عمارة المستقبل: البيتُ شجرةٌ والمدينةُ غابَة
محمد جميل خضر 13 مايو 2023
عمارة
عمارة المستقبل ذكية وصديقة للبيئة
شارك هذا المقال
حجم الخط
على اختلاف ما تجود به أفكارهم ورؤاهم حول عمارة المستقبل، بين الصعود إلى القمر، أو العودة إلى الغابة، إلا أن المهندسين المعماريين والمخططين الحضريين، يقرّون جميعهم بِما ينتظرنا من أهوالٍ إنْ بقينا نحْتكم إلى مفاهيمنا القائمة حول البناء وتعريف المدن، ويؤكدون، على تباينِ وِجهاتهم، أن التلوّث المُناخيّ، والاحتباس الحراريّ، ونضوب المواد الخام اللازمة للبناء، تشكّل، وغيرها، التحديات الأهم في سياق ما يجري تداوله من نظرياتٍ حوْل العمارة المستقبليّة.
وهم يبحثون، أساسًا، عن إجابات لِأسئلة من مِثل: كيف يمكن أن نعيش معًا في المستقبل؟ وأن نواجه معضلةً من شاكلةِ أن سكّان الأرض يزدادون 80 مليون نسمة سنويًا؟ ما هو دورنا الأخلاقيّ عندما يَتناهى إلى أسماعِنا أن عشوائيات ريودي جانيرو، وبومباي، ونيودلهي، وناميبيا، وغيرها، التي يستوطنها قرابة مليار إنسان بشكل غير رسميّ، قد يتضاعف عدد القابعين داخل تفاصيل بؤسها ثلاث مرّات بِحلول العام 2050؟ إلى متى سنظل مصرّين على الخرسانة كمكوّن رئيسيّ من مكوّنات البناء؟ وما هي خطوتنا المُقبلة؟
مستقبلٌ بِلا مبانٍ
هل يمكننا تخيّل مستقبلِنا بِلا مبانٍ؟ فها هي أوروبا ترفع، بالنسبة لِعمارة المستقبل، شعارًا غريبًا، وقد يكون متطرّفًا: "من لا يبني يساهم بتحقيق أهداف التنمية المستدامة حول المُناخ"، وإمعانًا من القارّة العجوز بتبنّي هذه الرؤية الزاهدة، حدّد الاتحاد الأوروبي لنفسه سقفًا، فهو يريد أن يكون محايدًا مناخيًا مع حلول العام 2050. أما ألمانيا الساعية لأن تكون دومًا في مقدمة الرّكب، فتريد تحقيق ذلك قبل حلول العام 2045. أوروبا، وحتمًا، ألمانيا، يدركان أن هذا الأمر يتطلّب تضحيات كثيرة، ويعمل على فرضِ تواضعٍ عند الحديث عن الكيفية التي نريد لِأبنيتنا المستقبلية أن تكون عليها، فتلك أبنية لن تكون، قطعًا، قصورًا خرسانيةً فارهةً فوق أعالي الجبال، ولا بيوتًا من زجاج القصص الخيالية، وكلّ ما يطمح مِعماريو الأمر الواقع إليه: مكانًا مناسبًا للعيش، ومستقبلًا بِلا انبعاثات.
بغض النظر إن كانت أوروبا برفعها سقف المأمول من خطط المواجهة، تقصد العنوان حرفيًا، أو تقصد البحث عن أبنيةٍ بديلة، أو آليات بناء بديلة، فإن كثيرًا من الأفكار الريادية حول مباني المستقبل، بدأت تعلن عن نفسها، وبعضها أَسس لهذه الأفكار معاهد ومؤسسات، وحتى شركات ربحية، من باب التفاؤل، على ما يبدو، من حتمية تبنّي العالم لهذه الأفكار والنظريات خلال الثلاثين عامًا المقبلة، علمًا أن بعض هذه الأفكار بدأ العمل على تطبيقها فعلًا.
العودة إلى الغابة
من العلامات الساطعة على صعيد البدائل الخضراء في مدن المستقبل، ما حقّقه المعماريّ الإسبانيّ الكتالونيّ فينشينته غوايار، الذي حوّل برشلونة إلى نموذج للتنمية الحضرية الناجحة في أوروبا. غوايار في مداخلة له ضمن فيلم وثائقيٍّ حول "مدن المستقبل" عرضته قناة (DW) الألمانية، يرى أن التحدي المستقبليّ الأكبر هو في "كيفية ربط المدن الجديدة بالطبيعة لتصبح جزءًا منها، وفي كيف يمكن أن تتبع المدن مبادئ النظام الطبيعيّ لتعزيز الحياة".
