لسانيات Linguistics - Linguistique
اللسانيات
اللسانيات Linguistics علم يدرس اللسان البشري، الذي تظهر أصواته وتتحقق في لغات كثيرة ولهجات عدة وصورٍ مختلفة من الكلام، دراسةً تهدف إلى الكشف عن ماهية كلٍ منها، والآلية التي تعمل بها، منطلقاً من أن كلَّ لغة ليست إلا منظومة كُليَّةً لها سماتها وخصائصها وعناصرها وبنيتها ومستوياتها التراتبية. وعندما تتخذ اللسانيات من اللسان موضوعاً لها فإنها تدرسه دراسةً موضوعية، وصفيةً وتاريخيةً ومقارنةً، للكشف عن القوانين العامة التي تفسر الظواهر اللغوية الخاصة بكل لغة، وعن القوى المؤثرة في حياة اللغات في كل مكان، ويدرس أيضاً العلاقات القائمة بين اللغات المختلفة، أو بين مجموعة من هذه اللغات، ويبحث في وظائفها وأساليبها وعلاقاتها بالنُظُم الاجتماعية المختلفة.
منهج اللسانيات وصفي، تجريبي واستدلالي في الآن ذاته، فهو ينطلق من الظاهرة اللغوية إلى استنباط المعايير التي تنظمها وتضبطها، ولا يقف من اللغة موقفاً قبلياً ينطلق من معيار سابق على الظاهرة اللغوية. ويقوم المنهج الوصفي على الوصف والمعاينة ثم الاختبار والتصنيف والتبويب والاستقراء والتحليل الإحصائي وصولاً إلى استنباط القوانين التي تنظم الظاهرة، لاجئاً إلى استعمال المُثُل والأنماط الرياضية في نظم هذه القوانين، ثم يقوم بتعليلها ليكوّن منها نظرية لسانية عامةً فعالة قابلة للتطور.
واللسانيات - بهذا الفهم - علم حديث أرسى أسسه في مطلع القرن العشرين فردينان دي سوسور [ر] F.de Saussure عندما ألقى «محاضرات في اللسانيات العامة» Cours de linguistique générale فحَّدد بذلك إشكالية المسألة اللسانية، بعد أن اتخذ موقفاً نقدياً من تصورات من سبقه من اللغويين المتقدمين الذين انطلقت دراساتهم للغة من وظيفة رئيسية هي الحفاظ على النصوص المقدسة، أو من اللغويين المتأخرين، خصوصاً في القرن التاسع عشر، الذين نظروا إلى اللغة على أنها آلية تاريخية، من غير أن ينظروا إليها من حيث وظيفتها التواصلية داخل المجتمع الإنساني. وقد أدت «محاضرات» سوسور إلى تحولٍ جعلَ دراسة اللغة «بذاتها ولذاتها» الوظيفة الأهم في اللسانيات، حيث يتقدم الداخلي (ذات اللغة) على الخارجي (المجتمع والدين والثقافة والسياسة والاقتصاد والفلسفة).
حدد سوسور وظائف اللسانيات على النحو الآتي:
ـ توصيف اللغات والتأريخ لها.
ـ البحث عن القوى الموجودة في اللغات كافةً بطريقة شمولية، ثم استخلاص القوانين العامة التي يمكن أن تُرَدَّ إليها كلُّ ظواهر اللغات.
ـ دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها.
يقسم علم اللسانيات انطلاقاً من علاقته بالظاهرة اللغوية إلى علم اللسانيات العام وعلم اللسانيات الخاص.
يدرس علم اللسانيات العامُّ اللسان البشري انطلاقاً من أنه ظاهرة عامة تنتج منها ظواهر خاصة هي اللغات القومية، فهو ينطلق من العام إلى الخاص، أما علم اللسانيات الخاص فينطلق من الظواهر الخاصة في اللسان البشري، أي من اللغات القومية ليدرس كلاً منها مبيناً ما تتصف به من خصائص ومميزات تكسبها خصوصيتها وتجعل منها كُلاً واحداً متميزاً قائماً بذاته.
