الهدر وثقافة ترشيد الاستهلاك
سوسن جميل حسن 28 أبريل 2023
هنا/الآن
828 مليون شخص يعانون من نقص التغذية المزمن (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يتضرّع المصلّون في المسيحيّة إلى ربّهم: "أبانا الذي في السماوات... أعطنا خبزنا كفاف يومنا... ولا تدخلنا في التجربة"، فهل هنالك ما يقلق النفس ويذهب بسكينتها أكثر من شبح الجوع، وأن يفتقر الإنسان إلى الرغيف، وأطفاله يجوعون أمام عينيه؟
وبمناسبة اليوم العالمي للقضاء على الهدر الذي صادف في الثلاثين من مارس/ آذار، نرى القضاء على الجوع، وتحقيق الأمن الغذائي، والتغذية المحسّنة، وتعزيز الزراعة المستدامة، هي أهداف تشهرها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة. إذ تشير إلى أن هنالك ما يكفي من الغذاء المنتج اليوم لإطعام كل واحد منا. ومع ذلك، لا يزال ما يصل إلى 828 مليون شخص يعانون من نقص التغذية المزمن، وسط علامات على تناقص الزخم نحو الوصول إلى القضاء على الجوع، فهل صحيح أن هنالك ما يكفي من الغذاء؟
في الواقع، يتسبب سوء التغذية في خسائر فادحة في جميع أنحاء الدول النامية والمتقدمة، ففي حين أن ظاهرة التقزم، وهي انخفاض الطول بالنسبة للعمر، تعود للارتفاع في العديد من المناطق الفقيرة والواقعة تحت الحروب أو الكوارث، فإن أكثر من ملياري بالغ ومراهق وطفل يعانون الآن من السمنة المفرطة، أو زيادة الوزن. والعواقب، في الحالتين، وخيمة على الصحة العامة، وعلى الثروة الوطنية، وعلى نوعية حياة الأفراد والمجتمعات.
وتتزامن هذه الظواهر المقلقة مع تناقص توافر الأراضي، وزيادة تدهور التربة والتنوع البيولوجي، وتبدّلات المناخ وأطوار الطقس الأكثر قسوة. ويؤدي تأثير تغير المناخ على الزراعة إلى تفاقم الوضع، والشواهد كثيرة، من تزايد الكوارث الطبيعية والتبدلات المناخية التي يقول أحد التقارير إن سورية من أكثر الدول المرشحة لكوارث ناجمة عن هذه التبدلات، فبالإضافة إلى الحرب المستمرة إلى اليوم، تشهد سورية باستمرار احتراق الغابات والأراضي المزروعة، وشح المياه، وبالتالي تراجع الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية إلى مستويات فادحة.
نقص التغذية يعني أن الشخص غير قادر على الحصول على ما يكفي من الغذاء لتلبية الحد الأدنى من متطلبات الطاقة الغذائية اليومية، على مدى عام واحد. وتعرّف منظمة الأغذية والزراعة الجوع بأنه مرادف لنقص التغذية المزمن. أمّا الرقم الإحصائي لمن يعانون من الجوع ونقص التغذية في العالم، فهو في ارتفاع مضطرد، خاصة منذ عام 2020، عام الوباء العالمي، وما خلّف من أضرار على مستوى الاقتصاد في العالم، إلى العام الحالي ومخرجات الحرب الروسية على أوكرانيا، المفتوحة على بؤر الجحيم التي تلتهم الشعوب بشتى الطرق، مع العلم بأن إحدى غايات المنظمة، كما جاء في أهداف التنمية المستدامة، هي القضاء على الجوع، وضمان حصول جميع الناس، ولا سيما الفقراء والأشخاص الذين يعيشون في أوضاع هشة، بمن فيهم الرضع، على غذاء مأمون ومغذٍّ وكافٍ على مدار السنة، بحلول عام 2030.
