مثاقفه
Acculturation - Acculturation
المثاقفة
الثقافة لغة هي الحذاقة والفطنة وسرعة الفهم، وفي المنجد هي التمكن من العلوم والفنون والآداب، وبحسب مجمع اللغة العربية هي كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع.
أما المثاقفة acculturation فهي تبادل تأثير الثقافة أو الفعل الثقافي بين طرفين على الأقل، فالتمكّن من العلوم والفنون والآداب بالنسبة إلى الأفراد والجماعات لا يمكن حدوثه إلا من خلال التفاعل مع الآخر، ومن خلال عملية التواصل التي تكسب الفرد جملة واسعة من المعارف والمهارات والتي تجعله أكثر حذاقة وفطنة، وأكثر سرعة في فهمه للأشياء والحوادث المحيطة به.
وترتبط عملية المثاقفة بالقدرة على التعلّم، تلك الصفة التي تميز الإنسان من الكائنات الحية الأخرى، ومن خلالها يستطيع الإنسان اكتساب المعارف والمهارات، ويصبح قادراً على الفهم والاستيعاب.
ولما كانت القدرة على التعلّم واكتساب المعارف بين الأفراد والجماعات متباينة، وهي على درجات، وكذلك عملية التواصل مع الآخر، فإن عملية المثاقفة تأتي بأنماط متعددة، ومستويات مختلفة أيضاً، إذ يتمكن بعض الأفراد من اكتساب مجموعة كبيرة من المهارات والمعارف إثر تجربة يعيشها في تواصله مع الآخرين، في حين لا يكتسب بعضهم الآخر إلا معارف قليلة، ومهارات أضعف في التجربة ذاتها، وفي ذلك تكمن أهمية العوامل الذاتية في عملية المثاقفة. أما العوامل الموضوعية فتتجلى في انخفاض مستوى المعارف والمهارات التي يكتسبها الفرد حتى مع ارتفاع مستوى ذكائه، وقدراته العقلية، في الوقت الذي تعدّ فيه ظروف تجربته أكثر محدودية، فعملية المثاقفة مشروطة بظروفها والعوامل المؤثرة فيها.
ومن خلال عملية المثاقفة والتعلم، يكتسب الفرد جملة من العادات والتقاليد والقيم المستقرة في الحياة الاجتماعية، ويستطيع من خلالها أن يصبح عضواً في المجتمع، فيكتسب قيمه واتجاهاته والمعايير التي يستطيع من خلالها الحكم على الأنماط السلوكية ويميز بينها تبعاً للأحكام التي يقرها المجتمع ويتعلمها الفرد من خلال عملية المثاقفة، وتنمو شخصيته وتتضح معالمها بحسب مستوى مثاقفته مع المحيط بصورة عامة، ومع الأسرة بصورة خاصة، أي بحسب مستوى تفاعله معها، وبحسب مستوى التأثير والتأثر المتبادل بين الشخصية والبيئة.
وإذا كانت المثاقفة تعدّ عاملاً أساسياً من عوامل نمو الشخصية وتطورها واكتسابها المهارات والمعارف، فإن الأمر ينطبق تماماً على الجماعات والمجتمعات، ذلك أن عملية المثاقفة تعدّ أيضاً عاملاً أساسياً من عوامل التطور الاجتماعي، ورفد الجماعة والمجتمع بجملة من المعارف والعلوم والحجج التي هي المدخل الأول في كل عملية تطور، والمجتمعات التي توصف بأنها ضعيفة التواصل مع المجتمعات الأخرى فإن احتمالات تطورها أضعف، ونمو معارفها أقل، ويدل على ذلك أن تطور المجتمعات الإنسانية ازداد بوضوح مع ازدياد درجة الانفتاح بين الشعوب، وازدياد درجات التفاعل مع الآخر.