وتقسم اللسانيات انطلاقاً من منهجها إلى:
ـ علم اللسانيات الوصفي .descriptive linguistics
ـ علم اللسانيات التاريخي .historical linguistics
ـ علم اللسانيات المقارن .comparative linguistics
إن مهمة علم اللسانيات الوصفي وصفُ اللغة وفحصُ ظواهرها وعناصرها وبنيتها. أما علم اللسانيات التاريخي فيتابع تطور اللغة على مَرِّ الزمن، في حين يقوم علم اللسانيات المقارن على مقارنة منظومتي لغتين محددتين أو أكثر من أسرة لغوية واحدة، ويحدد منهجاً للبحث يمكن بوساطته وضع مجموعة من اللغات بعضها إلى جانب بعض؛ للمقارنة والوصول إلى الروابط والعلاقات فيما بينها.
ويقسم علم اللسانيات، انطلاقاً من غايته، إلى نظري وتطبيقي. فالنظري يدرس النظريات اللسانية ومناهجها، كما يدرس ذاته ويحدد سماته على أنه علمُ الموضوعيّةِ والتجريب ويحدد قوانينه الخاصة التي يعتمدها في ضبط الظواهر اللغوية ومنهجيته الدقيقة التي يستخدمها أداةً في بحثه العلمي. أما علم اللسانيات التطبيقي فهو يقوم على التطبيقات الوظيفية للسانيات في علاقتها بالعلوم الأخرى ولــه فروع عدة تتوزع حسب ارتباطه بهذه العلوم، ومنها:
1ـ علم اللسانيات الاجتماعي، وهو العلم الذي يبحث في التطورات اللغوية اعتماداً على معطيات علم الاجتماع، وينطلق من أن اللغة مؤسسة اجتماعية تنبني على علاقة تفاعل مشترك بينها وبين المجتمع.
2ـ علم اللسانيات النفسي، ويدرس علاقة اللغة بالبنية النفسية للإنسان وعالمه وسلوكه. فتكوين الفرد النفسي يكشف عن تكوينه اللغوي، أي الألفاظ التي يستخدمها والعبارات وطرق تركيبها، كما يكشف عن العلل والعاهات اللغوية التي تصيب هذا الفرد وطرق علاجها والتخلص منها.
3ـ علم اللسانيات التربوي، ويدرس التقنيات التي يجب أن تتبع في تدريس اللغة الأم للناطقين بها وسبل تعليمها للناطقين بغيرها.
4ـ علم اللسانيات الجغرافي، ويتوجه نحو دراسة توزيع اللغات في مناطق العالم، توزيعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً واستراتيجياً وثقافياً، وكذلك طرائق تفاعل اللغات بعضها مع بعض، وكيفية تأثير العامل اللغوي في تطور الثقافة والفكر الوطنيين.
5ـ علم اللسانيات الأنثروبولوجي، ويدرس العلاقات التاريخية التطورية القائمة بين اللغة والإنسان وأثرها في العملية اللغوية.
6ـ علم اللسانيات البيولوجي، ويدرس بنية العلاقات القائمة بين الوظائف اللغوية والوظائف البيولوجية في الدماغ البشري ويوظف ذلك لسانياً.
7ـ علم اللسانيات الرياضي، ويدرس الظواهر اللغوية ويُحَدّدها بوضعها في صيغ رياضية تجريدية كلية تستطيع أن تصف اللغات البشرية وتشرح فعاليتها على نحوٍ مكثفٍ، ثم تسقط هذه الصيغ الرياضية المجردة والمكثفة للغات البشرية على تقنيات الحواسيب والأدمغة الإلكترونية لتعالج بها النصوص اللغوية معالجةً آلية سريعة.
أدّى تطور اللسانيات في القرن العشرين إلى تبلور مدارس لسانية عدة أهمها:
ـ المدرسة الروسية (مفهوم المنظومة system، مفهوم الفونيم phoneme)، ومن أهم أعلامها بودوين دي كورتِني [ر] Baudouin de Courtney وشيربا L.V.Sherba وزيندر L.R.Zinder.
