. وقد خلد قيصر حروبه ضد الغاليين في تاريخه المسمى «الحروب الغالية» التي يصف فيها بلاد الغال والغاليين وقبائلهم وعاداتهم وثقافتهم.
وهكذا انتهى الاستقلال السياسي والثقافي للغاليين، الذين صار تاريخهم منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد جزءاً من تاريخ الامبراطورية الرومانية، بدأت بلاد الغال تنطبع بمظاهر الحضارة الرومانية التي ستغدو من أهم قلاعها، وجسراً عبرت من خلاله إلى بقية أنحاء أوربا.
أوضاعهم الاجتماعية والدينية والفنية
لقد انتشر الكلت في مناطق واسعة من أوربا واصطدموا بشعوبها ودولها، لكنهم لم يشكلوا دولة واحدة تجمعهم ولم يعرفوا أي شكل من أشكال الاتحاد فيما بينهم. ومَردُّ ذلك ـ كما يبدو ـ إلى غياب مفهوم الدولة عندهم إلى حد بعيد، لنزعتهم الفردية الطاغية التي تأبى الانضباط والنظام وترفض الخضوع لسلطة الدولة. كان لدى الكلتيين عند ظهورهم تاريخياً أرستقرطية حربية إقطاعية أزاحت في كثير من الأحيان الملكية الشائعة بين قبائلهم، ولكن تلك الأرستقراطية كانت مشتتة ومتناحرة فيما بينها، عماد قوتها الاقتصادية ملكية الأرض الزراعية، وعماد سلطتها السياسية الأتباع والموالي. وتعد ظاهرة الولاء من أبرز سمات المجتمع الكلتي، حيث كانت العلاقة بين السيد الحامي والمولى التابع تقوم على الالتزام المتبادل: فالأول يتصف بالشهامة والأريحية، وعلى المولى أن يخلص لسيده حتى الموت. وكانت الحرب والصيد أهم شاغل لأولئك السادة النبلاء.
كانت الخلية الأساسية في المجتمع الكلتي القبيلة التي يدعي أفرادها الانحدار من جد مشترك وتخضع لسلطة زعيم قبلي أو ملك يحمل غالباً لقب ريكس (Rix ومنها كلمة ملك بالفرنسية Rois)، الذي لم يكن في الحقيقة سوى رئيس عائلة قوية استمر توارث السلطة فيها، إلا إذا نازعتها أسرة أقوى مدعية أحقيتها في السلطة أو رغبتها في تقاسمها، وهذا ما أدى إلى اختفاء السلطة الملكية لدى معظم القبائل الغالية زمن قيصر، وكان عدد أولئك الملوك كبيراً جداً، لكنهم لم يمارسوا سلطتهم إلا في حدود قبيلتهم، وكان النبلاء يختارونهم عادة من الأسر المالكة المتنفذة، ويتم تنصيبهم بعد استشارة الآلهة وفق طقوس سحرية غريبة، وقد استمرت الملكية في الجزر البريطانية وقادت المقاومة الكلتية ضد الاحتلال الروماني زمناً طويلاً.
وإلى جانب الارستقراطية، كانت طبقة الدرويد Druides متأصلة في الحضارة الكلتية، إذ كانوا يجمعون بين وظائف الكاهن والطبيب والساحر والقاضي، وتمتزج في علومهم المعارف الإنسانية والإلهية ويشبهون بذلك طبقة البراهمانيين في الهند والمجوس في إيران القديمة. كانت تعاليمهم شفهية لايجوز كتابتها، ولا يُعرف عن الديانة الكلتية إلا ما نقله المؤرخون والكتاب الإغريق والرومان، وما جاء في الأوابد والنقوش والأساطير الإيرلندية، وكانت الطقوس تتم في العراء وعند الينابيع والأشجار المقدسة، وكان الكلتيون يقدسون عدداً كبيراً من الآلهة، ومنها إله السماء تناروس Tanarus الذي قرنوه بالإله جوبتير، وإله الحرب إيسوس Esus الذي اقترن بالإله مارس وإله النور بيلينوس Belenusالذي اندمج بالإله أبولون. ويتحدث قيصر عن آلهة خمسة رئيسة عند الغاليين. أما الشاعر لوكانLucanus فيذكر آلهة ثلاثة وطنية هي: تيوتاتيسTeutates وايسوس وترانيس Taranis تحظى بتقديس الجميع، كذلك هناك ثلاث إلهات مشتركة هي: إيبونا Epona إلهة الخيل، وأنداتا Andata إلهة النصر، التي يقدم لها أضاحي بشرية، وإلهات الخصب التي تظهر مجتمعة وتشكل ثالوثاً مشتركاً.
