مدن ميته
Dead Cities - Villes Mortes
المدن الميتة
يقصد بمصطلح المدن الميتة القرى الأثرية المهجورة التي تنتشر في الكتلة الكلسية الممتدة من حدود تركيا في الشمال حتى منطقة أفاميا جنوباً، ومن سهل الغاب غرباً حتى سهول حلب وقنسرين شرقاً، بطول 150كم وعرض 70كم تقريباً. وهي عبارة عن سلسلة من القرى التي يتجاوز عددها السبعمئة، موزعة على جبال سمعان، الحلقة، باريشا، الأعلى، الوسطاني، الدويلة، الزاوية. تتميز هذه القرى بأنها ما تزال تحتفظ بحالتها المعمارية الممتازة التي قاومت عوامل الطبيعة والتخريب حتى اليوم.
بدأت الاستكشافات الأثرية في هذه القرى منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد أشار إلى هذه القرى الكونت دوفوغويه M.de Vogüé في كتابه «سورية المركزية، عمارة مدنية ودينية من القرن الأول إلى القرن السابع الميلادي».
ومع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين قامت بعثة أثرية أمريكية من جامعة برنستون Princeton بإدارة باتلر H.C.Butler بدراسة بعض هذه المواقع ونشرت عنها دراسات قّّّّيمة صدرت تباعاً أهمها «الكنائس الأولى في سورية». ثم جاءت دراسات الجامعة اليسوعية في لبنان بإدارة جوزيف ماتيرن J.Matern وصدر عنها كتاب بعنوان «المدن الميتة في شمالي سورية».
وفي مطلع الثلاثينات من القرن العشرين أجرى جورج تشالينكو G.Tchalenko دراسات معمقة غيّرت بعض المفاهيم التي كانت سائدة قبله، وخاصة تلك التي تتعلق بمصطلح المدن الميتة الذي ألغاه، واعتمد مصطلحاً جديداً في كتابه الذي نُشر بعنوان «القرى القديمة في شمالي سورية»، كانت هذه الدراسات الأولى التي شملت جميع العناصر المكونة لهذه الأرياف وما تزال حتى اليوم أحد أهم أركان الدراسات الحديثة حول هذه القرى. كما قدّم جاك لاسوس J.Lassus في فترة تشالينكو نفسه بعض الدراسات المتعلقة بالكنائس، وجاءت دراسته المهمة حول الكنائس المسيحية في سورية لتوضح للمرة الأولى تحليلاً لبعض الممارسات الدينية في هذه الكنائس اعتماداً على الملاحظات الأثرية.
ثم جاءت الدراسات الحديثة التي بدأتها البعثة الأثرية الفرنسية بإدارة جورج تات G.Tate الذي قام بدراسة الأهمية الاقتصادية والاجتماعية وتحليلها لفهم تطور القرى في شمالي سورية معتمداً على تحليل المعطيات التي جاء بها تشالينكو، مضيفاً إليها المعطيات الأحدث ومستخدماً منهجاً علمياً جديداً للوصول إلى فكرة جديدة حول تطور الكتلة الكلسية بين القرن الأول والقرن السابع الميلاديين.
وحسب رأي تات فإن حركة استيطان واستصلاح الأراضي الجبلية كانت قد بدأت من قبل الريفيين السوريين الذين قدموا من السهول المجاورة منذ مطلع القرن الأول الميلادي، وبسبب التزايد السكاني لهؤلاء الريفيين، وبفضل الحصول على مزارع جديدة، ازداد غناهم وخاصة في القرنين الخامس والسادس الميلاديين معتمدين على زراعة الزيتون والكرمة، وبالتالي أدى ذلك إلى تطور كبير في الفن المعماري لهذه القرى ومظاهرها الخارجية الغنية بالعناصر الزخرفية الجميلة.
