Fareed Zaffour
18 أبريل 2022 م
Mohammad Kujjahمثقفو حلب
26 فبراير 2022 ·
اعلام راحلون من حلب الشهباء المحروسة
" الشيخ علي الدرويش" ورحلاته الموسيقية"
1 - ولد الموسيقار الحلبي الكبير "علي الدرويش" في حلب عام 1882، تعلم في المدرسة الرضائية العثمانية فيها، وتربى في التكية المولوية على الإنشاد الديني.
وهو من الأعلام الكبار في الموسيقى العربية في النصف الأول من القرن العشرين، لما قدّمه من الألحان والأسس النظرية التعليمية وتطوير رقص السماح ووضع الألحان القدسية، فضلاً عن أثره الهام في نقل معارفه عبر رقعةٍ جغرافية واسعة شملت عربستان شرقي الخليج العربي واسطنبول والقاهرة وتونس.
*****
2 - كانت رحلته الأولى بين عامي 1912 و1914 في مدينة المحمّرة، بدعوةٍ من أميرها العربي "خزعل البو ناصر"، ورافقه الشيخ "عمر البطش" وفرقة موسيقية حلبية، وهناك أسس فرقةً نحاسية للقصر.
ومن المعلوم أن المحمرة هي عاصمة إقليم عربستان، الذي كان محميةً بريطانية مثل الكويت وقطر والبحرين والامارات، ولكن بريطانيا أعطت عربستان إلى شاه إيران "رضا بهلوي" -والد الشاه الأخير محمد رضا بهلوي- عام 1925. وقد تم تغيير أسماء المدن والأنهار والقرى، فأصبح اسم المحمرة "خورمشهر" وعربستان أصبحت "خوزستان".
*****
3 - بعد عربستان توجّه "علي الدرويش" إلى مدينة قسطموني في تركيا، حيث شكّل هناك فرق موسيقية، ونشط في مركز المولوية هناك، وبقي عدة سنين.
وبعد الحرب العالمية الأولى عاد إلى حلب وأسس فرقةً موسيقية أحيت حفلات محلية ودولية وخاصة في اسطنبول.
4 - ثم كانت رحلته التالية بين عامي 1927 و1930 في مصر، بدعوةٍ من المعهد الموسيقي الشرقي في القاهرة، حيث عمل في التدريس بطبيعة الحال وسجّل أيضاً الكثير من الألحان والموشحات في شركة "بيضافون".
وسيعود بعد عامين إلى مصر في زيارة سريعة، بعدما تلقى دعوةً من ديوان "الملك فؤاد" لحضور مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932.
*****
5 - أما رحلته الأطول والأكبر تأثيراً، فكانت إلى تونس التي وصل إليها عام 1931. وحين استقر المقام بالشيخ "علي الدرويش" في ضاحية (سيدي بوسعيد) بالقرب من تونس العاصمة، بصفته ضيفاً عزيزاً في قصر البارون "دير لانجيه" محفوفاً بما يليق به من إجلالٍ وإكرام من صاحبه، بدأ يكتشف أجواء الموسيقى التونسية، ويتعرّف إلى الموسيقيين التونسيين، فأحبهم لما رأى فيهم من حرصٍ على موسيقاهم الأصيلة، وأحبّوه واحترموه لما لمسوا فيه من نبلٍ ودماثةِ خلق وحبٍّ للعلم والمتعلمين، فراحوا يتقاطرون على محلّ إقامته ينهلون من علمه وثقافته وعزفه الرائع، وعرفوا أنهم أمام عالمٍ جليل يجب أن يستفاد من تجاربه وخبرته. فما كان من المسؤولين في وزارة المعارف إلاّ أن تعاقدوا معه على التدريس في (المعهد الرشيدي للموسيقا التراثية).
