جبير (محمد احمد)
Ibn Jubair (Mohammad ibn Ahmad-) - Ibn Jubaïr (Mohammad ibn Ahmad-)
ابن جبير (محمد بن أحمد ـ)
(539 ـ 614هـ/1144 ـ 1217م)
أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني، أديب رحالة، ولد في مدينة بلنسية بالأندلس، وقيل بشاطبة. سمع العلوم من أبيه في شاطبة، وأخذ القرآن عن أبي عبد الله الأصيلي، وأبي الحسن بن أبي العيش، والعربية عن ابن يسعون ذكره لسان الدين بن الخطيب، في كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة» فقال: «كان أديباً بارعاً، وشاعراً مجيداً، سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الخط».
نشأ ابن جبير في ظل دولة الموحدين، ولم يذكر المؤرخون شيئاً ذا غناء عن حياته الخاصة، وزوجاته وأولاده، ولكن تكلموا على شيوخه وطلابه. ونظراً لبراعته اللغوية والأدبية فقد استدعاه أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن، صاحب غرناطة، ليكتب له الرسائل. وفي إحدى المرات مدّ إليه أبو سعيد بكأس من الشراب، فأظهر ابن جبير الانقباض وقال: «سيدي ما شربتها قط». فقال له أبو سعيد: «والله لتشربنّ منها سبعاً». فلمّا رأى ابن جبير العزيمة في عينيه شرب سبع كؤوس، فملأ له أبو سعيد عندئذ الكأس بالدنانير. فتناولها ابن جبير، وهو ينوي أن يحج بتلك الدنانير ليكفر عن شربه الخمرة. فقام ابن جبير بعدها ببيع ملك له، ليغطي بثمنه نفقات سفره، وأنفق الدنانير في سبيل البر والإحسان.
كان ابن جبير مسلماً مؤمناً صادق الشعور، كان يتألم لبقاء بعض المدن والأقطار العربية الإسلامية تحت سيطرة الصليبيين، كما كان يتألم لرؤية مئات الأسرى من المسلمين والمسلمات يساقون مقيدين بالسلاسل لأسواق النخاسة. وكانت مصر والحجاز تحت حكم الخلفاء الفاطميين، قبل مجيء ابن جبير إليهما لأداء فريضة الحج. ولكن مع سقوط تلك الخلافة سنة 567هـ بقي بعض ولاة وعمال الفاطميين، في الديار المقدسة، يسيئون معاملة الحجاج بفرض الإتاوة والمكوس، ولما كان ابن جبير يميل للموحدين لذلك قال: «لا إسلام إلا في المغرب، وما سوى ذلك، مما بهذه الجهات المشرقية، فأهواء وبدع، إلا من عصم الله... كما أنه لا عدل ولا حقّ ولا دين إلا عند الموحدين».
كان ابن جبير محباً ومعجباً بالتراث والآثار الإسلامية، فوصف بدقة بالغة كل ماشاهده وشعر به في رحلته الأولى التي كانت بصحبة صديقه أبي جعفر أحمد بن حسان عام 578هـ، وانتهت عام 581هـ، واهتم بذكر التاريخ الذي زار فيه كل مدينة أو مكان، مرّ به بطريق البحر أو البر. كما ذكر المسافات التي تفصل بين تلك الأماكن مقدرة بالأميال أو الفراسخ. وتعمق بدراسة الأحوال الدينية والسياسية والاجتماعية لسكان الأقطار والمدن والقرى التي زارها، مما جعل رحلته مرجعاً هاماً من النواحي الجغرافية والتاريخية والاجتماعية. وكان أكثر ما اهتم بوصف مكة المكرمة والمدينة المنورة وتكلم على مناسك الحج، والمساجد والكنائس، والمشاهد والمعابد، والمزارات والبيمارستانات، ومقابر آل البيت والصحابة والشهداء، إلى جانب الأسواق والأرباض، والينابيع وأحواض المياه. ومن أكثر الأماكن التي بالغ في وصفها صور وعكا، وجزيرة صقلية وسكانها تحت حكم الصليبيين ومدينة الإسكندرية ومنارتها، والقاهرة ونيلها، وصعيد مصر وآثار الفراعنة فيها، ومدينة بغداد ودمشق والجامع الأموي فيها. كما وصف القوافل المحملة بسلع الهند، والواصلة إلى عيذاب عن طريق اليمن، وتحت عنوان «خزي وعار ومهانة» تكلم ابن جبير على ما يصادفه الحجاج في الصعيد، وفي مرفأ عيذاب، من تصرف شرذمة من المردة وأعوان الزكاة، والذين كانوا يحملون المساّل الطوال ذات المقابض، ويصعدون إلى المراكب فيدخلون أيديهم إلى أوساط التجار فحصاً عما يحملونه من دراهم ويدفعون المال في الأحمال لمعرفة ما بها من بضائع. كما تكلم على البجاة (من قبائل السودان) الذين كانوا يشحنون الحجاج ومتاعهم فيها بأعداد كبيرة. فضلاً عن أهوال البحر التي كان يعانيها الركاب قبل الوصول إلى مرفأ جدة. وحينما استطاع السلطان صلاح الدين الاستيلاء على القدس سنة 583هـ، وأصبح طريق الحج آمناً، صار ابن جبير من أكثر المعجبين به، فقام بتعداد كثير من أعماله الإصلاحية الخيرية والإنشائية.