كان الكهنة الدرويد يربون الشباب الكلتي على تقاليد الأجداد ومعتقداتهم وتصوراتهم عن العالم الآخر. ويتحدث القدماء عن وحشية طقوسهم الدينية، فقد كانت الضحايا البشرية معهودة عندهم وكانت الرؤوس تعلق في المعابد والبيوت، وكان امتلاك إحدى الجماجم دليل الشجاعة ويرمز إلى السيادة على الناس.
كان الكلتيون ـ حسب الروايات القديمة ـ يتصفون بطول القامة وقوة العضلات ولون البشرة الفاتح والشعر الأشقر الطويل، وهي صفات تعزى خاصة إلى الطبقة المحاربة. وكانت الحرب جزءاً أساسياً من حياة الغاليين، ولما كانوا يمتلكون أسلحة جديدة فعالة فقد استطاعوا اجتياح أوربا الوسطى، وغزوا إيطاليا واليونان وآسيا الصغرى. وتنسب لهم عادات بربرية كالقتال عراة، والظهور في خضم المعارك مثل شياطين الحرب فيثيرون الفزع والرعب في قلوب أعدائهم. وكانوا يقدرون عالياً شجاعة المقاتل الفردي، لذلك كانت المعركة تبدأ بعدد من المبارزات الفردية البطولية، كما كانوا يستخدمون عربات حربية خفيفة ذات عجلتين في جيوشهم المنظمة ذات الاستراتيجية القتالية.
بلغ الغاليون مستوى عالياً من الحضارة المادية، واستغلوا مهارتهم في صناعة الحديد ليس فقط في الحرب والقتال وإنما أيضاً في الزراعة وتطويرها. وكان اقتصادهم يقوم على زراعة الحبوب والخضار وتربية المواشي وعلى تصنيع المعادن والتجارة.
لم يكن العالم الكلتي في أي مرحلة منعزلاً عن الحضارات الأخرى المجاورة، وثمة شواهد كثيرة على اقتباسات حضارية من الإغريق والإتروسكيين، ومنها اكتشاف كنز أثري في فيكسVix في حوض نهر السين في قبر إحدى الأميرات الغاليات، يضم أدوات ثمينة ومصنوعات إغريقية وإتروسكية، ويعطي تصوراً عن الغنى الذي وصل إليه الملوك الغاليون في القرن الخامس ق.م، وحياة الترف السلمية والاهتمام بالفنون، وهي صورة تتعارض والروايات القديمة التي تقدم صورة مخيفة عن الغاليين وحروبهم وغزواتهم.
بدأ التعبير الفني عند الكلتيين في أواخر عصر البرونز، وتنامى في حضارة هالشتات، وبلغ ذروة تطوره في حضارة لاتين، حيث وصلت المهارة الحرفية الفنية في تصنيع المعادن مستويات متقدمة رائعة، ودُمِجَتْ الأنماط الفنية المتوارثة بالتزيينات الإغريقية والإتروسكية، فنتج من هذا المزيج فن مبتكر جميل يتصف بالدقة والغموض والدلالات السحرية، وانتشر هذا الفن الجديد في مناطق واسعة من أوربا، وساد مع حلول القرن الثالث ق.م.
يتسم الفن الكلتي عامة بالحيوية والحركة والخيال، ويتخلى أحياناً عن تمثيل الواقع. وقد صُنع كثير من الأعمال الفنية بهدف الإمتاع وإشاعة البهجة والحبور، واشتهرت الملابس الكلتية بغنى ألوانها وزينتها الرائعة، وكذلك أدوات الطعام والزينة وكثير من الأشياء التي تضفي على الحياة لمسات فنية جميلة.
لغاتهم
تنتمي اللغة الكلتية إلى أسرة اللغات الهندو ـ أوربية، وقد انقرضت في بلاد الغال بعد الاحتلال الروماني وذابت في بوتقة اللغة اللاتينية ونشأت عنها اللغة الفرنسية. ولكن بقيت مجموعة من اللغات الكلتية خاصة في الجزر البريطانية وعلى رأسها اللغة الإيرلندية التي بعثت من جديد في القرن التاسع عشر وصارت لغة ايرلندة الوطنية بعد الاستقلال.