ولأجل تحقيق هذا الوضع، الذي ترنو المنظمة إليه، وهو في الواقع حق من حقوق الأفراد والمجتمعات، ولأجل التوعية أيضًا، وتكثيف الجهود، فقد رصدت المنظمة العالمية أيامًا عديدة للاحتفال بهذه الغايات، ولفت النظر إليها، إذ يصادف الثلاثين من مارس/ آذار اليوم العالمي للقضاء على الهدر، وهنالك يوم الغذاء العالمي، واليوم العالمي للتربة، واليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف، واليوم العالمي للبقول، واليوم العالمي لسمك التونة، ويوم فن الطبخ المستدام، واليوم الدولي للمرأة الريفية، واليوم الدولي للتوعية بالفاقد والـمُهدَر من الأغذية في التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول.
لكن الواقع، بكلّ معطياته، لا يدعو إلى التفاؤل، بل إن المشكلات في ازدياد، ومنها ما يمكن تصنيفه تحت مسمّى المعضلات، فالحروب، التي هي أكثر الأنشطة البشرية دوامًا وبقاءً، تجعل الأمن الغذائي في العالم في حالة تهديد مستمرّ، ودائمًا هنالك إعادة إنتاج لنظام عالمي جديد تتحوّل فيه مراكز القوى وتنزاح باتجاهات تفرضها نتائج الحروب، أمّا شعوب العالم النامي، أو العالم الفقير، فتبقى بيادق لهذه الحروب، وتبقى ترزح تحت التهديدات بشتى أنواعها.
لكن السؤال الواجب طرحه في خضمّ هذه الظروف المهدّدة لحياة الشعوب هو كيف يمكن مواجهة الفقر وسوء التغذية والجوع، في ظلّ ظروف تخلقها صراعات قوى كبرى وإقليمية؟ فهذه الشعوب لا تتمتع بحق تقرير مصيرها، وصنع سياساتها ومستقبلها، خاصّة في ظلّ أنظمة الاستبداد التي تحكمها، والتي يشكّل الفساد أكبر ركيزة تستند إليها. لقد تحكّمت هذه الأنظمة بالوعي العام طوال قرون، وليس عقود فقط، فالاستبداد والطغيان تحالف بين السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي، وغيرها من الأنظمة العامّة، من دون أن يكون في خططها، أو اهتماماتها، النهوض بالوعي العام، أو إتاحة حرية التفكير والفكر النقدي من أجل تغيير الثقافة الجمعية حول القضايا العامة، والشخصية أيضًا، وهذا انعكس على سلوك الأفراد، وعلى منظومة القيم، ومنها القيم الحياتية والأعراف والتقاليد والأخلاق.
الهدر يشكّل أحد أكبر الملامح لشعوب هذه الدول، الهدر على المستوى الحكومي والعام والشخصي، فقبل انتفاضة الشعب السوري، كان سلوك الناس الحياتي قائمًا على الفوضى، قلّة من كان لديهم الوعي حول سبل إدارة حياتهم والتخطيط للغد، وكانت هنالك وفرة في ما يتعلّق بأمر الغذاء والطعام. صحيح أن شريحة واسعة من المجتمع لم تكن قادرة على تحقيق الحد المطلوب من الراتب الغذائي، لكنها لم تكن تعيش الجوع الحقيقي، بل كان طعامها يقوم على أساس إمكاناتها، وهذه الإمكانات تجد طلباتها في الأسواق، من منتجات زراعية على الأقلّ، لكنّ عادات الفرد السوري في الغالب تقوم على الاقتناء بشكل غير مدروس، ربمّا سببه الخوف من الغد، خاصّة أن سنوات مجاعة قد مرّت عليه في مراحل سابقة، بالأخص أيام سفربرلك، وحروب عديدة كانت المواد الغذائية تندر فيها، أو يرتفع ثمنها، فيهرع الناس إلى تخزين ما يستطيعون منها. ولذلك كانت كمية الهدر كبيرة، ولم يكن هنالك ترشيد في الاستهلاك، ولم تكن الحكومات تعمل على هذا المفهوم وترسيخه كثقافة عامة، على المستوى الفردي والمجتمعي والحكومي. كانت البرادات تُحشى بما يزيد عن الحاجة، فيرمى قسم لا بأس به في الحاويات من دون أن يستخدم، خاصة بعد هيمنة قيم الاستهلاك على عادات المجتمع، ودخول أفراده في دوّامة التسويق والعروض والتسهيلات في الحصول على السلع، التي جرى تحويل اهتمام الأشخاص إليها، فصارت عدد من المواد التي يمكن الاستغناء عنها، والمصنفة كماليات، مطلبًا لدى كثيرين، وحلمًا لدى الغالبية.