يوجد في المدن الميتة جميع العناصر المعمارية التي كانت تتكون منها القرية في العصرين الروماني والبيزنطي, فهناك العديد من المعابد والكنائس ودور الضيافة والمعاصر والمنازل والمدافن. ولابد من الإشارة أن هذه المواقع على الرغم من أهميتها العمرانية ليست سوى قرى لأنه لا توجد فيها أي تحصينات، كما يلاحظ في عمارة المدن، وكذلك الأمر في تخطيط الطرق والشوارع، فلا يوجد أي نظام مديني، حيث نجد فقط الأزقة التي تمر عشوائياً حتى إن الأبنية العامة غير موجودة في هذه القرى، وتبقى الحمامات التي استمرت مجالسَ اجتماع، هي الوحيدة المنتشرة في هذه القرى، وقد شيدت على نفقة بعض المزارعين الأغنياء لأهل القرية.
تميزت المباني السكنية في المدن الميتة بالغنى من الناحية المعمارية، حيث إن مساقطها تتسم في طابعها العام بالبساطة إذ تتألف من طابقين أو أكثر وهي محاطة بجدار خارجي ذي بوابة كبيرة، حيث استخدمت غرف الطابق الأرضي كمستودعات للتخزين ولإيواء الحيوانات أيضاً، أما الطابق الأول فقد استخدم للسكن، وتتقدم هذه الغرف أروقة محمولة على أعمدة مزينة بتيجان متنوعة، كما جرى استخدام زخارف متعددة مثل الحلي والأفاريز والشرائط المنحوتة من الحجر الكلسي في تزيين المباني، خاصة على سواكف الأبواب والنوافذ، وقد أوضحت نتائج التنقيبات التي أجريت في مواقع عديدة مثل سرجيلا وداحس، كثيراً من الأفكار حول تطور المباني السكنية في هذه المنطقة، في العصرين الروماني والبيزنطي.
ظهرت الكنائس منذ القرن الرابع الميلادي، وكانت ذات مساقط مختلفة، تتميز بغناها بالعناصر الزخرفية، حيث كان يوجد كل قرية كنيسة أو أكثر مثل قرية البارة أو براد، ومن أهم الكنائس في هذه المنطقة كنيسة «قلب اللوزة» التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، ومازالت تحتفظ بشكلها المعماري، حيث تتميز بأنها تحتوي على السمات العامة لعمارة الكنائس في شمالي سورية وفق مخطط البازيليك الذي يتميز بوجود برجين في واجهة الكنيسة، وتحتوي على عناصر الزخرفة من أشِرطة الحلي التي تلتف حول المبنى والتيجان الجميلة واعتماد أسلوب التناظر لفتحات الكنيسة من الأبواب والنوافذ. وهناك أيضاً كنيسة سمعان العمودي المبنية على شكل صليب والمؤلفة من أربعة بازيليكيات تلتقي مع بعضها في ساحة مثمنة الشكل، يقع في وسطها العمود الذي عاش عليه سمعان العمودي.
كما بدأت تظهر الأديرة في هذه المنطقة منذ القرن الرابع الميلادي، وخاصة في المنطقة المحيطة بمدينة أنطاكية، حيث تسارع بناء الأديرة في القرن السادس، وتم إحصاء 57 ديراً في جبل باريشا و35 في جبل الأعلى، حي تمثّلت نشاطات الرهبان بالجوار بين العلاقات الدينية والعمل الزراعي، إذ يتألف الدير عادة من الأبنية الآتية: بناء مخصص للنشاطات الداخلية للرهبان وبناء آخر مخصص للاستقبال والنشاطات الخارجية، ويوجد برج للناسك الذي يتألف من طابق أو عدة طوابق كلها ذات مسقط أفقي مربع الشكل إضافة إلى وجود مقبرة جماعية.
كما اختار بعض الرهبان الاعتزال على العمود الأسطواني الشكل، وقد وضع في أعلاه مصطبة خشبية يمضي الراهب عليها عمره في الصلاة والوعظ وشفاء المرضى فكانت مهمة العامودي تجمع بين حياة الناسك المنعزل وبين حياة الوعظ والإرشاد، وأشهر العاموديين كان سمعان الكبير الذي عاش على العمود 37 عاماً، حيث تحوّل مكان عموده إلى مجمع ديني ضخم في العصر البيزنطي يحج إليه المسيحيون من المناطق المختلفة.