وتنقسم هذه اللغات إلى فروع ولهجات عدة، وأهمها:
ـ الفرع الغالي Gaelic (أو Goidelic) ويضم اللغة الغالية الإيرلندية والغالية الأسكتلندية
ـ الفرع البريطاني الذي يضم لغة مقاطعة ويلز (Cymru) وهي تُعرف أيضاً بالكومرية Cymric، وكذلك البريتونة Brittonic وهي لهجة مقاطعة بريتاني الفرنسية.
ولكن هذه اللغات المحلية المحدودة الانتشار تتراجع شيئاً فشيئاً أمام طغيان اللغة الإنكليزية، حتى عند أشهر الأدباء الإيرلنديين.
وهكذا فإن مصير اللغات الكلتية يشبه مصير الشعوب التي تحدثت بها، فقد ذابت واندمجت في بوتقة الشعوب الأوربية الأخرى ولغاتها.
محمد الزين
Gauls - Gaulois
الغاليون
الغاليون (Gauls بالإنكليزية وGauloisبالفرنسية) أحد الشعوب الأوربية القديمة، ظهروا في نهاية عصر البرونز وبداية عصر الحديد في الأجزاء الجنوبية الغربية من ألمانيا، ثم انتشروا بعد ذلك وتوزعت مناطق سكناهم بين الجزر البريطانية غرباً وآسيا الصغرى (تركيا) شرقاً، ولكن تبقى أشهرها وأعظمها بلاد الغال (أي فرنسا).
تسمياتهم وأصولهم
والغاليون Galli هو الاسم الذي أطلقه الرومان عليهم، على حين كانوا يسمون أنفسهم كلتيينCeltes، وقد دعاهم الإغريق غلاطيين Galates، ويعتقد أن هذه التسميات الثلاث تعود إلى أصل واحد مشترك. وهم ينتمون إلى الفرع الغربي في مجموعة الشعوب الهندو ـ أوربية، وتربطهم صلة وثيقة بفرعها الإيطالي الذي ينتسب إليه الرومان.
لم يترك الغاليون مصادر كتابية تتحدث عن تاريخهم وحضارتهم، والمعروف عنهم مستقى من الكتَّاب الإغريق والرومان، وعلى رأسهم يوليوس قيصر، ومن مخلفاتهم الأثرية واللغوية والتراث الشعبي الإيرلندي.
لم يشكل الغاليون (أو الكلتيون) وحدة إثنية حقيقية، فقد اختلطوا بالشعوب التي سكنوا بين ظهرانيها، ولذلك فإن مظاهر وحدتهم تتجلى في الجانبين الحضاري واللغوي بالدرجة الأولى.
لايُعرف كثير عن نشأتهم وموطنهم الأول، سوى ما ذكره هيرودوت في تاريخه، من أن نهر الدانوب ينبع من بلاد الكلتيين. ويرى بعض الباحثين أن أسلافهم كانوا صناع حضارة عصر البرونز المتأخر في جنوبي ألمانيا والمناطق المحاذية لها في سويسرا وشرقي فرنسا، ولكن مما لاشك فيه أن تشكل الشعب الكلتي جرى في عصر الحديد، وعلى وجه الخصوص في القرن الثامن قبل الميلاد،في حضارة هالشتات Hallstatt (نسبة إلى أشهر مواقعها في غرب النمسا حالياً)، فقد شهدت أوربا شمال الألب ثورة تقنية كبيرة على أيدي الكلتيين الذين أدخلوا إليها استعمال الحديد، وازدادوا بذلك ثروة وقوة، ويشهد على ثراء الطبقة الأرستقراطية غنى مدافنها بالأسلحة والأدوات المختلفة. ولم يعد الزعماء كما في السابق يحرقون ويوضع رماد جثثهم في جرار فخارية، بل صاروا يدفنون بأبهة فائقة؛ إذ كان الميت يوضع تحت رمز مكانته الاجتماعية وهو العربة ذات الدواليب الأربعة،ومعها جميع الأشياء المفضلة لديه كالسيف والرمح والخوذة، وكان يوضع إلى جانبه آنية مليئة بالطعام والشراب لتكون زاداً له في رحلته إلى العالم الآخر.
