المادة والمادية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المادة والمادية

    ماده ماديه

    Matter and materialism - Matière et matérialisme

    المادة والمادية

    المادة matter في أبسط معانيها هي الأشياء الحسية العيانية التي توجد في علاقات مع بعضها، وإمكانية تحوّلها من حال إلى آخر، فالخشب مادة تصنع منها الطاولة، والطاولة هي النموذج الذي يأخذه الخشب.
    أما من منظور فلسفي فلها معان عدة: فالمادة عند طاليس [ر] Thales هي الماء كأصل طبيعي مشخص يعدّ أصل الموجودات، أما عند أرسطو [ر] Aristotle فالمادّة هي ما يقابل الصورة، وتشير إلى جملة العناصر اللامتعينة التي تعرف بالهيولى، وتمثل الإمكان المحض أو القوة المطلقة التي تقبل فعل الصورة، الموجودة بالتحقق والمكملة للمادة، فهي قوة ندركها بتأثير الصورة فيها، وانفعال سلبي يتلقى فاعلية الصور؛ لتتحول إلى وجود متحقق. وقد عرفت المادة بأحد أشكالها المتعينة كالتوحيد بينها وبين مفهوم الجوهر[ر] Substance فهي عند ابن سينا [ر]: «الجوهر الممكن بذاته والموجود بالفعل بغيره، والذي منه تتكون الأجسام الموجودة المتحركة؛ وذلك بفضل قابليته لقبول الصور الجسمية».
    وما يعنيه ديكارت [ر] Decartes بالمادة: هي الكتل الطبيعية التي تدركها حواسّنا بوساطة الحدس الحسي والناجمة بفضل فاعلية الحركة في المكان، وتوجد خارج العقل، بمقابل الفكر الذي هو شيء داخلي منزه عن المادة ولواحقها؛ لذلك وحّد ديكارت بين المادة والامتداد، وآخرون جعلوا من تصور المادة مساوياً للطاقة والحركة والقوة. وعند كانت[ر] Kant المادة: هي المعطيات الحسية التي تنقلها حساسيتنا إلى الذهن والمتميزة عن أشكال العقل القبلية، فالعنصر الحسي في الظاهرة هو مادتها، وجملة العلاقات الذهنية التي تحددها، وتنظم حدوثها تدعى بالصورة.
    أما الحديث عن المادة في العلم الطبيعي فهو الحديث عن بنائها وخواصها، وهو غير النظرة الفلسفية؛ لأن نظرة العالم للمادة تتغير في ضوء الاكتشافات العلمية الجديدة، فالمادة طبقاً لفيزياء نيوتن [ر] Newton هي العالم الفيزيقي الطبيعي المؤلف من كتل وأجسام طبيعية نصطدم بها، وهي أجسام صلبة جامدة تشعر بها حساسيتنا اللمسية، ولكن - وبتأثير من منجزات علم الطبيعة والفيزياء في القرن العشرين، كاكتشاف البناء المركب للذرة ونشاطها الاشعاعي - تم هجران هذا المفهوم الميكانيكي للمادة، وتحولت المادة إلى كيان بمنزلة إشعاع من مركز تبلورات «الكوانيتم» والنسبية حول الشعاع، وحلّت أمواجه محل كتل المادة في الفيزياء الكلاسيكية.
    والمادية Materialism بوصفها مذهباً فلسفياً، يفسّر الأشياء جميعها بالمادة وحدها، ويجعل من الأسباب المادية العلل الأخيرة لحدوث الظواهر والموجودات بما فيها ظواهر الحياة وأحوال النفس. فالمادة - بمعتقد أصحابها- هي الجوهر الوحيد؛ وجدت منذ الأزل بفعل ذاتي تترجمه الطبيعة ذاتها، ولا شيء يعلو على الطبيعة؛ رافضين القول بوجود قوى غير القوى الطبيعية، أو عناية إلهية خلقت العالم تُرد إّليها أسباب الموجودات وتنوعها، وعندها أي حديث عن قوة خفية أوما ورائية ضرباً من الوهم وقصوراً في فهم أسباب الوجود الكامنة في الطبيعة لا خارجها. والمادية بهذا المعنى - إذ تنقل مفهوم المادة إلى مرتبة المطلق - تتعارض مع ما يعرف بالمذهب الروحي Spiritualism الذي يعتقد بالعقل أو الروح وحدها أساساً لتفسير الوجود.