تعود معابد المنطقة إلى القرن الثاني الميلادي، وكانت تنتشر على قمة جبل شيخ البركات وجبل سرير وباقرحا وكالوطة، ولازالت آثار هذه المعابد موجودة حتى اليوم، بنيت المعابد خارج القرى على عكس المعابد في جنوبي سورية. حيث تحول بعضها إلى كنائس مثل كالوطة، أو أُهملت وتحولت إلى مقالع في العصر البيزنطي.
كما تميزت العمارة الجنائزية بأهمية كبيرة من ناحية المخططات أو الزخرفة، حيث نجد كثيراً من الأشكال المعمارية، مثل المدافن الهرمية «قرية البارة» أو على شكل معبد في «قرية الرويحة» أو محفورة في الصخر وهو ما نجده في «قرية القاطورة»، ولدينا قبة مثلثية على أربعة عواميد في «قرية براد»، كتبت على العديد منها أسماء أصحابها، كما أن هناك كثيراً من الأشكال المعمارية الأخرى من المدافن.
أما الحمامات العامة الموجودة في العديد من القرى فمعظمها في حالة معمارية جيدة، تم التنقيب في العديد منها، حيث وضّحت التنقيبات آلية عمل وتطور الحمامات في العصرين الروماني والبيزنطي، إذ تمثّل حمامات سرجيلا النموذج الأوضح للحمامات المحلية حيث تمّ اكتشاف لوحة فسيفساء كبيرة كُتب عليها باللغة اليونانية تاريخ بناء الحمام في سنة 473م. يتألف المبنى من قاعة كبيرة، يعلوها رواق، كانت تستخدم قاعة للملابس وصالة عامة لاجتماع أهل القرية فيها. وتوضح هذه القاعة أهمية الحمام، ليس كمكان للاستحمام فقط، بل أيضاً لاجتماع أهل القرية مما يعطي طابعاً اجتماعياً لهذا المبنى. أما القسم الثاني فهو مخصص للاستحمام ويتألف من مجموعة الغرف الساخنة ثم الفاترة والباردة.
وأخيراً تم دراسة وإحصاء بضع مئات من معاصر الزيت في الكتلة الكلسية وخاصة في القرى الشمالية منها، وهذا ما جعل العلماء والباحثين يعزون تطور قرى الكتلة الكلسية إلى زراعة الزيتون.
يُركز الباحثون على مرحلتين مهمتين من التطور الذي شهدته هذه القرى: تمتد الأولى منهما من القرن الأول حتى منتصف القرن الثالث الميلادي. في حين تمتد الثانية من القرن الرابع وحتى القرن السابع الميلادي، وفيها شهدت هذه القرى تزايداً كبيراً في عدد السكان وازدياد ثرواتهم في إطار توسعهم العمراني، حيث تكاملت المدن والأرياف في الثروة.
في منتصف القرن السادس الميلادي حدث تغير في الاكتفاء الاقتصادي نتيجة للتزايد السكاني الكبير وقلة الثروة مما أدى إلى مرحلة من الجمود الاقتصادي والفقر والأوبئة. كما أن الأحداث العسكرية التي عاشتها هذه المنطقة والمتمثلة بالغزوات الفارسية التي ضربت أنطاكية وأفاميا، والهزات الأرضية وغيرها، أثرت سلباً في الحياة في هذه القرى، وبذلك توقفت عملية الإعمار مع بقاء القرى مأهولة بكثافة، ومع مجيء الفتح الإسلامي لم يطرأ أي تغيير على الحياة الريفية لهؤلاء السكان الذين بدؤوا يهجرون قراهم في مطلع القرن الثامن الميلادي، حيث ظلت المنطقة تعاني الضعفَ، كما أدى تغير الاتجاهات في مراكز التجارة إلى زيادة هذا الضعف نتيجة قلة الطلب على المنتجات في هذه المناطق.
والجدير بالذكر أن هذه المنطقة تحوّلت إلى منطقة حدودية بين الدول العربية الإسلامية والامبراطورية البيزنطية، وقد استمر هذا الركود الاقتصادي حتى القرن العاشر، لذلك فإن هذه العوامل دفعت السكان إلى هجر قراهم، ولم تعد الحياة إلى هذه المنطقة فعلياً وجزئياً إلا في القرن التاسع عشر.
