"فواز اليونس" رائد الحركة التشكيلية الرَّقيَّة
- جاسم العيادة/ تصوير حازم محمد
الرقّة
ولد في مدينة "الرقة" عام /1946/م، وكانت ممارسته للرسم في سن مبكرةٍ، وفي عام /1965/م، تخرج من دار المعلمين "فرع التربية الفنية"، ثم مارس تدريس مادة التربية الفنية في ثانويات وإعداديات "الرقة" من عام /1966/م إلى عام /1973/م، انتسب إلى كلية الفنون الجميلة بـ"دمشق" عام /1968/م، لكنه لم يكمل دراسته فيها لأسباب خاصة، أُعير إلى القطر الجزائري، حيث أمضى هناك خمس سنوات، أنتج خلالها الكثير من اللوحات المستوحاة من واقع الجزائر، كما شغل منصب مدير مركز الفنون التشكيلية في "الرقة" لمدة عشر سنوات، لينتسب بعدها إلى نقابة المحامين في سورية.
هذه هي السيرة الذاتية لأحد أهم رواد الحركة التشكيلية في محافظة "الرقة"، وهو المحامي والفنان التشكيلي "فواز اليونس". والذي تشهد له معارضه التي أقامها منذ أكثر من ثلاثة عقود مضت، على ريادته وعمق تجربته الفنية، حيث شاركَ في عدة معارض جماعية أهمها: معرض تَجَمُّع فناني "الرقة" الأول، عام /1978/م، والثاني عام/1979/م، والثالث عام /1980/م، والرابع /1981/م، والخامس عام /1982/م.
الفن هو عملية خلق وإبداع وابتكار، تنبع من ذات الفنان ليُعبِّر بواسطته عن أفكاره ورؤاه ومشاعره وأحاسيسه تجاه كل ما يحيط به من عوالم، وهو الدعامة الأساسية لكلِّ حضارة إنسانية، ولا أعتقد أن هناك حضارة دون فن، والحضارة هي مجموعة قيم ومثل سامية، والفن هو أفضل وسيلة للتعبير عن هذه القيم والمثل
أقام معرضاً فردياً في مدينة "الرقة" عام /1980/م، ثم تابع عرضه في عدة محافظات في القطر، كما أقام معرضاً ثنائياً مع زميله الفنان التشكيلي "محمد صفوت"، تحت عنوان "تحية إلى الرقة"، كما أقام معرضاً فردياً في معهد "غوته" في "دمشق" عام /1983/م، وأخيراً أقام معرضاً فردياً ومحاضرة عن الشكل والمضمون بين الدعوى القضائية واللوحة التشكيلية، في صالة نقابة المحامين في "الرقة" عام /2008/م، أغنى تجربته الشخصية من خلال زيارته لعدد من متاحف العالم، واطلاعه على أعمال كبار الفنانين هناك، كمتحف "اللوفر" في "باريس" وقصر الحمراء في "غرناطة" وكنيسة "دمودي ميلانو" في "ميلانو" وكنيسة "سان مارك" في "فينيسيا" و"آيا صوفيا" في "اسطنبول".
المرأة الفراتية حاضرة في أعمال اليونس
حين تسأل "اليونس" تعريفاً للفن، تجده دائماً يُظهر البعد الحضاري له، حيث يقول: «الفن هو عملية خلق وإبداع وابتكار، تنبع من ذات الفنان ليُعبِّر بواسطته عن أفكاره ورؤاه ومشاعره وأحاسيسه تجاه كل ما يحيط به من عوالم، وهو الدعامة الأساسية لكلِّ حضارة إنسانية، ولا أعتقد أن هناك حضارة دون فن، والحضارة هي مجموعة قيم ومثل سامية، والفن هو أفضل وسيلة للتعبير عن هذه القيم والمثل».
وحين تسأله، كيف بإمكانه التوفيق بين عمله الجاد في سلك المحاماة، وبين الفن الذي يراه غالبية الناس أقل جدية، يقول: «يقال أن الفن نتاج حالة عاطفية ومشاعر إنسانية مواراة في عمق النفس البشرية، أما الحقوق فنتاج عمل عقلاني بحت، تقيِّدهُ النصوص القانونية والقواعد الفقهية، لكن من خلال ممارستي للاثنين معاً، وجدت كثيراً من التشابه بينهما، خاصةً على صعيد الشكل والمضمون الذي لابدَّ لكلِّ لوحةٍ فنيةٍ من أن تجمع بينهما، بغضِّ النظر عن المدرسة أو الاتجاه الذي تنتمي إليه.
لوحة تمثل إمرأة ريفية تصنع خبز الصاج
وبالمقابل لكلِّ دعوى قضائية شكلٌ ومضمون، أيَّاً كانت المحكمة الناظرة فيها، وأنا أتعامل مع الدعوى بكلِّ دقة الفنان وحرصه ونشوته، والذي يريد للوحته أن تشقَّ طريقها إلى أكبر شريحةٍ ممكنة من جماهير المتذوقين، وأتعامل مع اللوحة بكلِّ أناة المحامي وصبره وأمله، والذي يريد لدعواه أن تكلَّلَ بالنجاح، وأن يصرخ الحق من داخلها: هاأنذا».