غوايار لم يكتفِ بالتنظير فقط لأفكاره الريادية حول هذا الموضوع، بل نزل إلى قلب برشلونة، وشاهد كثيرًا من ضياع الهوية، وغياب المساحات الخضراء في الأبنية التي شيّدت إبّان إقامة الألعاب الأولمبية في مدينتهم عام 1992. وعلى مسافة قريبة من كل ذلك، لاحظ غوايار البرج الذي شيّده المعماريّ الفرنسيّ جون نوفيل بوصفه أحد معالم العصر الحديث، تحيطه ثلاثة شوارع مزدحمة بلا أيّ مساحة خضرية (يعني بلا أي رئة يتنفّسها البرج، أو يتنفّسها الناس حوله)، فما كان من غوايار إلا أن أحيا المكان ودلالاته وقيمته من خلال مسطحات خضراء ومتنزّهٍ علويٍّ صمّمه بنفسِهِ فَأخفى عبْرَه الشوارع المزدحمة وجمّل المكان، وفتح أفقًا جديدًا لِمفهوم العمارة المستقبلية: "إذا رغبت بإعادة التهيئة الحضرية، فعليك أن تبدأ من المركز، لأن الناس عندها سيقولون إن كنت فعلت ذلك هنا، فبالإمكان فعله في أيّ مكان آخر، وَبإمكاننا هدْم الشوارع السريعة واسْتبدالها بمسطحاتٍ خضراء".
تصاميم غوايار لِمستقبل العمارة تعتمد بشكلٍ رئيسيٍ على الخشب، وقد أنجز في هذا الإطار أكبر مبنى سكنيٍّ في إسبانيا مشيّدًا من الخشب.
يرى المعماريون والمخططون الحضريون المنشغلون بِمستقبل العمارة وَعمارة المستقبل، أن المدن الحيويّة التي نسعى لجعلها حقيقة، لا بد أن تعتمد على الاكتفاء الذاتي، وعلى النظم الدائرية (التدويريّة) في التفكير، بوصف هذيْن المعياريْن مِن أُسس عمارة المستقبل.
يقول غوايار "إنه درسٌ مستمدٌ من الطبيعة، وعندما ننظر إلى غابة ما، فنحن لا ننظر إلى الماضي، بل نتطلّع إلى المستقبل، فالغابة لها قدرة على إعادة إنتاج نفسها، وعندما نهجر مدينة ما، تتحوّل، تلقائيًا، إلى غابة. وفي حين تمتص الغابة ثاني أكسيد الكربون، فإن مدننا تقوم بإصداره، كما أن الغابة تستخدم الموارد الطبيعية كالطاقة الشمسية، وعليه فنحن نحتاج أن نبني مَبانينا مثل الأشجار، وَمدننا مثل الغابات. يجب أن تكون المباني جزءًا من التاريخ الطبيعي، وإلا فسوف نُدمِّر كل شيء حولنا، وهذا يعني أن علينا جعل بيئتنا المعيشية تقلّد الطبيعة وتتّبع قواعدها".
في سياق تكريس مبدأ الاكتفاء الذاتيّ، يدعو المخططون المشغولون بِعمارة المستقبل، إلى ضرورة جلب الصناعة والزراعة البيئية إلى مدن المستقبل، وبالتالي، إنتاج كل شيء، تقريبًا، محليًّا. هم يسعون من خلال ذلك إلى التقليل من استهلاك الطاقة الناجمة عن استيراد غير المتوفّر من هذه الصناعات والزراعات في مدينة ما، خلال شحنها ونقلها، وما يشكّله كل ذلك من حملٍ ثقيل على البيئة والمناخ والمواد الخام، إذ لا بد من أجل وصول هذه المنتجات الزراعية والصناعية من مدّ شوارع، وتحريكِ شاحنات، وبناء مستودعات، ودورة كاملة تعمل جميعها ضد فرص الاستدامة.
نخلص مما تقدم إلى أن عمارة المستقبل تحتاج إلى تفكيك سلاسل التوريد العالمية، مؤمّنةً ما تحتاجه من محيطها المباشر حولها.
إعادة التدوير
المهندس المعماريّ الألمانيّ آرنو براندلهوبر فتح عبر تصميمه الذي يحمل اسم "أنتي فيلّا"، أفقًا آخر من آفاق عمارة المستقبل، فالتحفة الفنية الرائعة التي أنجزها وجعلها بيته، مزيّنةً بتماثيل إعادة التدوير، مشعّةً بالنوافذ المعادة صياغتها بأناقة، محافظةً على عراقتها القديمة، تعد نموذجًا فذًّا للبناء المستدام، حيث يَستغلُّ البناء بعد تدويره كل جزء من الحرارة المهدورة، ويستفيد من مختلف الخردة التي كانت الفيلا تختنق بها، بما في ذلك حبال صيد، و(كرفان) قديم، وأسطوانات حديد، وألواح خشب. براندلهوبر مدّ في سقف البناء المجدَّد درب ستائرٍ يُستخدم شتاء لتصغير المساحة التي تحتاج إلى تدفئة، ستائر تصغّر البناء شتاء، ثم تعيده لِفضائه الواسع صيفًا.
