ابيقور وابيقوريه
Epicureanism - Epicurisme
أبيقور والأبيقورية
(341-270ق.م)
فيلسوف يوناني رأس مدرسة فلسفية عرفت باسمه. ولد أبيقور Epicure في ساموس من أسرة أثينية. ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره قصد أثينة, ولم تطل إِقامته فيها, فرحل إِلى آسيا الصغرى, وعلّم في بعض مدنها. ثم عاد إِلى أثينة وافتتح فيها مدرسة سنة 306 ق.م. فأقبل عليه التلاميذ يتعلمون منه «حياة اللذة السهلة». كان أكثر اجتماعاتهم في الحديقة, لا في حجرات البناء, يتجاذبون أطراف الحديث في الأخلاق, فدعيت «حديقة أبيقور». ومع أن أبيقور كان كثير الاعتداد بنفسه, فإِنه كان طيب القلب مع أصدقائه وتلاميذه, باراً بهم, وقف عليهم البناء والحديقة, وأوصاهم بأن يعيشوا جماعة مؤتلفة متحابة, وانتشرت تعاليمه, فتأسست مراكز أبيقورية في حوض المتوسط بعد وفاته.
مكانة الأبيقورية في مجموع الفلسفات القديمة
لم يبق شيء من المؤلفات التي كتبها الرواقيون القدماء والأبيقوريون وصغار السقراطيين. بيد أن المشكلة عند الأبيقوريين أسهل مما هي عليه عند الآخرين, لسببين: أولهما أن ديوجينس اللايرسي احتفظ بثلاث رسائل, وبمئة وإِحدى وعشرين فكرة عرض فيها أبيقور خلاصة مذهبه؛ وثانيهما أن الأبيقورية, خلافاً للرواقية القديمة المتمثلة بثلاثة أعلام كبار ليس بين أفكارهم توافق أو تطابق دائماً, لا تتضمّن, بالمعنى الدقيق للكلمة, إِلا اسم أبيقور. أما الأبيقوريون اللاحقون منهم, باستثناء لوكراس اللاتيني الذي يفصله عنه قرنان ونصف قرن من الزمن, ليسوا تلاميذ حقيقيين, بل فلاسفة أخلصوا له وتأثروا بفكره. وكذلك لا يوجد, حتى في بداية العصر المسيحي, أبيقوريون اتسموا بشمول إِبيكتاتوس Epictéte وماركُس أوريليوس Marc-Auréle الرواقيين اللذين كان لهما الفضل في الحفاظ على فكر المؤسس عدة قرون بعد وفاتهما.
الفكر اليوناني والأبيقورية:
يعد القرن الثالث قبل الميلاد بداية مرحلة من الاضطراب السياسي في حوض المتوسط, فأثينة, التي كانت دائماً عاصمة فكرية لامعة, فقدت سيطرتها السياسية وحقها في سك النقود وتفوقها البحري, فأصبحت أسوارها العالية التي تربطها بالمرفأ مهدّمة, وهذا ما عرّضها لهجمات قوى غريبة تمركزت على شواطئها. أما في مجال الفكر, فقد حدث اضطراب كبير, بسبب اختلاف الفلاسفة على اقتسام الإِرث السقراطي. وإِذا كان سقراط قد اتخذ من التهكم أفضل سلاح في وجه السفسطائيين الذين كانوا يدعون أنهم يعرفون كل الأشياء معرفة كلية وشاملة, فإِن الكلبيّين هاجموا هذا التهكم بعنف محتفظين بمغزاه وحسب, وإِذا كان سقراط قد وضع مقابل ادعاءات السفسطائيين الموسوعية شكاً مريباً, فإِن الميغاريين قد جعلوا من الشك السقراطي, ليس سلاحاً لمحاربة مزاعم السفسطائيين, وإِنما نوعاً من الجدل يقودهم إِلى القول: إِنّ الإِنسان لا يستطيع الكلام عن شيء من دون أن يحدّده بأن ينفي عنه كل ما لا يمكن إِسناده إِليه, وأن القضية «أ هي أ» هي الوحيدة التي يمكن إِعلانها بحكمة. وإِذا كان سقراط قد وضع «اعرف نفسك بنفسك» مقابل العلم الخارجي للسفسطائيين, فإِن القورينائيين قد استنتجوا من هذه الوساطة الداخلية أن على الإِنسان التمسك بمعرفة ما يحلو له والبحث عن المتعة. ولهذا اتخذوا من اللذة مقياساً للقيم جميعاً, وهدفاً يسعى إِليه كل إِنسان.