    في القديم كانت بدايات ظهور المادية عندما حاولت أن تجد الأصل المشترك لتنوع الظواهر، فافترضت عنصراً مادياً طبيعياً- كالهواء أو الماء أو النار أو التراب - مبدأً أولياً كامناً في أساس الموجودات، ولكن أكمل صورة من صور المادية القديمة ظهرت عند ديموقريطس [ر] Democritus حيث الموجودات تأليفات من ذرات المادة تختلف فيما بينها بالشكل والوضع والترتيب، ومن اتصالها تتكون الأشياء، وبانفصالها يحل الفساد في الكون. إلا أن معظم الماديين القدماء لم يميزوا تمييزاً واضحاً بين ما هو نفسي وما هو جسمي، فالفوارق بينهما طفيفة لا نوعية، والنفس عندهم ما هي إلا ذرات مادية أدق وأقل كثافة وأكثر شفافية.
    وفي العصور الوسطى وبدايات عصر النهضة ظهرت المادية في صورة المذهب الاسمي ومذهب وحدة الوجود[ر] Pantheism، والتعاليم القائلة إن الله والطبيعة مشتركان في الأزلية؛ والتي تطورت في القرن السابع عشر في اتجاه جديد؛ هو فكرة عالم الطبيعة الحاكم لذاته بفعل قوانينه الذاتية، أفضى مباشرةً إلى النظرة المادية للطبيعة التي نتجت عنها المادية الواحدية Monism أو الكلاسيكية التي اقترن ظهورها وقتها بحركة العلم الحديث وتطوراته،الذي كان قد اكتشف عالماً من المادة، تتخللها الحركة، قابلة للقياس الكمّي - الرياضي، فلم تعد المادة المؤلفة للعالم الطبيعي مادة خاماً بلا شكل، صنع منها كل شيء مقترنة بالصورة - كما عرفها أرسطو - بل أصبحت الطبيعة المادية هي الحركة الكلية للأشياء المنتظمة. ينطلق دعاة المادية الواحدية من التفسير الميكانيكي للمادة ذاتها فينكرون جوهرية العقل ويفسرون الوعي بحركة الأجسام وآليتها. وأول الصور الفلسفية لهذه المادية ظهرت مع توماس هوبز [ر] Hobbes الذي قال بأن الإحساسات والأفكار ليست سوى حركات داخلية في الجسم الحي، وبازدياد إلمام العلم بالصلة بين الظواهر الجسمية والظواهر النفسية، وتوقف الثانية على الأولى؛ نمت المادية، واتخذت صوراً أكثر تحديداً ويقيناً من مادية هوبز، فجون تولاند Toland (1670- 1722) عرّف الفكر بأنه وظيفة من وظائف الدماغ كما أن الذوق وظيفة اللسان. وأصبحت المادية المذهب الرسمي لتنويريّ فرنسا؛ وعرفت (بمادية القرن الثامن عشر) التي احتلت مكانة خاصة في الفلسفة المادية، وكانوا يلتزمون بالتفسير الميكانيكي «الآلي» وبأن الحركة صفة عامة كلية من صفات الطبيعة غير قابلة للتغيير.