دامت حضارة هالشتات حتى أواسط القرن الخامس ق.م تقريباً، وأرست أسس ازدهار الحضارة الكلتية في أوربا،وقد أعقبها حضارة لاتينLa Téne (نسبة إلى موقع أثري في غربي سويسرا) التي دامت قرابة أربعة قرون (450 ـ 50ق.م)، والمعروفة في اللقى الأثرية والمصادر الأدبية الكلاسيكية. وقد ازدهر فيها الفن الكلتي الباكر،وتظهر فيها آثار الطبقة المحاربة الكلتية المتمثلة في قبور تضم عربات قتال ذات عجلتين والسيوف والخناجر والدروع. وقد وصل فن تصنيع الحديد آنذاك إلى الذروة، واشتُهرت المصنوعات الحديدية الكلتية في كل أوربا.
هجراتهم وتاريخهم
تعد الهجرات من السمات المميزة للكلتيين، وتسمح الشواهد الأثرية بتتبع تلك الهجرات التي بدأت موجتها الأولى في القرن الثامن ق.م، متوجهة إلى جنوبي فرنسا وشبه الجزيرة الإيبرية. وفي مطلع القرن الرابع ق.م، بدأت موجة أخرى كبيرة باتجاه إسبانيا وبريطانيا وشمالي إيطاليا، ولعلها حصلت نتيجة ضغط القبائل الجرمانية القادمة من الشمال، للتغيرات المناخية في أوربا التي صارت آنذاك أكثر رطوبة وبرودة، وكذلك التزايد السكاني والطمع في خيرات البلدان الجنوبية.
وقد أدى انتشارهم في شبه الجزيرة الإيبرية واختلاطهم بسكانها القدماء إلى نشأة ما عُرف باسم الإيبريين الكلتيين (Celtibères) الذين اصطدم بهم القرطاجيون حين سيطرتهم على المناطق الشرقية من إسبانيا، ثم عملوا مرتزقة في جيش هانيبال، وقاوم أولئك الكلت الإيبريون الاحتلال الروماني وخاضوا حرباً بطولية شهيرة دفاعاً عن عاصمتهم نومانتيا Numantia عام 133ق.م، ولم يتمكن الرومان من كسر شوكتهم حتى عام 72 ق.م.
وانطلق قسم من الكلتيين نحو شمالي إيطاليا واحتلوا منطقة سهل البو، بعد أن طردوا الإتروسكيين منها، واتخذوا مدينة ميلانو مركزاً لهم، ثم زحفوا نحو روما بقيادة زعيمهم برينوسBrennus وهزموا الجيش الروماني في معركة آلياAllia عام 387 ق.م، واحتلوا روما ونهبوها، ولم يصمد أمامهم سوى قلعة الكابيتول، وأخيراً جلوا عنها بعد سبعة أشهر مقابل فدية كبيرة.
وعندما حاول الغاليون مهاجمة أتروريا عام 225ق.م، صدهم الرومان ثم هزموهم قرب ميلانو، وقاموا بتأسيس مستعمرات عسكرية عدة هناك. وقد انضم كثير من هؤلاء الغاليين إلى جيوش هانيبال عند وصولها إلى إيطاليا عام 217ق.م.
ولكن ما إن انتصف القرن الثاني ق.م، حتى كان الرومان قد احتلوا سهل البو كاملاً وصولاً إلى جبال الألب، وجعلوا منه ولاية رومانية باسم بلاد الغال القريبة Gallia isalpina التي سرعان ما اعتنقت مظاهر الحضارة الرومانية، وصارت بعد قرن من الزمن جزءاً من إيطاليا، وغدا سكانها مواطنين رومان.
احتل الكلتيون جنوبي إنكلترا منذ القرن الخامس ق.م، وجاءتهم تعزيزات متكررة من المهاجرين، وأخيراً خضعت الجزر البريطانية كلها للتأثيرات الكلتية، وصارت إحدى معاقل الحضارة الكلتية، ولاتزال بقايا اللغة الكلتية حية حتى اليوم في اللهجات الاسكتلندية والأيرلندية. وقد دافعوا عن بريطانيا بشجاعة ضد الغزو الروماني، ولم يتمكن الرومان من إخضاعها حتى منتصف القرن الأول الميلادي، في عهد الامبراطور كلاوديوس (41 ـ 54ق.م).