في ألمانيا، على سبيل المثال، البلاد التي نهضت من حرب عالمية مدمّرة منهارة، على مستوى البنى كلّها، ووقعت فيها مجاعات قاتلة، كرّست فترة الحرب ثقافة تحارب الهدر، وتحترم الجهد البشري، يمكن ملاحظتها على سلوك الأفراد قبل الأداء الحكومي الذي يدعم هذا التوجه، فمن الملاحظات على سبيل المثال، لفتني سلوك فردي شائع لدى الألمان، أنهم لا يملؤون صحونهم بأكثر من حاجتهم، وعند الانتهاء يقوم الفرد بمسح الصحن بقطعة خبز صغيرة جدًّا. لا يشتري الألماني من المتاجر أكثر من حاجته. رأيت مرّات كثيرة من يشتري قطعة فاكهة واحدة. وفي إحدى المرات رأيت صبية اشترت جزرة واحدة. وفي المطاعم، التي تقدّم مائدة مفتوحة، أو ما يُدعى "بوفيه مفتوح"، هنالك نموذجان، الأوّل يستخدم حجمين من الأطباق، لكل طبق سعره، ما يعني كميّة مدروسة من حيث الاستيعاب، وهناك مطاعم أخرى تضع صحونًا بحجم واحد، لكل شخص حرّية أن يملأها بما يشاء من الأصناف الكثيرة المعروضة، لكن عند الصندوق سوف يضع طبقه على الميزان ويدفع، بهذه الطريقة يُجبر الشخص على الاكتفاء بما يحتاج إليه بدقة، من دون أن يرمى الفائض في سلة الفضلات.
ترشيد الاستهلاك، أو الاقتصاد في الإنفاق، يبدو مثل أحد ملامح الهوية الألمانية، الفردية والجمعية، ويدفع الناس في ألمانيا، حسب الإحصائيات، ثلث ما يكسبونه من المال لتغطية إيجارات المنازل، فيما لا يدفعون سوى ثُمن ما يكسبونه لشراء الطعام والشراب والدخان.
يقدر عدد النباتيين في ألمانيا بنحو 10%، وأغلب النباتيين يمتنعون عن تناول اللحوم بسبب رفضهم العنف تجاه الحيوانات، والحرص على البيئة، كون الاقتصاد المعتمد على إنتاج اللحوم يسبب مشاكل للبيئة والطبيعة. إذًا، هنالك ثقافة عامة صاغتها التجارب والتحولات الكبرى التي وقعت على الشعب الألماني، فاستفاد من تجاربه وعرف كيف يُخضع ماضيه للبحث وتحرّي الأخطاء من أجل بناء ثقافة نصيرة للحياة ومواكبة للتقدّم، فأصبحت ثقافته تحتضن قيم الادخار والعمل الجاد والاجتهاد، وترشيد الاستهلاك ومحاربة الهدر.
بالنسبة لثقافة الشعب السوري، إذا استثنينا سنوات الحرب، فلهذه حكاية أخرى جديرة بالدرس، فيمكن القول إنه دائمًا ما كانت هنالك ازدواجية في المعايير، مثل أشياء كثيرة، أهمّها ازدواجية المعايير في الشعارات التي تعلنها الحكومات والأنظمة، خاصة في مرحلة حكم البعث، بين النظرية والتطبيق على مستوى الأداء، ففي الثقافة العامة هنالك كثير من الثوابت التي يجاهر بها الناس كمنظومة قيميّة لهم أن يتباهوا بها ويتفاخروا، وأن يشهروها كثوابت للقيم التي تفرضها النصوص المقدّسة والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة، كذلك ما اكتنز به ديوان العرب والمرويات التراثية والحكايات الشعبية، ففي النصّ القرآني هنالك آيات تنبذ الإسراف وتجعله من الكبائر، أو قرينًا للكفر والجحود، "ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين"... الأنعام 141، الأعراف 31.
"إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا"، الإسراء 26. وفي هذا القول ما يعني الجحود والكفر في نعم الله ومعصيته. وفي الحديث الشريف: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف، أو مخيلة"، كذلك قال الخليفة عمر بن الخطّاب: "كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى".
أمّا بالنسبة للقيم المتوارثة التي تحفظها كتب التراث والمرويات الشعبية فيكفي تذكّر قصة حاتم الطائي وناقته، حتى أصبح يُضرب المثل به كرمز للكرم، والتي تستحق الدرس حول مفهوم الكرم.
عند الوقوف على هذه الثقافة والقيم التي تنادي بها، لا بدّ من السؤال عن سلوك الناس في تدبّر الحياة، والذي أكثر ما يظهر هذا السلوك المتأصّل في مجتمعاتنا، وبشكل مبالغ به من حيث الإسراف والهدر في شهر رمضان، حتى في واقع القلّة، بل والندرة، في كلّ شيء، إذ تبقى الأمور نسبية هنا، فحتى الواقعون تحت رحمة خط الفقر، ينزلقون إلى هذا السلوك برغم ضيق ذات اليد، لكن يظهر كسلوك عام وفق الإمكانات المتاحة.
إغراء الإعلانات والدعاية الإعلامية، التبعية والتقليد، عوامل كثيرة تلعب دورها في تشكيل ما يمكن تسميته بالاستهلاك التفاخري، وهو شائع في المجتمعات العربية عامّة، كذلك الأمر في سورية، وهي ثقافة عامّة لم تقضِ عليها الحرب الجبّارة، فما زلنا نرى على صفحات التواصل الاجتماعي حضورها الطاغي. والواقع أن الانهيار الاقتصادي وتداعي الحياة قسّم المجتمع إلى شريحتين، شريحة من أغنياء الحرب بشكل أساسي، والغالبية الساحقة هي شريحة الفقراء، بعد فقدان الطبقة الوسطى. لكن التبذير والاستهلاك التفاخري ما زال رائجًا، مثلما ما زال طموحًا وحلمًا لدى كثيرين، وسببًا في تفاقم عدد من الاضطرابات النفسية، وحالات الاكتئاب.
الماء ينضب بسبب التحولات المناخية، والخبز ينضب بسبب الأزمات والحروب، فكيف بسورية التي تجتمع فيها كل الأسباب؟ لا ينضب الماء بسبب المناخ فقط، بل هنالك عوامل يمكن تصنيفها تحت مسمى أدوات الحرب، وحرب المياه غير معلنة، لكنها تندلع في أكثر من منطقة في العالم، وقدر سورية أن الأنهار الأساسية لديها تأتي من الأراضي التركية، أمّا الخبز، كرمز للطعام والغذاء، فإن الحرب في سورية أتت على معظم موارد البلاد، ولا يخفى على أحد ما فعل التدخل الخارجي بالاقتصاد والإنتاج، تغيير العادات الاستهلاكية للشعوب ليس بالأمر الهيّن، حيث يحتاج ذلك إلى تعاون المنظمات المدنية وتضافر جهودها والاتفاق على أهداف واحدة، من أجل اكتساب ثقافة استهلاكية جديدة تقوم على ترشيد وحوكمة ما تحتاجه، ليس فقط موائد الأسر، بل كل مناحي الحياة في عصرنا الحالي، أسوة بالشعوب التي استفادت من تجاربها ومحنها التاريخية، كالشعب الألماني.
لا يمكن الركون إلى اللامبالاة بهذه الأمور المهمة جدًّا، ولا يمكن ترك السؤال المريع، بالرجوع إلى ما أوصلت الحرب السورية المجتمعات إليه، سؤال: الحرية والخبز، من دون إجابات. لا بدّ من ثقافة بديلة بعد كل هذا الخراب.
