حيان توحيدي
Abu Hayyan al-Tawhidi - Abou Hayan al-Tawhidi
أبو حيان التوحيدي
(310-414هـ/ 923-1024م)
أبو حيَّان عليُّ بْنُ مُحمَّدٍ بن العبَّاس التوحيدي، أديب وفيلسوف ومتصوف. أمِّا النِّسْبةُ إلى التَّوحيديِّ فقد ذهب مُعْظمُ الْمُؤرِّخين إلى أنَّها نسْبةٌ إلى مهْنةِ وَالِدِهِ الَّذي كان يبيعُ بالعراقِ نوعاً من التَّمْر يُسمَّى (التَّوحيد)، وذهب فريقٌ آخر إلى أنَّ النِّسْبةَ هُنا نسْبةٌ إلى عقيدة أهْلِ العدْلِ والتَّوحيد الَّذين عُرفوا بالْمُعْتزلة، وثَمَّةَ اخْتلافٌ آخرُ في انْتماءِ أبي حيَّان إلى هذه الفِرْقة. كان التَّوحيديُّ ذاتُهُ هو سبب هذا الخلاف إذ هاجم المعتزلة حيناً وتحدث بلغتهم حيناً آخر.
لمْ تصلْ ترْجمةٌ وافيةٌ ولا دقيقةٌ عنْ مولد التَّوحيديِّ زماناً ولا مكاناً، ولا عنْ نشْأته ولا عنْ أصْله، حتَّى تكاد تكونُ محطَّاتُ حياته؛ الْمُهمَّةُ والعاديةُ، مجْهولةً، ولاسِيَّما الْخمْسين الأولى منْها، والَّتي تُشكِّلُ نصْفَ حياته. حتَّى وفاتُهُ الَّتي يُفْترضُ الدِّقَّةُ في تحْديدها بعْدما نالَ ما نالَ من الشُّهْرة، لمْ يتَّفق الْمُؤرِّخون على دقيق تاريخها.
ولذلك تضاربت الأقوال في مكان ولادته وتباينتْ، والأرجح أنه ولد في بغْداد دار السَّلام وهذا ما يُرجِّحُهُ الكثيرون لِمَا اشْتُهر عنْ أبيه منْ أنَّهُ امْتهن بيع التَّمْر فيها. أما تاريخ ولادته فقد بات من شبه المؤكد أنَّهُ قدْ وُلِدَ نَحْوَ سنة 310هـ/923م.
وكذلك أيضاً كانَ نصيبُ أصلهِ من الاختلاف، فقيل إنَّهُ فارسيٌّ، وقيل إنَّهُ عربيٌّ. ولكنَّ انْتساب أبي حيَّان إلى العُروبة ليس مثارَ رأيٍّ ولا تخْمينٍ، والأدلَّةُ على ذلك كثيرةٍ، وخيرُ ما فيها إثْباتُ التَّوحيديِّ ذاته أنَّهُ لمْ يكُنْ يعْرفُ الفارسية البتَّة، هذا إلى جانب أنَّ الكُتُب الفارسيَّة، مثْل «شيرازْنامة» لمْ تقُلْ بفارسِيَّتِهِ، وإنَّما نسبتْهُ إلى بغْداد.
بدأ التوحيديُّ صلته مع المعرفة والثقافةِ من خلال الوِرَاقَةِ الَّتي اتَّخذها مهْنةً لهُ، فاطلع بذلك على كثيرٍ من الكتب المؤلفة والمترجمة، وبفضل طموحه وظَّفَ هذا الاطلاعَ ليكوِّن ثقافةً واسعة الموارد ثرَّة المضامين. وقد تعدَّدتْ معارفُ التَّوحيديِّ وتَنَوَّعتْ أيضاً لتعدُّد أساتذته وتنوُّع اخْتصاصاتهم، فشملتْ - إلى حدٍّ بعيدٍ - مُخْتلف معارف عصْره منْ عُلوم اللُّغة؛ كالنَّحْو والبيان والبلاغة، إلى عُلوم الدِّين؛ كالقُرْآن والقراآت والفقْه والْحديث والتَّصوُّف، إلى الْمباحث الفلْسفيَّة وعلْم الكلام.
تفقَّه في عُلوم اللُّغة العربية، ولاسِيَّما النَّحْو، على قُطْبي علْم النَّحْو في زمانه وهُما أبو سعيدٍ السِّيرافي وعلي بنُ عيسى الرُّمَّاني. وأَخَذَ الفقْهَ والْحديثَ النَّبوي الشَّريف منْ ثلاثة أساتذةٍ كبارٍ، هُم: أبو حامدٍ الْمرْورَّوذي وأبو بكْرٍ الشَّافعي وأبو الفرج النَّهْرواني، وتأثَّر أكْثر ما تأثَّر بالْمرْورَّوذي. واسْتفادَ التَّوحيديُّ في عُلوم الدِّين أيضاً منْ أُسْتاذه أبي سعيدٍ السِّيرافي. ولم يقْتصِرْ التوحيدي في دراسة التَّصوُّف على السِّيرافي فَتَلَقَّاهُ أيضاً عنْ أبي مُحمَّدٍ جعْفر الخُلْدي وعن أبي الْحُسين مُحمَّد بن أحْمد بن سَمعون.
