دور الأسطورة في الثقافة الإنسانية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • دور الأسطورة في الثقافة الإنسانية

    دور الأسطورة في الثقافة الإنسانية
    احتلت الأسطورة مكانة ذات شأن في جميع مجالات العلوم وكان لها أثر واضح في تطور بعضها وإغنائه، وخاصة العلوم الإنسانية والاجتماعية والتطبيقية.
    الأسطورة و اللغة وعلم الاجتماع: للأسطورة صلة مباشرة بالمسائل المتعلقة باللغة لأنها مادة الاتصال الإنساني، كما أنها وثيقة الصلة بالحياة الاجتماعية والتراث. ومع ذلك لايوجد اتفاق بين الباحثين عامة حول طبيعة هذه الصلات، وليس من الصعب معرفة أسباب عدم الاتفاق هذا، وخاصة أن تصنيف اللغات وتفرعاتها والمجتمعات التي تقوم على أساس اللغة يبقى مسألة خلاف، ويتطلب دراسات أكثر تعمقاً مع أن طرائق البحث العلمي الحديث تسمح بإجراء مسح شامل لهذه المسألة.
    يرى بعض علماء اللغة أن هناك حاجة إلى علم جامع يدرس الإشارات والرموز الأساسية في المجتمع، وإلى علم نفس جديد يبدأ بدراسة المشكلات التي تحدد طبيعة المعرفة الإنسانية ومعتقدات البشر، وأنه لا يمكن أن تستهل دراسة المجتمع واللغة إلا بما هو محدد في كلام البشر وعلاقاتهم الاجتماعية المثقلة بتراكمات التراث الإنساني، وهذا هو مجال علم الأساطير.
    يمكن هنا إيراد بعض الأمثلة التي تؤكد تنوع العلاقات والروابط بين الأساطير والمجتمعات وتبين مدى تعقيدها. ففي شمال غربي أوغندة والمناطق المتاخمة لها من الكونغو تعيش قبيلة لوغبارا Lugbara والتي تربط نظامها السياسي والاجتماعي ببطلين من الأجداد لهما علاقة بقصة خلق العالم. وتتحدث القصة عن تحدر القبيلة من أجداد أبطال على نحو ما يروى في قصص البطولة. ويلفت الانتباه هنا ربط الماضي الأسطوري والماضي الفعلي بمفهوم واحد ذي معايير غير تاريخية محددة زمنياً. كذلك تتحدث بعض المراجع الأدبية في الصين القديمة عن أشخاص وأحداث تبدو تاريخية في مظهرها؛ ولكنها في الواقع محاولة لوضع أساطير الأولين ضمن إطار تاريخي ينفي عنها صفة الأسطورة. ويلاحظ مثل هذه المحاولة في بعض كتب التاريخ الروماني التي تتحدث عن أصل رومة ومجتمعها وأنماط الحكم فيها، فتبدو وكأنها تأريخ للأساطير الأولى التي تتحدث عن الصلات الهندية الأوربية. ومن هذه الأمثلة أيضاً النظام الطبقي الهندي وأصوله الأسطورية، ومازالت لهذه المؤسسات قوتها المؤثرة في واقع المجتمع الهندي إلى اليوم. ومن هنا يكاد يستحيل التوصل إلى صيغة عامة مشتركة تفسر التأثيرات الأسطورية في مختلف المجتمعات لتنوعها الكبير، وإن كان يسهل فهم دور الأسطورة في كل محاولة لفهم العلاقات الاجتماعية بين الناس، ومن جهة أخرى يرى بعض العلماء أن بحوث التاريخ وثيقة الصلة في الدراسات الحديثة بالتراث الأسطوري عند الأمم والمجموعات البشرية.
    الأسطورة وعلم النفس: تنحصر الدراسات التي قام بها فرويد في مجال الأسطورة في محاولته الفصل بين التاريخ الثقافي للمجتمع والمفاهيم القائمة فيه. وكانت الدراسات التي سبقت فرويد تفترض تحليلاً تاريخياً لفهم مراحل تطور الوعي الإنساني، أما فرويد فقد سعى إلى إثبات استقلال النفس الإنسانية عن التاريخ واعتمادها على المفهوم الحيوي (البيولوجي)، ولايبدل في الأمر شيئاً كونه استفاد من وجهات نظر أنتروبولوجية في هذا الصدد (كزعمه مثلاً أن تقديم الأضاحي مرتبط بأول عملية قتل كان الإنسان ضحيتها)، وكان يرى أن التعبير الرمزي عن الشعور بالذنب أو عن قضاء الرغبات لايتحدد بزمن تاريخي؛ ولكنه يحدث في الأساطير كما يحدث في الأحلام. وقد استند فرويد في رؤيته هذه، وبه اقتدى كارل يونغ، إلى نظرية لوسيان ليفي برول الذي ربط الأسطورة بالذكاء الفطري السابق للمنطق. ويرى فرويد أن الأسطورة نمط من التفكير كان شائعاً عند الإنسان القديم ومازال موجوداً لدى الشعوب البدائية التي تزعم وجود شراكة «روحية» مع الأشياء ولا تفصل بين الذات والشيء، ولكنه تعرض للنقد بسبب تفسيره الأساطير من وجهة نظر عقدة أوديب والكبت الجنسي والشعور بالذنب. أما كارل يونغ فيعتقد أن الصور الأسطورية ظاهرة إيجابية مبدعة مناقضاً تقويم فرويد السلبي لهذه الظاهرة، فالصور الأصلية الأولى عنده صور مميزة تنبع من الوعي الجماعي ومن أساس النفس الإنسانية، ولكنها تضع الأساطير خارج نطاق التاريخ. ويتردد ناقدو يونغ في تقبل رأيه حول كون الوعي الجماعي مصدراً أبدياً لفهم الأسطورة.