تأخذ عملية المثاقفة صوراً عديدة ترتبط بطبيعة العملية نفسها، وطبيعة الأطراف المتفاعلة، واتجاهاتهم وأنماط تفكيرهم وطرق العيش بينهم، ويعد باول Powell أول من استخدم مفهوم المثاقفة عام 1880 للإشارة إلى هذا المضمون، ويلاحظ أنَّ عملية المثاقفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعوامل والمتغيرات الآتية:
ـ درجة التباين الثقافي: أي إلى حد تختلف فيه الثقافات في التكنولوجيا، والإيديولوجيا والقيم، والبناء الاجتماعي وغيرها مما يسهم بدور بالغ الأهمية في عملية التثاقف.
ـ ظروف الاتصال وكثافته: إذ يكون الاتصال عدائياً أو ودياً، وقد ينطوي على اتصال مكثف أو يكون في ظروف استعمارية. وهذه المتغيرات قد تتغير على مدى الزمن، وعندما تمتد الاتصالات، وعلى ضوئها، فسوف يتنوع التثاقف ويتباين.
ـ مواقف السيطرة والتبعية: فقد تكون الثقافة متكافئة، ولكن تتخذ إحداها وضع التبعية للأخرى لاستخدام القهر السافر، أو الضغوط الاقتصادية أو ارتفاع المكانة بالنظر إلى المجتمع التابع والثقافة المغلوبة على أمرها.
ـ عملاء الاتصال: إذن هل القائمون بهذا الاتصال ذو مكانة اجتماعية مرتفعة أم منخفضة؟ ومنهم مثلاً المصلحون والتجار والموظفون الحكوميون ولا شك في أن هذه المتغيرات تعتمد على العنصر السابق عن التبعية والسيطرة.
ـ اتجاه المد التأثيري: إذ هل يسير سيل الابتداعات الناتج من التثاقف ـ في اتجاه واحد أم يسير في اتجاهات متعددة ومتبادلة؟ فبالاعتماد على هذا المد، يمكن أن تحدث عمليات تثاقفية عديدة، منها ما هو صحي، ومنها ما هو سيئ. ومن هذه العمليات على سبيل المثال: التكيف، والتعويض، والتوفيقية، والتفكك الثقافي، والأصالة والرفض.
ويحلل عالم الاجتماع الإنكليزي إليوتEliot عملية المزج الثقافي، أو التثقف من الخارج التي تحدث بين ثقافتين، إحداهما غالبة والأخرى خاضعة، فيرى أن مشكلة المستعمرات تمثل مشكلة العلاقات بين ثقافة وطنية أصلية وثقافة أجنبية، وذلك عندما تُفرض ثقافة أجنبية «أعلى» على ثقافة «أدنى»، وكثيراً ما تُتخذ القوة وسيلة إلى ذلك، وهي مشكلة تتخذ وجوهاً كثيرة: فثمة مشكلة تبرز عند اتصال ثقافة أعلى بثقافة أدنى للمرة الأولى، وثمة مشكلة ثانية، تبرز عندما تكون الثقافة الوطنية قد بدأت تتحلل فعلاً تحت تأثير الثقافة الأجنبية بعد أن يكون السكان الأصليون قد تشربوا قدراً من الثقافة الأجنبية، مما يصعب معه التخلص من تأثير تلك الثقافة ومن ثم طردها، وثمة مشكلة ثالثة تبرز من خلال العملية التي يتم بمقتضاها اقتلاع عدد من الشعوب من مواطنها الأصلية، ثم العمل على خلطهم خلطاً عشوائياً كما حدث بالفعل في بعض جزر الهند الغربية.