صنف ابن جبير قليلاً من المؤلفات، وكان أشهرها كتاب هذه الرحلة. وقد اهتم أحد المستشرقين بهذا الكتاب، فترجم القسم المختص منه بجزيرة صقلية إلى الفرنسية، وطبعه عام 1846م. ثم طبع كامل الكتاب لأول مرة في ليدن عام 1852م وللمرة الثانية عام 1907م. ويقول المستشرق الروسي كراتشكوفسكي عن كتاب الرحلة لابن جبير: «مصنف رفيع الأسلوب، يختم بجدارة حلقة الجغرافيين الأندلسيين لهذا العصر». وفي عام 1980م قامت دار صادر ببيروت بطبع رحلة ابن جبير، وتم ذلك نقلاً عن مخطوط لم يذكر مصدره، أو مكان وجوده، أومن قام بتحقيقه. وكان عنوان المخطوط المذكور: «رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك». أما ناسخه فهو عبد القادر بن عبد الوهاب بن عبد المؤمن القرشي، وتاريخ النسخ 10 محرم 875هـ. وهو يضم وصف الرحلة الأولى من الرحلات الثلاث التي قام بها ابن جبير، بقصد الحج إلى الديار المقدسة. أما الرحلة الثانية فكان سببها الأساسي، كما جاء في كتاب «تكملة الصلة» لابن الأبّار، أن ابن جبير لما سمع الخبر المبهج بفتح بيت المقدس، على يد السلطان الناصر صلاح الدين، قوي عزمه على زيارة الخليل عليه السلام وزيارة المصطفى r. فغادر غرناطة أوائل ربيع الأول 585هـ، ثم عاد إليها أواسط شعبان 587هـ، بعد قضاء مناسك الحج. وبعد عودته تنقل بين مدن الأندلس وفاس، منقطعاً إلى الحديث والتصوف ورواية ما عنده من أخبار.
أما الرحلة الثالثة التي قام بها ابن جبير فقد بدأها من مدينة سبته بعد عام 601هـ، وذلك عقب وفاة زوجته عاتكة أم المجد، وهي بنت الوزير أبي جعفر الوقشي، وكان ابن جبير كلفاً بها، فعظم وجده عليها، فرحل إلى مكة، وجاور بها طويلاً، ثم جاور بيت المقدس، وأخيراً وصل إلى مصر، فتجول في القاهرة ثم استقر في الإسكندرية. وهنالك استمر يحدث وينظم ديوانه الضائع، والمعروف باسم «نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح» إلى أن وافته المنية.
نظم ابن جبير الشعر في بعض المناسبات التي كان لها تأثير عميق في نفسه. وذكر بعض الأخباريين أن له ثلاثة دواوين، منها الديوان السابق، وديوان «نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان» ولكن لم يصل من شعره سوى بعض القصائد والأشعار المبعثرة في كتب «الإحاطة» و«نفح الطيب» و«الذيل والتكملة».
وأطول تلك القصائد وأجودها تلك التي مدح فيها ابن جبير السلطان صلاح الدين وبين فيها فضائله، وقد قام بجمع تلك الأشعار وحققها فوزي الخطبا.