مأمون عبد الكريم
Dead Cities - Villes Mortes
المدن الميتة
يقصد بمصطلح المدن الميتة القرى الأثرية المهجورة التي تنتشر في الكتلة الكلسية الممتدة من حدود تركيا في الشمال حتى منطقة أفاميا جنوباً، ومن سهل الغاب غرباً حتى سهول حلب وقنسرين شرقاً، بطول 150كم وعرض 70كم تقريباً. وهي عبارة عن سلسلة من القرى التي يتجاوز عددها السبعمئة، موزعة على جبال سمعان، الحلقة، باريشا، الأعلى، الوسطاني، الدويلة، الزاوية. تتميز هذه القرى بأنها ما تزال تحتفظ بحالتها المعمارية الممتازة التي قاومت عوامل الطبيعة والتخريب حتى اليوم.
بدأت الاستكشافات الأثرية في هذه القرى منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد أشار إلى هذه القرى الكونت دوفوغويه M.de Vogüé في كتابه «سورية المركزية، عمارة مدنية ودينية من القرن الأول إلى القرن السابع الميلادي».
ومع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ومطلع القرن العشرين قامت بعثة أثرية أمريكية من جامعة برنستون Princeton بإدارة باتلر H.C.Butler بدراسة بعض هذه المواقع ونشرت عنها دراسات قّّّّيمة صدرت تباعاً أهمها «الكنائس الأولى في سورية». ثم جاءت دراسات الجامعة اليسوعية في لبنان بإدارة جوزيف ماتيرن J.Matern وصدر عنها كتاب بعنوان «المدن الميتة في شمالي سورية».
وفي مطلع الثلاثينات من القرن العشرين أجرى جورج تشالينكو G.Tchalenko دراسات معمقة غيّرت بعض المفاهيم التي كانت سائدة قبله، وخاصة تلك التي تتعلق بمصطلح المدن الميتة الذي ألغاه، واعتمد مصطلحاً جديداً في كتابه الذي نُشر بعنوان «القرى القديمة في شمالي سورية»، كانت هذه الدراسات الأولى التي شملت جميع العناصر المكونة لهذه الأرياف وما تزال حتى اليوم أحد أهم أركان الدراسات الحديثة حول هذه القرى. كما قدّم جاك لاسوس J.Lassus في فترة تشالينكو نفسه بعض الدراسات المتعلقة بالكنائس، وجاءت دراسته المهمة حول الكنائس المسيحية في سورية لتوضح للمرة الأولى تحليلاً لبعض الممارسات الدينية في هذه الكنائس اعتماداً على الملاحظات الأثرية.
ثم جاءت الدراسات الحديثة التي بدأتها البعثة الأثرية الفرنسية بإدارة جورج تات G.Tate الذي قام بدراسة الأهمية الاقتصادية والاجتماعية وتحليلها لفهم تطور القرى في شمالي سورية معتمداً على تحليل المعطيات التي جاء بها تشالينكو، مضيفاً إليها المعطيات الأحدث ومستخدماً منهجاً علمياً جديداً للوصول إلى فكرة جديدة حول تطور الكتلة الكلسية بين القرن الأول والقرن السابع الميلاديين.
وحسب رأي تات فإن حركة استيطان واستصلاح الأراضي الجبلية كانت قد بدأت من قبل الريفيين السوريين الذين قدموا من السهول المجاورة منذ مطلع القرن الأول الميلادي، وبسبب التزايد السكاني لهؤلاء الريفيين، وبفضل الحصول على مزارع جديدة، ازداد غناهم وخاصة في القرنين الخامس والسادس الميلاديين معتمدين على زراعة الزيتون والكرمة، وبالتالي أدى ذلك إلى تطور كبير في الفن المعماري لهذه القرى ومظاهرها الخارجية الغنية بالعناصر الزخرفية الجميلة.