ـ مدرسة جنيف (مفهوم البنية structure) وأهم أعلامها فردينان دي سوسور ومييه[ر] A.Meillet ومارتينيه A.Martinet.
ـ مدرسة براغ [ر] (مفهوم الوظيفة function)، وأهم أعلامها نيكولاي تروبتسكوي [ر] N.S.Trubetskoy ورومان ياكبسون [ر] R.Jakobson وفاشيك J.Vachek.
ـ مدرسة كوبنهاغن (النظرية التعالقية glossematics)، ومن أهم أعلامها لويس يلمسليف [ر] L.Hjelmslev.
ـ المدرسة الأمريكية (النظرية السلوكية، نظرية النحو التوليدي والتحويلي Generative grammar)، ومن أهم أعلامها بلومفيلد [ر] L.Bloomfield، وسابير E.Sapir وتشومسكي N.Chomsky.
ـ ثمة بذور لتكوين مدرسة لسانية عربية بسعي من عبد القادر الفاسي الفهري (المغرب)، عبد الرحمن الحاج صالح (الجزائر)، عبد السلام المسدي (تونس)، إبراهيم أنيس وكمال بشر وتمام حسان وأحمد مختار عمر وسعيد مصلوح (مصر)، عبد الرحمن أيوب (العراق)، ميشال زكريا وبسام بركة وموريس أبو ناضر (لبنان)، رضوان القضماني ومنذر عياشي ومازن الوعر (سورية).
تدرس اللسانيات اللغة دراسة تراتبية بمعنى أنَّ اللغةَ مستوياتٌ متراتبة يتم تحديدها من وحداتها الأساسية. فالوحدة الصوتية الصغرى (الفونيم ) وهي وحدة المستوى الصرفي، والكلمة lexeme هي أصغر وحدة في مستوى المعجم، والجملة sentence هي وحدة المستوى النحوي syntax، والنص text هو الوحدة الكبرى على مستوى الدلالة semantics، وهكذا يتألف النص من الجمل، والجمل من الكلمات، والكلمات من الوحدات الصرفية (المورفيمات)، والوحدات الصرفية من الوحدات الصوتية (الفونيمات). تدرس الوحدات الصوتية المنظومةَ الصوتيةَ في اللغة، وتقسم إلى قسمين: علم أصوات اللغة phonetics وعلم الأصوات اللغوية الوظيفي (الفونولوجيا) phonology. ومادة علم أصوات اللغة هي الصوت اللغوي المفرد البسيط، أما علم الأصوات الوظيفي فيدرس الأصوات اللغوية من حيث هي عناصر وظيفية.
تقوم التراتبية على الأسس الآتية:
1ـ يدرس المستوى الصرفي بنية الكلمة وتشكلها من وحدات صرفية (مورفيمات)، ويدرس المنظومة الصرفية في اللغة انطلاقاً من أنها تتالف من وحدات ومقولات وبنىً صرفية تتجسد في وحدات صرفية وما تُنتج من صيغ بعد التحام الوحدات الصرفية الأولية (الجذر) بالسوابق prefix واللواحق suffix والدواخل interfix.
2ـ يدرس مستوى المعجم متن اللغة أي ثروته من الكلمات، من حيث جمعها واشتقاقها وولادتها وتحديد دلالتها. وتعد الكلمة المفردة lexeme وحدة هذا المستوى.
3ـ يدرس مستوى التراكيب (النحو) العلاقات الداخلية بين الوحدات اللغوية، والطرائق التي تتألف بها الجمل من الكلمات بعد أن تكونت الكلمات من الوحدات الصرفية، والوحداتُ الصرفية من الوحدات الصوتية. وتعدّ الجملة أصغر وحدة تركيبية يمكن لها أن تنقل معلومة وتتألف من مسند ومسندٍ إليه.
4ـ يدرس المستوى النحوي التراكيب الأصغر من الجملة والأكبر منها أيضاً.