وهكذا, فبينما توجه فكر سقراط بأكمله بقصد الوصول إِلى الاستقلالية والسيطرة الداخلية, فإِن تأملات صغار السقراطيين مالت جميعها نحو تمكين الإِنسان من الوصول إِلى الاكتفاء الذاتي, وبالتالي من الانطواء على ذاته. وفي هذه الأجواء المضطربة سياسياً واقتصادياً وفكرياً, حاولت مدرستا الأبيقورية والرواقية, تعليم الإِنسان سمات اليقين القادر على إِعطائه قواعد الحياة, والتوفيق بينه وبين الطبيعة, ومع التناقض القائم بينهما, فإِن لهما رمزاً مشتركاً هو العيش بتوافق مع الطبيعة, كما أنهما اتفقتا على جعل الإِحساس أساس المعرفة, وعلى عدم التسليم بمبادئ غير المبادئ الجسمية. بيد أن هاتين المدرستين الطبيعيتين اتبعتا طرائق مختلفة: ففي حين طلب الرواقي من الإِنسان العيش بتوافق مع الطبيعة, وبالانسجام مع العناية الإِلهية, طلب الأبيقوري منه العيش بتوافق معها, عن طريق خضوعه للإِحساس معيار الحق والخير. وهكذا إِذا كانت الرواقية تطورت لتكون ماديةً وعقلانيةً أخلاقية, فإِن الأبيقورية تطورت حِسَّويةً ومُتْعيّة.
إِن الطبيعة, في نظر الرواقي, هي نفسها الإِله, أما في نظر الأبيقوري, فإِنها حدث واقعي يجد فيه الإِنسان الراحة والسلام, ومن الواضح أن الرواقيين والأبيقوريين يستعملون تعبيراً واحداً لتمييز موقف الحكيم هو غياب الاضطراب Ataraxia أو انعدامه. وإِذا كان هذا الغياب مرتبطاً, عند الرواقيين, بمنطق وبطبيعةٍ غرضهما توضيح أنّ الأشياء والموجودات والأحداث مرتبطة بعضها ببعض بعلاقة عليّة متعلقة بالإِله فإِنّه, عند الأبيقوريين, يجب أن يتمَّ من مجرّد فكرة تقول إِن كل شيء في العالم يمكن توضيحه من دون حاجة إِلى إِقحام الآلهة أو القوى السحرية. فالقدر, في نظر أبيقور, غريب تماماً عن الإِنسان الذي يعرف سلام النفس انطلاقاً من اللحظة التي يتوقف فيها عن الخوف من الأحداث الطبيعية, لأنّ بإِمكانه أن يوضّحها توضيحاًَ منطقياً وطبيعياً.
مكانة المدرسة الأبيقورية في تاريخ الفكر الإِنساني:
سيطرت الأبيقورية على حوض المتوسط بأكمله, فوجدت مدرسة أبيقورية في أنطاكية, في القرن الثاني قبل الميلاد وتأثرت المذاهب الفلسفية في الاسكندرية بالأفكار الأبيقورية, أما رومة , فمع أنها عرفت الأبيقورية في حياة مؤسسها أبيقور, فإِن إِشارات الخطيب الروماني شيشرون الثابتة إِلى الأبيقورية تثبت أنها - أي الأبيقورية - ازدهرت فيها وسيطرت عليها في القرن الأول قبل الميلاد. وكذلك وجدت مراكز للأبيقورية في منطقة نابولي الإِيطالية وجوارها. ومع أن الأبيقورية كانت ما تزال مزدهرة في القرنين الأول والثاني الميلاديين, فإِنها أخذت تتفكك تدريجياً لتحلّ محلها المسيحية بمؤسستها الكنسية التي سيطرت على الفكر الأوربي في القرون الوسطى, ولكن ما إِن بدأ النصف الأول من القرن السابع عشر حتى لوحظ نوع من إِحياء للأبيقورية سببه معارضة التجريبيين لعقلانية ديكارت[ر], والباعث على هذا الإِحياء غاسندي الذي وضع النظرية الحسَّوية للمعرفة الأبيقورية مقابل ديكارتية الأفكار الفطرية, ونصَّرَ نظرية أبيقور الذرية بأن عدّ الإِله علة لحركة الذرات, خلافاً لأبيقور ذاته الذي عزا ذلك إِلى الجاذبية الأرضية, كما أنّه رأى في الكون كلاً متماسكاً يتطلب وجود إِله كليّ القدرة, ليوضح قوامه وغائيته. وقد حاول غاسندي أن يوفق بين دعوته الكهنوتية وتجريبيته المضادة للديكارتية والمتأثرة بالأبيقورية. ويلاحظ كذلك أن نفعية بنتام J.Bentham [ر] وستوارت مل J.Stuart Mill [ر] قد تأثرت, في جوانب منها, بالأخلاق الأبيقورية. وقد تكون الأبيقورية أول محاولة, في العالم الغربي, لتأسيس مذهب إِنساني كامل.
فلسفة أبيقور
القانون الأبيقوري:
يمّيز أبيقور ثلاثة أقسام في الفلسفة: العلم القانوني والطبيعة والأخلاق. الأول أساس العلم, ويعلم طرائق تمييز الحقيقة من الخطأ, والثاني يبحث في كون الأشياء وفسادها وطبيعتها, والثالث يميّز الأشياء التي توفر حياة سعيدة من الأشياء الضارة التي يجب الابتعاد عنها, والعلم القانوني والطبيعة في خدمة الأخلاق, وغايتهما دراسة الأسس التي تسمح بالتحرر من الآراء الخداعة, للتوصل إِلى حياة حرّة هادئة ومتزنة.