شهد المجتمع العربي الإسلامي، في مراحل تطوره المختلفة، مظاهر عديدة من المثاقفة منذ أن ظهرت فيه اتجاهات فكرية ودينية وفلسفية، إذ أسهم تنوع الواقع بخصائصه المتعددة في غنى التجارب لما كان يفرضه على المفكرين والباحثين من جهود تهدف إلى توضيح المواقف ودفع الحجج وإقامة البراهين على الأفكار والمبادئ التي يؤمنون بها، فكان الدافع إلى التأليف في معظم الأحوال توضيح مسائل أو الرد على أخرى، وقد تكون هذه المسائل من علماء ومفكرين آخرين، وقد تكون من عامة الناس، وما تناول الفكرة ومناقشتها والرد عليها، أو تطويرها وتنميتها بحجج جديدة وبراهين واضحة إلا صورة من صور عملية المثاقفة التي تجلّت في التراث العربي الإسلامي بعلم الكلام وما تتضمنه من حجج وبراهين، كانت ترد في مؤلفات الأشاعرة والمعتزلة والإمامية وما فيها من أخذ ورد.
وفي الوقت الراهن يلاحظ أن شريحة واسعة من المفكرين والمثقفين العرب تجد أن أحد عوامل التخلف في المجتمع العربي المعاصر، وعدم قدرته على التفاعل مع مستجدات العصر إنما هو بالدرجة الأولى لضعف عملية المثاقفة مع الآخرين، والاكتفاء بالتراث المحلي، كما أن الغرب بما أوتي من معارف وفلسفات لم يحقق عملية مثاقفة حقيقية مع الشرق، الأمر الذي يفسر قطيعته الثقافية مع العرب والمسلمين، والفجوة الواسعة التي تفصله عن التراث الإسلامي، ولهذا يميل عدد كبير من المفكرين إلى أن عملية المثاقفة بين الشمال والجنوب باتت ضرورية ومهمة في الوقت الراهن، حتى يتمكن كلا الفريقين من فهم الآخر والتفاعل معه على أساس خصائصه الفعلية التي تصفه، وتبنى على أساسها علاقات إنسانية وتفاعلات وجدانية بين الحضارات، وليس من المتوقع أن تحدث مثل هذه العملية في ظل تصورات غير حقيقية يملكها كلا الفريقين عن الآخر، فصورة العربي أو المسلم في الغرب لا تطابق صورته الحقيقية، كما صورة الغرب لدى المسلمين والعرب ليست في الواقع إلا نتاج تصورات لا علاقة لها بالواقع، ولهذا فإن عملية المثاقفة بين الغرب من جهة والعرب والمسلمين من جهة ثانية باتت ضرورة حتى يعرف كل منهما حقيقة الآخر، وليس على أساس التصورات التي نتجت في مراحل العداء والحروب بين الحضارات في الفترات السابقة.
وفي هذا السياق يجد محمد أركون أن مصطلحات الإسلام، وأوربا، والغرب تنتشر وفيها قدر كبير من الأيديولوجيا والأفكار المشحونة باتجاهات وعواطف مبالغ فيها بدرجة كبيرة، الأمر الذي يتطلب إعادة التفكير بإمعان حتى تقوم الصورة التاريخية الحقيقية بدلاً من الصورة الأيديولوجية، ولا بد من تجريد الصور السائدة من تلك الأفكار والأيديولوجيات المبالغ فيها، وفي المسار ذاته يرى محمد نور الدين أفاية أن صورة الغرب الأيديولوجية في الوعي العربي الإسلامي عبرت عنها الثقافة العربية الإسلامية في سياق علاقتها التناحرية معه، وفي سياق استمرارية العدوان الغربي، وغالباً ما تتم عملية إنتاج الرموز الجمعية باستمرار، ويجد أفاية أن إمكانية التحرر من الصور المبالغ فيها، التي أشار إليها محمد أركون، ليست يسيرة مادامت السياسة العربية مبنية على أساس استمرارية العدوان بأساليب مختلفة.
وينطبق الأمر على صورة العربي والمسلم في الوعي الغربي، إذ نشأت هذه الصور في سياق عمليات الصراع والتناحر التي وصفت العلاقة بين المسلمين والغرب منذ فترة طويلة، وإن عملية المثاقفة باتت ضرورية لتجريد هذه الصور من أبعادها الأيديولوجية والفكرية المبالغ فيها.