وللدخول أكثر إلى عالم هذه الشخصية الفنية، التقى موقع eRaqqa ، الفنانين التشكيليين "أيمن ناصر" و"محمد الرفيِّع"، ليحدِّثانا ـ كلٌّ من جانبه ـ عن تجربة الفنان التشكيلي "فواز اليونس"، وكانت البداية مع الفنان التشكيلي "أيمن ناصر"، الذي تحدث قائلاً: «إن اهتمام الأستاذ "فواز اليونس" بتفاصيل العمل، حتى يصل الأمر أحياناً إلى منمنماته الصغيرة جداً، ناتج عن قناعته أن اللون هو الصدمة الأولى للعين، وأنه يشكل المدخل البصري لقراءة اللوحة، ومشروعية الدخول إلى عالمها، وتحويل خاصية الشكل من الحالة الذهنية إلى الحالة الحسية.
تمثال ابن سينا للفنان فواز اليونس في مدخل المشفى الوطني بالرقة
وظلَّ الأستاذ "فواز" طوال عمره مخلصاً لواقعيته التعبيرية، كواحد من الفنانين الرواد والأوائل الذين أغنوا وأسسوا للحركة التشكيلية في منطقة "الفرات" و"الجزيرة".
في فترة السبعينيات من القرن العشرين، كان أستاذاً لجيل من الطلاب تتلمذوا على يديه، ومنهم من تابع، وغدا فناناً معروفاً ومشهوراً، وكنت واحداً ممن أخذوا الكثير عنه، فقد كان مثقفاً لا يبخل بعطائه وملاحظاته، ونقده البنَّاء لأيِّ فنانٍ مبتدئٍ، إلى جانب محاضراته التي كان يقيمها في صالة المركز الثقافي، مرفقاً إياها بأفلام و"سلايدات" عن حياة فنانين عالميين.
لقد عملت معه في مركز الفنون التشكيلية، مدرساً لمادة النحت، حين كان هو مديراً له، ومدرساً لمادة التصوير الزيتي طوال عقد من الزمن حتى تحوَّل إلى سلك المحاماة.
إن للوحاته سحراً خاصاً، بألوانه ذات الطابع المحلي الرقي، والفلكلور الريفي المتميز بجمالية تفرّد فيها، وانعكست فيما بعد عند كثيرٍ من طلابه الفنانين، وبذلك يكون أحد أهم الرواد الذين أحيوا فينا تراثنا الذي كدنا ننساه، إلى جانب تقديسه وعشقه للطبيعة وللجمال البشري المتمثل في الأنثى، التي يرسمها بمزاجية رائعة، تصل إلى حد الثَّملِ، برهافة حس مؤثرة وبتقنية رائعة، فرسمه يتحلى بقوةٍ ساحرة، تبعث حب الطبيعة في نفس المُشاهدِ، وما ذلك إلا نتاج خبرته وسفره وتجواله بين المتاحف العالمية وانفتاحه على المدارس الفنية الغربية من جهة، ونور الشرق وسحره من جهة أخرى».
أما الفنان التشكيلي "محمد الرفيِّع"، فقد تحدث عن الأستاذ "فواز اليونس" قائلاً: «على ضفاف "الفرات" العظيم، وعلى هذه الأرض الطيبة الراسخة مثل أبواب "الرصافة" أو باب "بغداد" وسورها، ومع بداية الستينيات من القرن العشرين، عندما كانت "الرقة" في بداية تشكلها، تسترجع ذكرى أمجادها الغابرة وماضيها التَّليد، وحاضرٌ بدأ يتشكل مع جيل نذر نفسه للعلم والعطاء والإبداع لينهض بواقعها نحو النور, حينما لم يكن للرسم أو التصوير من يهتم به أو حتى يعترف به، معتبرين أن هذه الفنون هي شكل من أشكال العبث أو اللهو، خصوصاً أنه لم يكن من مدرسين مختصين يأخذون بأيدي طلابهم ويقدمون النصح لمعرفة هذا العلم وكشف أغواره وتفاصيله، لذلك كان أصحاب الهوايات والمغرمين بالفن التشكيلي يجدون أنفسهم غرباء عمن يحيط بهم، من حيث الاهتمام والشغف بما يعشقون وما يعتمل في نفوسهم وإمكاناتهم الابداعية وطاقاتهم الخلاقة.
وبالرغم من هذه الصعوبات ظهرت في مدينة "الرقة" ثلة من الشباب الواعي المبدع أمثال التشكيلي "فواز اليونس" و"إبراهيم الموسى" و"محمود فياض" و"إسماعيل الحمود" وغيرهم، وتوالت بعدهم الأجيال التي صنعت المشهد التشكيلي في "الرقة" ولو وقفنا على تجربة الأوائل لوجدناها، رغم غناها كانت تحفل بالمصاعب والمعاناة المريرة، خلاف ما يدور اليوم من تسهيلات وآفاق واسعة.
