قضيتا الحرية والضرورة، شغلتا الفكر الفلسفي في التاريخ الإنساني،

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • قضيتا الحرية والضرورة، شغلتا الفكر الفلسفي في التاريخ الإنساني،

    حريات عامه

    Public liberties - Libertés publiques

    الحريات العامة

    أخذت قضيتا الحرية والضرورة، حيزاً هاماً من انشغال الفكر الفلسفي في التاريخ الإنساني، ولازال التجاذب والجدل بين هاتين القضيتين يكون أساس المقولات الفلسفية التي استند إليها الفكر السياسي، عبر مسيرة البشرية وتطوراتها الاجتماعية. وقد حاول الفكر السياسي صياغة النظم التي تنسجم مع هذه المقولات. فمنهم من عد الحرية حقاً طبيعياً للإنسان، لايجوز للضرورة تقييدها، ومنهم من عد الضرورة، هي التي تعطي للحرية معنىً إيجابياً يُمكن الفرد من ممارسة حرياته الأساسية، الطبيعية والوضعية، ومنهم من ذهب إلى محاولة التوفيق بين الحرية والضرورة. وقد نشأ عن تباين الاتجاهات الفكرية، ظهور مفهومين للحريات أو ما سُمي الحريات السلبية والحريات الإيجابية.
    فالحريات السلبية: تنصرف إلى الإجابة عن السؤال الآتي: ما هو المجال الذي يجب أن يترك فيه الفرد، حرية العمل، أو أن يفعل ما يريد هو، من غير تدخل أي طرف آخر خارجي عنه؟ ينطلق هذا المعنى من رغبة الفرد أن يكون سيد نفسه، وألا يكون عبداً لأحد، وينصرف إلى استقلالية الفرد تجاه الآخرين، وعدم التدخل في شؤونه الخاصة، فكلما اتسع مجال عدم التدخل كلما كبر مجال الحرية. ولكن أصحاب هذا الاتجاه، اختلفوا على مدى المجال الذي يتمتع به الفرد بحريته، لأن الغايات والنشاطات البشرية للأفراد لا تنسجم تلقائياً بعضها مع بعض، ولأن الحرية لا ينبغي أن تتعارض وتتصادم مع أهداف أخرى للفرد كالعدالة والسعادة والثقافة والأمان ودرجات مختلفة من المساواة، وهذا ما دعا إلى التساؤل عما يجب أن يكون عليه الحد الأدنى من الحرية ؟ وكان الجواب: إن هذا الحد الأدنى، هو ما لا يستطيع الفرد التخلي عنه، من دون أن يسيء إلى جوهر الطبيعة البشرية. ما هو هذا الجوهر ؟ وما هي الخصائص القياسية فيه؟ تلك تساؤلات ما زالت قائمة.
    والمفهوم الإيجابي للحرية، يتحدد بالسؤال الآتي: من وما هو مصدر السيطرة أو التدخل الذي يستطيع تحديد ما يقوم به الفرد، أو ما يجب أن يكون عليه ؟ فالحرية بمعناها السلبي ليس لها مدلول موضوعي في الواقع. إذ إن حرية الحياة، لا تحقق للإنسان ضرورات الحياة من مأكل وملبس وعلاج، بل تكتفي بمنع قتله إن كان حياً. وحرية الفكر لا توفر للإنسان أسباب العلم والمعرفة، ولكن تعني أن أحداً لا يمنعه أن يفكر كما يشاء، وحرية العمل لا توفر له العمل الذي يريده ويتفق مع كفاءته، ولكن تعني أن أحداً لا يسخره دون أجر، والحرية السياسية تعني أن يقول رأيه ويمارس اختياره، ولكن لا تعني أن الحكومة ستضمن حرياته. وهنا تتداخل الحرية الإيجابية مع مفهوم الحق وتجد الحرية مضمونها، في أن تكون حرية الحياة، صحية آمنة من كل ما يهدد حياته ويوفر له شروط الحياة المستمرة، وحرية الفكر علماً وثقافة واختيار من دون قسر وإكراه. وعدّت الحرية أصل الحقوق كلها، فأي حق ينبغي أن يكون منشأه الحرية، وأي حق لابد أن ينشأ موضوعياً عن اختيار حر. فحق التعبير والنشر والصحافة، لابد أن يكون ناشئاً عن حرية التعبير الشفوي والكتابي. وحق الملكية لابد أن ينشأ عن حرية الإنسان في التملك والتصرف، وحق الانتخاب لابد أن ينشأ عن حرية الإنسان في الاختيار والترشيح. وحق تكوين الأحزاب والجمعيات ينشأ عن حرية العمل السياسي، واحترام الرأي الآخر.
