حمادي بن سعد فنان "بصيغة الجمع" يصطاد الصدف بلوحاته

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • حمادي بن سعد فنان "بصيغة الجمع" يصطاد الصدف بلوحاته

    حمادي بن سعد فنان "بصيغة الجمع" يصطاد الصدف بلوحاته


    فنان تونسي ينتقل من تجربة إلى أخرى بخفة طائر ورؤية مجرب وقلب مغامر.


    فنان ومثقف منذور للفن والحياة

    الكثير من المبدعين والفنانين لا يلاحقون الشهرة ولا يسعون إلى الظهور، بل ينشغلون بأعمالهم الإبداعية ويطورون تجاربهم ويتنقلون بين تجربة وأخرى، بعيدا عن تشويهات الأضواء أو الانشغالات الثانوية التي لا تخدم الإبداع بقدر ما تسلبه طاقته. من هؤلاء الرسام التونسي حمادي بن سعد الذي قد لا يتعرف إليه الكثيرون لأنه اختار العمل في صمت.

    منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها بالكتابة عن الفنان حمادي بن سعد اعترضتني مشكلة، كان علي أن أقف للتفكير مليا قبل الاستمرار في الكتابة. هل أضيف إلى العنوان الذي اخترته صفة تونسي، فأقول: حمادي بن سعد فنان تونسي “بصيغة الجمع”، أم يكون العنوان: حمادي بن سعد فنان “بصيغة الجمع”؟

    اخترت أن أغيّب كلمة تونسي، رغم إدراكي عمق ارتباط الفنان بـ”المدينة” التي منها “انبثقت روحه” وفيها أمضى معظم سنين حياته. وكانت “المدينة” (في تونس يكتفون بكلمة المدينة عند الحديث عن الجزء القديم التاريخي من تونس) وحواريها الملهم الأول له. فكما يقول الفنان “الجميع هنا يعرفني”.
    لا يبحث عن الشهرة


    تجربة الفنان تجعله واحدا من الفنانين الأساسيين الذين عكسوا فترة مليئة بالحيوية في تاريخ الفنون البصرية في تونس

    كيف تقتصر شهرة فنان بمكانة حمادي على مساحة ضيقة من تونس يعرفه فيها الجزار وبائع الأسماك والخياط والحجام (الحلاق) والعطار (البقال) والحماص والعاملون في مطعم شعبي يرتاده الفنان لتناول الطعام، بينما تجهله تونس باستثناء نخبة مهتمة بالفن التشكيلي؟

    سكان الحي الشعبي الذي يقطنه اعتادوا رؤيته في الأيام المشمسة ينشر لوحاته القماشية التي لم تؤطر بعد تحت خمائل الياسمين لتجف ألوانها، غير عابئ بتساقط زهور وأوراق الياسمين فوق سطحها والتصاقها بطبقة الورنيش اللامعة، وغير مكترث لارتسام آثار أقدام قطط تمر فوقها، ليصبح هذا المشهد بمرور الأيام مألوفا لسكان الحي، رغم غرابته. ولهذا حكاية نعود إليها.

    كيف خبأ التونسيون قامة فنية مثل قامة حمادي وأبقوها مجهولة كل هذه السنين؟

    لدي الآن سبب قوي لأشعر بالخجل، أو على الأقل بالحرج؛ كيف لم أكتشف جوهرة بقيمة حمادي، أنا الذي أمضيت قرابة عشرين عاما في تونس؟

    الفنان يتصيد بصبر الصدفة ويوظفها في العمل الفني، وكأنه يمحي الحدود الفاصلة بين الإنسان والعمل الفني والبيئة

    القول إن حمادي فنان متواضع لا يحب الشهرة، وإن كان صحيحا، إلا أنه ليس عذرا للإبقاء عليه سرا مخبأ. الفنان الحقيقي لا يبحث عن الشهرة بطبعه، ولكن تأتيه الشهرة صاغرة. المعادن الثمينة والجواهر تحتاج إلى منقب ينقب عنها ويعرضها للناس.