    الأسطورة والعلوم البحتة: تنبه بعض الدارسين إلى أن الأسطورة تعكس أحياناً بعض التغيرات التي تحدث في الواقع، أو تفترض حدوثها. ومع أن الواقع يتبدل في التاريخ فإن ما يتصل بتغيرات هذا الواقع يثير اهتمام الفلاسفة ومؤرخي العلوم، لأن صورة الواقع أساس كل برهان علمي. ويثير الاهتمام هنا التشابه بين وظائف النماذج models في العلوم البحتة والطب وعلم الأحياء والنماذج التي تشتمل عليها الأسطورة أحياناً بوصفها صيغاً لعالم الإنسان. فإذا مثّل جسم الإنسان في الطب بالمكنة، ونُظر إلى الدماغ على أنه حاسوب متطور، فالأمر لا يعدو استعمال نماذج تسهل الفهم، فإذا حاز النموذج القبول غدا من الصعب إحلال شيء آخر محله، وهنا يكمن التشابه بين الأسطورة والعلم مع احتمال وجود خلاف كبير في تفسير القصد من ذلك النموذج. ففي القرن السابع عشر وبعد أن طرح ديكارت نظرياته غدا من السهل الافتراض أن يفسر الكون على أنه مؤلف من جسيمات دقيقة تتحرك وتتجاذب، كذلك فإن النزوع إلى المطلق في أكثر نماذج تاريخ العلوم قريب جدا من الأسطورة، ومع ذلك فثمة فروق كثيرة بين هذين المجالين، فمع أنه من الصعب تبديل النماذج في العلم فإن هذا التبديل ممكن الحدوث وقابل للتكرار، ويحذر العلماء كثيراً من وضع قيود مشددة على النماذج المطروحة في العلوم العصرية، أما الأسطورة فلا تقبل التبديل ليحل غيرها محلها في المجتمع الذي نشأت فيه وأثرت، وإن كان في وسع الغريب عن ذلك المجتمع إدخال بعض التغيير على الأسطورة نفسها أو تبني غيرها. والأكثر من ذلك أن أهمية نماذج العلوم تقتصر على المعنيين بها، وتقتصر وظيفتها على قطاع صغير من المجتمع، وإن تبدلت مكانتها من عصر إلى عصر، أما الأسطورة فيبقى تأثيرها أوسع نطاقاً بكثير. ومع بعد المسافة بين الأسطورة والعلم فقد بين تاريخ العلوم أن العلم الحديث لم يكن كله ثورة على الأسطورة، ولم تزلزل ولادته مكانتها أو تزاحمها. وقد تطرح نظرية في الطب على المستوى الأكاديمي في عصر ما، ثم تنحط مكانتها تدريجياً حتى مستوى الطب الشعبي في عصر آخر، وقد تعود تلك النظرية لتحتل مكانة مرموقة في عصر تال. وقد ظل علماء الطبيعة من اليونان القدماء يحتلون مكانة المؤسسين للعلوم أمداً طويلاً جداً، مع أن بعض وجهات النظر التي طرحوها كانت قريبة جداً من أساطير الخلق في زمانهم، كذلك انغمس رواد العلوم الحديثة من أمثال كبلر ونيوتن ولايبنتز في تتبع مسائل ما وراء الطبيعة التي لم تكن في الواقع إلا مسائل تراثية وأسطورية الطابع. ولعل أوضح مثال على ذلك ما يلمس في نظرية الطبيب الإنكليزي وليم هارفي الذي ربط الدورة الدموية بحركة الكواكب، وكذلك تشبيه داروين لدورة الطمث عند المرأة بالمد في المحيطات. ويرى كثير من المفكرين، وفيهم عالم اللاهوت بول تيليش P.Tilich والفيلسوف كارل جاسبرز K.Jaspers أن البعد الأسطوري أساس في كل علم، فالتفكير ينطلق من الأسطورة أو من عنصر من عناصرها، ويتدرج في تطوره حتى يبلغ درجة العلم والمبدأ. ويلاحظ ذلك بوضوح في علوم الفلك والأحياء والفيزياء وغيرها، ولاتخرج قصص الخيال العلمي التي غدت واقعاً علمياً عن هذا النطاق. وليس أدل على أثر الأسطورة في العلم الحديث من مئات المصطلحات العلمية التي تزخر بها أسرة اللغات الهندية الأوربية والتي اقتبست من مصطلحات أو تسميات أسطورية أغلبها من أصول يونانية أو اسكندنافية قديمة. وأقرب مثال عليها أسماء الكواكب المعروفة مثل: جوبيتير (المشتري) وميركوري (عطارد) وساتورن (زحل) وفينوس (الزهرة) وغيرها.