5ـ يُتَوِّجُ مستوى الدلالة مستويات اللغة فهو يقف على قمتها تراتبياً، ويدرس بنية الدلالة اللسانية المتشكلة في المستويات الأدنى (النحو والمعجم والصرف والصوت). وتنطلق الدراسة الدلالية من العلاقة اللسانية بدالها ومدلولها في علاقتهما بمرجع العلامة. وللدلالة وحدة صغرى هي الجملة بعد أن اكتسبت بنيتها النحوية مكوناً دلالياً، ووحدةٌ كُبرى هي النص الذي تتسم دلالته بالكلية والتواصلية. ويحدد في الدلالة أيضاً أصغر عنصر دلالي مجرد يقوم بوظيفة التمييز بين الدلالات ويسمى سيميماً sememe. ويتم تحديد الدلالة من خلال تحليل المكونات الدلالية componential analysis، وهو تحليل يقوم على وصف الوحدة الدلالية انطلاقاً من السمات المعنوية المميزة التي تشترك فيها مع وحدات المستوى اللغوي ذاته. فكلمة رجل في مستوى المعجم تحمل مكوناتٍ دلالية: (حي ـ إنسان ـ بالغ ـ ذكر)، وتشترك في ثلاثٍة منها مع كلمة امرأة (حي ـ إنسان ـ بالغ ـ أنثى)، ومن هذه المكونات الدلالية تتكون دلالة الكلمة الأساسية القابلة للاستدلال.
تشكل الوحدات الدلالية حقولاً دلالية. والحقل الدلالي semantic field مجموعة وحدات ترتبط فيما بينها دلالياً، فهي مجموعة من المفاهيم تنبني على علاقات لسانية مشتركة، ويمكن أن تكوِّنَ بنية فرعية في المنظومة الدلالية، فاللون ـ مثلاً ـ حقل دلالي يجمع الأحمر والأزرق والأصفر والأخضر والأبيض، ومفهوم الهيمنة حقل دلالي يجمع السلطة والنفوذ والسيطرة والسيادة والطغيان والتسلط.
رضوان القضماني
اللسانيات
اللسانيات Linguistics علم يدرس اللسان البشري، الذي تظهر أصواته وتتحقق في لغات كثيرة ولهجات عدة وصورٍ مختلفة من الكلام، دراسةً تهدف إلى الكشف عن ماهية كلٍ منها، والآلية التي تعمل بها، منطلقاً من أن كلَّ لغة ليست إلا منظومة كُليَّةً لها سماتها وخصائصها وعناصرها وبنيتها ومستوياتها التراتبية. وعندما تتخذ اللسانيات من اللسان موضوعاً لها فإنها تدرسه دراسةً موضوعية، وصفيةً وتاريخيةً ومقارنةً، للكشف عن القوانين العامة التي تفسر الظواهر اللغوية الخاصة بكل لغة، وعن القوى المؤثرة في حياة اللغات في كل مكان، ويدرس أيضاً العلاقات القائمة بين اللغات المختلفة، أو بين مجموعة من هذه اللغات، ويبحث في وظائفها وأساليبها وعلاقاتها بالنُظُم الاجتماعية المختلفة.
منهج اللسانيات وصفي، تجريبي واستدلالي في الآن ذاته، فهو ينطلق من الظاهرة اللغوية إلى استنباط المعايير التي تنظمها وتضبطها، ولا يقف من اللغة موقفاً قبلياً ينطلق من معيار سابق على الظاهرة اللغوية. ويقوم المنهج الوصفي على الوصف والمعاينة ثم الاختبار والتصنيف والتبويب والاستقراء والتحليل الإحصائي وصولاً إلى استنباط القوانين التي تنظم الظاهرة، لاجئاً إلى استعمال المُثُل والأنماط الرياضية في نظم هذه القوانين، ثم يقوم بتعليلها ليكوّن منها نظرية لسانية عامةً فعالة قابلة للتطور.
