اصلاح مقابل
Counter-Reformation - Contre-Réforme
الإصلاح المقابل
الإصلاح المقابل counter reformation اسم أطلقه المؤرخون الألمان على الإصلاح الكاثوليكي الذي تم في القرن السادس عشر، رداً على الإصلاح البروتستنتي [ر. الإصلاح الديني]، وكان هدفه الأساسي إعادة الكنيسة إلى الحياة الروحية المستندة إلى العقيدة والتقليد معاً، واسترجاع البلاد والنفوس إلى أحضان رومة بعد أن انفصلت عنها.
إن مشكلة الإصلاح التي شغلت مسيحيي القرن الخامس عشر عادت تحرك الكنيسة جمعاء غداة وفاة البابا ليون العاشر (1520). وكانت الدراسات الأدبية والنقدية قد ألهبت العقول، وغدت المدرسة الاتباعية (الكلاسيكيّة) المنهارة موضع نظرة استصغار، وظهرت الروح الاستقلالية بين الأمم وانتشر تقديس الفنون والآداب القديمة عند رجال الكنيسة. وبدت في الدوائر الرومانية أبهة وعظمة فائقتان. ومنذ أن علق الراهب مارتن لوثر بنوده الخمسة والتسعين على أبواب كنيسة فيتنبرغ سنة 1517 اجتاحت أفكاره الجديدة، في أقل من عشرين سنة، أكثر من نصف ألمانية وسويسرة. واجتذب الإصلاح البروتستنتي الجديد إنكلترة والبلاد الاسكندنافية ودخل إلى فرنسة وشرقي أوربة. ولم تنج إسبانية وإيطالية، بلدا الإيمان الكاثوليكي، من هذه الثورة الدينية التي هددت مكانة الكنيسة الكاثوليكية.
رأت الكنيسة الكاثوليكية نفسها قادرة على أن تولد من جديد مع أن اهتمام البابوات كان منصرفاً إلى السياسة الخارجية، فلم يتوان هؤلاء عن العمل من أجل الإصلاح. وصادق الأساقفة المجتمعون في مجمع عام، عقد في مدينة ترنت (تورنتو) الإيطالية على مشروع هذا الإصلاح. وفي جملة مالحق بذلك أن عادت بعض الجمعيات الرهبانية القديمة إلى حياة التقشف وشظف العيش التي كانت تمارسها الكنيسة الأولى، وأسس البعض الآخر رهبنات جديدة نذرت نفسها لمحاربة الهرطقات، وحمل الإيمان الكاثوليكي إلى المناطق البعيدة. فازدهرت في أوربة نزعة القداسة والزهد وانعكست آثارها على الفنون الجميلة والأدب والموسيقى.
واجه البابا أدريانس السادس الوضع بشجاعة وحسن تبصر فكتب يقول: «إننا نعلم أن الشر قد انتشر من الرأس إلى القدم، من البابا إلى الأساقفة. لقد حدنا جميعاً وأسيء استعمال الأشياء المقدسة وفسدت السلطة فانغمس كل شيء في الرذيلة...» لكن أدريانس اصطدم بعقبات كبيرة عندما أراد مباشرة أهم الإصلاحات. ولم يتمكن خليفته كليمنت السابع من الاستفادة من مجريات الأمور، على صدق نواياه، الإصلاحية بسبب تردده.
وجاء بعده بولس الثالث سنة 1534 فصمم على إيقاف التوسع البروتستنتي وعلى محاربة الإصلاحيين في أشخاصهم وفي أفكارهم فأعاد محكمة التفتيش سنة 1542، و أسس سنة 1543 مجمع الكتب المحرّمة المناهضة للعقيدة الكاثوليكية. ووضع محكمة التفتيش تحت إشراف الكرسي الرسولي مباشرة وعين لها ستة كرادلة برئاسة الكاردينال كرافا (اعتلى كرسي البابوية بعد ذلك باسم بولس الرابع)، وعين لها مراقبين من كل البلاد المسيحية انتقاهم بوجه عام من الرهبان الدومينيكان، وقد نجح بولس الثالث في تطهير إيطالية وإسبانية من الإصلاحيين البروتستنت مستخدماً مختلف وسائل التوقيف والعنف.