    أزداد اقتناعا كل يوم بأن في تونس جواهر مدفونة تحتاج إلى من ينقب عنها ويعرضها أمام الناس. واحدة منها الفنان حمادي بن سعد.

    في الخامس من أبريل 2023 تعرفت على الفنان حمادي بن سعد (أقولها وأنا أشعر بالحرج)، كان التعارف في أزقة “المدينة”، تحديدا في النادي الثقافي الطاهر الحداد، حيث عُرضَ للفنان فيلم وثائقي مع عدد محدود من أعماله.

    قبل تلقّي الدعوة لحضور العرض لم أكن أعرف شيئا عن فنان اسمه حمادي بن سعد، وكان علي القيام بواجبي وجمع ما أستطيع من معلومات عنه، مستعينا بغوغل وروبوت المحادثة تشات جي بي تي عله يسعفني، وهو العارف بكل شيء، مثلما يتردد حاليا.

    أعمال حمادي فيها الكثير من الصدق وقوة التعبير، لكن تصنيفها -كما فعل البعض- ضمن المدرسة البدائية ينم عن قراءة سطحية

    لم يقدم لي محرك البحث أية معلومات مفيدة، وكذلك روبوت الدردشة باستثناء شذرات نشرت متباعدة هنا وهناك عن معارض قليلة للفنان في العاصمة تونس.عرفت من روبوت الدردشة أن حمادي بن سعد رسام تونسي عصامي التكوين، ولد في تونس العاصمة عام 1948، واشتغل في بداية حياته معلما، ثم أصبح منشطا في نوادي الفنون التشكيلية الموجهة للأطفال. بدأ عرض أعماله منذ عام 1975، ونظم منذ ذلك الحين عدة معارض شخصية في تونس، كما شارك في العديد من المعارض الجماعية ومن بينها المعرض السنوي لجماعة “مدرسة تونس للرسم”.

    أول ذكر للفنان عثرت عليه جاء في خبر منشور يوم الخميس 20 سبتمبر 2018 في افتتاح “أيام قرطاج للفن المعاصر”. جاء في الخبر أن حمادي بن سعد حضر الافتتاح “وهو على كرسي متحرك بعد أن كان واقفًا كالسّارية في مشهد تشكيلي تونسي يتّسم باللاثبات. مشهد حمّادي بن سعد وهو منكسر في هذه التظاهرة التي تحتضنها مدينة الثقافة يشي بأن المثقف منذور للفنّ والحياة والخلود من جهة، لكنّه منذور أيضًا للإهمال والتهميش من جهة أخرى”.

    في هذا الكلام الذي يبدو قاسيا، بعض من الحقيقة.

    بعد ذلك ظهر حمادي في خبرين، الأول معرض فردي بعنوان “عودة” عام 2020 بـ”غاليري 421” في منطقة أريانة بتونس العاصمة. والثاني معرض فردي أيضا تحت عنوان “رحلة الروح”، بأحد أروقة العرض في العاصمة التونسية، اقتصر على 15 عملا من أعمال الفنان.


    تنويع التجربة في أكثر من فضاء

    الصدق وقوة التعبير


    ما كتب عن حمادي بن سعد مجرد انطباعات ومعلومات مكررة لا تكشف عن قيمة هذه القامة الفنية، التي يمكن وضعها دون حرج بين علامات فنية عالمية أثرت الحركة التشكيلية.

    من هنا تأتي أهمية الفيلم الوثائقي المقدم من قبل شركة سندباد للإنتاج، وإخراج معز كمون وإنتاج سيمون شريف وتنفيذ فيليبا داي.

    يبدأ حمادي حديثه في الفيلم الوثائقي من لحظة الولادة: “ولدت في أفريقيا.. أنا أفريقي. سافرت لأرى كهوف تاسيلي في منطقة جانت بين ليبيا والجزائر، ذهبت إلى هناك أتعرف على حضارة موغلة بالقدم، عمرها 6000 عام، سبقت حضارة بلاد الرافدين وحضارة وادي النيل والفراعنة”.