زهير البابا
Ibn Jubair (Mohammad ibn Ahmad-) - Ibn Jubaïr (Mohammad ibn Ahmad-)
ابن جبير (محمد بن أحمد ـ)
(539 ـ 614هـ/1144 ـ 1217م)
أبو الحسين محمد بن أحمد بن جبير الكناني، أديب رحالة، ولد في مدينة بلنسية بالأندلس، وقيل بشاطبة. سمع العلوم من أبيه في شاطبة، وأخذ القرآن عن أبي عبد الله الأصيلي، وأبي الحسن بن أبي العيش، والعربية عن ابن يسعون ذكره لسان الدين بن الخطيب، في كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة» فقال: «كان أديباً بارعاً، وشاعراً مجيداً، سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الخط».
نشأ ابن جبير في ظل دولة الموحدين، ولم يذكر المؤرخون شيئاً ذا غناء عن حياته الخاصة، وزوجاته وأولاده، ولكن تكلموا على شيوخه وطلابه. ونظراً لبراعته اللغوية والأدبية فقد استدعاه أبو سعيد عثمان بن عبد المؤمن، صاحب غرناطة، ليكتب له الرسائل. وفي إحدى المرات مدّ إليه أبو سعيد بكأس من الشراب، فأظهر ابن جبير الانقباض وقال: «سيدي ما شربتها قط». فقال له أبو سعيد: «والله لتشربنّ منها سبعاً». فلمّا رأى ابن جبير العزيمة في عينيه شرب سبع كؤوس، فملأ له أبو سعيد عندئذ الكأس بالدنانير. فتناولها ابن جبير، وهو ينوي أن يحج بتلك الدنانير ليكفر عن شربه الخمرة. فقام ابن جبير بعدها ببيع ملك له، ليغطي بثمنه نفقات سفره، وأنفق الدنانير في سبيل البر والإحسان.
كان ابن جبير مسلماً مؤمناً صادق الشعور، كان يتألم لبقاء بعض المدن والأقطار العربية الإسلامية تحت سيطرة الصليبيين، كما كان يتألم لرؤية مئات الأسرى من المسلمين والمسلمات يساقون مقيدين بالسلاسل لأسواق النخاسة. وكانت مصر والحجاز تحت حكم الخلفاء الفاطميين، قبل مجيء ابن جبير إليهما لأداء فريضة الحج. ولكن مع سقوط تلك الخلافة سنة 567هـ بقي بعض ولاة وعمال الفاطميين، في الديار المقدسة، يسيئون معاملة الحجاج بفرض الإتاوة والمكوس، ولما كان ابن جبير يميل للموحدين لذلك قال: «لا إسلام إلا في المغرب، وما سوى ذلك، مما بهذه الجهات المشرقية، فأهواء وبدع، إلا من عصم الله... كما أنه لا عدل ولا حقّ ولا دين إلا عند الموحدين».
كان ابن جبير محباً ومعجباً بالتراث والآثار الإسلامية، فوصف بدقة بالغة كل ماشاهده وشعر به في رحلته الأولى التي كانت بصحبة صديقه أبي جعفر أحمد بن حسان عام 578هـ، وانتهت عام 581هـ، واهتم بذكر التاريخ الذي زار فيه كل مدينة أو مكان، مرّ به بطريق البحر أو البر. كما ذكر المسافات التي تفصل بين تلك الأماكن مقدرة بالأميال أو الفراسخ. وتعمق بدراسة الأحوال الدينية والسياسية والاجتماعية لسكان الأقطار والمدن والقرى التي زارها، مما جعل رحلته مرجعاً هاماً من النواحي الجغرافية والتاريخية والاجتماعية. وكان أكثر ما اهتم بوصف مكة المكرمة والمدينة المنورة وتكلم على مناسك الحج، والمساجد والكنائس، والمشاهد والمعابد، والمزارات والبيمارستانات، ومقابر آل البيت والصحابة والشهداء، إلى جانب الأسواق والأرباض، والينابيع وأحواض المياه. ومن أكثر الأماكن التي بالغ في وصفها صور وعكا، وجزيرة صقلية وسكانها تحت حكم الصليبيين ومدينة الإسكندرية ومنارتها، والقاهرة ونيلها، وصعيد مصر وآثار الفراعنة فيها، ومدينة بغداد ودمشق والجامع الأموي فيها. كما وصف القوافل المحملة بسلع الهند، والواصلة إلى عيذاب عن طريق اليمن، وتحت عنوان «خزي وعار ومهانة» تكلم ابن جبير على ما يصادفه الحجاج في الصعيد، وفي مرفأ عيذاب، من تصرف شرذمة من المردة وأعوان الزكاة، والذين كانوا يحملون المساّل الطوال ذات المقابض، ويصعدون إلى المراكب فيدخلون أيديهم إلى أوساط التجار فحصاً عما يحملونه من دراهم ويدفعون المال في الأحمال لمعرفة ما بها من بضائع. كما تكلم على البجاة (من قبائل السودان) الذين كانوا يشحنون الحجاج ومتاعهم فيها بأعداد كبيرة. فضلاً عن أهوال البحر التي كان يعانيها الركاب قبل الوصول إلى مرفأ جدة. وحينما استطاع السلطان صلاح الدين الاستيلاء على القدس سنة 583هـ، وأصبح طريق الحج آمناً، صار ابن جبير من أكثر المعجبين به، فقام بتعداد كثير من أعماله الإصلاحية الخيرية والإنشائية.