واللسانيات - بهذا الفهم - علم حديث أرسى أسسه في مطلع القرن العشرين فردينان دي سوسور [ر] F.de Saussure عندما ألقى «محاضرات في اللسانيات العامة» Cours de linguistique générale فحَّدد بذلك إشكالية المسألة اللسانية، بعد أن اتخذ موقفاً نقدياً من تصورات من سبقه من اللغويين المتقدمين الذين انطلقت دراساتهم للغة من وظيفة رئيسية هي الحفاظ على النصوص المقدسة، أو من اللغويين المتأخرين، خصوصاً في القرن التاسع عشر، الذين نظروا إلى اللغة على أنها آلية تاريخية، من غير أن ينظروا إليها من حيث وظيفتها التواصلية داخل المجتمع الإنساني. وقد أدت «محاضرات» سوسور إلى تحولٍ جعلَ دراسة اللغة «بذاتها ولذاتها» الوظيفة الأهم في اللسانيات، حيث يتقدم الداخلي (ذات اللغة) على الخارجي (المجتمع والدين والثقافة والسياسة والاقتصاد والفلسفة).
حدد سوسور وظائف اللسانيات على النحو الآتي:
ـ توصيف اللغات والتأريخ لها.
ـ البحث عن القوى الموجودة في اللغات كافةً بطريقة شمولية، ثم استخلاص القوانين العامة التي يمكن أن تُرَدَّ إليها كلُّ ظواهر اللغات.
ـ دراسة اللغة في ذاتها ولذاتها.
يقسم علم اللسانيات انطلاقاً من علاقته بالظاهرة اللغوية إلى علم اللسانيات العام وعلم اللسانيات الخاص.
يدرس علم اللسانيات العامُّ اللسان البشري انطلاقاً من أنه ظاهرة عامة تنتج منها ظواهر خاصة هي اللغات القومية، فهو ينطلق من العام إلى الخاص، أما علم اللسانيات الخاص فينطلق من الظواهر الخاصة في اللسان البشري، أي من اللغات القومية ليدرس كلاً منها مبيناً ما تتصف به من خصائص ومميزات تكسبها خصوصيتها وتجعل منها كُلاً واحداً متميزاً قائماً بذاته.
وتقسم اللسانيات انطلاقاً من منهجها إلى:
ـ علم اللسانيات الوصفي .descriptive linguistics
ـ علم اللسانيات التاريخي .historical linguistics
ـ علم اللسانيات المقارن .comparative linguistics
إن مهمة علم اللسانيات الوصفي وصفُ اللغة وفحصُ ظواهرها وعناصرها وبنيتها. أما علم اللسانيات التاريخي فيتابع تطور اللغة على مَرِّ الزمن، في حين يقوم علم اللسانيات المقارن على مقارنة منظومتي لغتين محددتين أو أكثر من أسرة لغوية واحدة، ويحدد منهجاً للبحث يمكن بوساطته وضع مجموعة من اللغات بعضها إلى جانب بعض؛ للمقارنة والوصول إلى الروابط والعلاقات فيما بينها.
ويقسم علم اللسانيات، انطلاقاً من غايته، إلى نظري وتطبيقي. فالنظري يدرس النظريات اللسانية ومناهجها، كما يدرس ذاته ويحدد سماته على أنه علمُ الموضوعيّةِ والتجريب ويحدد قوانينه الخاصة التي يعتمدها في ضبط الظواهر اللغوية ومنهجيته الدقيقة التي يستخدمها أداةً في بحثه العلمي. أما علم اللسانيات التطبيقي فهو يقوم على التطبيقات الوظيفية للسانيات في علاقتها بالعلوم الأخرى ولــه فروع عدة تتوزع حسب ارتباطه بهذه العلوم، ومنها:
1ـ علم اللسانيات الاجتماعي، وهو العلم الذي يبحث في التطورات اللغوية اعتماداً على معطيات علم الاجتماع، وينطلق من أن اللغة مؤسسة اجتماعية تنبني على علاقة تفاعل مشترك بينها وبين المجتمع.