فحين نتوقف عند تجربة الفنان التشكيلي "فواز اليونس" إنما نقف أمام قامة من قامات الفن التشكيلي الرقي والسوري بحق, فلقد نذر نفسه للعطاء الفني ولتدريس مادة التربية الفنية في ثانويات "الرقة"، ومن ثم مدرساً ومديراً لمركز الفنون التشكيلية في "الرقة" لسنوات عديدة، حيث لم يكن لهذه المادة من مدرسين مختصين.
فكان من أوائلهم حيث استطاع بجهده وصبره وإصراره أن يثبت أن هذا العلم لا يقل شأناً عن باقي العلوم بل أهمها, فساهم في إقامة المعارض الجماعية والفردية الأولى، من خلال أعماله التي رصدت البيئة الفراتية عموماً والرقية خصوصاً، فتعددت رؤاه واتسعت آفاقه ليطلق العنان لريشته الذهبية، متحدة مع ألوان عشق تصنع قصة الإبداع، متكئاً على الموروث الحضاري العريق لـ"لرقة" وأهلها، مصوراً مظاهر الحياة اليومية والعادات والتقاليد بصورة متفردة قلَّ مثيلها, كيف لا وهو الرقي بامتياز والعارف الخبير لكل التفاصيل والجوانب، ينسج من قصصها ومظاهرها الاجتماعية والثقافية كل بديع وينهل من ألوان تربتها وسمائها ومائها، التي شكلت مدخلاً للولوج إلى عالم فنه العميق بحساسية مرهفة، لتكشف عن ذائقة بصرية متميزة تتآلف مع أسلوبه, ولتنفرد عن باقي التجارب بإبداع دون التشبه بأحد أو الاقتداء بنموذجز
لأنه يدرك أن الفن الذي أبدعه يحمل شخصيته وتوقيعه ورؤيته وفلسفته، بقوة تعبيره والبراعة في خلق عوالم الظل والضوء، وانسجام العناصر مع بعضها البعض بحميمية لا تنتهي.
اللوحة عند الفنان "فواز اليونس" دراما فنية متكاملة بألوانها الحارة تارة والباردة تارة أخرى، يتفنن بها بتقنيته المعروفة وواقعيته التي تلامس شغاف الإحساس والوجدان دون استئذان، سعياً وراء استنباط مكامن الجمال في لباس المرأة الرقية من زخرف وزينة ووشم يزين معصمها، وتصوير كل المظاهر الفنية التي تحدثنا عنها بلوحات يحفظها المجتمع ويحفرها في مخيلته وذاكرته، ليكون بذلك "فواز اليونس" المرجع الحقيقي لتراث "الرقة" الأصيل، مؤكدين أن هذا الفنان المبدع لم يكن يوماً بعيداً عن قضايا الأمة الإنسانية والوجدانية والوطنية, فلقد رصد بأعماله كل ما يعانيه الإنسان العربي من ويلات الحروب والدمار والظلم, فأبدع لوحات عديدة عن النكسة في حزيران، وصور القتل والتشريد.
كما مجد انتصارات الإنسان العربي في حرب تشرين, رسم الانتفاضة وثورة الحجارة, كما قوافل الشهداء, والإنجازات الحضارية الحديثة, رسم الوردة والمزهرية ذات الاهتمام بوجوه الأطفال البريئة أو المرأة الحالمة, إذاً فالفنان متابع لما يدور ومتتبع أروع لكل الفنانين الذين تخرجوا، وتتلمذوا على يديه، ونهلوا من معارفه وخبراته، التي أثمرت جيلاً يؤمن بلغة الفن ويعرف قيمته كنتاج حضاري.
من عايش الفنان "فواز اليونس" ويعرفه عن قرب، لا يخفى عليه ثقافته الواسعة وإطلاعه وتذوقه لشتى فنون الأدب والموسيقى، وهذا ما يضفي على شخصيته النبيلة وأخلاقه السامية الوقار والجلال فيكبر في قلوب وعيون جمهوره ومحبيه كل يوم، وهو الذي لم يبحث يوماً عن الشهرة أو المنفعة المادية.
إن تفرغ الأستاذ "اليونس" لممارسة المحاماة لم يؤثر على حياته الفنية والثقافية, ربما قلَّ نتاجه، ولكنه لم يتوقف عن النتاج الفني أو إقامة الندوات التشكيلية كلما سنحت له الظروف.
إن ما قدمه الأستاذ "فواز اليونس" لـ"لرقة" قرابة نصف قرن من حياته, لا تلخصه الكلمات والصفحات, فبطاقة تعريفه وهويته تكمن في وجدان الناس وقلويهم وانبهارهم بما قدم وما سيقدم».