جمالُ التّماسُك
براندلهوبر يرى في حديث لِلقناة الألمانية (DW) أن الجمال، على أهميته، لا ينبغي أن يكون المحدد الوحيد في عمارة المستقبل، فمن الضروري، بحسبِه، أن نتعامل مع مباني المستقبل بشكلٍ أكثر مرونة، وأن نكوّن تصورًا عمليًا لِما يمكن أن يصبح عليه مبنى ما، وكلما كان هذا التصوّر متناسقًا، كلما حمل بين جدرانه قيم جمالٍ متعلّقة بهذا التناسق، وهذا التصوّر المبتكَر. ويختم قائلًا: "كل ما هو متماسكٌ قادرٌ على تطوير جماله الخاص، قد لا يكون الجمال الذي كنت تتصوّره في ذهنك مسبقًا، ولكنه جمال أحلامنا المقبلة وَعمارتنا المستقبلية".
رفٌّ حضريّ
مشغولًا بما انشغل به زملاؤه المعماريون والمخططون الحضريون، تفتّق ذهن المهندس المعماري الألماني الشاب ماكس شفيتالا عن فكرةٍ قد تكون غريبة للوهلة الأولى، ولكنه يدافع عنها بحماسة ويوضح فوائدها نحو مدنٍ مستقبليةٍ خاليةٍ من التحجّر، والعُزلة، والثِّقل، وَالمصاعد الكهربائية، وَالازدحام؛ إنها فكرة الرُّفوف الحضرية حيث حلول التنقّل الدقيقة المتّسمة بِالمرونة والانْسيابية.
إن الرفَّ الحضريّ كما يراه شفيتالا، وَبما تحتوي عليه الفكرة من فنٍّ وتنوّع بصريٍّ، وَبما قد تتضمّنه من حدائق فوق السّطوح، يمكن أن يتجلّى بوصفه أفقًا نحو عمارة مستقبلية صديقة للناس قبل أن تكون صديقة للبيئة، وَأن تقلّل من الحركة العمودية لصالح التدرّج المُحاط بالخُضرة والنّضارة. تدرّجٌ شبيهٌ بِالصورة المتخيّلة لِمدينة بابل.
وحتى لا يبقى الكلام عن الرفِّ الحضريّ مجرّد تجديفٍ في بحورِ الخيال، أقام شفيتالا وفريقه نموذجَ رفٍّ حضريٍّ في مدينة توبينغن جنوب ألمانيا، ليحقق المشروع نجاحًا سريعًا، يتسابق على الإقامة فيه الطلبة واللاجئون السوريون، وغيرهم، جنبًا إلى جنبٍ. ففي تفاصيل الفكرة، وبُعدها الفلسفيّ، يكْمن قدرٌ من خلقِ مساحةٍ للأُلفة بين سكّان المكان، وتذويب الفروق الطبقية.
تحطيم الأسوار
ممّا تضعه عمارة المستقبل على عاتِقها تحطيمَ الأسوار القائمة حتى يومنا هذا بين أجزاء المدينة الواحدة؛ بين المركز المتخم بناطحات السحاب التي استسهل تجّار الأرض وأصحاب القرار في حكومات العالم بناءها، وتسابقوا عليها بسبب ما ارتبط بازدياد عددها في قلب عاصمة ما من ازدهار هذه العاصمة وحداثتها ورقيّها، وبين الأطراف التي ركض الفقراء نحوها لِعدم قدرتهم على مجاراة الأغنياء في المراكز فاحشةِ الكُلفة، متجهّمة الملامح، قاسيةِ التفاصيل.
يقول أستاذ التخطيط الحضريّ من أصل هنديّ راهون ميهروترا: "تقوم المدن، أساسًا، على مفهوم التعايش بين أفرادها، فإذا غاب هذا المفهوم وانعدم، فسوف تفقد تلك المدن أهم روافعها الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، وَسوف ينهار النظام القائم من جذوره".
ميهروترا يرى أن الهندسة المعمارية "تلعب دورًا مفصليًا في تحديد نمط المدينة التي ننشدها، والمساحة التي نصنعها ثم نشغلها بوصفهما نقطتين أساسيّتين في تعزيز مفهوم التّجمع، والنظر إلى المدينة بوصفها فضاء حضريًّا للتفاعلات الاجتماعية المُفضية إلى الابتكار والإبداع، وما يتبع ذلك من انبثاق الثقافة، وولادة الفنون، من سينما وتشكيل ورقص، وغيره، من رحمها (رحم الثقافة)، وهو ما يعني ازدهارنا نحن البشر، فَعلى العمارة هنا أن لا تسهم بِخلق الجدران بيننا، وأن تعمل على منعِ توجّه الناس نحو الاستقطاب".
هل يتحدّث المخطِّطُ الهنديّ المقيم في بلاد الغرب عن عِمارةٍ رَؤوفة؟ وهل نأملُ أن يكون هذا حالُ عمارةِ المُسقبل؟ لمَ لا، فَبقاء الحال القائم يُنذر بخرابٍ مقيمٍ لا يُبقي ولا يَذر.