2ـ علم اللسانيات النفسي، ويدرس علاقة اللغة بالبنية النفسية للإنسان وعالمه وسلوكه. فتكوين الفرد النفسي يكشف عن تكوينه اللغوي، أي الألفاظ التي يستخدمها والعبارات وطرق تركيبها، كما يكشف عن العلل والعاهات اللغوية التي تصيب هذا الفرد وطرق علاجها والتخلص منها.
3ـ علم اللسانيات التربوي، ويدرس التقنيات التي يجب أن تتبع في تدريس اللغة الأم للناطقين بها وسبل تعليمها للناطقين بغيرها.
4ـ علم اللسانيات الجغرافي، ويتوجه نحو دراسة توزيع اللغات في مناطق العالم، توزيعاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً واستراتيجياً وثقافياً، وكذلك طرائق تفاعل اللغات بعضها مع بعض، وكيفية تأثير العامل اللغوي في تطور الثقافة والفكر الوطنيين.
5ـ علم اللسانيات الأنثروبولوجي، ويدرس العلاقات التاريخية التطورية القائمة بين اللغة والإنسان وأثرها في العملية اللغوية.
6ـ علم اللسانيات البيولوجي، ويدرس بنية العلاقات القائمة بين الوظائف اللغوية والوظائف البيولوجية في الدماغ البشري ويوظف ذلك لسانياً.
7ـ علم اللسانيات الرياضي، ويدرس الظواهر اللغوية ويُحَدّدها بوضعها في صيغ رياضية تجريدية كلية تستطيع أن تصف اللغات البشرية وتشرح فعاليتها على نحوٍ مكثفٍ، ثم تسقط هذه الصيغ الرياضية المجردة والمكثفة للغات البشرية على تقنيات الحواسيب والأدمغة الإلكترونية لتعالج بها النصوص اللغوية معالجةً آلية سريعة.
أدّى تطور اللسانيات في القرن العشرين إلى تبلور مدارس لسانية عدة أهمها:
ـ المدرسة الروسية (مفهوم المنظومة system، مفهوم الفونيم phoneme)، ومن أهم أعلامها بودوين دي كورتِني [ر] Baudouin de Courtney وشيربا L.V.Sherba وزيندر L.R.Zinder.
ـ مدرسة جنيف (مفهوم البنية structure) وأهم أعلامها فردينان دي سوسور ومييه[ر] A.Meillet ومارتينيه A.Martinet.
ـ مدرسة براغ [ر] (مفهوم الوظيفة function)، وأهم أعلامها نيكولاي تروبتسكوي [ر] N.S.Trubetskoy ورومان ياكبسون [ر] R.Jakobson وفاشيك J.Vachek.
ـ مدرسة كوبنهاغن (النظرية التعالقية glossematics)، ومن أهم أعلامها لويس يلمسليف [ر] L.Hjelmslev.
ـ المدرسة الأمريكية (النظرية السلوكية، نظرية النحو التوليدي والتحويلي Generative grammar)، ومن أهم أعلامها بلومفيلد [ر] L.Bloomfield، وسابير E.Sapir وتشومسكي N.Chomsky.
ـ ثمة بذور لتكوين مدرسة لسانية عربية بسعي من عبد القادر الفاسي الفهري (المغرب)، عبد الرحمن الحاج صالح (الجزائر)، عبد السلام المسدي (تونس)، إبراهيم أنيس وكمال بشر وتمام حسان وأحمد مختار عمر وسعيد مصلوح (مصر)، عبد الرحمن أيوب (العراق)، ميشال زكريا وبسام بركة وموريس أبو ناضر (لبنان)، رضوان القضماني ومنذر عياشي ومازن الوعر (سورية).