طلال مصطفى
Acculturation - Acculturation
المثاقفة
الثقافة لغة هي الحذاقة والفطنة وسرعة الفهم، وفي المنجد هي التمكن من العلوم والفنون والآداب، وبحسب مجمع اللغة العربية هي كل ما فيه استنارة للذهن وتهذيب للذوق وتنمية لملكة النقد والحكم لدى الفرد والمجتمع.
أما المثاقفة acculturation فهي تبادل تأثير الثقافة أو الفعل الثقافي بين طرفين على الأقل، فالتمكّن من العلوم والفنون والآداب بالنسبة إلى الأفراد والجماعات لا يمكن حدوثه إلا من خلال التفاعل مع الآخر، ومن خلال عملية التواصل التي تكسب الفرد جملة واسعة من المعارف والمهارات والتي تجعله أكثر حذاقة وفطنة، وأكثر سرعة في فهمه للأشياء والحوادث المحيطة به.
وترتبط عملية المثاقفة بالقدرة على التعلّم، تلك الصفة التي تميز الإنسان من الكائنات الحية الأخرى، ومن خلالها يستطيع الإنسان اكتساب المعارف والمهارات، ويصبح قادراً على الفهم والاستيعاب.
ولما كانت القدرة على التعلّم واكتساب المعارف بين الأفراد والجماعات متباينة، وهي على درجات، وكذلك عملية التواصل مع الآخر، فإن عملية المثاقفة تأتي بأنماط متعددة، ومستويات مختلفة أيضاً، إذ يتمكن بعض الأفراد من اكتساب مجموعة كبيرة من المهارات والمعارف إثر تجربة يعيشها في تواصله مع الآخرين، في حين لا يكتسب بعضهم الآخر إلا معارف قليلة، ومهارات أضعف في التجربة ذاتها، وفي ذلك تكمن أهمية العوامل الذاتية في عملية المثاقفة. أما العوامل الموضوعية فتتجلى في انخفاض مستوى المعارف والمهارات التي يكتسبها الفرد حتى مع ارتفاع مستوى ذكائه، وقدراته العقلية، في الوقت الذي تعدّ فيه ظروف تجربته أكثر محدودية، فعملية المثاقفة مشروطة بظروفها والعوامل المؤثرة فيها.
ومن خلال عملية المثاقفة والتعلم، يكتسب الفرد جملة من العادات والتقاليد والقيم المستقرة في الحياة الاجتماعية، ويستطيع من خلالها أن يصبح عضواً في المجتمع، فيكتسب قيمه واتجاهاته والمعايير التي يستطيع من خلالها الحكم على الأنماط السلوكية ويميز بينها تبعاً للأحكام التي يقرها المجتمع ويتعلمها الفرد من خلال عملية المثاقفة، وتنمو شخصيته وتتضح معالمها بحسب مستوى مثاقفته مع المحيط بصورة عامة، ومع الأسرة بصورة خاصة، أي بحسب مستوى تفاعله معها، وبحسب مستوى التأثير والتأثر المتبادل بين الشخصية والبيئة.
وإذا كانت المثاقفة تعدّ عاملاً أساسياً من عوامل نمو الشخصية وتطورها واكتسابها المهارات والمعارف، فإن الأمر ينطبق تماماً على الجماعات والمجتمعات، ذلك أن عملية المثاقفة تعدّ أيضاً عاملاً أساسياً من عوامل التطور الاجتماعي، ورفد الجماعة والمجتمع بجملة من المعارف والعلوم والحجج التي هي المدخل الأول في كل عملية تطور، والمجتمعات التي توصف بأنها ضعيفة التواصل مع المجتمعات الأخرى فإن احتمالات تطورها أضعف، ونمو معارفها أقل، ويدل على ذلك أن تطور المجتمعات الإنسانية ازداد بوضوح مع ازدياد درجة الانفتاح بين الشعوب، وازدياد درجات التفاعل مع الآخر.