لتحقيق هذه الرأفةِ المُرتجاة، فإنّ على مصمّمي مدن المستقبل أن يُقيموا حوارًا مصيريًا بين المعماريين والمخطّطين الحَضَريين والسياسيين والمواطنين العاديين، عليهم إشراك الجميع، وخلْق فرصِ عيشٍ مشتركٍ للجميع، وِفْق منهجيةٍ ديمقراطيةٍ تضع في اعتبارِها الظروف القائمة من تلوّثٍ مناخيٍّ وانبعاثاتٍ، وتمايزاتٍ طبقيّة، وأهواءٍ رأسماليةٍ، فمُدن المستقبلِ وَمبانيه هي، حتمًا، مدنٌ خاليةٌ من كلِّ ذلك، وإلا فالمصيرُ المُرعب سيشْمل الجميع.
غرفةُ الغُرَف
من الأفكار التي بدأ العمل على تنفيذها فعلًا في سياق كيف نريد لمنزل المستقبل أن يكون، فكرة التصميم متعدد الاستعمالات، فعلى سبيل المثال، يحمل الناس للغرفة تصورًا ثابتًا جامدًا لم يتغيّر منذ أيام الحضارة الرومانية، وهو تصوّر يجعل لكل غرفةٍ مهمةً واحدة: غرفة النوم للنوم، وهو ما يؤكّده وجود سرير فيها، وَخزانة ملابس، وبِخلاف ذلك، من العبث أن تبحث داخلها عن طاولة سُفرة، أو طقم مقاعد للضيافة، فأنت، حتمًا، لن تجد أي أثاث داخلها غير الأثاث المتعلّق بالنوم. ما يعمل عليه بعض مصمّمي المستقبل، مُستفيدين من الذكاء الاصطناعي، ومُسترشدين بالأورِيغامي (فن طيّ الورق) الياباني، هو تفجير طاقة الغرفة الواحدة، وجعل مفرداتها قابلةً للطيّ والتّناوب، فإذا بها تتحوّل من غرفة نومٍ إلى غرفة معيشة، ومن مطبخٍ إلى حمّام، وهلمّ جرًّا.
في مدن المستقبل، يفكر المخططون أن يجعلوننا نتنعّم بِثلاثة مسارات: مسار للمركبات، وآخر للدراجات، وثالث للمشاة، ويعملون على الوصول إلى تطويرٍ حضريٍّ أكثرَ مرونةً وتكيّفًا في مُقبل السنين. وفي ظلّ أنّ نَهَمَ المباني الجديدة يستهلكُ أربعة ملايين طن من الإسمنت سنويًا، فإنهم يرون في الخشب المُعاد تدويرُه، وفي البحث عن طرقٍ للاستفادة من رمل الصحراء، حلولًا مُمكنة لِمعضلات العمارة المستقبلية. حتى أنهم يفكّرون في تحويل مصابيح إنارة الشوارع إلى محطّات تزويدٍ للهيدروجين الأخضر، وينهمكون في كيفية جعل العمارة تنفتح على نفسها لتسهم في تغيير العالم، كما يفعل طلبة معهد كونفلوينس في قلب باريس، على سبيل المثال، الحالمونَ ببيوتٍ فوق القمر، المتجليّة تصاميمهُم كما لو أنها تجريداتٌ تشكيلية.
مديرة معهد كونفلوينس، أوديل ديك، تعرّف العمارة أنها: "ثقافةٌ تحتضن الأشياء وتغيّرها لِتسمح لِشيء جديدٍ بِالظهور مِنها، وعلى المعماريينَ أن يحُوزوا مواصفاتٍ تتيحُ لهم الإسهامَ في تغييرِ العالَم". ففي الهندسةِ، بحسبِ ديك، "من المهمِ التفْكير في الفلسفة، والسياسة، والأعمال، وعلم الاجتماع، والجيولوجيا، والجغرافيا، حيث تلعب هذه التخصصات جميعها دورًا حول ما يجب على المهندس المعماريّ القيام به، وبالتالي عليها أن تتعاون وتتحدَ لتُلهِم تصاميمَه".
تحثّنا عمارةُ المُستقبل على العودة إلى الطبيعة، والتوليد الذاتيّ للطاقة، واستغلال المباني القديمة، والتفكير بإعادة تدويرها وترميمها لا هدمها.
أمّا مهندسو عِمارة الغد فيقولون: "من الأفضل أن تبدأ مدنُ المستقبل ممّا هو موجود بالفعل"، ويتحدثون عن آفاقٍ جديدةٍ للتخطيط الحضريّ، وعن بيوتٍ بِلا مفاتيح، ومدنٍ بِلا سيارات، وأبنيةٍ بِلا مصاعد، وأحياءٍ بِلا طبقيّة، وعن شجرٍ يملأُ المَسارات، وشلالاتٍ تكرجُ في الخيالات، وآفاقٍ مستقبليةِ أكثر انسجامًا مع محيطها، تعرفُ ما عليها وَما لها.