يوجد في المدن الميتة جميع العناصر المعمارية التي كانت تتكون منها القرية في العصرين الروماني والبيزنطي, فهناك العديد من المعابد والكنائس ودور الضيافة والمعاصر والمنازل والمدافن. ولابد من الإشارة أن هذه المواقع على الرغم من أهميتها العمرانية ليست سوى قرى لأنه لا توجد فيها أي تحصينات، كما يلاحظ في عمارة المدن، وكذلك الأمر في تخطيط الطرق والشوارع، فلا يوجد أي نظام مديني، حيث نجد فقط الأزقة التي تمر عشوائياً حتى إن الأبنية العامة غير موجودة في هذه القرى، وتبقى الحمامات التي استمرت مجالسَ اجتماع، هي الوحيدة المنتشرة في هذه القرى، وقد شيدت على نفقة بعض المزارعين الأغنياء لأهل القرية.
تميزت المباني السكنية في المدن الميتة بالغنى من الناحية المعمارية، حيث إن مساقطها تتسم في طابعها العام بالبساطة إذ تتألف من طابقين أو أكثر وهي محاطة بجدار خارجي ذي بوابة كبيرة، حيث استخدمت غرف الطابق الأرضي كمستودعات للتخزين ولإيواء الحيوانات أيضاً، أما الطابق الأول فقد استخدم للسكن، وتتقدم هذه الغرف أروقة محمولة على أعمدة مزينة بتيجان متنوعة، كما جرى استخدام زخارف متعددة مثل الحلي والأفاريز والشرائط المنحوتة من الحجر الكلسي في تزيين المباني، خاصة على سواكف الأبواب والنوافذ، وقد أوضحت نتائج التنقيبات التي أجريت في مواقع عديدة مثل سرجيلا وداحس، كثيراً من الأفكار حول تطور المباني السكنية في هذه المنطقة، في العصرين الروماني والبيزنطي.
ظهرت الكنائس منذ القرن الرابع الميلادي، وكانت ذات مساقط مختلفة، تتميز بغناها بالعناصر الزخرفية، حيث كان يوجد كل قرية كنيسة أو أكثر مثل قرية البارة أو براد، ومن أهم الكنائس في هذه المنطقة كنيسة «قلب اللوزة» التي تعود إلى القرن الخامس الميلادي، ومازالت تحتفظ بشكلها المعماري، حيث تتميز بأنها تحتوي على السمات العامة لعمارة الكنائس في شمالي سورية وفق مخطط البازيليك الذي يتميز بوجود برجين في واجهة الكنيسة، وتحتوي على عناصر الزخرفة من أشِرطة الحلي التي تلتف حول المبنى والتيجان الجميلة واعتماد أسلوب التناظر لفتحات الكنيسة من الأبواب والنوافذ. وهناك أيضاً كنيسة سمعان العمودي المبنية على شكل صليب والمؤلفة من أربعة بازيليكيات تلتقي مع بعضها في ساحة مثمنة الشكل، يقع في وسطها العمود الذي عاش عليه سمعان العمودي.
كما بدأت تظهر الأديرة في هذه المنطقة منذ القرن الرابع الميلادي، وخاصة في المنطقة المحيطة بمدينة أنطاكية، حيث تسارع بناء الأديرة في القرن السادس، وتم إحصاء 57 ديراً في جبل باريشا و35 في جبل الأعلى، حي تمثّلت نشاطات الرهبان بالجوار بين العلاقات الدينية والعمل الزراعي، إذ يتألف الدير عادة من الأبنية الآتية: بناء مخصص للنشاطات الداخلية للرهبان وبناء آخر مخصص للاستقبال والنشاطات الخارجية، ويوجد برج للناسك الذي يتألف من طابق أو عدة طوابق كلها ذات مسقط أفقي مربع الشكل إضافة إلى وجود مقبرة جماعية.
كما اختار بعض الرهبان الاعتزال على العمود الأسطواني الشكل، وقد وضع في أعلاه مصطبة خشبية يمضي الراهب عليها عمره في الصلاة والوعظ وشفاء المرضى فكانت مهمة العامودي تجمع بين حياة الناسك المنعزل وبين حياة الوعظ والإرشاد، وأشهر العاموديين كان سمعان الكبير الذي عاش على العمود 37 عاماً، حيث تحوّل مكان عموده إلى مجمع ديني ضخم في العصر البيزنطي يحج إليه المسيحيون من المناطق المختلفة.