    ومن علاقة الحرية بالحق ظهر مفهوم الحريات العامة، وهي الحريات التي يضمنها القانون الوضعي، ويُعترف فيها للإنسان، وتصبح السلطة هي الضامن للحريات.
    ولذلك فقد اقتضت مصلحة الجماعة أو المجتمع، أن يكون هناك ناظم بين الحرية وممارستها، وأن تكون ممارسة الفرد لحريته في إطار تمكين الآخرين من استعمال الحق نفسه بالممارسة، عن طريق ضبط الحرية في إطار مصلحة المجتمع، واقتضت الضرورة الاجتماعية التدخل لتنظيم ممارسة الحرية الفردية. ولكن من هي الجهة التي لها الحق في ضبط هذه الحرية؟ بعضهم عبر عنها بالحق الإلهي للملوك. وآخرون بالدولة وإرادة الأمة، أو بالسلطة الاجتماعية، أو بسيادة الشعب والقانون الصادر عنه.
    حققت الدعوات النبوية والرسالات السماوية، نقلة نوعية في إثراء فكرة الحرية والمساواة الطبيعية، فالمسيحية، أعلنت انحيازها إلى حرية الإنسان، عن طريق المحبة والتسامح، والوحدة الحتمية بين الناس في المجتمع الواحد. وأرسى الإسلام قواعد الحرية والمساواة، حين اعترف بالفرد وحرياته وحقوقه، وكفل حرية العقيدة لبقية العقائد، ففرض الزكاة[ر] على المسلمين وحدهم، وترك لبقية العقائد حرية ممارسة شعائرهم الدينية، وقد ورد في القرآن الكريم في سورة البقرة: ﴿لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي﴾. وكفل الحرية الشخصية للفرد، وفي هذا يقول عمر بن الخطاب: «والله لا يؤسر رجل في الإسلام بغير العدل». وأقر حرية الرأي، وحرية التملك، ولكنه جعلها مقيدة بألا يكون منها ضرره. وقرر الملكية العامة وأباح نزع الملكية للمنفعة العامة. وأكد على المساواة في خطبة الوداع. عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب. أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر. فضل إلا بالتقوى». وساوى الإسلام بين الناس أمام القانون والقضاء وضريبة الجهاد.
    وقد حسم قول عمر بن الخطاب الشهير مسألة حرية الإنسان: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً». ولعل كل ذلك يسوق إلى أن الإسلام قد حقق قفزة ملحوظة في مفهوم الحريات العامة والطبيعية والحقوق القائمة على العدل والمساواة، وحقوق الإنسان[ر].
    عندما جاء العصر الأوربي الحديث، كانت قضية: أن يولد الإنسان حراً، قد حُسمت، ولذلك عندما جاء روسو في العقد الاجتماعي، بمقولته: «ولد الإنسان حراً ولكنه مقيد بالسلاسل»، لم يعوزها الجدل، وأصبحت قضية تأسيس مفهومات الحريات السياسية والمدنية، هي مستقبل الفكر الفلسفي والسياسي، وقد مهدت الآراء والنظريات التي ساقها العديد من المفكرين حول جدلية الحرية والسلطة والسيادة إلى انفجار الثورة الفرنسية عام 1789م، وإعلان حقوق الإنسان الذي رافقها بأن قد «ولد جميع الناس أحراراً متساوين أمام القانون». وإضافة كلمة القانون عبرت عن البعد الجديد الذي أخذته قضية الحرية في الفكر السياسي، وهي المساواة أمام القانون، وتأصيل مفهومات الحريات العامة، ببعديها السياسي والمدني.
    وهكذا أضحت المسألة، أنه إذا كان مفهوم الحرية يقوم على أرضية فلسفية، فإن تكييف ممارسة هذه الحرية من خلال علاقتها مع السلطة والمجتمع، على قاعدة الحقوق الفردية والاجتماعية، ينبغي أن تقف على أرضية قانونية، وهكذا امتزج مفهوم الحرية العامة بالحق، والحريات الطبيعية بحقوق الإنسان.