    الأسطورة والدين: تختلف مكانة الأسطورة باختلاف أشكال التراث في المجتمع، ومع أنها قد تتعارض مع بعض التراث الديني إلا أنها تبقى لصيقة به في ذلك المجتمع. ويعتقد جيمس فريزر أنه لما كانت الأساطير علماً بدائياً وظيفته التفسير والتعليل فإن ثمة أساطير وجدت لتفسير بعض الشعائر والطقوس، ذلك أن كثيراً من القصص التي تدخل في نطاق «حكايا العلة» لاتخرج عن كونها نوعاً من الأساطير، وهي تصادف في تراث الشعوب المختلفة. ويرى كثير من مفكري القرن العشرين أن الأساطير في صيغها البدائية ليست أكثر من إعلام بما حدث فعلاً وبما هو مرغوب فيه. وهناك أساطير وجدت لتعليل شعائر محددة. وقد جرت على هذا الأساس دراسات عدة تؤكد الروابط بين الشعائر والأساطير المتصلة بها، ومنها محاولات للبرهان على أن الشعيرة سابقة للأسطورة، وأن الأسطورة وجدت لتفسيرها أو شرح مضمونها أو أنها النص الذي تشتمل عليه الشعيرة. وقد لقي هذا المنحى تأييداً كبيراً بين المفكرين وجرى تطبيقه أول الأمر على الأساطير اليونانية، ثم على عناصر الثقافة اليونانية القديمة كلها كالأدب والفن والفلسفة حتى وصل إلى الكتب المقدسة والملاحم والروايات والقصص الواقعية، واتسع نطاقه فيما بعد حتى شمل الثقافات الأخرى في مشارق الأرض ومغاربها. وسرعان ما انتشرت عدوى هذا التفكير وبولغ فيه حتى صار لكل شعيرة أو طقس أو تقليد أصل يفسره، ومن ذلك مثلاً طقوس الدفن وتلقين الميت وتقاليد الزواج وتقديم الأضاحي واحتفالات التعريف بالأسرار المقدسة في مختلف المجتمعات. بل إن أحد الباحثين الإنكليز حاول إرجاع جميع الوقائع المتصلة بتاريخ إنكلترة في العصور الوسطى إلى طقوس قديمة فيها. وقد ساعدت الدراسات والمعطيات الجديدة التي توصلت إليها علوم الأجناس والسلالات وأصل الإنسان وغيرها من العلوم الإنسانية في إنجاح نظرية الشعائر هذه، فأصبح ممكناً دائماً إيجاد صلة ما بموضوع الأسطورة المطلوب تفسيرها علميا والطقوس والشعائر التي يمارسها مجتمع ما.
    إن وجود علاقة ما بين السلوك الشعائري والأساطير أمر يكاد يكون مؤكداً، إلا أن علماء الكتاب المقدس الغربيين يرون ضرورة النظر إلى المواقف الحياتية والتقاليد التي تمارس من زاوية أصولها ونشأتها، وهناك عدد كبير من الباحثين، وأكثرهم من بريطانية والبلاد الاسكندنافية يؤكدون أثر الأسطورة في الطقوس، ويطلق على هؤلاء عادة اسم «مدرسة الشعائر الأسطورية» وتتركز أعمالهم غالباً على دراسة أساطير الشرق القديم والأديان السماوية، ومن النظريات التي أثارت ضجة في هذا الصدد نظرية «البابلية» Babilionisme التي طرحها عدد من المهتمين بالأساطير. وتزعم هذه النظرية أن البابليين هم أصحاب الفضل في وضع علم أصل الكون cosmogony وعلم الفلك، وهم يعدون أساطير البابليين عن الفلك أساس أساطير العالم كله.
    وقد بينت دراسة أساطير الشعوب البدائية و ممارساتها الشعائرية أن المسألة أعقد بكثير مما تفترضه نظرية الشعائر في تفسير الأسطورة، وقد تم دحض الكثير من هذه التفسيرات. ومع ذلك فثمة أساطير كثيرة تفسر شعائر مختلفة وتصفها، ومثل ذلك أساطير كثيرة بعيدة عن الحقائق كل البعد، وأساطير أخرى لاصلة لها بأي شعيرة أو طقس، والعكس صحيح أيضاً. فالصلة بين الشعائر والأساطير عرضية في غالب الأحيان، وإذا وجدت صلة مؤكدة فليس ثمة برهان على أن إحداهما سبقت الأخرى، وإذا ما أعطت الأسطورة الشعيرة معنى مقبولا فإن الغاية من الشعيرة وأصلها يبقيان لغزاً من الألغاز.
    وكان
يعمل...
X