تحرك الكلتيون شرقاً مع نهر الدانوب في مطلع القرن الثالث ق.م، وهددوا منطقة البلقان وهاجموا بلاد اليونان، فاحتلوا مقدونية عام 279ق.م، وقتلوا ملكها، وزحف قسم منهم نحو مدينة دلفي المقدسة بهدف نهب كنوزها، ولكنهم صدوا عنها، فانطلقوا عبر مضائق الدردنيل إلى آسيا الصغرى، وعاثوا فيها قتلاً وتدميراً. وبعد معارك عنيفة تمكن الملك السلوقي أنطيوخوس الأول[ر] من كسر شوكتهم في معركة الفيلة عام 275ق.م، وخلّص المدن الإغريقية من غزواتهم، فمُنح لقب «المنقذ» (سوتير Soter) وأجبرهم على الاستقرار في أواسط الأناضول، في الإقليم الذي حمل اسمهم وهو غلاطية Galatia ولكنهم عادوا إلى الغزو والسلب والنهب حتى تمكن أمير برغامة من التغلب عليهم عام 184ق.م، وخلد انتصاراته على مذبح برغامة Pergamon الشهير الذي صور معاركه مع الغلاطيين.
وبعد أن احتل الرومان آسيا الصغرى جعلوا غلاطية ولاية رومانية بعد موت مليكها عام 25ق.م، وفي منتصف القرن الأول الميلادي زارها الرسول باولوس aulos وكتب رسالته المشهورة إلى الغلاطيين يدعوهم فيها إلى اعتناق المسيحية، كما زارها القديس هيرونيموس Hieronymos في القرن الخامس، وسمع أهلها يتكلمون الكلتية.
أما بلاد الغال Gallia التي حملت اسمهم، وكانت أشهر مواطنهم، فيعود وجودهم في شرقيها إلى أواخر عصر البرونز، ثم استوطنوا أقسامها الجنوبية والغربية في هجراتهم اللاحقة، وما إن جاء القرن الثالث ق.م؛ حتى كان الغاليون قد انتشروا في بقية أنحاء فرنسا. ولكن الرومان بعد أن سيطروا على إسبانيا في الحروب البونية الثانية، بدؤوا يتطلعون إلى جنوبي بلاد الغال التي تصلهم بها. وفي عام 125ق.م، استنجد بهم حلفاؤهم إغريق ماسيليا (مرسيليا) الذين كانت تهددهم القبائل الغالية، فاستغلوا ذلك للسيطرة على جنوبي فرنسا الذي جعلوا منه ولاية رومانية، ولايزال يُعرف حتى اليوم باسم بروفانسProvince من Provincia الرومانية. وسرعان ما انتشرت فيها مظاهر الحضارة الرومانية. وقد صار يوليوس قيصر Julius Caesar والياً عليها عام 59ق.م مدة عشر سنوات، فاستغل تهديد القبائل الجرمانية لبلاد الغال ليقوم باحتلالها وإخضاعها للحكم الروماني، ولكن الغاليين ثاروا عام 54ق.م بقيادة زعيمهم فيركنغيتوريكس Vercingetorixوأبدوا شجاعة فائقة في الدفاع عن حصن أليزياAlesia الذي سقط عام 52ق.م بأيدي الرومان، واضطر زعيمهم إلى الاستسلام، فسيق إلى روما وأُعدم هناك انتقاماً من غزو الغاليين لروما.
وقد احتفل الفرنسيون عام 1952 بمرور ألفي سنة على تلك المعركة، وبطلها فركنتغيتوريكس بوصفه أول مقاوم للاحتلال في تاريخ فرنسا. وقد خلد قيصر حروبه ضد الغاليين في تاريخه المسمى «الحروب الغالية» التي يصف فيها بلاد الغال والغاليين وقبائلهم وعاداتهم وثقافتهم.
وهكذا انتهى الاستقلال السياسي والثقافي للغاليين، الذين صار تاريخهم منذ منتصف القرن الأول قبل الميلاد جزءاً من تاريخ الامبراطورية الرومانية، بدأت بلاد الغال تنطبع بمظاهر الحضارة الرومانية التي ستغدو من أهم قلاعها، وجسراً عبرت من خلاله إلى بقية أنحاء أوربا.