محمد جميل خضر 13 مايو 2023
عمارة
عمارة المستقبل ذكية وصديقة للبيئة
شارك هذا المقال
حجم الخط
على اختلاف ما تجود به أفكارهم ورؤاهم حول عمارة المستقبل، بين الصعود إلى القمر، أو العودة إلى الغابة، إلا أن المهندسين المعماريين والمخططين الحضريين، يقرّون جميعهم بِما ينتظرنا من أهوالٍ إنْ بقينا نحْتكم إلى مفاهيمنا القائمة حول البناء وتعريف المدن، ويؤكدون، على تباينِ وِجهاتهم، أن التلوّث المُناخيّ، والاحتباس الحراريّ، ونضوب المواد الخام اللازمة للبناء، تشكّل، وغيرها، التحديات الأهم في سياق ما يجري تداوله من نظرياتٍ حوْل العمارة المستقبليّة.
وهم يبحثون، أساسًا، عن إجابات لِأسئلة من مِثل: كيف يمكن أن نعيش معًا في المستقبل؟ وأن نواجه معضلةً من شاكلةِ أن سكّان الأرض يزدادون 80 مليون نسمة سنويًا؟ ما هو دورنا الأخلاقيّ عندما يَتناهى إلى أسماعِنا أن عشوائيات ريودي جانيرو، وبومباي، ونيودلهي، وناميبيا، وغيرها، التي يستوطنها قرابة مليار إنسان بشكل غير رسميّ، قد يتضاعف عدد القابعين داخل تفاصيل بؤسها ثلاث مرّات بِحلول العام 2050؟ إلى متى سنظل مصرّين على الخرسانة كمكوّن رئيسيّ من مكوّنات البناء؟ وما هي خطوتنا المُقبلة؟
مستقبلٌ بِلا مبانٍ
هل يمكننا تخيّل مستقبلِنا بِلا مبانٍ؟ فها هي أوروبا ترفع، بالنسبة لِعمارة المستقبل، شعارًا غريبًا، وقد يكون متطرّفًا: "من لا يبني يساهم بتحقيق أهداف التنمية المستدامة حول المُناخ"، وإمعانًا من القارّة العجوز بتبنّي هذه الرؤية الزاهدة، حدّد الاتحاد الأوروبي لنفسه سقفًا، فهو يريد أن يكون محايدًا مناخيًا مع حلول العام 2050. أما ألمانيا الساعية لأن تكون دومًا في مقدمة الرّكب، فتريد تحقيق ذلك قبل حلول العام 2045. أوروبا، وحتمًا، ألمانيا، يدركان أن هذا الأمر يتطلّب تضحيات كثيرة، ويعمل على فرضِ تواضعٍ عند الحديث عن الكيفية التي نريد لِأبنيتنا المستقبلية أن تكون عليها، فتلك أبنية لن تكون، قطعًا، قصورًا خرسانيةً فارهةً فوق أعالي الجبال، ولا بيوتًا من زجاج القصص الخيالية، وكلّ ما يطمح مِعماريو الأمر الواقع إليه: مكانًا مناسبًا للعيش، ومستقبلًا بِلا انبعاثات.
بغض النظر إن كانت أوروبا برفعها سقف المأمول من خطط المواجهة، تقصد العنوان حرفيًا، أو تقصد البحث عن أبنيةٍ بديلة، أو آليات بناء بديلة، فإن كثيرًا من الأفكار الريادية حول مباني المستقبل، بدأت تعلن عن نفسها، وبعضها أَسس لهذه الأفكار معاهد ومؤسسات، وحتى شركات ربحية، من باب التفاؤل، على ما يبدو، من حتمية تبنّي العالم لهذه الأفكار والنظريات خلال الثلاثين عامًا المقبلة، علمًا أن بعض هذه الأفكار بدأ العمل على تطبيقها فعلًا.
العودة إلى الغابة
من العلامات الساطعة على صعيد البدائل الخضراء في مدن المستقبل، ما حقّقه المعماريّ الإسبانيّ الكتالونيّ فينشينته غوايار، الذي حوّل برشلونة إلى نموذج للتنمية الحضرية الناجحة في أوروبا. غوايار في مداخلة له ضمن فيلم وثائقيٍّ حول "مدن المستقبل" عرضته قناة (DW) الألمانية، يرى أن التحدي المستقبليّ الأكبر هو في "كيفية ربط المدن الجديدة بالطبيعة لتصبح جزءًا منها، وفي كيف يمكن أن تتبع المدن مبادئ النظام الطبيعيّ لتعزيز الحياة".
