المسجد الجامع ومقر ولي الأمر
المسجد الجامع ، ومقر ولي الأمر :
لقد يسر اللّه على الإنسان سبل الحياة ، فالصلاة تجوز في أي مكان طاهر ، وبناء المساجد أمر من اللّه سبحانه وتعالى ، لجمع المسلمين في مكان واحد وعلى قلب رجل واحد ليذكر فيها اسمه . مكان يحميهم من التقلبات الجوية والظروف المناخية فالجانب الوظيفي في تصميم المسجد لا يتعدى إيجاد الفراغ المناسب لعدد من المسلمين يقيمون فيه الصلاة ، متجهين في صفوفهم المتراصة قبل المسجد الحرام ، المضمون الإسلامي في النظرية المعمارية يتطلب أن يأخذ المسجد شكلا طولياً متعامداً على اتجاه القبلة ، لإطالة صفوف المصلين حتى يحظى أكبر عدد منهم بالصف الأول ، لما في ذلك من جزاء عند اللّه ، فالمضمون هنا يحدد المسقط الأفقي الأنسب للتعاليم الإسلامية ، الأمر الذي لا يتناسب مع المسقط الدائري أو المنحني أو المسدس أو حتى المربع ، فالعبرة هنا بالأسس العقائدية . وليس بالمراجع التراثية التي يرجع إليها عند تحديد الملامح التشكيلية للمبنى بعد استيفائه للمضمون . والملامح التشكيلية من ناحية أخرى تتحكم فيها طرق الإنشاء ومواد البناء مع التعبير عن الاستمرارية الحضارية للقيم الجمالية المتأصلة في المجتمع فالإسلام لا يرتبط بنظام خاص بالإنشاء بل هو دين لكل مكان وزمان ، يتفاعل مع التقدم العلمي والتكنولوجي المسلمين في كل المجالات ، بما لا يتعارض مع تعاليمه وقيمه . ومن ذلك ، بطبيعة الحال ، طرق البناء والتشييد فمن المستحب من الناحية العقائدية أن يقل عدد الأعمدة التي تقطع الصفوف ، بل ويكون المسجد بدونها أكثر استحباباً ، يستطيع المصلون رؤية خطيب الجمعة دون عوائق من البناء . وهذا مضمون إسلامي آخر يحفظ للإسلام تقدمه وحركته الحضارية ولا يقيده بالقيم التراثية التي ظهرت في أزمنة معينة ومناطق معينة . من هنا يكون البحث عن المضمون سابقاً للبحث عن الشكل ، دراسة المساجد الأثرية تستهدف البحث عن الخيوط التي تربط الماضي بالحاضر لاستنباط المفردات المعمارية التي يمكن أن تتفاعل مع المبنى المعاصر .
والمضمون الآن في تصميم المسجد هو تهيئة الفراغ المعماري الذي يساعد المسلم على الخشوع والرهبة وهو واقف بين يدي اللّه سبحانه وتعالى ، وليس الفراغ الذي يبعث في النفس الانبهار ، الذي يتعارض مع كثير من المساجد التراثية خصوصاً ما كان يتفاخر به الحكام والولاة ، فالإسلام يدعو إلى بناء المسجد بناء قوياً ليس فيه مفاخرة أو تزيين ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود وغيره بسند صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أمرت بتشييد المساجد » وقال ابن عباس عقب هذا الحديث : « لزخرفتها كما زخرفت اليهود والنصارى » . وهذا القول من ابن عباس إما أن يكون قد تلقاه لفظاً ومعنى من النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرفعه الراوي ... وإما أن يكون ابن عباس قد أخذه من أحاديث ، أخرى كما في صحيح البخاري من حديث أبي ، سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ، قالوا : اليهود والنصارى يا رسول الله ، قال : فمن الناس » . وكحديث السيدة عائشة رضي الله فيها من حسن التصاوير ، فقال صلى الله عليه وسلم : عنها أن أم سلمة وأم حبيبة وصفتا للنبي صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتاها بالحبشة – يقال لها مارية- وذكرتا مافيها من حسن التصاوير ، فقال صلى الله عليه وسلم:
أولئك كانوا إذا مات عنهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله تعالى يوم القيامة » . لذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما وسع المسجد النبوي للبناء : « أكن للناس من الحر والقر ولا تحمر ولا تصفر » رواه البخاري ففي هذا الأثر دلالة واضحة على أن الغاية من بناء المساجد هي درء الحر والبرد عن المصلين فيها . فيجب إبعاد كل مالا يحقق هذه الغاية عن بيوت الله عز وجل ، وإلا صدق فينا قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا زخرفتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم فالدمار عليكم » كما في صحيح الجامع الصغير للألباني . من هذا المنطق يمكن تحديد أحد المضامين الإسلامية لتصميم المسجد ، وهو البساطة التي عبر عنها إبان بن عثمان بن عفان في الموقف التالي :
حينما قرر الوليد بن عبد الملك توسعة المسجد النبوي لغرض سياسي وهو مضايقة الحسن بن الحسن وزوجه فاطمة بنت الحسين لحب أهل المدينة لهما وكانا يقيمان في بيت رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أعلن أنه يريد تجديد المسجد النبوي الشريف وتوسعته ، وأصدر أمره إلى أمير المدينة بهدم المسجد ، وإضافة بيت الرسول كله بما فيه القبر إلى المسجد بحجة توسعته ولما قيل للحسن وزوجه لابد من الرحيل من البيت أبيا أن يخرجا مع ذريتهما هما فأرسل الوليد : إن لم تخرجوا هدمناه على رؤوسكم ، وتم تنفيذ أمر الوليد ، وانتقل أبناء الحسن إلى الحيرة بالعراق ، وتمت التوسعة الثالثة للمسجد بضم البيت الشريف إليه وذلك عام ٨٨ هـ ومن هنا يلاحظ أن القبر الشريف لم يكن جزءاً من المسجد ولم يدفن الرسول بمسجده ، بل إن إلحاق القبور بالمساجد بدعة ، وكان أول قبر يلحق بمسجد بالقاهرة التي انتشر فيها هذا الأمر وعم على يد شجرة الدر حينما ألحقت قبة ( مدفن ) زوجها الصالح نجم الدين أيوب بمدرسته وكان ذلك بعد سبعة قرون من هجرة الرسول . ولما تم بناء المسجد جاء الوليد من دمشق إلى المدينة وأخذ يتجول في المسجد معجباً فخوراً بالزخرفة التي أدخلت عليه ، إذ لم يكن للمسلمين عهد ببناء المساجد المزخرفة ولا ببناء القباب على طريقة الكنائس ، وكان إبان بن عثمان بن عفان رضي الله عنه لا يزال حياً ، فأخذ الوليد بيده وطاف بالمسجد وقال لإبان رضي الله عنه ( أين بناؤنا من بناتكم ؟ فكان جواب إبان على الفور لقد بنيناه بناء المساجد ، وأنتم بنيتموه بناء الكنائس ) فبهت الوليد . وكانت الكلمة كالصاعقة في أذنه لأن توسعة عمر ثم عثمان للمسجد النبوي كانت مستوحاة من بساطة الإسلام في عمارة المساجد ، فقد كانت مساجد الصدر الأول من الإسلام كجامع عمرو بن العاص ومسجد علي بالكوفة والمسجد النبوي تنطق ببساطة الإسلام وقوته ويلاحظ من تتبع مكانة المسجد الجامع بالمدينة على مر العصور الإسلامية أنه في صدر الإسلام كانت له المكانة الأولى التي تبلور حولها التكوين الطبيعي للمدينة باعتبار أن المسجد في ذلك الوقت كان هو مصدر التعاليم الإسلامية وملتقى الحاكم بتجمعات السكان ، ومع مرور الوقت بدأت الشخصية الفردية للحاكم تظهر بالتدريج فظهر اهتمامه برفاهيته وحاشيته وجنده ، فارتبط المسجد بعد ذلك بقصر الحاكم ودواوينه كما كان في المدينة الدائرية التي بناها المنصور ، وبعد ذلك انفصل المسجد عن قصر الحاكم الذي استمر يأخذ مكانه المتوسط في المدينة ولم يعد المسجد الجامع بعد ذلك يمثل مركز الثقل لوسط المدينة. وتطور بعد ذلك الهدف من عمارة المساجد إلى أن أصبحت تمثل عملاً من أعمال التفاخر عند الحكام ، كما مارسه المماليك الذين بنوا المساجد في القاهرة ، أو كما تصوره محمد علي الذي بنى مسجده الكبير بعد ذلك ليطل على مدينة القاهرة من قلعة صلاح الدين ، وهكذا أصبح المسجد في الفترات الأخيرة من العصر الإسلامي لا يمثل مركز الثقل الذي تتبلور حوله المدينة الإسلامية ، إن مكانة المسجد في المدينة تعبر عن مدى ارتباط الناس بالإسلام كدين ودنيا وما يتبعها من تجمع سكاني كبير في المدن المكتظة وكم كنا نتمنى أن ترك مثلاً أثناء توسع مدينة الكويت والدوحة والقاهرة والدار البيضاء وجدة وبناء مناطقها السكنية لذوي الدخل المحدود أن تتجه في يمثل مركز الثقل لوسط المدينة الاتحاد ، وتوفر الكثير من الراحة النفسية لأبنائها.
تعليق