سوسن جميل حسن 28 أبريل 2023
هنا/الآن
828 مليون شخص يعانون من نقص التغذية المزمن (Getty)
شارك هذا المقال
حجم الخط
يتضرّع المصلّون في المسيحيّة إلى ربّهم: "أبانا الذي في السماوات... أعطنا خبزنا كفاف يومنا... ولا تدخلنا في التجربة"، فهل هنالك ما يقلق النفس ويذهب بسكينتها أكثر من شبح الجوع، وأن يفتقر الإنسان إلى الرغيف، وأطفاله يجوعون أمام عينيه؟
وبمناسبة اليوم العالمي للقضاء على الهدر الذي صادف في الثلاثين من مارس/ آذار، نرى القضاء على الجوع، وتحقيق الأمن الغذائي، والتغذية المحسّنة، وتعزيز الزراعة المستدامة، هي أهداف تشهرها منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة. إذ تشير إلى أن هنالك ما يكفي من الغذاء المنتج اليوم لإطعام كل واحد منا. ومع ذلك، لا يزال ما يصل إلى 828 مليون شخص يعانون من نقص التغذية المزمن، وسط علامات على تناقص الزخم نحو الوصول إلى القضاء على الجوع، فهل صحيح أن هنالك ما يكفي من الغذاء؟
في الواقع، يتسبب سوء التغذية في خسائر فادحة في جميع أنحاء الدول النامية والمتقدمة، ففي حين أن ظاهرة التقزم، وهي انخفاض الطول بالنسبة للعمر، تعود للارتفاع في العديد من المناطق الفقيرة والواقعة تحت الحروب أو الكوارث، فإن أكثر من ملياري بالغ ومراهق وطفل يعانون الآن من السمنة المفرطة، أو زيادة الوزن. والعواقب، في الحالتين، وخيمة على الصحة العامة، وعلى الثروة الوطنية، وعلى نوعية حياة الأفراد والمجتمعات.
وتتزامن هذه الظواهر المقلقة مع تناقص توافر الأراضي، وزيادة تدهور التربة والتنوع البيولوجي، وتبدّلات المناخ وأطوار الطقس الأكثر قسوة. ويؤدي تأثير تغير المناخ على الزراعة إلى تفاقم الوضع، والشواهد كثيرة، من تزايد الكوارث الطبيعية والتبدلات المناخية التي يقول أحد التقارير إن سورية من أكثر الدول المرشحة لكوارث ناجمة عن هذه التبدلات، فبالإضافة إلى الحرب المستمرة إلى اليوم، تشهد سورية باستمرار احتراق الغابات والأراضي المزروعة، وشح المياه، وبالتالي تراجع الإنتاج الزراعي والثروة الحيوانية إلى مستويات فادحة.
نقص التغذية يعني أن الشخص غير قادر على الحصول على ما يكفي من الغذاء لتلبية الحد الأدنى من متطلبات الطاقة الغذائية اليومية، على مدى عام واحد. وتعرّف منظمة الأغذية والزراعة الجوع بأنه مرادف لنقص التغذية المزمن. أمّا الرقم الإحصائي لمن يعانون من الجوع ونقص التغذية في العالم، فهو في ارتفاع مضطرد، خاصة منذ عام 2020، عام الوباء العالمي، وما خلّف من أضرار على مستوى الاقتصاد في العالم، إلى العام الحالي ومخرجات الحرب الروسية على أوكرانيا، المفتوحة على بؤر الجحيم التي تلتهم الشعوب بشتى الطرق، مع العلم بأن إحدى غايات المنظمة، كما جاء في أهداف التنمية المستدامة، هي القضاء على الجوع، وضمان حصول جميع الناس، ولا سيما الفقراء والأشخاص الذين يعيشون في أوضاع هشة، بمن فيهم الرضع، على غذاء مأمون ومغذٍّ وكافٍ على مدار السنة، بحلول عام 2030.
ولأجل تحقيق هذا الوضع، الذي ترنو المنظمة إليه، وهو في الواقع حق من حقوق الأفراد والمجتمعات، ولأجل التوعية أيضًا، وتكثيف الجهود، فقد رصدت المنظمة العالمية أيامًا عديدة للاحتفال بهذه الغايات، ولفت النظر إليها، إذ يصادف الثلاثين من مارس/ آذار اليوم العالمي للقضاء على الهدر، وهنالك يوم الغذاء العالمي، واليوم العالمي للتربة، واليوم العالمي لمكافحة التصحر والجفاف، واليوم العالمي للبقول، واليوم العالمي لسمك التونة، ويوم فن الطبخ المستدام، واليوم الدولي للمرأة الريفية، واليوم الدولي للتوعية بالفاقد والـمُهدَر من الأغذية في التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول.