لم يقتصر التقدير على العاملين في الحقل الموسيقي، بل تعدّاه إلى الجهات السياسية العليا، إذ إن ملك تونس قلّده وسام الافتخار من الدرجة الثالثة، بناء على اقتراحٍ من وزير الأمور الخارجية، ولم يكن مرَّ على استقراره فيها سوى شهر واحد، وفي ذلك دليلٌ على أن سمعة "الشيخ علي" وإمكاناته الفريدة قد سبقته، كما أن المسؤولين المتنوّرين أدركوا مقدار ما ستجنيه الموسيقى التونسية جراء قدومه إلى المملكة من خيرٍ كثير، بالعمل مع البارون "دير لانجيه" والموسيقيين المحليين.
6 - درّس الشيخ في المعهد: (الناي- النظريات الموسيقية- قواعد الموسيقا العربية- والصولفيج)، بالإضافة إلى القيام بتدريب الفرق الغنائية والموسيقية، وتلقين الطلاب الموشحات وأساليب الغناء المشرقيّ الحلبيّ. ولم يقتصر عمل "الشيخ علي" على التدريس، بل اجتمع حوله موسيقيون وملحنون لهم شهرتهم وأعمالهم، فرافقهم عازفاً وأخذ عنهم الأسلوب التونسي والمقامات التي يستخدمونها. كان من أهمهم الملحّن "خميس الترنان"، والمطرب والعازف والملحن الكبير "محمد التريكي"، الذي دوّن له بعض ألحانه فنشر نجله "محمود نديم" أحدها في كتاب (من كنوزنا)، فاشتهر وصار متداولاً بين العازفين في سورية.
*****
وتمرّ الأيام حبلى بالإنتاج والعمل الدؤوب، من بحثٍ وتدوينٍ وجولاتٍ في أرجاء تونس لجمع التراث (المالوف) والغناء الشعبي، حتى اجتمع لديه منها الشيءُ الكثير مدوَّناً، فتركه كنزاً وأثراً يذكرونه حتى اليوم.
7 - بعد قرابة ثماني سنوات (1931-1939) قضاها هناك معزّزاً مكرّماً واهباً معطاءً، غادر تونس بصورةٍ نهائية، مخلّفاً أساتذة كباراً يجيدون فنهم وفنون المشرق العربي المتمثل بتقاليد حلب الغنائية.
طبعا لم ينسَ التونسيون فضلَه وآثاره، والزائرُ للمعهد الوطني للموسيقى بشارع باريس في تونس العاصمة، شوف يرى صورة "الشيخ علي" بحجمها الكبير جداً تتصدّر صالة المعهد الرئيسية، عرفاناً بفضله على موسيقاهم، وأهم طلابه في تونس هو "د. صالح المهدي" صاحب الفضل الكبير على الدراسات والبحوث الموسيقية.
*****
8 - وفي العام 1939 عاد إلى حلب ليؤسس فيها النادي الموسيقي العربي، ويمكث ثلاثة أعوام ملأى بالعطاءات الكثيفة، قبل أن ينتقل مجدداً عام 1942 للتدريس في المعهد الموسيقي في دمشق.
9 - ثم كانت رحلته التالية إلى القدس هذه المرة، عام 1944، حيث كان له فيها نشاطٌ موسيقيّ واسع وتسجيلات في إذاعة القدس، بالتعاون مع شخصيات ثقافية وفنية أبرزهم "عجاج نويهض".
10 - وفي العام 1945 يحط "علي الدرويش" رحاله في بغداد، ليقضي أكثر من خمسة أعوام في تدريس الموسيقى في معهد الفنون الجميلة، مع نشاط موسيقي لافت وواسع في إذاعة بغداد.
*****
11 - عاد الموسيقار الحلبي إلى مدينته عام 1951، وتركَّز اهتمامه على تسجيل الموشحات والنوبات الأندلسية، ومنها نوبة (مقام المزموم) التونسية بأصوات مطربي إذاعة حلب الوليدة حينها، وتلك واحدةٌ من أربعة عشر نوبة دونها، محتفظاً -كما هي عادته- بنسخةٍ يتناقلها أبناؤه ثم أحفاده بخطّ يده حتى اليوم.
ولم يطل به العمر كثيراً بعد عودته إلى حلب، إذ وافاه الأجل يوم 26 تشرين الثاني من عام 1952.