    هكذا اختار حمادي المعجب برسوم العصر الحجري أن يبدأ الحديث عن نفسه، قائلا “إن الفنانين الذي رسموا تلك الرسوم هم أكثر حداثة منا. إنسان اليوم يعيش عصر السرعة في مجتمع استهلاكي”.

    وكأني بالفنان حمادي يريد أن يقول إن الإنسان خلق فنانا، و”قبل أن يتعلم الكلام، كان يرسم”.

    لم يكن حمادي في هذه المرحلة ناقلا لرسوم تاسيلي، بل متقمصا روح فنان العصر الحجري. الأعمال التي استلهم فيها رسوم كهوف لا يمكن وصفها سوى بإعجاز فني سواء على مستوى التكوين والخط أو من ناحية علاقة الشكل بالفراغ. وبدا حمادي حريصا في تلك المرحلة على استخدام الألوان الترابية والأسود، وهي الألوان التي توفرت لفنان الكهوف.

    هناك ملاحظتان في غاية الأهمية يجب أن نتوقف عندهما: الأولى، محاولات البعض تصنيف الفنان ضمن المدرسة البدائية “ناييف”، وفي هذا تجن كبير. أعمال حمادي فيها الكثير من الصدق وقوة التعبير، ولكنها أبعد ما تكون عن المدرسة البدائية. فقط القراءة السطحية لأعماله هي ما جعل البعض يخلط بين تعبيرية الفنان وبين البدائية.

    صحيح أن حمادي لم يتلق تعليما فنيا أكاديميا، ولكنه بقي تلميذا مجتهدا يلقن نفسه أصول الرسم. في كل عمل يقوم به هناك تفكير عميق سواء بالخط أو اللون أو الخامات المستعملة أو في اختيار الموضوع.


    إن لم تكن رسوماته المستوحاة من كهوف تاسيلي كافية لإثبات ذلك، فإن رسومه الخطية تكفي برهانا على أن لا شيء عفويا أو اعتباطيا في أعماله.

    وقد يكون في حديث عبدالرؤوف الباسطي خلال الفيلم الوثائقي، وهو وزير ثقافة تونسي سابق، ما يؤكد ذلك، حيث اعتبره واحدا من بين فنانين أساسيين عكسوا فترة مليئة بالحيوية والحركية في تاريخ الفنون البصرية بتونس.

    ولكن، ماذا عن الحادثة التي ذكرها صديقه الفرنسي ألن فيرديلون المقيم هو الآخر في “المدينة”، وكانت سبب تعارفهما قبل عشر سنوات؟

    يقول ألن “بينما كنت أسير في حواري المدينة فوجئت بلوحة قماشية مشدودة على إطار خشبي، ما لفت انتباهي هو حجم اللوحة الكبير متروكة تجف تحت أشعة الشمس. كان الإطار يشغل تقريبا عرض الزقاق. لم أصدق عيني، كانت اللوحة ملقاة تحت خميلة ياسمين تتساقط عليها الأوراق والزهور الذابلة وتلتصق بطبقة الورنيش، وتسير على سطحها قطة مخلفة وراءها آثار أقدام مطبوعة على الألوان التي لم تجف بعد. تلفت حولي لأجد حمادي، تيقنت أنه الفنان، كان بالتأكيد يرى ما أراه ولكنه كان مستمتعا بالمشهد”.

    ويتابع ألن الذي يصف حمادي بقامة فنية عالية، ينظر إليه أبا للفنانين التونسيين، “خلال عشر سنوات لم يحدث أن رأيته (حمادي) حاملا للفرشاة”.

    لا يمكن أن نصنف هذه التجارب في خانة التجارب البدائية بل هي غاية في العمق. الفنان يتصيد بصبر الصدفة ويوظفها في خدمة العمل الفني، وكأنما به أراد أن يقول لا توجد حدود فاصلة بين الإنسان والعمل الفني والبيئة من حوله.

    وهنا نقتبس ما قاله صديقه الفنان علي الزنايدي في الفيلم الوثائقي واصفا حمادي “بالفنان الحر المليء ثقة بالنفس”.