لكن الواقع، بكلّ معطياته، لا يدعو إلى التفاؤل، بل إن المشكلات في ازدياد، ومنها ما يمكن تصنيفه تحت مسمّى المعضلات، فالحروب، التي هي أكثر الأنشطة البشرية دوامًا وبقاءً، تجعل الأمن الغذائي في العالم في حالة تهديد مستمرّ، ودائمًا هنالك إعادة إنتاج لنظام عالمي جديد تتحوّل فيه مراكز القوى وتنزاح باتجاهات تفرضها نتائج الحروب، أمّا شعوب العالم النامي، أو العالم الفقير، فتبقى بيادق لهذه الحروب، وتبقى ترزح تحت التهديدات بشتى أنواعها.
لكن السؤال الواجب طرحه في خضمّ هذه الظروف المهدّدة لحياة الشعوب هو كيف يمكن مواجهة الفقر وسوء التغذية والجوع، في ظلّ ظروف تخلقها صراعات قوى كبرى وإقليمية؟ فهذه الشعوب لا تتمتع بحق تقرير مصيرها، وصنع سياساتها ومستقبلها، خاصّة في ظلّ أنظمة الاستبداد التي تحكمها، والتي يشكّل الفساد أكبر ركيزة تستند إليها. لقد تحكّمت هذه الأنظمة بالوعي العام طوال قرون، وليس عقود فقط، فالاستبداد والطغيان تحالف بين السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي، وغيرها من الأنظمة العامّة، من دون أن يكون في خططها، أو اهتماماتها، النهوض بالوعي العام، أو إتاحة حرية التفكير والفكر النقدي من أجل تغيير الثقافة الجمعية حول القضايا العامة، والشخصية أيضًا، وهذا انعكس على سلوك الأفراد، وعلى منظومة القيم، ومنها القيم الحياتية والأعراف والتقاليد والأخلاق.
"كرّست فترة الحرب في ألمانيا ثقافة تحارب الهدر، وتحترم الجهد البشري، يمكن ملاحظتها على سلوك الأفراد قبل الأداء الحكومي" |
الهدر يشكّل أحد أكبر الملامح لشعوب هذه الدول، الهدر على المستوى الحكومي والعام والشخصي، فقبل انتفاضة الشعب السوري، كان سلوك الناس الحياتي قائمًا على الفوضى، قلّة من كان لديهم الوعي حول سبل إدارة حياتهم والتخطيط للغد، وكانت هنالك وفرة في ما يتعلّق بأمر الغذاء والطعام. صحيح أن شريحة واسعة من المجتمع لم تكن قادرة على تحقيق الحد المطلوب من الراتب الغذائي، لكنها لم تكن تعيش الجوع الحقيقي، بل كان طعامها يقوم على أساس إمكاناتها، وهذه الإمكانات تجد طلباتها في الأسواق، من منتجات زراعية على الأقلّ، لكنّ عادات الفرد السوري في الغالب تقوم على الاقتناء بشكل غير مدروس، ربمّا سببه الخوف من الغد، خاصّة أن سنوات مجاعة قد مرّت عليه في مراحل سابقة، بالأخص أيام سفربرلك، وحروب عديدة كانت المواد الغذائية تندر فيها، أو يرتفع ثمنها، فيهرع الناس إلى تخزين ما يستطيعون منها. ولذلك كانت كمية الهدر كبيرة، ولم يكن هنالك ترشيد في الاستهلاك، ولم تكن الحكومات تعمل على هذا المفهوم وترسيخه كثقافة عامة، على المستوى الفردي والمجتمعي والحكومي. كانت البرادات تُحشى بما يزيد عن الحاجة، فيرمى قسم لا بأس به في الحاويات من دون أن يستخدم، خاصة بعد هيمنة قيم الاستهلاك على عادات المجتمع، ودخول أفراده في دوّامة التسويق والعروض والتسهيلات في الحصول على السلع، التي جرى تحويل اهتمام الأشخاص إليها، فصارت عدد من المواد التي يمكن الاستغناء عنها، والمصنفة كماليات، مطلبًا لدى كثيرين، وحلمًا لدى الغالبية.