أوضاعهم الاجتماعية والدينية والفنية
لقد انتشر الكلت في مناطق واسعة من أوربا واصطدموا بشعوبها ودولها، لكنهم لم يشكلوا دولة واحدة تجمعهم ولم يعرفوا أي شكل من أشكال الاتحاد فيما بينهم. ومَردُّ ذلك ـ كما يبدو ـ إلى غياب مفهوم الدولة عندهم إلى حد بعيد، لنزعتهم الفردية الطاغية التي تأبى الانضباط والنظام وترفض الخضوع لسلطة الدولة. كان لدى الكلتيين عند ظهورهم تاريخياً أرستقرطية حربية إقطاعية أزاحت في كثير من الأحيان الملكية الشائعة بين قبائلهم، ولكن تلك الأرستقراطية كانت مشتتة ومتناحرة فيما بينها، عماد قوتها الاقتصادية ملكية الأرض الزراعية، وعماد سلطتها السياسية الأتباع والموالي. وتعد ظاهرة الولاء من أبرز سمات المجتمع الكلتي، حيث كانت العلاقة بين السيد الحامي والمولى التابع تقوم على الالتزام المتبادل: فالأول يتصف بالشهامة والأريحية، وعلى المولى أن يخلص لسيده حتى الموت. وكانت الحرب والصيد أهم شاغل لأولئك السادة النبلاء.
كانت الخلية الأساسية في المجتمع الكلتي القبيلة التي يدعي أفرادها الانحدار من جد مشترك وتخضع لسلطة زعيم قبلي أو ملك يحمل غالباً لقب ريكس (Rix ومنها كلمة ملك بالفرنسية Rois)، الذي لم يكن في الحقيقة سوى رئيس عائلة قوية استمر توارث السلطة فيها، إلا إذا نازعتها أسرة أقوى مدعية أحقيتها في السلطة أو رغبتها في تقاسمها، وهذا ما أدى إلى اختفاء السلطة الملكية لدى معظم القبائل الغالية زمن قيصر، وكان عدد أولئك الملوك كبيراً جداً، لكنهم لم يمارسوا سلطتهم إلا في حدود قبيلتهم، وكان النبلاء يختارونهم عادة من الأسر المالكة المتنفذة، ويتم تنصيبهم بعد استشارة الآلهة وفق طقوس سحرية غريبة، وقد استمرت الملكية في الجزر البريطانية وقادت المقاومة الكلتية ضد الاحتلال الروماني زمناً طويلاً.
وإلى جانب الارستقراطية، كانت طبقة الدرويد Druides متأصلة في الحضارة الكلتية، إذ كانوا يجمعون بين وظائف الكاهن والطبيب والساحر والقاضي، وتمتزج في علومهم المعارف الإنسانية والإلهية ويشبهون بذلك طبقة البراهمانيين في الهند والمجوس في إيران القديمة. كانت تعاليمهم شفهية لايجوز كتابتها، ولا يُعرف عن الديانة الكلتية إلا ما نقله المؤرخون والكتاب الإغريق والرومان، وما جاء في الأوابد والنقوش والأساطير الإيرلندية، وكانت الطقوس تتم في العراء وعند الينابيع والأشجار المقدسة، وكان الكلتيون يقدسون عدداً كبيراً من الآلهة، ومنها إله السماء تناروس Tanarus الذي قرنوه بالإله جوبتير، وإله الحرب إيسوس Esus الذي اقترن بالإله مارس وإله النور بيلينوس Belenusالذي اندمج بالإله أبولون. ويتحدث قيصر عن آلهة خمسة رئيسة عند الغاليين. أما الشاعر لوكانLucanus فيذكر آلهة ثلاثة وطنية هي: تيوتاتيسTeutates وايسوس وترانيس Taranis تحظى بتقديس الجميع، كذلك هناك ثلاث إلهات مشتركة هي: إيبونا Epona إلهة الخيل، وأنداتا Andata إلهة النصر، التي يقدم لها أضاحي بشرية، وإلهات الخصب التي تظهر مجتمعة وتشكل ثالوثاً مشتركاً.
كان الكهنة الدرويد يربون الشباب الكلتي على تقاليد الأجداد ومعتقداتهم وتصوراتهم عن العالم الآخر. ويتحدث القدماء عن وحشية طقوسهم الدينية، فقد كانت الضحايا البشرية معهودة عندهم وكانت الرؤوس تعلق في المعابد والبيوت، وكان امتلاك إحدى الجماجم دليل الشجاعة ويرمز إلى السيادة على الناس.