أما مجمع الكتب المحرّمة فقد أوكل إليه تنظيم لائحة بالمؤلفات التي تناهض العقيدة الكاثوليكية، ومساندة محاكم التفتيش في بلاد البحر المتوسط. إلا أن جميع هذه الوسائل الدفاعية لم تكن كافية لتعيد الناس إلى حضن الكنيسة الكاثوليكية أو لمنع آخرين من اعتناق المذهب الجديد. وكان كلفن قد أعطى هذا المذهب، في منتصف القرن السادس عشر، دفعاً قوياً ساعده على التغلغل في البلاد الواقعة وراء جبال الألب. لذلك كان على البابا بولس الثالث، لبلوغ هدفه، أن يعيد التفكير في سلوك الكنيسة وفي عقيدتها، مستنداً إلى تفسير دقيق للتقليد المسيحي وللكتاب المقدس في عهديه القديم والجديد على حد سواء. لهذا دعا إلى عقد مجمع مسكوني في مدينة ترنت (تورنتو) الإيطالية استمر من سنة 1545 إلى سنة 1563 وتوقفت جلساته إبانها عدة سنوات، لأسباب أكثرها سياسية.
مجمع ترنت والإصلاح
تابع البابا بولس الرابع عملية الإصلاح بهدوء وروية، فشدد على النظام ولم يلغ محاكم التفتيش مع كرهه لها، واتخذ عدداً من الإجراءات لإصلاح الكنيسة، وساعده في ذلك الكاردينال شارل بوروميه، فألف لجنة استشارية من ثمانية ملافنة، وأرغم الأساقفة على البقاء في مراكز أبرشياتهم، وصادق على كل مقررات مجمع ترنت وطبقها. فأسس دائرة لتفسير القرارات والإشراف على تطبيقها، وأصدر قانون تحريم الكتب المناهضة، وفرض فعل إيمان علني على جميع رجال الكنيسة وأساتذة الجامعات والطلاب المجازين في اللاهوت، وأمر بتأسيس المعاهد الإكليريكية لتربية الكهنة وتثقيفهم ثقافة فكرية عالية، وحياة روحية يصبحون معها قادرين على تبشير المؤمنين الموكلين بهم مهما كانت ثقافة هؤلاء عالية. ومنع سيامة الكهنة قبل بلوغهم سن الخامسة والعشرين.
أما خليفته بولس الخامس فقد اتخذ شعاراً هو: «لا يستطيع المرء أن يدبر الآخرين إن لم يستطع تدبير نفسه»، فبدأ إصلاحه بالشخصيات الكبيرة من رجال الإكليروس، ولم يمكن أحداً من أقاربه من استغلال هذه القرابة لتغيير وضعه المادي والاجتماعي. وأكمل إصلاح دوائر الكورية الرومانية، واتجه نحو إصلاح أخلاق رجال الكنيسة وتطبيق النظام عليهم، فعين مفتشاً عاماً يقدم له التقارير عن رؤساء الأساقفة الذين يغادرون أبرشياتهم. وأمر الكهنة تحت طائلة أقصى العقوبات بأن لا يتركوا كنائسهم الرعائية، ونظّم العلاقات بين الرهبان والأسقف المحلي وفرض نظاماً قاسياً على الراهبات. ولما كان تدخل العلمانيين والحكام المتكرر من أسباب انحطاط الكنائس والأديرة فقد تناول الأمر من جذوره فمنع، تحت طائلة الحرمان، كل تدخل من جانبهم في شؤون الكنيسة، كما فرض على الأمراء احترام امتيازات الإكليروس القديمة وأنكر عليهم حق منحهم الوظائف.