في ألمانيا، على سبيل المثال، البلاد التي نهضت من حرب عالمية مدمّرة منهارة، على مستوى البنى كلّها، ووقعت فيها مجاعات قاتلة، كرّست فترة الحرب ثقافة تحارب الهدر، وتحترم الجهد البشري، يمكن ملاحظتها على سلوك الأفراد قبل الأداء الحكومي الذي يدعم هذا التوجه، فمن الملاحظات على سبيل المثال، لفتني سلوك فردي شائع لدى الألمان، أنهم لا يملؤون صحونهم بأكثر من حاجتهم، وعند الانتهاء يقوم الفرد بمسح الصحن بقطعة خبز صغيرة جدًّا. لا يشتري الألماني من المتاجر أكثر من حاجته. رأيت مرّات كثيرة من يشتري قطعة فاكهة واحدة. وفي إحدى المرات رأيت صبية اشترت جزرة واحدة. وفي المطاعم، التي تقدّم مائدة مفتوحة، أو ما يُدعى "بوفيه مفتوح"، هنالك نموذجان، الأوّل يستخدم حجمين من الأطباق، لكل طبق سعره، ما يعني كميّة مدروسة من حيث الاستيعاب، وهناك مطاعم أخرى تضع صحونًا بحجم واحد، لكل شخص حرّية أن يملأها بما يشاء من الأصناف الكثيرة المعروضة، لكن عند الصندوق سوف يضع طبقه على الميزان ويدفع، بهذه الطريقة يُجبر الشخص على الاكتفاء بما يحتاج إليه بدقة، من دون أن يرمى الفائض في سلة الفضلات.
"قبل انتفاضة الشعب السوري، كان سلوك الناس الحياتي قائمًا على الفوضى، قلّة من كان لديهم الوعي حول سبل إدارة حياتهم والتخطيط للغد" |
ترشيد الاستهلاك، أو الاقتصاد في الإنفاق، يبدو مثل أحد ملامح الهوية الألمانية، الفردية والجمعية، ويدفع الناس في ألمانيا، حسب الإحصائيات، ثلث ما يكسبونه من المال لتغطية إيجارات المنازل، فيما لا يدفعون سوى ثُمن ما يكسبونه لشراء الطعام والشراب والدخان.
يقدر عدد النباتيين في ألمانيا بنحو 10%، وأغلب النباتيين يمتنعون عن تناول اللحوم بسبب رفضهم العنف تجاه الحيوانات، والحرص على البيئة، كون الاقتصاد المعتمد على إنتاج اللحوم يسبب مشاكل للبيئة والطبيعة. إذًا، هنالك ثقافة عامة صاغتها التجارب والتحولات الكبرى التي وقعت على الشعب الألماني، فاستفاد من تجاربه وعرف كيف يُخضع ماضيه للبحث وتحرّي الأخطاء من أجل بناء ثقافة نصيرة للحياة ومواكبة للتقدّم، فأصبحت ثقافته تحتضن قيم الادخار والعمل الجاد والاجتهاد، وترشيد الاستهلاك ومحاربة الهدر.
بالنسبة لثقافة الشعب السوري، إذا استثنينا سنوات الحرب، فلهذه حكاية أخرى جديرة بالدرس، فيمكن القول إنه دائمًا ما كانت هنالك ازدواجية في المعايير، مثل أشياء كثيرة، أهمّها ازدواجية المعايير في الشعارات التي تعلنها الحكومات والأنظمة، خاصة في مرحلة حكم البعث، بين النظرية والتطبيق على مستوى الأداء، ففي الثقافة العامة هنالك كثير من الثوابت التي يجاهر بها الناس كمنظومة قيميّة لهم أن يتباهوا بها ويتفاخروا، وأن يشهروها كثوابت للقيم التي تفرضها النصوص المقدّسة والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة، كذلك ما اكتنز به ديوان العرب والمرويات التراثية والحكايات الشعبية، ففي النصّ القرآني هنالك آيات تنبذ الإسراف وتجعله من الكبائر، أو قرينًا للكفر والجحود، "ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين"... الأنعام 141، الأعراف 31.
"إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا"، الإسراء 26. وفي هذا القول ما يعني الجحود والكفر في نعم الله ومعصيته. وفي الحديث الشريف: "كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف، أو مخيلة"، كذلك قال الخليفة عمر بن الخطّاب: "كفى بالمرء سرفًا أن يأكل كل ما اشتهى".
أمّا بالنسبة للقيم المتوارثة التي تحفظها كتب التراث والمرويات الشعبية فيكفي تذكّر قصة حاتم الطائي وناقته، حتى أصبح يُضرب المثل به كرمز للكرم، والتي تستحق الدرس حول مفهوم الكرم.
عند الوقوف على هذه الثقافة والقيم التي تنادي بها، لا بدّ من السؤال عن سلوك الناس في تدبّر الحياة، والذي أكثر ما يظهر هذا السلوك المتأصّل في مجتمعاتنا، وبشكل مبالغ به من حيث الإسراف والهدر في شهر رمضان، حتى في واقع القلّة، بل والندرة، في كلّ شيء، إذ تبقى الأمور نسبية هنا، فحتى الواقعون تحت رحمة خط الفقر، ينزلقون إلى هذا السلوك برغم ضيق ذات اليد، لكن يظهر كسلوك عام وفق الإمكانات المتاحة.
إغراء الإعلانات والدعاية الإعلامية، التبعية والتقليد، عوامل كثيرة تلعب دورها في تشكيل ما يمكن تسميته بالاستهلاك التفاخري، وهو شائع في المجتمعات العربية عامّة، كذلك الأمر في سورية، وهي ثقافة عامّة لم تقضِ عليها الحرب الجبّارة، فما زلنا نرى على صفحات التواصل الاجتماعي حضورها الطاغي. والواقع أن الانهيار الاقتصادي وتداعي الحياة قسّم المجتمع إلى شريحتين، شريحة من أغنياء الحرب بشكل أساسي، والغالبية الساحقة هي شريحة الفقراء، بعد فقدان الطبقة الوسطى. لكن التبذير والاستهلاك التفاخري ما زال رائجًا، مثلما ما زال طموحًا وحلمًا لدى كثيرين، وسببًا في تفاقم عدد من الاضطرابات النفسية، وحالات الاكتئاب.
الماء ينضب بسبب التحولات المناخية، والخبز ينضب بسبب الأزمات والحروب، فكيف بسورية التي تجتمع فيها كل الأسباب؟ لا ينضب الماء بسبب المناخ فقط، بل هنالك عوامل يمكن تصنيفها تحت مسمى أدوات الحرب، وحرب المياه غير معلنة، لكنها تندلع في أكثر من منطقة في العالم، وقدر سورية أن الأنهار الأساسية لديها تأتي من الأراضي التركية، أمّا الخبز، كرمز للطعام والغذاء، فإن الحرب في سورية أتت على معظم موارد البلاد، ولا يخفى على أحد ما فعل التدخل الخارجي بالاقتصاد والإنتاج، تغيير العادات الاستهلاكية للشعوب ليس بالأمر الهيّن، حيث يحتاج ذلك إلى تعاون المنظمات المدنية وتضافر جهودها والاتفاق على أهداف واحدة، من أجل اكتساب ثقافة استهلاكية جديدة تقوم على ترشيد وحوكمة ما تحتاجه، ليس فقط موائد الأسر، بل كل مناحي الحياة في عصرنا الحالي، أسوة بالشعوب التي استفادت من تجاربها ومحنها التاريخية، كالشعب الألماني.
لا يمكن الركون إلى اللامبالاة بهذه الأمور المهمة جدًّا، ولا يمكن ترك السؤال المريع، بالرجوع إلى ما أوصلت الحرب السورية المجتمعات إليه، سؤال: الحرية والخبز، من دون إجابات. لا بدّ من ثقافة بديلة بعد كل هذا الخراب.