تأخذ عملية المثاقفة صوراً عديدة ترتبط بطبيعة العملية نفسها، وطبيعة الأطراف المتفاعلة، واتجاهاتهم وأنماط تفكيرهم وطرق العيش بينهم، ويعد باول Powell أول من استخدم مفهوم المثاقفة عام 1880 للإشارة إلى هذا المضمون، ويلاحظ أنَّ عملية المثاقفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالعوامل والمتغيرات الآتية:
ـ درجة التباين الثقافي: أي إلى حد تختلف فيه الثقافات في التكنولوجيا، والإيديولوجيا والقيم، والبناء الاجتماعي وغيرها مما يسهم بدور بالغ الأهمية في عملية التثاقف.
ـ ظروف الاتصال وكثافته: إذ يكون الاتصال عدائياً أو ودياً، وقد ينطوي على اتصال مكثف أو يكون في ظروف استعمارية. وهذه المتغيرات قد تتغير على مدى الزمن، وعندما تمتد الاتصالات، وعلى ضوئها، فسوف يتنوع التثاقف ويتباين.
ـ مواقف السيطرة والتبعية: فقد تكون الثقافة متكافئة، ولكن تتخذ إحداها وضع التبعية للأخرى لاستخدام القهر السافر، أو الضغوط الاقتصادية أو ارتفاع المكانة بالنظر إلى المجتمع التابع والثقافة المغلوبة على أمرها.
ـ عملاء الاتصال: إذن هل القائمون بهذا الاتصال ذو مكانة اجتماعية مرتفعة أم منخفضة؟ ومنهم مثلاً المصلحون والتجار والموظفون الحكوميون ولا شك في أن هذه المتغيرات تعتمد على العنصر السابق عن التبعية والسيطرة.
ـ اتجاه المد التأثيري: إذ هل يسير سيل الابتداعات الناتج من التثاقف ـ في اتجاه واحد أم يسير في اتجاهات متعددة ومتبادلة؟ فبالاعتماد على هذا المد، يمكن أن تحدث عمليات تثاقفية عديدة، منها ما هو صحي، ومنها ما هو سيئ. ومن هذه العمليات على سبيل المثال: التكيف، والتعويض، والتوفيقية، والتفكك الثقافي، والأصالة والرفض.
ويحلل عالم الاجتماع الإنكليزي إليوتEliot عملية المزج الثقافي، أو التثقف من الخارج التي تحدث بين ثقافتين، إحداهما غالبة والأخرى خاضعة، فيرى أن مشكلة المستعمرات تمثل مشكلة العلاقات بين ثقافة وطنية أصلية وثقافة أجنبية، وذلك عندما تُفرض ثقافة أجنبية «أعلى» على ثقافة «أدنى»، وكثيراً ما تُتخذ القوة وسيلة إلى ذلك، وهي مشكلة تتخذ وجوهاً كثيرة: فثمة مشكلة تبرز عند اتصال ثقافة أعلى بثقافة أدنى للمرة الأولى، وثمة مشكلة ثانية، تبرز عندما تكون الثقافة الوطنية قد بدأت تتحلل فعلاً تحت تأثير الثقافة الأجنبية بعد أن يكون السكان الأصليون قد تشربوا قدراً من الثقافة الأجنبية، مما يصعب معه التخلص من تأثير تلك الثقافة ومن ثم طردها، وثمة مشكلة ثالثة تبرز من خلال العملية التي يتم بمقتضاها اقتلاع عدد من الشعوب من مواطنها الأصلية، ثم العمل على خلطهم خلطاً عشوائياً كما حدث بالفعل في بعض جزر الهند الغربية.