    وقد أدت التجريبية [ر] Empiricism الإنكليزية دوراً مهماً في ظهور المادية الفرنسية خاصةً نظرية المعرفة عند جون لوك [ر] Locke باعتبار الخبرة لديه مصدراً للمعارف، وأن المعرفة مكتسبة بالتجربة من الواقع وفهم الخبرة على أساس ذلك، ونقده لنظرية ديكارت في الأفكار الفطرية، وكان ذلك فهماً مادياً بمجمله. ولكن المادية الفرنسية وعلى الرغم من تأثرها بالفكر التجريبي فإن أصحابها رفضوا نزعة تأليه الطبيعة عند ماديي القرن السابع عشر (هوبز، لوك، اسبينوزا) ووحدة الوجود، فسلّموا بأن الفكر صورة من صور المادة، وأن الحالات الوجدانية من فكر وانفعالات وما شابه ذلك ما هي إلا وظائف لأعضاء الإنسان. فجوليان دي لاميتري Julien Offray de La Mettrie (1709- 1751) في كتابه «الإنسان آلة» يقرر أن المادة تتحرك، وتحس، وصحيح أن العقل هو العلة، ولكنه مادي؛ لأنه متحيز في الجسم، والإدراك ينشأ من تركيب الأعضاء.وإلى مثل هذا ذهب بيير كابانيس Pierre Cabanis (1757- 1808) في إرجاع الظواهر النفسية إلى العوامل المادية (من بيئة ومناخ وغذاء…) وقوله المشهور: «إن الدماغ يفكر كما تهضم المعدة، وكما يفرز الكبد الصفراء». ثم يفرض هولباخ [ر] Holbach أن المادة والحركة أزليتان، وتحكمهما قوانين ضرورية، ولا وجود لشيء اسمه الروح، والأخلاق والأفكار مصدرها الأحاسيس، وأن العقل ليس إلا الجسم منظوراً إليه في بعض وظائفه.
    لكن القرن التاسع عشر شهد ماديةً أكثر تطورية وحركية من سابقتها- الواحدية المادية - هي المادية الجدلية[ر] التي نادى بها ماركس [ر] Marx - والتي لاتكتفي بعزو تغيرات كمية إلى المادة بل ويعتريها تغيرات نوعية - محاولاً تفسير الطبيعة والتاريخ بنظرة مادية - جدلية. كما برزت دعوات مادية أيدت نظرية داروين [ر] Darwin في تطور الأحياء عرفت بالمادية التطورية قالت «بمبدأ التوحيد الطبيعي في المواد والقوة»، وبأن الإنسان هو النتاج الأعلى للطبيعة وبأن ملامحه وصفاته تفسر بأصلها الطبيعي، ومنهم: هكسلي Huxley، هيكل Haeckel (1834-1919)، بوشنر Büchner، وقد لاقى هؤلاء أنصاراً لهم في الفكر العربي الحديث من أبرزهم شبلي شميل الذي بنى ماديته بوحي من أفكارهم، فعدّ أن القوة الحيوية والطبيعية واحدة من حيث الجوهر والمصدر، وتمتلك قابلية التحول من حال إلى آخر،وأن قوانين التطور الداروينية تتحكم بتطور الحياة عامةً، وعن المادة وتحولاتها تتكون الكائنات والأشياء بحركة عفوية وبتأثير من قوى ملازمة للمادة.
    وعلى أساس هذا الفهم المادي للوجود والطبيعة والذي تم التعبير عنه من منظور «أنطولوجي» بأن العالم الخارجي مستقل عن الفكر الذي هو امتداد للمادة؛ يبني الماديون آراءهم في المعرفة بتأكيد ارتباط جميع أشكال المعرفة بالتجربة، وأن مصدر معارفنا هو العالم الخارجي أو الأشياء والظواهر المحسوسة، وأن الأفكار موجودة في عالمنا بتأثير من معطيات هذا العالم ومشروطة بتلك المعطيات، والعمليات الذهنية - من تفكير وانتباه وإدراك وتخيّل - تؤول في النهاية إلى مجرد عمليات عضوية مادية تحكمها قوانين ضرورية نفسر بها حركة الفكر والواقع معاً.
    أما المادية في علم النفس فتظهر برد الحوادث النفسية إلى عمليات أولية آلية - فيزيقية وكيمياوية، وما النشاط النفسي سوى مركب من ظواهر منفصلة تتصل - بموجب قوانين التداعي وأن هذه الظواهر من قبيل الظواهر الخارجية قابلة للقياس - بنوع من الآلية مشابهة لآلية حدوث الظواهر الخارجية.
    وفي علم الأخلاق [ر] المادية عقيدة الذين يرون أن غاية الأفعال الإنسانية تحقيق الخيرات المادية، وأن ما يحرك الإنسان مبدأ اللذّة والابتعاد عن الألم، وأن التجربة أساس الأخلاق، ومن ثم فإن قواعد الأفعال ومفاهيمها التي تعد أساس الحياة الأخلاقية تقاس خيريتها بالنسبة إلى الإنسان حامل الأخلاق والقيم.
    سوسان إلياس
يعمل...
X