غوايار لم يكتفِ بالتنظير فقط لأفكاره الريادية حول هذا الموضوع، بل نزل إلى قلب برشلونة، وشاهد كثيرًا من ضياع الهوية، وغياب المساحات الخضراء في الأبنية التي شيّدت إبّان إقامة الألعاب الأولمبية في مدينتهم عام 1992. وعلى مسافة قريبة من كل ذلك، لاحظ غوايار البرج الذي شيّده المعماريّ الفرنسيّ جون نوفيل بوصفه أحد معالم العصر الحديث، تحيطه ثلاثة شوارع مزدحمة بلا أيّ مساحة خضرية (يعني بلا أي رئة يتنفّسها البرج، أو يتنفّسها الناس حوله)، فما كان من غوايار إلا أن أحيا المكان ودلالاته وقيمته من خلال مسطحات خضراء ومتنزّهٍ علويٍّ صمّمه بنفسِهِ فَأخفى عبْرَه الشوارع المزدحمة وجمّل المكان، وفتح أفقًا جديدًا لِمفهوم العمارة المستقبلية: "إذا رغبت بإعادة التهيئة الحضرية، فعليك أن تبدأ من المركز، لأن الناس عندها سيقولون إن كنت فعلت ذلك هنا، فبالإمكان فعله في أيّ مكان آخر، وَبإمكاننا هدْم الشوارع السريعة واسْتبدالها بمسطحاتٍ خضراء".
تصاميم غوايار لِمستقبل العمارة تعتمد بشكلٍ رئيسيٍ على الخشب، وقد أنجز في هذا الإطار أكبر مبنى سكنيٍّ في إسبانيا مشيّدًا من الخشب.
"تقوم المدن، أساسًا، على مفهوم التعايش بين أفرادها، فإذا غاب هذا المفهوم وانعدم، فسوف تفقد تلك المدن أهم روافعها" |
يرى المعماريون والمخططون الحضريون المنشغلون بِمستقبل العمارة وَعمارة المستقبل، أن المدن الحيويّة التي نسعى لجعلها حقيقة، لا بد أن تعتمد على الاكتفاء الذاتي، وعلى النظم الدائرية (التدويريّة) في التفكير، بوصف هذيْن المعياريْن مِن أُسس عمارة المستقبل.
يقول غوايار "إنه درسٌ مستمدٌ من الطبيعة، وعندما ننظر إلى غابة ما، فنحن لا ننظر إلى الماضي، بل نتطلّع إلى المستقبل، فالغابة لها قدرة على إعادة إنتاج نفسها، وعندما نهجر مدينة ما، تتحوّل، تلقائيًا، إلى غابة. وفي حين تمتص الغابة ثاني أكسيد الكربون، فإن مدننا تقوم بإصداره، كما أن الغابة تستخدم الموارد الطبيعية كالطاقة الشمسية، وعليه فنحن نحتاج أن نبني مَبانينا مثل الأشجار، وَمدننا مثل الغابات. يجب أن تكون المباني جزءًا من التاريخ الطبيعي، وإلا فسوف نُدمِّر كل شيء حولنا، وهذا يعني أن علينا جعل بيئتنا المعيشية تقلّد الطبيعة وتتّبع قواعدها".
في سياق تكريس مبدأ الاكتفاء الذاتيّ، يدعو المخططون المشغولون بِعمارة المستقبل، إلى ضرورة جلب الصناعة والزراعة البيئية إلى مدن المستقبل، وبالتالي، إنتاج كل شيء، تقريبًا، محليًّا. هم يسعون من خلال ذلك إلى التقليل من استهلاك الطاقة الناجمة عن استيراد غير المتوفّر من هذه الصناعات والزراعات في مدينة ما، خلال شحنها ونقلها، وما يشكّله كل ذلك من حملٍ ثقيل على البيئة والمناخ والمواد الخام، إذ لا بد من أجل وصول هذه المنتجات الزراعية والصناعية من مدّ شوارع، وتحريكِ شاحنات، وبناء مستودعات، ودورة كاملة تعمل جميعها ضد فرص الاستدامة.
نخلص مما تقدم إلى أن عمارة المستقبل تحتاج إلى تفكيك سلاسل التوريد العالمية، مؤمّنةً ما تحتاجه من محيطها المباشر حولها.
إعادة التدوير
المهندس المعماريّ الألمانيّ آرنو براندلهوبر فتح عبر تصميمه الذي يحمل اسم "أنتي فيلّا"، أفقًا آخر من آفاق عمارة المستقبل، فالتحفة الفنية الرائعة التي أنجزها وجعلها بيته، مزيّنةً بتماثيل إعادة التدوير، مشعّةً بالنوافذ المعادة صياغتها بأناقة، محافظةً على عراقتها القديمة، تعد نموذجًا فذًّا للبناء المستدام، حيث يَستغلُّ البناء بعد تدويره كل جزء من الحرارة المهدورة، ويستفيد من مختلف الخردة التي كانت الفيلا تختنق بها، بما في ذلك حبال صيد، و(كرفان) قديم، وأسطوانات حديد، وألواح خشب. براندلهوبر مدّ في سقف البناء المجدَّد درب ستائرٍ يُستخدم شتاء لتصغير المساحة التي تحتاج إلى تدفئة، ستائر تصغّر البناء شتاء، ثم تعيده لِفضائه الواسع صيفًا.