شهد المجتمع العربي الإسلامي، في مراحل تطوره المختلفة، مظاهر عديدة من المثاقفة منذ أن ظهرت فيه اتجاهات فكرية ودينية وفلسفية، إذ أسهم تنوع الواقع بخصائصه المتعددة في غنى التجارب لما كان يفرضه على المفكرين والباحثين من جهود تهدف إلى توضيح المواقف ودفع الحجج وإقامة البراهين على الأفكار والمبادئ التي يؤمنون بها، فكان الدافع إلى التأليف في معظم الأحوال توضيح مسائل أو الرد على أخرى، وقد تكون هذه المسائل من علماء ومفكرين آخرين، وقد تكون من عامة الناس، وما تناول الفكرة ومناقشتها والرد عليها، أو تطويرها وتنميتها بحجج جديدة وبراهين واضحة إلا صورة من صور عملية المثاقفة التي تجلّت في التراث العربي الإسلامي بعلم الكلام وما تتضمنه من حجج وبراهين، كانت ترد في مؤلفات الأشاعرة والمعتزلة والإمامية وما فيها من أخذ ورد.
وفي الوقت الراهن يلاحظ أن شريحة واسعة من المفكرين والمثقفين العرب تجد أن أحد عوامل التخلف في المجتمع العربي المعاصر، وعدم قدرته على التفاعل مع مستجدات العصر إنما هو بالدرجة الأولى لضعف عملية المثاقفة مع الآخرين، والاكتفاء بالتراث المحلي، كما أن الغرب بما أوتي من معارف وفلسفات لم يحقق عملية مثاقفة حقيقية مع الشرق، الأمر الذي يفسر قطيعته الثقافية مع العرب والمسلمين، والفجوة الواسعة التي تفصله عن التراث الإسلامي، ولهذا يميل عدد كبير من المفكرين إلى أن عملية المثاقفة بين الشمال والجنوب باتت ضرورية ومهمة في الوقت الراهن، حتى يتمكن كلا الفريقين من فهم الآخر والتفاعل معه على أساس خصائصه الفعلية التي تصفه، وتبنى على أساسها علاقات إنسانية وتفاعلات وجدانية بين الحضارات، وليس من المتوقع أن تحدث مثل هذه العملية في ظل تصورات غير حقيقية يملكها كلا الفريقين عن الآخر، فصورة العربي أو المسلم في الغرب لا تطابق صورته الحقيقية، كما صورة الغرب لدى المسلمين والعرب ليست في الواقع إلا نتاج تصورات لا علاقة لها بالواقع، ولهذا فإن عملية المثاقفة بين الغرب من جهة والعرب والمسلمين من جهة ثانية باتت ضرورة حتى يعرف كل منهما حقيقة الآخر، وليس على أساس التصورات التي نتجت في مراحل العداء والحروب بين الحضارات في الفترات السابقة.
وفي هذا السياق يجد محمد أركون أن مصطلحات الإسلام، وأوربا، والغرب تنتشر وفيها قدر كبير من الأيديولوجيا والأفكار المشحونة باتجاهات وعواطف مبالغ فيها بدرجة كبيرة، الأمر الذي يتطلب إعادة التفكير بإمعان حتى تقوم الصورة التاريخية الحقيقية بدلاً من الصورة الأيديولوجية، ولا بد من تجريد الصور السائدة من تلك الأفكار والأيديولوجيات المبالغ فيها، وفي المسار ذاته يرى محمد نور الدين أفاية أن صورة الغرب الأيديولوجية في الوعي العربي الإسلامي عبرت عنها الثقافة العربية الإسلامية في سياق علاقتها التناحرية معه، وفي سياق استمرارية العدوان الغربي، وغالباً ما تتم عملية إنتاج الرموز الجمعية باستمرار، ويجد أفاية أن إمكانية التحرر من الصور المبالغ فيها، التي أشار إليها محمد أركون، ليست يسيرة مادامت السياسة العربية مبنية على أساس استمرارية العدوان بأساليب مختلفة.
وينطبق الأمر على صورة العربي والمسلم في الوعي الغربي، إذ نشأت هذه الصور في سياق عمليات الصراع والتناحر التي وصفت العلاقة بين المسلمين والغرب منذ فترة طويلة، وإن عملية المثاقفة باتت ضرورية لتجريد هذه الصور من أبعادها الأيديولوجية والفكرية المبالغ فيها.
طلال مصطفى