صنف ابن جبير قليلاً من المؤلفات، وكان أشهرها كتاب هذه الرحلة. وقد اهتم أحد المستشرقين بهذا الكتاب، فترجم القسم المختص منه بجزيرة صقلية إلى الفرنسية، وطبعه عام 1846م. ثم طبع كامل الكتاب لأول مرة في ليدن عام 1852م وللمرة الثانية عام 1907م. ويقول المستشرق الروسي كراتشكوفسكي عن كتاب الرحلة لابن جبير: «مصنف رفيع الأسلوب، يختم بجدارة حلقة الجغرافيين الأندلسيين لهذا العصر». وفي عام 1980م قامت دار صادر ببيروت بطبع رحلة ابن جبير، وتم ذلك نقلاً عن مخطوط لم يذكر مصدره، أو مكان وجوده، أومن قام بتحقيقه. وكان عنوان المخطوط المذكور: «رسالة اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك». أما ناسخه فهو عبد القادر بن عبد الوهاب بن عبد المؤمن القرشي، وتاريخ النسخ 10 محرم 875هـ. وهو يضم وصف الرحلة الأولى من الرحلات الثلاث التي قام بها ابن جبير، بقصد الحج إلى الديار المقدسة. أما الرحلة الثانية فكان سببها الأساسي، كما جاء في كتاب «تكملة الصلة» لابن الأبّار، أن ابن جبير لما سمع الخبر المبهج بفتح بيت المقدس، على يد السلطان الناصر صلاح الدين، قوي عزمه على زيارة الخليل عليه السلام وزيارة المصطفى r. فغادر غرناطة أوائل ربيع الأول 585هـ، ثم عاد إليها أواسط شعبان 587هـ، بعد قضاء مناسك الحج. وبعد عودته تنقل بين مدن الأندلس وفاس، منقطعاً إلى الحديث والتصوف ورواية ما عنده من أخبار.
أما الرحلة الثالثة التي قام بها ابن جبير فقد بدأها من مدينة سبته بعد عام 601هـ، وذلك عقب وفاة زوجته عاتكة أم المجد، وهي بنت الوزير أبي جعفر الوقشي، وكان ابن جبير كلفاً بها، فعظم وجده عليها، فرحل إلى مكة، وجاور بها طويلاً، ثم جاور بيت المقدس، وأخيراً وصل إلى مصر، فتجول في القاهرة ثم استقر في الإسكندرية. وهنالك استمر يحدث وينظم ديوانه الضائع، والمعروف باسم «نتيجة وجد الجوانح في تأبين القرين الصالح» إلى أن وافته المنية.
نظم ابن جبير الشعر في بعض المناسبات التي كان لها تأثير عميق في نفسه. وذكر بعض الأخباريين أن له ثلاثة دواوين، منها الديوان السابق، وديوان «نظم الجمان في التشكي من إخوان الزمان» ولكن لم يصل من شعره سوى بعض القصائد والأشعار المبعثرة في كتب «الإحاطة» و«نفح الطيب» و«الذيل والتكملة».
وأطول تلك القصائد وأجودها تلك التي مدح فيها ابن جبير السلطان صلاح الدين وبين فيها فضائله، وقد قام بجمع تلك الأشعار وحققها فوزي الخطبا.
زهير البابا