الحَسود لا يَسود
في الستينات من القرن الماضي لم يكن بمقدورنا الحصول على رغيف الخبز إلا بعد خوض مشاوير شاقة تبدأ من شراء القمح من الخان ، إلى ( تصويله ) وتنظيفه من الحصى والزيوان ، ثم تجفيفه وتخزينه في صندوق خشبي كبير يسمى ( العنبر ) له كوَّة صغيرة في الأسفل تسمح بمرور الكمية اللازمة من القمح ، فكنا نملأ كل اسبوع كيساً من القمح ونوكل أمر طحنه إلى الحمال ( فينتع ) الكيس على ظهره ثم يقلبه على ظهر حماره ويذهب به الى الطاحون ، ونعطيه ليرتان ، يأخذ منها نصف ليرة اجرته والباقي يدفعه اجرة للطاحون ، ويأتي بالكيس بعد ساعات طحيناً ساخناً تقوم والدتي بنشره لكي يبرد ، وتأخذ من الطحين مقدار ( عجنة ) واحدة وتعيد باقي الطحين إلى الكيس ، وتستعير ( خميرة ) من عند الجيران وتخلطها بالطحين ، وفي الصباح تقوم بعجن العجين وتركه لفترة ريثما يختمر ثم تقوم بخبزه على التنور .
في أحد الأيام ملأت أُمي كيس القمح كالعادة وطلبت مني أن أذهب الى السوق وآتي بحمالنا ليأخذ الكيس الى الطاحون ، ذهبت وأخي إلى السوق وبحثنا عن حمالنا فلم نجده ، وهنا خطرت لنا فكرة جريئة ، لم لا نقوم أنا وأخي بنقل كيس القمح إلى الطاحون وطحنه والعودة به إلى المنزل ونتقاسم إجرة الحمّال فيما بيننا ، فينال كلٌّ منا ربع ليرة حلال زلال ، ليس على الحال ولا على البال ، اعترضتنا معضلة تأمين الحمار ، فذهبنا إلى خالتي لنستعير حمارهم وشرحنا لها الموضوع فابتسمت وقالت : لن أُخفي عنكم فحمارنا شرس غدّار لا يؤمن له جانب ، ولن تقدروا على قيادته ، قلنا لها : لا عليك سنتدبر الأمر ، قالت : عليكم في البداية أن تكسبوا ثقته وتنادوه باسمه الأثير لديه (خُضَير ) !! وأعطتنا فكرة عن قيادته ، فعبارة ( جو ) تعني إنطلق ، و( هيش ) تعني توقف !! واذا أبطأ السير فلا بأس من ( نَخشِه ) بلطف في رقبته . قلنا لها : لا عليك واتركي الأمر لنا .
سحبنا الحمار وسرنا به في الشارع ، وفي الطريق خطرت لنا فكرة إعتلاء ظهره والتباهي أمام أولاد حارتنا أفضل من أن نسير بجانبه هكذا كالبلهاء !! ، اوقفناه بجانب الرصيف وصعدنا على ظهره واحداً ً تِلو الآخر . سار بنا الحمار لعدة خطوات ثم بدأت حركته بالتباطؤ ، فصاح أخي في اذنه : ( جي ) لكن خطواته تباطأت أكثر ثم توقف وكأنَّه يفكر ، لم تعجبني ( صفنته ) وتوقعت أننا قصرنا في تدليله ومناداته باسمه ، فملت على اذنه وهتفت ( خضير ) !! لكنه ظل واقفاً مكانه لا يتحرك ، وهنا ( نخشه ) اخي في رقبته وكانت القشَّة التي قصمت ظهر البعير ، فرفع الحماررجليه الخلفيتين إلى الأعلى وقذف بنا في الهواء ، فلم نشعر أنا وأخي إلا ونحن نطير ثم نهوي فوق كومة من التراب والأحجار ، وتركنا ( خضير الغدار ) ولاذ بالفرار !!
اصبت برضٍّ في ظهري وصُدِعَت يد أخي وتمزَّقت ركبة بنطالي وتلوثت ملابسنا بتراب الطريق . وأسرعنا لنخبر خالتي بالنبأ غير السار ، ضياع الحمار ، وتوقعنا أن تغضب وتحمِّلنا مسؤولية ضياعه ، وصلنا دار خالتي واذ بالأفندي ( خضير ) واقف أمام باب دارهم ينهق و ( يدحم ) الباب برأسه منتظراً فتح الباب !!
ندمنا حيث لا ينفع الندم ، وذهبنا إلى السوق نبحث عن الحمال ، البطل سيّد الرجال ، الذي ضاقت اعيننا بنصف ليرته ، وحسدناه على رزقته ، فأعمانا الطمع بالنقود ، ونسينا أن الحسود لا يسود !!
بدر الدين تلجبيني