*****
مشاركة
18 أبريل 2022 م
Mohammad Kujjahمثقفو حلب
26 فبراير 2022 ·
اعلام راحلون من حلب الشهباء المحروسة
" الشيخ علي الدرويش" ورحلاته الموسيقية"
1 - ولد الموسيقار الحلبي الكبير "علي الدرويش" في حلب عام 1882، تعلم في المدرسة الرضائية العثمانية فيها، وتربى في التكية المولوية على الإنشاد الديني.
وهو من الأعلام الكبار في الموسيقى العربية في النصف الأول من القرن العشرين، لما قدّمه من الألحان والأسس النظرية التعليمية وتطوير رقص السماح ووضع الألحان القدسية، فضلاً عن أثره الهام في نقل معارفه عبر رقعةٍ جغرافية واسعة شملت عربستان شرقي الخليج العربي واسطنبول والقاهرة وتونس.
*****
2 - كانت رحلته الأولى بين عامي 1912 و1914 في مدينة المحمّرة، بدعوةٍ من أميرها العربي "خزعل البو ناصر"، ورافقه الشيخ "عمر البطش" وفرقة موسيقية حلبية، وهناك أسس فرقةً نحاسية للقصر.
ومن المعلوم أن المحمرة هي عاصمة إقليم عربستان، الذي كان محميةً بريطانية مثل الكويت وقطر والبحرين والامارات، ولكن بريطانيا أعطت عربستان إلى شاه إيران "رضا بهلوي" -والد الشاه الأخير محمد رضا بهلوي- عام 1925. وقد تم تغيير أسماء المدن والأنهار والقرى، فأصبح اسم المحمرة "خورمشهر" وعربستان أصبحت "خوزستان".
*****
3 - بعد عربستان توجّه "علي الدرويش" إلى مدينة قسطموني في تركيا، حيث شكّل هناك فرق موسيقية، ونشط في مركز المولوية هناك، وبقي عدة سنين.
وبعد الحرب العالمية الأولى عاد إلى حلب وأسس فرقةً موسيقية أحيت حفلات محلية ودولية وخاصة في اسطنبول.
4 - ثم كانت رحلته التالية بين عامي 1927 و1930 في مصر، بدعوةٍ من المعهد الموسيقي الشرقي في القاهرة، حيث عمل في التدريس بطبيعة الحال وسجّل أيضاً الكثير من الألحان والموشحات في شركة "بيضافون".
وسيعود بعد عامين إلى مصر في زيارة سريعة، بعدما تلقى دعوةً من ديوان "الملك فؤاد" لحضور مؤتمر الموسيقى العربية في القاهرة عام 1932.
*****
5 - أما رحلته الأطول والأكبر تأثيراً، فكانت إلى تونس التي وصل إليها عام 1931. وحين استقر المقام بالشيخ "علي الدرويش" في ضاحية (سيدي بوسعيد) بالقرب من تونس العاصمة، بصفته ضيفاً عزيزاً في قصر البارون "دير لانجيه" محفوفاً بما يليق به من إجلالٍ وإكرام من صاحبه، بدأ يكتشف أجواء الموسيقى التونسية، ويتعرّف إلى الموسيقيين التونسيين، فأحبهم لما رأى فيهم من حرصٍ على موسيقاهم الأصيلة، وأحبّوه واحترموه لما لمسوا فيه من نبلٍ ودماثةِ خلق وحبٍّ للعلم والمتعلمين، فراحوا يتقاطرون على محلّ إقامته ينهلون من علمه وثقافته وعزفه الرائع، وعرفوا أنهم أمام عالمٍ جليل يجب أن يستفاد من تجاربه وخبرته. فما كان من المسؤولين في وزارة المعارف إلاّ أن تعاقدوا معه على التدريس في (المعهد الرشيدي للموسيقا التراثية).
