سبنسر (هربرت ـ)
(1802 ـ 1903)
هربرت سبنسر Herbert Spencerفيلسوف إنكليزي، ينتمي لأسرة عمل جلّ أفرادها في مجال التعليم، لكنه لم يتلق تعليماً منتظماً. عمل سبنسر مدرساً للرياضيات، ثم مساعداً لرئيس تحرير بعض المجلات. وقد نشر عام1855 كتاباً بعنوان«مبادئ علم النفس» ضمّنه أفكاره عن الوراثة ونظرية التطور بمجملها، وبعدها كتب العديد من الرسائل والمقالات، أهمها مقالة بعنوان «التقدم، قانونه وعلته» (1857) ذكره داروين Darwin في كتابه «أصل الأنواع» كأحد الذين سبقوه إلى نظريته، كما وضع كتاباً موسوعياً ضخماً في «الفلسفة التركيبية»، كمحاولة لإقامة نظرية فلسفية شاملة تشرح علوم عصره في ضوء قانون التطور نشره بين 1860ـ1893، وجعل منه موسوعة شاملة في «المبادئ الأولى»، مبادئ البيولوجيا، مبادئ علم النفس،مبادئ علم الاجتماع، مبادئ علم الأخلاق. ونشر في عام 1861 كتابه «في التربية» وآخر في «تصنيف العلوم» سنة 1874 وكتاباً استعرض فيه حياته الذاتية.
يقوم مذهب سبنسر الفلسفي على فكرة التطور ويفسر ضروب المعرفة المختلفة والمتضاربة في التجربة الإنسانية بقانون كوني شامل، متأثراً في ذلك بعلم الأحياء الدارويني، ووجهة النظر التي سادت القرن التاسع عشر، والتي ترى أن العالم جوهره حياة نامية. فهو يقرر أن تجربة الفرد تفاعل مستمر بين الواقع والحياة التي يعيشها الإنسان. وينحصر موضوع المعرفة عنده في جملة العلوم الواقعية التي تشمل: علوم الصور الجوفاء وهي الرياضيات والمنطق، والعلوم المشخّصة أو علوم الظواهر وهي: الميكانيك والكيمياء وعلم الحياة وعلم النفس وعلم الاجتماع. وتبنى المعرفة على التجربة والظواهر المحسوسة، فكل ما يجاوز الإدراك ويخرج عن مجال العلوم الواقعية يؤلف «مجال المجهول» أو ما تتعذر معرفته، وكل محاولة يقوم بها العقل للوقوف على حقيقة الكون ومعرفة أسراره وإدراك المطلق مجازفة مصيرها الإخفاق، لأن العقل مجاله عالم التجربة المحدود،وما وراء التجربة أو ماوراء عالم الظواهر سيبقى وجوداً مفارقاً بعيداً عن المتناول، وقوة مجهولة، ولا يعرف ما إذا كان هذا الوجود المطلق هو الله، وهذه اللاأدرية التي تفضي إليها نظرية سبنسر في المطلق المجهول لا تستبعد الدين بقدر ما ترى أن «الدين والعلم أخوان متصافحان لكل منهما حلبة ومجال» يتقاسمان حياة البشر ويعززان روح التضامن، ولكنهما يستويان في عدم القدرة على معرفة طبيعة الأشياء المطلقة، فالدين متجذر في أعماق الطبيعة البشرية، وهو وسيلة محبة نحو ما يعلو عليها وعاطفة «تستقي من العلم مادة تقيم بها عقائدها»، والعلم معرفة يستدل بها من الظاهر المعلوم وضع المطلق المجهول.
والتطور صيغة كونية تفترض انتقالاً للمادة من البسيط إلى المعقد، وتمايز للكائنات من التجانس إلى التباين، يتجه بخط تصاعدي تدريجي يسير دائما نحو الأفضل كونياً، وتخضع له حوادث الوجود كافة، بما فيها حياة الفكر التي يفسرها على نحو آلي بقوانين التطور ذاتها،فالعقل ومبادؤه تأتي اكتسابا بتكرار التجربة الإنسانية وتحت تأثير البيئة.