تعود معابد المنطقة إلى القرن الثاني الميلادي، وكانت تنتشر على قمة جبل شيخ البركات وجبل سرير وباقرحا وكالوطة، ولازالت آثار هذه المعابد موجودة حتى اليوم، بنيت المعابد خارج القرى على عكس المعابد في جنوبي سورية. حيث تحول بعضها إلى كنائس مثل كالوطة، أو أُهملت وتحولت إلى مقالع في العصر البيزنطي.
كما تميزت العمارة الجنائزية بأهمية كبيرة من ناحية المخططات أو الزخرفة، حيث نجد كثيراً من الأشكال المعمارية، مثل المدافن الهرمية «قرية البارة» أو على شكل معبد في «قرية الرويحة» أو محفورة في الصخر وهو ما نجده في «قرية القاطورة»، ولدينا قبة مثلثية على أربعة عواميد في «قرية براد»، كتبت على العديد منها أسماء أصحابها، كما أن هناك كثيراً من الأشكال المعمارية الأخرى من المدافن.
أما الحمامات العامة الموجودة في العديد من القرى فمعظمها في حالة معمارية جيدة، تم التنقيب في العديد منها، حيث وضّحت التنقيبات آلية عمل وتطور الحمامات في العصرين الروماني والبيزنطي، إذ تمثّل حمامات سرجيلا النموذج الأوضح للحمامات المحلية حيث تمّ اكتشاف لوحة فسيفساء كبيرة كُتب عليها باللغة اليونانية تاريخ بناء الحمام في سنة 473م. يتألف المبنى من قاعة كبيرة، يعلوها رواق، كانت تستخدم قاعة للملابس وصالة عامة لاجتماع أهل القرية فيها. وتوضح هذه القاعة أهمية الحمام، ليس كمكان للاستحمام فقط، بل أيضاً لاجتماع أهل القرية مما يعطي طابعاً اجتماعياً لهذا المبنى. أما القسم الثاني فهو مخصص للاستحمام ويتألف من مجموعة الغرف الساخنة ثم الفاترة والباردة.
وأخيراً تم دراسة وإحصاء بضع مئات من معاصر الزيت في الكتلة الكلسية وخاصة في القرى الشمالية منها، وهذا ما جعل العلماء والباحثين يعزون تطور قرى الكتلة الكلسية إلى زراعة الزيتون.
يُركز الباحثون على مرحلتين مهمتين من التطور الذي شهدته هذه القرى: تمتد الأولى منهما من القرن الأول حتى منتصف القرن الثالث الميلادي. في حين تمتد الثانية من القرن الرابع وحتى القرن السابع الميلادي، وفيها شهدت هذه القرى تزايداً كبيراً في عدد السكان وازدياد ثرواتهم في إطار توسعهم العمراني، حيث تكاملت المدن والأرياف في الثروة.
في منتصف القرن السادس الميلادي حدث تغير في الاكتفاء الاقتصادي نتيجة للتزايد السكاني الكبير وقلة الثروة مما أدى إلى مرحلة من الجمود الاقتصادي والفقر والأوبئة. كما أن الأحداث العسكرية التي عاشتها هذه المنطقة والمتمثلة بالغزوات الفارسية التي ضربت أنطاكية وأفاميا، والهزات الأرضية وغيرها، أثرت سلباً في الحياة في هذه القرى، وبذلك توقفت عملية الإعمار مع بقاء القرى مأهولة بكثافة، ومع مجيء الفتح الإسلامي لم يطرأ أي تغيير على الحياة الريفية لهؤلاء السكان الذين بدؤوا يهجرون قراهم في مطلع القرن الثامن الميلادي، حيث ظلت المنطقة تعاني الضعفَ، كما أدى تغير الاتجاهات في مراكز التجارة إلى زيادة هذا الضعف نتيجة قلة الطلب على المنتجات في هذه المناطق.
والجدير بالذكر أن هذه المنطقة تحوّلت إلى منطقة حدودية بين الدول العربية الإسلامية والامبراطورية البيزنطية، وقد استمر هذا الركود الاقتصادي حتى القرن العاشر، لذلك فإن هذه العوامل دفعت السكان إلى هجر قراهم، ولم تعد الحياة إلى هذه المنطقة فعلياً وجزئياً إلا في القرن التاسع عشر.
مأمون عبد الكريم