    وعلى الرغم من اختلاف الرأي عند أصحاب المذاهب الفردية الطبيعية، مع أصحاب المذاهب الاجتماعية والاشتراكية بصدد حدود الحريات العامة، وجدلية الحرية والسلطة والمجتمع، وممارسة هذه الحريات ومضمونها، فإن تداخل مفهوم الحريات العامة مع الحريات الطبيعية، قد أسس للاتفاق على تحديد هذه الحريات، وظهرت نظرية الحقوق والحريات العامة. تقوم هذه النظرية على محورين أساسيين:
    أولاً: المساواة
    ويقصد بها في الديموقراطيات التقليدية القائمة على المذهب الفردي الحر، المساواة أمام القانون، أي أن يتمتع جميع الأفراد بقدر متساو من الحماية القانونية، وبما يخوله القانون للجميع من إمكانيات متساوية في التملك والتصرف والعمل وممارسة أنواع النشاط المختلفة. وهي على نوعين:
    1- المساواة في المنافع: (أمام القانون، أمام القضاء، في العمل).
    2- المساواة في التكاليف: (أمام الضرائب، الخدمة العسكرية).
    ثانياً: الحرية
    وهي القدرة على التصرف بما لا يضر الآخرين، فهي حرية مقيدة، بما يمنع اعتداء الأفراد بعضهم على بعض، ولهذا جاز تنظيمها بقانون وهي ثلاثة أنواع:
    1- حريات تتعلق بالمصالح المادية للإنسان الحرية الشخصية، حرية المسكن، حرية التملك، حرية العمل، الحرية الاقتصادية.
    2- حريات تتعلق بالمصالح المعنوية للإنسان: (حرية العقيدة، حرية الفكر، حرية الرأي، حرية الاجتماع، حرية تكوين الجمعيات، حرية التعلم).
    3- حريات سياسية: (حرية الترشيح، حرية الانتخاب، حرية تكوين الأحزاب السياسية، حرية المعارضة للأغلبية..).
    وقد كان المعيار أن السلطة ضرورة اجتماعية، الذي قبله الفقه السياسي الحديث، عاملاً جوهرياً في تعدد الاجتهادات والنظريات، حول تطبيق الحريات العامة المتعلقة بحقوق الفرد المدنية والسياسية، وتحديد مضمونها وممارستها، وتكييفها الفقهي والقانوني، وتبلورت نتيجة هذه الاختلافات، اتجاهات ومذاهب متعددة:
    أولاً - مذهب الحقوق الطبيعية الفردية:
    ينطلق الفكر السياسي لهذا المذهب، من مقولة ترتكز على أن هناك قانوناً طبيعياً للحقوق والحريات العامة، ينبع من طبيعة الإنسان، يسبق الجماعة ويسمو على الدولة، فالطبيعة خلقت الأفراد متساوين وأحراراً، وإذا كان إحساس الأفراد بالضعف أمام الطبيعة، قد ولَّد فيهم غريزة الحياة الجماعية، فإنهم لم ينزلوا على مقتضى هذا الإحساس إلا رغبة في توكيد حقوقهم وصيانة حرياتهم الطبيعية، ومن ثم لزم أن يهدف النظام الجماعي وقوانينه إلى التسليم بهذه الحقوق والحريات.
    ثانياً - مذهب الحق الطبيعي الاجتماعي:
    يرى أصحاب هذا الاتجاه، أن السلطة والقانون ظاهرتان اجتماعيتان طبيعيتان، وأن السلطة لا تنشأ إلا في ظل الاجتماع البشري، وأن القانون ينشأ تلقائياً تحت إلحاح الضرورة لصيانة الوجود الجماعي وتطويره، ويستمد جوهره ومضمونه من مقتضيات الضرورة، ما يتمثله في مرحلة من مراحل التطور لمعنى العدل، فالسلطة العامة تلتزم قانون الجماعة وعليها ضمان نفاذه.