تدرس اللسانيات اللغة دراسة تراتبية بمعنى أنَّ اللغةَ مستوياتٌ متراتبة يتم تحديدها من وحداتها الأساسية. فالوحدة الصوتية الصغرى (الفونيم ) وهي وحدة المستوى الصرفي، والكلمة lexeme هي أصغر وحدة في مستوى المعجم، والجملة sentence هي وحدة المستوى النحوي syntax، والنص text هو الوحدة الكبرى على مستوى الدلالة semantics، وهكذا يتألف النص من الجمل، والجمل من الكلمات، والكلمات من الوحدات الصرفية (المورفيمات)، والوحدات الصرفية من الوحدات الصوتية (الفونيمات). تدرس الوحدات الصوتية المنظومةَ الصوتيةَ في اللغة، وتقسم إلى قسمين: علم أصوات اللغة phonetics وعلم الأصوات اللغوية الوظيفي (الفونولوجيا) phonology. ومادة علم أصوات اللغة هي الصوت اللغوي المفرد البسيط، أما علم الأصوات الوظيفي فيدرس الأصوات اللغوية من حيث هي عناصر وظيفية.
تقوم التراتبية على الأسس الآتية:
1ـ يدرس المستوى الصرفي بنية الكلمة وتشكلها من وحدات صرفية (مورفيمات)، ويدرس المنظومة الصرفية في اللغة انطلاقاً من أنها تتالف من وحدات ومقولات وبنىً صرفية تتجسد في وحدات صرفية وما تُنتج من صيغ بعد التحام الوحدات الصرفية الأولية (الجذر) بالسوابق prefix واللواحق suffix والدواخل interfix.
2ـ يدرس مستوى المعجم متن اللغة أي ثروته من الكلمات، من حيث جمعها واشتقاقها وولادتها وتحديد دلالتها. وتعد الكلمة المفردة lexeme وحدة هذا المستوى.
3ـ يدرس مستوى التراكيب (النحو) العلاقات الداخلية بين الوحدات اللغوية، والطرائق التي تتألف بها الجمل من الكلمات بعد أن تكونت الكلمات من الوحدات الصرفية، والوحداتُ الصرفية من الوحدات الصوتية. وتعدّ الجملة أصغر وحدة تركيبية يمكن لها أن تنقل معلومة وتتألف من مسند ومسندٍ إليه.
4ـ يدرس المستوى النحوي التراكيب الأصغر من الجملة والأكبر منها أيضاً.
5ـ يُتَوِّجُ مستوى الدلالة مستويات اللغة فهو يقف على قمتها تراتبياً، ويدرس بنية الدلالة اللسانية المتشكلة في المستويات الأدنى (النحو والمعجم والصرف والصوت). وتنطلق الدراسة الدلالية من العلاقة اللسانية بدالها ومدلولها في علاقتهما بمرجع العلامة. وللدلالة وحدة صغرى هي الجملة بعد أن اكتسبت بنيتها النحوية مكوناً دلالياً، ووحدةٌ كُبرى هي النص الذي تتسم دلالته بالكلية والتواصلية. ويحدد في الدلالة أيضاً أصغر عنصر دلالي مجرد يقوم بوظيفة التمييز بين الدلالات ويسمى سيميماً sememe. ويتم تحديد الدلالة من خلال تحليل المكونات الدلالية componential analysis، وهو تحليل يقوم على وصف الوحدة الدلالية انطلاقاً من السمات المعنوية المميزة التي تشترك فيها مع وحدات المستوى اللغوي ذاته. فكلمة رجل في مستوى المعجم تحمل مكوناتٍ دلالية: (حي ـ إنسان ـ بالغ ـ ذكر)، وتشترك في ثلاثٍة منها مع كلمة امرأة (حي ـ إنسان ـ بالغ ـ أنثى)، ومن هذه المكونات الدلالية تتكون دلالة الكلمة الأساسية القابلة للاستدلال.
تشكل الوحدات الدلالية حقولاً دلالية. والحقل الدلالي semantic field مجموعة وحدات ترتبط فيما بينها دلالياً، فهي مجموعة من المفاهيم تنبني على علاقات لسانية مشتركة، ويمكن أن تكوِّنَ بنية فرعية في المنظومة الدلالية، فاللون ـ مثلاً ـ حقل دلالي يجمع الأحمر والأزرق والأصفر والأخضر والأبيض، ومفهوم الهيمنة حقل دلالي يجمع السلطة والنفوذ والسيطرة والسيادة والطغيان والتسلط.
رضوان القضماني