النحات احمد البحراني .. الروح المقدسة للمادة..تكمن خلف مظهرها الصلب
خالد خضير الصالحي
كان الناقد فاروق يوسف يتلمس ما سيحصل للمادة، في مستقبل تجربة البحراني، حينما يصف ما سيحدث لها وكأنها "تحرر من هيمنة أبعادها الداخلية" واقتراب تدريجي من التجريد الذي رافقه عزوف "عن استخراج أشكاله من كتلة المادة الصماء... لأنه يريد أن تكون هذه الأشكال مصدر الكتلة"؛ بينما يصف الناقد الدكتور حاتم الصكر التجربة السابقة للنحات العراقي المقيم في قطر احمد البحراني، بأنها كانت تجربة "مهووسة بالشخوص، وبالإنشائية المتجسدة في بناء موضوعات تعارض التجريد الذي تفترضه الكتلة النحتية المتشكلة من مادة البرونز أو الحديد أو المرمر أو الحجر؛ فيستنطق الفنان صمت المادة، و صممها، وصلابتها لتبرز في عراء الفراغ بهيئة أشخاص يظهرون بأجساد ضامرة أو ملتصقةَ البطون، هزيلةَ الأطراف، لكنها ممتدة القامات، والأبصار صوب الأعلى أملاً و رجاءً... تقود المشاهد إلى معترك بصَري تكون مادة النحت فيه مجرد مناسَبةٍ لاستذكار ثقل الحياة و شدة وقعها ووحشيتها و جمالها أيضاً. جرأته في تكسير الكتلة، وتدمير المادة الأولى، وفكّ أثرها المرجعي المباشر عن جماليات العمل المنتج"،
بعد سنوات، على معارضه السابقة، نرى احمد البحراني ألان متحررا وليس معنيا بأية قيم تراثية، أو قواعد ماضية سنها النحت العراقي طوال ثلاثة آلاف عام، و الذي كان يشتغل على (موضوع) الجسد الإنساني الذي بسببه لم يجد اندريه بارو بداً من وصف ذلك النحت بما يشبه جيشا من الدمى التي تحدق باتجاه عالم مجهول؛ لذا يجد احمد البحراني نفسه، كما وجد النحاتون العراقيون الذين يشتغلون بمتجهات مخالفة للتراث، أن ينفض التقاليد التي جثمت، بفعلها تلك الدمى، (=مشخصات الجسد البشري) على تجارب نحتية عراقية مهمة: إسماعيل فتاح الترك،، طالب مكي، وتجارب أخرى؛ فبدت رؤيته، محاولة لتأسيس واحدة من أكثر تجارب النحت العراقي الجديد تعارضا مع التراث، و"انسجاما مع توقها في التخلص من المشهدية التفصيلية التي تثقل العمل النحتي بعدد من الرموز والدلالات بحيث تصبح قراءتها عبئا"، فيعود هذا النحات إدراجه إلى الوجود البكر للمادة، فلم تكن لديه، كما يبدو، أية رغبة كامنة في اتخاذ معلمين عراقيين آخرين ولو كانوا في الجانب المقابل.
أن ذلك ربما كان آخر ما يفكر فيه البحراني، لان التجارب (الأخرى)، المناقضة لمنحوتات المشخصات البشرية، وان كانت تشترك مع البحراني بوشائج قوية إلا أنها لا تجد لنفسها إلا صدى محدودا في جوهر تجربته، ذلك الجوهر الذي تأسس على: أولا، نظام في القطيعة لا يسمح بظهور مرجعيات تثقل كاهل التجربة، وثانيا، نقل مركز ثقل عملية التلقي من الموضوع والأشكال المرتبطة به إلى المادة.
لقد وجد النحات نفسه بمواجهة الشكل باعتباره القاسم المشترك لكلا النمطين، ولكن بمعنى مختلف في كل مرة: فكان الشكل وهو يتجه، أولا، صوب الموضوع، في التجارب النحتية المشخصة، ليخلق نمطا من تعبيرية المشخص الذي يفتح الباب لرياح تجارب بعيدة كل البعد عما يفكر به، وثانيا حينما يكون الشكل صدى للمادة، حيث لابد لتلك المادة، لكي توجد، من أن تتموضع من خلال الشكل، أي أن يكون الشكل نتيجة لابد منها لتحقق وجود المادة المجردة. وهي الكيفية ذاتها التي كان يفهم بها النحات عبد الرحيم الوكيل أعماله، والذي قدم تجربة متميزة في هذا الاتجاه، فقد كان مستغرقا "في خواص الكتلة والمادة للبحث عن ما يكمن فيهما خلف المظهر المرئي الذي يأخذ المشاهد بعيدا عن فكرة النحت نفسها ليضعه أمام الشكل وحده ويصبح المعنى هو المظهر ويصبح جوهر المحاولة التي أرادها النحات لأيقاظ المادة من سباتها هو محض استنساخ لأشكال الطبيعة" والذي يجيء تجسيدا لفكرة "كون النحت قد اجتاز منذ بداية القرن مراحل عديدة في طريق إزاحة الشكل عن المادة وفي اكتشاف أهمية المادة و تأكيد سطوتها وبالطبع قدسيتها" كما يؤكد الناقد سعد هادي، وهو الأمر الذي يصلح، برأينا، لتشكيل مقاربة لتلقي تجربة البحراني، فهذا النحات ليس فقط يحاول أن "يفصلنا عن مصادره الواقعية" كما يقول الناقد فاروق يوسف، بل هو يفصلنا عما تراكم علينا، نحن المتلقين، من (قواعد راسخة) في تلقي النحت العراقي في تجاربه المكرسة، ومن كلا الاتجاهين، أي كلا اتجاهي النحت العراقي أن البحراني لا يهدف إلى اتخاذ إسلاف له يتتبع خطاهم، ولكنه يتتبع خطى فكرة أن يكون الشكل حاصل وجود المادة ليس إلا، و يتمنى أن لا يقوم المتلقي بمطالبة النحات، ولا العمل النحتي. بأية فواتير عن تلقيه العمل، فما يقدمه ليس إلا مادة مهملة أعاد تشكيلها، وان على المتلقي أن يتلقاها كما هي، باعتبارها مادة اتخذت شكلا ما دون هدف محدد له، ولا يطالب بما هو أكثر من ذلك، فالمتلقي يمر من خلال (الشكل والصورة) وليس من خلال (المعنى) وذلك ربما هو جوهر فهمه (للتفكير البصَري) في النحت،والذي يتفق فيه مع النحات عبد الرحيم الوكيل على الرغم من اختلافه معه، بينما تبدو تجربة البحراني، برأينا، ابعد ما تكون عن النظرة السطحية، من ناحية طبيعة المادة والتكنيك واقرب إلى تجربة النحات صالح القرة غولي،إذ يستخدمان خامة الحديد في اشتغالهما؛ وذلك راجع إلى تجردها من معطيات واشتراطات المرجع الذي استمدت منه لتكون كيانات شكلية قائمة بذاتها، يتحدد معناها في ضوء وجهة النظر التي تتعامل معها جماليا أو تصل إلى لحظة الاتفاق مع جمالياتها أو مع ما حاول النحات الوصول من خلاله إلى جوهر المادة" وذلك هو جوهر تجربة البحراني.