جمالُ التّماسُك
براندلهوبر يرى في حديث لِلقناة الألمانية (DW) أن الجمال، على أهميته، لا ينبغي أن يكون المحدد الوحيد في عمارة المستقبل، فمن الضروري، بحسبِه، أن نتعامل مع مباني المستقبل بشكلٍ أكثر مرونة، وأن نكوّن تصورًا عمليًا لِما يمكن أن يصبح عليه مبنى ما، وكلما كان هذا التصوّر متناسقًا، كلما حمل بين جدرانه قيم جمالٍ متعلّقة بهذا التناسق، وهذا التصوّر المبتكَر. ويختم قائلًا: "كل ما هو متماسكٌ قادرٌ على تطوير جماله الخاص، قد لا يكون الجمال الذي كنت تتصوّره في ذهنك مسبقًا، ولكنه جمال أحلامنا المقبلة وَعمارتنا المستقبلية".
رفٌّ حضريّ
مشغولًا بما انشغل به زملاؤه المعماريون والمخططون الحضريون، تفتّق ذهن المهندس المعماري الألماني الشاب ماكس شفيتالا عن فكرةٍ قد تكون غريبة للوهلة الأولى، ولكنه يدافع عنها بحماسة ويوضح فوائدها نحو مدنٍ مستقبليةٍ خاليةٍ من التحجّر، والعُزلة، والثِّقل، وَالمصاعد الكهربائية، وَالازدحام؛ إنها فكرة الرُّفوف الحضرية حيث حلول التنقّل الدقيقة المتّسمة بِالمرونة والانْسيابية.
"ممّا تضعه عمارة المستقبل على عاتِقها تحطيمَ الأسوار القائمة بين المركز المتخم بناطحات السحاب، وبين الأطراف التي ركض الفقراء نحوها لِعدم قدرتهم على مجاراة الأغنياء" |
إن الرفَّ الحضريّ كما يراه شفيتالا، وَبما تحتوي عليه الفكرة من فنٍّ وتنوّع بصريٍّ، وَبما قد تتضمّنه من حدائق فوق السّطوح، يمكن أن يتجلّى بوصفه أفقًا نحو عمارة مستقبلية صديقة للناس قبل أن تكون صديقة للبيئة، وَأن تقلّل من الحركة العمودية لصالح التدرّج المُحاط بالخُضرة والنّضارة. تدرّجٌ شبيهٌ بِالصورة المتخيّلة لِمدينة بابل.
وحتى لا يبقى الكلام عن الرفِّ الحضريّ مجرّد تجديفٍ في بحورِ الخيال، أقام شفيتالا وفريقه نموذجَ رفٍّ حضريٍّ في مدينة توبينغن جنوب ألمانيا، ليحقق المشروع نجاحًا سريعًا، يتسابق على الإقامة فيه الطلبة واللاجئون السوريون، وغيرهم، جنبًا إلى جنبٍ. ففي تفاصيل الفكرة، وبُعدها الفلسفيّ، يكْمن قدرٌ من خلقِ مساحةٍ للأُلفة بين سكّان المكان، وتذويب الفروق الطبقية.
تحطيم الأسوار
ممّا تضعه عمارة المستقبل على عاتِقها تحطيمَ الأسوار القائمة حتى يومنا هذا بين أجزاء المدينة الواحدة؛ بين المركز المتخم بناطحات السحاب التي استسهل تجّار الأرض وأصحاب القرار في حكومات العالم بناءها، وتسابقوا عليها بسبب ما ارتبط بازدياد عددها في قلب عاصمة ما من ازدهار هذه العاصمة وحداثتها ورقيّها، وبين الأطراف التي ركض الفقراء نحوها لِعدم قدرتهم على مجاراة الأغنياء في المراكز فاحشةِ الكُلفة، متجهّمة الملامح، قاسيةِ التفاصيل.
يقول أستاذ التخطيط الحضريّ من أصل هنديّ راهون ميهروترا: "تقوم المدن، أساسًا، على مفهوم التعايش بين أفرادها، فإذا غاب هذا المفهوم وانعدم، فسوف تفقد تلك المدن أهم روافعها الأخلاقية والاجتماعية والإنسانية، وَسوف ينهار النظام القائم من جذوره".
ميهروترا يرى أن الهندسة المعمارية "تلعب دورًا مفصليًا في تحديد نمط المدينة التي ننشدها، والمساحة التي نصنعها ثم نشغلها بوصفهما نقطتين أساسيّتين في تعزيز مفهوم التّجمع، والنظر إلى المدينة بوصفها فضاء حضريًّا للتفاعلات الاجتماعية المُفضية إلى الابتكار والإبداع، وما يتبع ذلك من انبثاق الثقافة، وولادة الفنون، من سينما وتشكيل ورقص، وغيره، من رحمها (رحم الثقافة)، وهو ما يعني ازدهارنا نحن البشر، فَعلى العمارة هنا أن لا تسهم بِخلق الجدران بيننا، وأن تعمل على منعِ توجّه الناس نحو الاستقطاب".
هل يتحدّث المخطِّطُ الهنديّ المقيم في بلاد الغرب عن عِمارةٍ رَؤوفة؟ وهل نأملُ أن يكون هذا حالُ عمارةِ المُسقبل؟ لمَ لا، فَبقاء الحال القائم يُنذر بخرابٍ مقيمٍ لا يُبقي ولا يَذر.