وكان المجمع قد حدد العقائد الكاثوليكية مشدداً على دور الكتاب المقدس مصدراً أساسياً للإيمان مع التقليد المسيحي. وتجنباً لكل خطأ في تفسير نصوص الكتاب المقدس تبنى المجمع النص اللاتيني « الشعبي» Vulgate مرجعاً. وبعد أن رد على الإصلاحيين البروتستنت الذين كانوا يتهمون رومة باستعمال ترجمة مشوهة لكلام الله، قرر المجمع عد التقليد المتوارث عن آباء الكنيسة الأول موحى كالكتاب المقدس. وفرض بعض الممارسات الدينية التي يرفضها البروتستنت، فحافظ على الأسرار السبعة وحضور المسيح الحقيقي العشاء الرباني وإكرام العذراء والقديسين والأيقونات، كما أنه فرض أيضاً على الكهنة البتولية (في الكنيسة الغربية) وأبقى على اللغة اللاتينية لغة طقسية. وأخيراً حدد عصمة البابا في الحقائق الإيمانية.
وقد حرص المجمع على أن يكون شرح العقائد الرئيسية التي حددها المجمع على مستوى الجميع بوساطة كتاب «التعليم المسيحي الروماني»، فأصدر كتاب التعليم وكتاب القداس وصلوات الفرض للكهنة. وحددت هذه الكتب نتائج المجمع الذي أمر بالتعليم والوعظ والاعتراف ليتمكن من إعادة البلاد التي اعتنقت المذهب الجديد إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية. وقد نهض بهذه المهمة رجال كبار منهم الكاردينال شارل بوروميه الذي رُسم قديساً بعد ذلك.
وجاء البابا غريغوريوس الثالث عشر (1582-1585) فتابع الإصلاح تسانده عدة مؤسسات رهبانية بعضها قديم تحول من أصوله، كالآباء الكرمليين بفضل تصوف القديسة تريزا الآبلية والقديس يوحنا الصليبي في إسبانية، وبعضها أنشىء خصيصاً لهذا الغرض كجمعية الآباء اليسوعيين[ر]. وانصرف البابا إلى الناحية الفكرية فأسس في رومة مدارس للإنكليز والألمان واليونانيين والموارنة. وأنشأ أو أعاد بناء ثلاثاً وعشرين مدرسة في مختلف البلدان، منها مدارس في فيينة وبراغ وغيرهما. وامتد اهتمامه بالمدارس إلى اليابان. وجعل من المدرسة الرومانية التي أسسها أغناطيوس دي ليولا (1550) مدرسة كل الشعوب. وأمر المدرسة اليونانية أن تستقبل طلاباً من جميع الأديان وأن تحافظ على لغتهم الأصلية وعاداتهم وطقوسهم ليتمكنوا من الانخراط في مجتمعهم الأصلي عند عودتهم إلى أوطانهم. واهتم بالشرق على وجه خاص فأسس مطبعة لخمسين لغة شرقية، وأوفد رجالاً للتفتيش عن المخطوطات في مصر والحبشة وسائر بلاد الشرق. ومن أشهر إصلاحاته التي تحمل اسمه حتى اليوم هو إصلاح التقويم الذي كان يتمناه الكثيرون، والمعروف باسم «التقويم الغريغوري»، فألف فريقاً من العلماء لوضع هذا التقويم وأعلنه سنة 1582.
وجاء من بعده خليفته البابا سيكتوس الخامس فأعاد إلى الكنيسة تنظيمها الداخلي وتناغمها سياسياً واجتماعياً بعد أن فقدته في العصر الوسيط وقضى على عصابات المنتفعين من الكنيسة.
وقد حقق المجمع برنامجه الذي وضعه لإصلاح الكنيسة والذي طالما طولب فيه، باتفاق شامل اعتورته صعوبات كثيرة، ونهضت الكنيسة الكاثوليكية بفضله من كبوتها.