    وتأسيساً على ذلك، فإن المجتمع البشري عند الفقيه الفرنسي دوغي وحده الحقيقة الثابتة، ينشأ تلقائياً كظاهرة طبيعية توجيه الطبيعة البشرية، فكل إنسان يجد نفسه مندمجاً منذ مولده في جماعة بشرية تتسع أو تضيق من دون أن يكون له دخل في وجود هذه الجماعة، فهو مضطر دائماً إلى التعاون مع الآخرين يعطيهم بحسب قدراته ومواهبه واستعداداته، ويأخذ منهم في عملية دائمة من تبادل المنافع والخدمات..
    ثالثاً - المذاهب الاشتراكية:
    لم تتفق الاتجاهات الاشتراكية، على نهج موحد، بصدد الموقف من حقوق الفرد وحرياته العامة ،انطلاقاً من رؤية كل منها لمسألة الانقسام والاستغلال الطبقي في المجتمع.
    لكنها متفقة على أن الفرد لا يستطيع أن يمارس حرياته العامة والمساواة الفعلية، إذا لم يهيئ له المجتمع شروط وظروف ممارستها بحرية، وهو لن يكون حراً، ولن يكون لحريته معنى، ما لم يكن المجتمع حراً في إطار شروط اقتصادية واجتماعية عادلة، تتيح المساواة الواقعية بين الأفراد.
    رابعاً - المذاهب الوضعية:
    يقوم هذا الاتجاه على قاعدة الربط بين القانون والسلطة، برابطة النتيجة بالسبب، فهي التي تخلقه وتعلنه وتفرض احترامه، وأنه لابد لكل جماعة سياسية من سلطة عليا مطلقة التقدير، لا تلتزم بشيء فيما تقرره، وأن السلطة العليا لا يجب أن تكون لغير الشعب صاحب السيادة، ولا تستطيع السلطة التشريعية[ر] أن تضع قوانين تعتدي على حقوق الأفراد وحرياتهم العامة.
    وقد أخذ رجال الثورة الفرنسية بعض أفكار روسو في العقد الاجتماعي، الذي ينتهي إلى دعم فكرة السلطان الكلي للإرادة العامة. والتي عبر عنها بالسيادة، المنبثقة عن إرادة مجموع الأفراد. وبذلك فقد تنازل الفرد عن إراداته لصالح إرادة الأمة، وهذه الإرادة يمثلها البرلمان، وأصبح التشريع الذي يصدره البرلمان المنتخب من الأمة واجب الإتباع وتخضع له السلطات والهيئات السياسية التنفيذية كافة، وبذلك أصبحت الحقوق والحريات العامة للأفراد خاضعة لتشريعات الأغلبية الحزبية في البرلمان، وهي التي تعطيها مضمونها ومسارها. وقد تأثر الفكر الألماني بهذا الاتجاه وركز على تقديس فكرة الدولة ودورها في الحياة العامة للأفراد.
    منذ أوائل القرن العشرين، فرضت فكرة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية نفسها على الأنظمة السياسية كافة، بما فيها أنظمة الضمانات الاجتماعية والاقتصادية التي توفر للفرد ممارسة حرياته السياسية، وتراجع المفهوم الفردي أمام نزعة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومقتضيات الضرورة. وطغى معيار الضرورة عند أنظمة سياسية كثيرة، بحيث بات تنامي هذا المعيار يقتضي تكييف العلاقة بين الحقوق والحريات العامة، والسلطة التي تعمل باسم الضرورة الاجتماعية، وقد أسفر ذلك عن ظهور مبدأ المشروعية، الذي يهدف إلى ضبط السلطة وتصرفاتها فلا يكفي لحماية حقوق الأفراد وحرياتهم العامة، أن تتأكد سيادة القانون في شأن علاقاتهم بعضهم ببعض، بل يقتضي ذلك تأكيد أن يسمو القانون في علاقات الفرد والمجتمع مع الدولة وما يتفرع عنها من هيئات لممارسة سلطتها، نتيجة ما تتمتع به من قوة جبرية ومن امتياز التنفيذ المباشر، يحول دون تحولها إلى قوة تعسفية تنتهك حقوق الأفراد وحرياتهم العامة، وهذا المبدأ ينطبق على النظم كافة، من خلال قاعدة التمييز بين فكرة السلطة السياسية وأشخاص الحكام بوصفهم يمارسون وظائف واختصاصات محددة سلفاً في الدستور والقانون.
    سامي هابيل
يعمل...
X