والمادة والحركة وجها الطبيعة، يسيّرهما قانون التطور والانحلال الذي يؤدي إلى تشتت الطاقة. والحركة باستمرار، إما بفعل عوامل داخلية وإما بفعل تأثيرات خارجية. والحياة تكيف متصل بين العلاقات الداخلية والعلاقات الخارجية، بين الإنسان والبيئة، فسلوك الفرد جوهره القدرة على تكييف طبيعته بصورة صحيحة مع البيئة التي يعيش فيها وانسجامه معها بمقتضى قوانين حفظ الذات والتغاير والانتخاب والوراثة. وكمال الحياة رهن بهذا التلاؤم، وأعلى درجات التطور في سلم الحياة الطبيعية للإنسان هي الأخلاق. وتقدم الحضارة يؤدي إلى تقسيم العمل، ونمو الحياة الفردية يفترض ضرورة التعاون الاجتماعي، وما التقدم والتطور والذكاء الا نتائج طبيعية لسير تطور الحياة وقوانينها والنظر إلى السلوك الإنساني على أنه اتساق الأفعال وضرورات التطور ذاته، بما يحفظ النوع ويحرص على بقائه. السلوك الخلقي يفيد المجتمع ويهدف إلى ترقية حياة الجماعة ويقترن باللذة وتجنب الألم.
و يرجع سبنسر الوجدان وما فيه من أفكار وعواطف إلى الغريزة التي تتطور بالوراثة، وما الفضيلة إلا حالة يتكيف فيها الفرد مع مجتمعه، وهذا التكيّف لم يحصل دفعة واحدة، ولكن تدريجياً، فبدايةً سيطرت الأنانية على أفعال الإنسان، ثم قادته مصالحه إلى توطيد تعاونه مع الآخرين فامتزجت في تصرفاته الأثرة بالغيرية والإيثار، ومع مرور الزمن يرتقي طبيعياً ويثبت بالوراثة العمل لمصلحة الغير وتتفق منفعة الفرد ومنفعة المجتمع وينتفي التعارض بينهما وتسود الغيرية، فالحياة الخلقية تتحرك نحو مثل أعلى، يحقق الانسجام بين مطالب الفرد ومطالب المجموع، ويصبح الإنسان فاضلاً بطبيعته، ويتحول الشعور بالنفور إلى الشعور بالتعاطف، وكل سلوك ينزع إلى ترقية تلاؤم الإنسان مع بيئته يكون خيراً، وما يعيق تلك الترقية فهو شر، وبهذا يوحّد سبنسر القيمة الأخلاقية والقيمة الحيوية، كأن بقاء الأصلح طبيعيا هو بقاء الأفضل «الخير» أخلاقياً.
سوسان إلياس
(1802 ـ 1903)
هربرت سبنسر Herbert Spencerفيلسوف إنكليزي، ينتمي لأسرة عمل جلّ أفرادها في مجال التعليم، لكنه لم يتلق تعليماً منتظماً. عمل سبنسر مدرساً للرياضيات، ثم مساعداً لرئيس تحرير بعض المجلات. وقد نشر عام1855 كتاباً بعنوان«مبادئ علم النفس» ضمّنه أفكاره عن الوراثة ونظرية التطور بمجملها، وبعدها كتب العديد من الرسائل والمقالات، أهمها مقالة بعنوان «التقدم، قانونه وعلته» (1857) ذكره داروين Darwin في كتابه «أصل الأنواع» كأحد الذين سبقوه إلى نظريته، كما وضع كتاباً موسوعياً ضخماً في «الفلسفة التركيبية»، كمحاولة لإقامة نظرية فلسفية شاملة تشرح علوم عصره في ضوء قانون التطور نشره بين 1860ـ1893، وجعل منه موسوعة شاملة في «المبادئ الأولى»، مبادئ البيولوجيا، مبادئ علم النفس،مبادئ علم الاجتماع، مبادئ علم الأخلاق. ونشر في عام 1861 كتابه «في التربية» وآخر في «تصنيف العلوم» سنة 1874 وكتاباً استعرض فيه حياته الذاتية.