كان الكلتيون ـ حسب الروايات القديمة ـ يتصفون بطول القامة وقوة العضلات ولون البشرة الفاتح والشعر الأشقر الطويل، وهي صفات تعزى خاصة إلى الطبقة المحاربة. وكانت الحرب جزءاً أساسياً من حياة الغاليين، ولما كانوا يمتلكون أسلحة جديدة فعالة فقد استطاعوا اجتياح أوربا الوسطى، وغزوا إيطاليا واليونان وآسيا الصغرى. وتنسب لهم عادات بربرية كالقتال عراة، والظهور في خضم المعارك مثل شياطين الحرب فيثيرون الفزع والرعب في قلوب أعدائهم. وكانوا يقدرون عالياً شجاعة المقاتل الفردي، لذلك كانت المعركة تبدأ بعدد من المبارزات الفردية البطولية، كما كانوا يستخدمون عربات حربية خفيفة ذات عجلتين في جيوشهم المنظمة ذات الاستراتيجية القتالية.
بلغ الغاليون مستوى عالياً من الحضارة المادية، واستغلوا مهارتهم في صناعة الحديد ليس فقط في الحرب والقتال وإنما أيضاً في الزراعة وتطويرها. وكان اقتصادهم يقوم على زراعة الحبوب والخضار وتربية المواشي وعلى تصنيع المعادن والتجارة.
لم يكن العالم الكلتي في أي مرحلة منعزلاً عن الحضارات الأخرى المجاورة، وثمة شواهد كثيرة على اقتباسات حضارية من الإغريق والإتروسكيين، ومنها اكتشاف كنز أثري في فيكسVix في حوض نهر السين في قبر إحدى الأميرات الغاليات، يضم أدوات ثمينة ومصنوعات إغريقية وإتروسكية، ويعطي تصوراً عن الغنى الذي وصل إليه الملوك الغاليون في القرن الخامس ق.م، وحياة الترف السلمية والاهتمام بالفنون، وهي صورة تتعارض والروايات القديمة التي تقدم صورة مخيفة عن الغاليين وحروبهم وغزواتهم.
بدأ التعبير الفني عند الكلتيين في أواخر عصر البرونز، وتنامى في حضارة هالشتات، وبلغ ذروة تطوره في حضارة لاتين، حيث وصلت المهارة الحرفية الفنية في تصنيع المعادن مستويات متقدمة رائعة، ودُمِجَتْ الأنماط الفنية المتوارثة بالتزيينات الإغريقية والإتروسكية، فنتج من هذا المزيج فن مبتكر جميل يتصف بالدقة والغموض والدلالات السحرية، وانتشر هذا الفن الجديد في مناطق واسعة من أوربا، وساد مع حلول القرن الثالث ق.م.
يتسم الفن الكلتي عامة بالحيوية والحركة والخيال، ويتخلى أحياناً عن تمثيل الواقع. وقد صُنع كثير من الأعمال الفنية بهدف الإمتاع وإشاعة البهجة والحبور، واشتهرت الملابس الكلتية بغنى ألوانها وزينتها الرائعة، وكذلك أدوات الطعام والزينة وكثير من الأشياء التي تضفي على الحياة لمسات فنية جميلة.
لغاتهم
تنتمي اللغة الكلتية إلى أسرة اللغات الهندو ـ أوربية، وقد انقرضت في بلاد الغال بعد الاحتلال الروماني وذابت في بوتقة اللغة اللاتينية ونشأت عنها اللغة الفرنسية. ولكن بقيت مجموعة من اللغات الكلتية خاصة في الجزر البريطانية وعلى رأسها اللغة الإيرلندية التي بعثت من جديد في القرن التاسع عشر وصارت لغة ايرلندة الوطنية بعد الاستقلال.
وتنقسم هذه اللغات إلى فروع ولهجات عدة، وأهمها:
ـ الفرع الغالي Gaelic (أو Goidelic) ويضم اللغة الغالية الإيرلندية والغالية الأسكتلندية
ـ الفرع البريطاني الذي يضم لغة مقاطعة ويلز (Cymru) وهي تُعرف أيضاً بالكومرية Cymric، وكذلك البريتونة Brittonic وهي لهجة مقاطعة بريتاني الفرنسية.
ولكن هذه اللغات المحلية المحدودة الانتشار تتراجع شيئاً فشيئاً أمام طغيان اللغة الإنكليزية، حتى عند أشهر الأدباء الإيرلنديين.
وهكذا فإن مصير اللغات الكلتية يشبه مصير الشعوب التي تحدثت بها، فقد ذابت واندمجت في بوتقة الشعوب الأوربية الأخرى ولغاتها.
محمد الزين