لتحقيق هذه الرأفةِ المُرتجاة، فإنّ على مصمّمي مدن المستقبل أن يُقيموا حوارًا مصيريًا بين المعماريين والمخطّطين الحَضَريين والسياسيين والمواطنين العاديين، عليهم إشراك الجميع، وخلْق فرصِ عيشٍ مشتركٍ للجميع، وِفْق منهجيةٍ ديمقراطيةٍ تضع في اعتبارِها الظروف القائمة من تلوّثٍ مناخيٍّ وانبعاثاتٍ، وتمايزاتٍ طبقيّة، وأهواءٍ رأسماليةٍ، فمُدن المستقبلِ وَمبانيه هي، حتمًا، مدنٌ خاليةٌ من كلِّ ذلك، وإلا فالمصيرُ المُرعب سيشْمل الجميع.
غرفةُ الغُرَف
من الأفكار التي بدأ العمل على تنفيذها فعلًا في سياق كيف نريد لمنزل المستقبل أن يكون، فكرة التصميم متعدد الاستعمالات، فعلى سبيل المثال، يحمل الناس للغرفة تصورًا ثابتًا جامدًا لم يتغيّر منذ أيام الحضارة الرومانية، وهو تصوّر يجعل لكل غرفةٍ مهمةً واحدة: غرفة النوم للنوم، وهو ما يؤكّده وجود سرير فيها، وَخزانة ملابس، وبِخلاف ذلك، من العبث أن تبحث داخلها عن طاولة سُفرة، أو طقم مقاعد للضيافة، فأنت، حتمًا، لن تجد أي أثاث داخلها غير الأثاث المتعلّق بالنوم. ما يعمل عليه بعض مصمّمي المستقبل، مُستفيدين من الذكاء الاصطناعي، ومُسترشدين بالأورِيغامي (فن طيّ الورق) الياباني، هو تفجير طاقة الغرفة الواحدة، وجعل مفرداتها قابلةً للطيّ والتّناوب، فإذا بها تتحوّل من غرفة نومٍ إلى غرفة معيشة، ومن مطبخٍ إلى حمّام، وهلمّ جرًّا.
في مدن المستقبل، يفكر المخططون أن يجعلوننا نتنعّم بِثلاثة مسارات: مسار للمركبات، وآخر للدراجات، وثالث للمشاة، ويعملون على الوصول إلى تطويرٍ حضريٍّ أكثرَ مرونةً وتكيّفًا في مُقبل السنين. وفي ظلّ أنّ نَهَمَ المباني الجديدة يستهلكُ أربعة ملايين طن من الإسمنت سنويًا، فإنهم يرون في الخشب المُعاد تدويرُه، وفي البحث عن طرقٍ للاستفادة من رمل الصحراء، حلولًا مُمكنة لِمعضلات العمارة المستقبلية. حتى أنهم يفكّرون في تحويل مصابيح إنارة الشوارع إلى محطّات تزويدٍ للهيدروجين الأخضر، وينهمكون في كيفية جعل العمارة تنفتح على نفسها لتسهم في تغيير العالم، كما يفعل طلبة معهد كونفلوينس في قلب باريس، على سبيل المثال، الحالمونَ ببيوتٍ فوق القمر، المتجليّة تصاميمهُم كما لو أنها تجريداتٌ تشكيلية.
مديرة معهد كونفلوينس، أوديل ديك، تعرّف العمارة أنها: "ثقافةٌ تحتضن الأشياء وتغيّرها لِتسمح لِشيء جديدٍ بِالظهور مِنها، وعلى المعماريينَ أن يحُوزوا مواصفاتٍ تتيحُ لهم الإسهامَ في تغييرِ العالَم". ففي الهندسةِ، بحسبِ ديك، "من المهمِ التفْكير في الفلسفة، والسياسة، والأعمال، وعلم الاجتماع، والجيولوجيا، والجغرافيا، حيث تلعب هذه التخصصات جميعها دورًا حول ما يجب على المهندس المعماريّ القيام به، وبالتالي عليها أن تتعاون وتتحدَ لتُلهِم تصاميمَه".
تحثّنا عمارةُ المُستقبل على العودة إلى الطبيعة، والتوليد الذاتيّ للطاقة، واستغلال المباني القديمة، والتفكير بإعادة تدويرها وترميمها لا هدمها.
أمّا مهندسو عِمارة الغد فيقولون: "من الأفضل أن تبدأ مدنُ المستقبل ممّا هو موجود بالفعل"، ويتحدثون عن آفاقٍ جديدةٍ للتخطيط الحضريّ، وعن بيوتٍ بِلا مفاتيح، ومدنٍ بِلا سيارات، وأبنيةٍ بِلا مصاعد، وأحياءٍ بِلا طبقيّة، وعن شجرٍ يملأُ المَسارات، وشلالاتٍ تكرجُ في الخيالات، وآفاقٍ مستقبليةِ أكثر انسجامًا مع محيطها، تعرفُ ما عليها وَما لها.