يقوم مذهب سبنسر الفلسفي على فكرة التطور ويفسر ضروب المعرفة المختلفة والمتضاربة في التجربة الإنسانية بقانون كوني شامل، متأثراً في ذلك بعلم الأحياء الدارويني، ووجهة النظر التي سادت القرن التاسع عشر، والتي ترى أن العالم جوهره حياة نامية. فهو يقرر أن تجربة الفرد تفاعل مستمر بين الواقع والحياة التي يعيشها الإنسان. وينحصر موضوع المعرفة عنده في جملة العلوم الواقعية التي تشمل: علوم الصور الجوفاء وهي الرياضيات والمنطق، والعلوم المشخّصة أو علوم الظواهر وهي: الميكانيك والكيمياء وعلم الحياة وعلم النفس وعلم الاجتماع. وتبنى المعرفة على التجربة والظواهر المحسوسة، فكل ما يجاوز الإدراك ويخرج عن مجال العلوم الواقعية يؤلف «مجال المجهول» أو ما تتعذر معرفته، وكل محاولة يقوم بها العقل للوقوف على حقيقة الكون ومعرفة أسراره وإدراك المطلق مجازفة مصيرها الإخفاق، لأن العقل مجاله عالم التجربة المحدود،وما وراء التجربة أو ماوراء عالم الظواهر سيبقى وجوداً مفارقاً بعيداً عن المتناول، وقوة مجهولة، ولا يعرف ما إذا كان هذا الوجود المطلق هو الله، وهذه اللاأدرية التي تفضي إليها نظرية سبنسر في المطلق المجهول لا تستبعد الدين بقدر ما ترى أن «الدين والعلم أخوان متصافحان لكل منهما حلبة ومجال» يتقاسمان حياة البشر ويعززان روح التضامن، ولكنهما يستويان في عدم القدرة على معرفة طبيعة الأشياء المطلقة، فالدين متجذر في أعماق الطبيعة البشرية، وهو وسيلة محبة نحو ما يعلو عليها وعاطفة «تستقي من العلم مادة تقيم بها عقائدها»، والعلم معرفة يستدل بها من الظاهر المعلوم وضع المطلق المجهول.
والتطور صيغة كونية تفترض انتقالاً للمادة من البسيط إلى المعقد، وتمايز للكائنات من التجانس إلى التباين، يتجه بخط تصاعدي تدريجي يسير دائما نحو الأفضل كونياً، وتخضع له حوادث الوجود كافة، بما فيها حياة الفكر التي يفسرها على نحو آلي بقوانين التطور ذاتها،فالعقل ومبادؤه تأتي اكتسابا بتكرار التجربة الإنسانية وتحت تأثير البيئة.
والمادة والحركة وجها الطبيعة، يسيّرهما قانون التطور والانحلال الذي يؤدي إلى تشتت الطاقة. والحركة باستمرار، إما بفعل عوامل داخلية وإما بفعل تأثيرات خارجية. والحياة تكيف متصل بين العلاقات الداخلية والعلاقات الخارجية، بين الإنسان والبيئة، فسلوك الفرد جوهره القدرة على تكييف طبيعته بصورة صحيحة مع البيئة التي يعيش فيها وانسجامه معها بمقتضى قوانين حفظ الذات والتغاير والانتخاب والوراثة. وكمال الحياة رهن بهذا التلاؤم، وأعلى درجات التطور في سلم الحياة الطبيعية للإنسان هي الأخلاق. وتقدم الحضارة يؤدي إلى تقسيم العمل، ونمو الحياة الفردية يفترض ضرورة التعاون الاجتماعي، وما التقدم والتطور والذكاء الا نتائج طبيعية لسير تطور الحياة وقوانينها والنظر إلى السلوك الإنساني على أنه اتساق الأفعال وضرورات التطور ذاته، بما يحفظ النوع ويحرص على بقائه. السلوك الخلقي يفيد المجتمع ويهدف إلى ترقية حياة الجماعة ويقترن باللذة وتجنب الألم.
و يرجع سبنسر الوجدان وما فيه من أفكار وعواطف إلى الغريزة التي تتطور بالوراثة، وما الفضيلة إلا حالة يتكيف فيها الفرد مع مجتمعه، وهذا التكيّف لم يحصل دفعة واحدة، ولكن تدريجياً، فبدايةً سيطرت الأنانية على أفعال الإنسان، ثم قادته مصالحه إلى توطيد تعاونه مع الآخرين فامتزجت في تصرفاته الأثرة بالغيرية والإيثار، ومع مرور الزمن يرتقي طبيعياً ويثبت بالوراثة العمل لمصلحة الغير وتتفق منفعة الفرد ومنفعة المجتمع وينتفي التعارض بينهما وتسود الغيرية، فالحياة الخلقية تتحرك نحو مثل أعلى، يحقق الانسجام بين مطالب الفرد ومطالب المجموع، ويصبح الإنسان فاضلاً بطبيعته، ويتحول الشعور بالنفور إلى الشعور بالتعاطف، وكل سلوك ينزع إلى ترقية تلاؤم الإنسان مع بيئته يكون خيراً، وما يعيق تلك الترقية فهو شر، وبهذا يوحّد سبنسر القيمة الأخلاقية والقيمة الحيوية، كأن بقاء الأصلح طبيعيا هو بقاء الأفضل «الخير» أخلاقياً.
سوسان إلياس