    إنها الحرية، ولكنها حرية مشروطة لا تضحي بالعناصر الفنية. وأصابت ليلى عكروت تيساوي، مدرّسة مادة الفنون الجميلة، جوهر الحقيقة عندما قالت “صدمت بالحرفية في رسومات حمادي وبالأصالة في أعماله (وهي بذلك تعارض دون أن تفصح من يصف أعماله بالبدائية). إنه ليس كغيره من الفنانين التونسيين”. وتتحدث ليلى عن أول مرة وقعت فيها عيناها على أعمال الفنان خلال معرض لأعماله أقيم في المركز الثقافي الأميركي: “قبل أن أتعرف على الفنان الإنسان، تعرفت على أعماله. أعجبت بالطاقة التعبيرية في فنه وبأصالة وفرادة أعماله”.
    فنان بصيغة الجمع



    استلهام رسوم الكهوف


    الملاحظة الثانية، التي يجب الإشارة إليها، أن الفنان الذي بلغ من العمر 75 عاما، وهو الذي لم يطل الوقوف على نفس الغصن فترة طويلة، هي أنه طائر قلق يتنقل من غصن إلى آخر، ولكن بعناية فائقة وإتقان.

    هناك المئات من المبدعين والقامات الفنية في تونس، ورغم قيمتهم الفنية المحفوظة إلا أنهم واظبوا على العزف المنفرد، أسرى أسلوب واحد. وحده حمادي اختار أن يكون رساما سيمفونيا وأوركسترا قائمة بذاتها. وكانت رحلته مع الفن رحلة قلق وجودي لا يتوقف خلالها عن التجريب والاكتشاف.

    ورغم العشق المزروع في داخله للمدينة وحواريها دأب حمادي على انتزاع نفسه والسفر بعيدا، يجوب عواصم العالم متنقلا بن المتاحف وصالات العرض، يتعرف على التجارب الفنية، قديمها وحديثها، يطوف مثل نحلة، يهضم التجارب ويقدمها عسلا تونسيا أصيلا لا يشبهه في المذاق عسل آخر.

    في آخر معرض أقيم له تحت عنوان “عودة الروح” في مثل هذا الشهر من عام 2022، قال منظمو المعرض الذي تضمن 15 عملا للفنان إن “هذه الأعمال الفنية تجمع بين آثار العصر البدائي والبعد الكوني، وهي تستحق أن تعرض في المتاحف الكبرى في العالم، مثل متحف تيت مودرن في لندن، ومتحف الفن المعاصر في طوكيو، لأنّ الأرضية مواتية لذلك”.

    يصعب تقسيم السيرة الفنية للفنان حمادي إلى مراحل، ولكن تجاوزا يمكن الحديث عن تجارب فنية مميزة قد تكون تداخلت زمنيا. في الفيلم الوثائقي برزت أربع تجارب مميزة في مسيرة الفنان؛ تجربة بدا فيها واضحا تأثره برسوم الكهوف، وإن كان قد ذهب بها بعيدا. وتجارب أخرى انصب اهتمامه خلالها على الرسوم الوجهية ويمكن وصفها بالتعبيرية، وتجارب اكتشف فيها البعد الدرامي لورق الجرائد المطبوعة لتكون خلفية لرسوم خطية موحية، وتجارب لرسوم وجهية بألوان تذكر بالفنانين الوحوش، أما لوحاته الكبيرة فقد استخدم فيها تقنيات متعددة جمعت بين الكولاج والتلوين.

    قد يثير الفيلم الوثائقي، الذي لا يتجاوز 23 دقيقة، شهية الدارسين والنقاد للبحث عميقا في تجربة الفنان حمادي بن سعد. بل ويمكن أن تحتل أعماله مكانا على جدران كبرى المتاحف.

    حمادي “ليس كغيره من الفنانين”، هو فنان “بصيغة الجمع” ندر وجوده.

    انشرWhatsAppTwitterFacebook

    علي قاسم
    كاتب سوري مقيم في تونس
يعمل...
X