لم يقتصر التقدير على العاملين في الحقل الموسيقي، بل تعدّاه إلى الجهات السياسية العليا، إذ إن ملك تونس قلّده وسام الافتخار من الدرجة الثالثة، بناء على اقتراحٍ من وزير الأمور الخارجية، ولم يكن مرَّ على استقراره فيها سوى شهر واحد، وفي ذلك دليلٌ على أن سمعة "الشيخ علي" وإمكاناته الفريدة قد سبقته، كما أن المسؤولين المتنوّرين أدركوا مقدار ما ستجنيه الموسيقى التونسية جراء قدومه إلى المملكة من خيرٍ كثير، بالعمل مع البارون "دير لانجيه" والموسيقيين المحليين.
6 - درّس الشيخ في المعهد: (الناي- النظريات الموسيقية- قواعد الموسيقا العربية- والصولفيج)، بالإضافة إلى القيام بتدريب الفرق الغنائية والموسيقية، وتلقين الطلاب الموشحات وأساليب الغناء المشرقيّ الحلبيّ. ولم يقتصر عمل "الشيخ علي" على التدريس، بل اجتمع حوله موسيقيون وملحنون لهم شهرتهم وأعمالهم، فرافقهم عازفاً وأخذ عنهم الأسلوب التونسي والمقامات التي يستخدمونها. كان من أهمهم الملحّن "خميس الترنان"، والمطرب والعازف والملحن الكبير "محمد التريكي"، الذي دوّن له بعض ألحانه فنشر نجله "محمود نديم" أحدها في كتاب (من كنوزنا)، فاشتهر وصار متداولاً بين العازفين في سورية.
*****
وتمرّ الأيام حبلى بالإنتاج والعمل الدؤوب، من بحثٍ وتدوينٍ وجولاتٍ في أرجاء تونس لجمع التراث (المالوف) والغناء الشعبي، حتى اجتمع لديه منها الشيءُ الكثير مدوَّناً، فتركه كنزاً وأثراً يذكرونه حتى اليوم.
7 - بعد قرابة ثماني سنوات (1931-1939) قضاها هناك معزّزاً مكرّماً واهباً معطاءً، غادر تونس بصورةٍ نهائية، مخلّفاً أساتذة كباراً يجيدون فنهم وفنون المشرق العربي المتمثل بتقاليد حلب الغنائية.
طبعا لم ينسَ التونسيون فضلَه وآثاره، والزائرُ للمعهد الوطني للموسيقى بشارع باريس في تونس العاصمة، شوف يرى صورة "الشيخ علي" بحجمها الكبير جداً تتصدّر صالة المعهد الرئيسية، عرفاناً بفضله على موسيقاهم، وأهم طلابه في تونس هو "د. صالح المهدي" صاحب الفضل الكبير على الدراسات والبحوث الموسيقية.
*****
8 - وفي العام 1939 عاد إلى حلب ليؤسس فيها النادي الموسيقي العربي، ويمكث ثلاثة أعوام ملأى بالعطاءات الكثيفة، قبل أن ينتقل مجدداً عام 1942 للتدريس في المعهد الموسيقي في دمشق.
9 - ثم كانت رحلته التالية إلى القدس هذه المرة، عام 1944، حيث كان له فيها نشاطٌ موسيقيّ واسع وتسجيلات في إذاعة القدس، بالتعاون مع شخصيات ثقافية وفنية أبرزهم "عجاج نويهض".
10 - وفي العام 1945 يحط "علي الدرويش" رحاله في بغداد، ليقضي أكثر من خمسة أعوام في تدريس الموسيقى في معهد الفنون الجميلة، مع نشاط موسيقي لافت وواسع في إذاعة بغداد.
*****
11 - عاد الموسيقار الحلبي إلى مدينته عام 1951، وتركَّز اهتمامه على تسجيل الموشحات والنوبات الأندلسية، ومنها نوبة (مقام المزموم) التونسية بأصوات مطربي إذاعة حلب الوليدة حينها، وتلك واحدةٌ من أربعة عشر نوبة دونها، محتفظاً -كما هي عادته- بنسخةٍ يتناقلها أبناؤه ثم أحفاده بخطّ يده حتى اليوم.
ولم يطل به العمر كثيراً بعد عودته إلى حلب، إذ وافاه الأجل يوم 26 تشرين الثاني من عام 1952.
*****
مشاركة