أما في الفلسفة فعلى الرُّغم من التأثر الكبير للتوحيدي بآراء السِّيرافي وأفكاره فإنَّ الإفادة الأجلَّ للتَّوحيديِّ في العُلوم الفلْسفيَّة كانتْ على أيدي علمين كبيرين هُما: يحْيى بن عَدِيٍّ وأبي سُليمان السِّجسْتاني الْمنْطقي اللذين لزمهُما ردْحاً طويلاً من الزَّمن، وأفاد منْهُما الكثير.
على أنَّ الذي لا يجوز نسيانه هنا هو أنَّ الأستاذ القدوة للتوحيدي في حياته وأدبه وفكره وأخلاقه ولغته وأسلوبه هو الجاحظ الذي وصفه بأنَّهُ: «الْجاحظُ واحدُ الدُّنْيا»، أو «فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة». وخصَّهُ بكتاب أسماه: «رسالةً في تقريظ الْجاحظ».
من هذا الحشدِ من كبار المفكرينَ الذين تتلمذ عليهم التَّوحيديُّ، واتساعِ مدى ثقافته ومعارفه صِيْغَتْ إلى حدٍّ بعيدٍ شخصيَّةُ التوحيديِّ وبها صاغ التوحيديُّ مكانته، فإنْ كنا نجْهلُ الشّيءَ الكثير عنْ شخْصيَّته وخصائصها والْمراحل الّتي مرَّتْ بها، على نحْوٍ من الدِّقـَّة، فإنَّ ما تركهُ منْ آثارٍ كان ذا دلالاتٍ عميقةٍ وواضحةٍ تشفُّ عنْ شخْصيَّة كاتبها. قال آدم ميتز: «لمْ يُكْتَبْ في النّثْر العربيِّ بعْد أبي حيَّان ما هُو أسْهلُ وأقْوى وأشدُّ تعْبيراً عن شخْصيَّة صاحبه ممَّا كتبهُ أبُو حيَّان». إذ أضفى مسحةً من نوازعه على آثاره، وبثَّها هُمُومَهُ وشكْواهُ، وعبَّر عن مُعاناته وآلامه. ويبْدُو ذلك جليًّا في ضُرُوب أحاديثه الْمُخْتلفة عن النّفْس والأخْلاق، والفنِّ، والْجمال، والعقْلِ، و«الصَّداقة والصَّديق»، وفي حديثه عنْ «مثالب الوزيرين»، وفي تساؤُلاته في «الْهوامل والشّوامل». وإذا وصلْنا ذلك بما وصلنا من أحْواله، وأخْباره، وعلاقاته مع الوُزراء، وما نالهُ منْ بعْضهم، وغير ذلك اسْتطعْنا أنْ نكْشف عنْ بعْض أهمِّ جوانب شخْصيَّته.
إنَّ الآثار الَّتي خلَّفها أبُو حيَّان تشْهدُ بتألُّق العبْقريَّة وعُمْقها وأبْعادها الإبْداعيَّة الَّتي لا تنْبجسُ إلاَّ عنْ موهبةٍ أصيلةٍ وقريحةٍ مُتَّقدةٍ. ولذلك عُرف التّوحيديُّ، كما قال ياقوت الحموي، بأنّهُ «فيلسُوفُ الأُدباء وأديبُ الفلاسفة. فرْدُ الدُّنْيا الَّذي لا نظير لهُ؛ ذكاءً وفطْنةً وفصاحةً ومُكْنةً». وكان، كما قال إحسان عباس «فنَّاناً أصيلاً لا يعْجزُ عن الاضْطلاع بأكثرِ الْحقائق الفلْسفيَّة دقَّةً؛ فنّاناً يُؤْمنُ بأنَّ فنَّهُ قادرٌ على أنْ يمْسح كُلَّ شيءٍ بصبْغته، ورفِّ رفيف الْجمال على الْحقائق الْجافية، والأفْكار الْمُعقَّدة».
ترجِعُ مكانة أبي حيان وأهمِّـيَّتُهُ في التَّاريخ العربيِّ؛ الأدبيِّ والفكْريِّ إلى جُمْلةٍ من العوامل الْمُتداخلة والْمُتكاملة، لعلَّ أكثرها أهَمِّيَّة بلاغته المشرقة، وأُسْلُوبُهُ الفذُّ الرَّائعُ الْمليءُ بالْمُتْعة الَّتي قَلَّ نظيرُها في تاريخ أدبنا العربيِّ. ولا غرابة في ذلك إذْ إنَّهُ كان أَحَدَ كبار مُنظِّري فَنِّ البلاغة وكيفيَّةِ الوُصُول إلى الكتابة البليغة البديعة، إلى جانب تفْصيله في محاسن الشِّعْر والنَّثْر ومعايبهما، ولعلَّه أفْضلُ منْ طَبَّقَ نَظَرِيَّتَهُ البلاغيَّةَ الَّتي جاءتْ حصيلةَ موقفه، وخُلاصةً رائعةً لتجْربته هُو ذاتُهُ، ولتجارب السَّابقين عليه وآرائهم، حَتَّى قيل عنْهُ: إنَّهُ أفْضلُ كُتَّاب النَّثْرِ العربيِّ على الإطْلاق، ووُصفْت كُـتُبُهُ بأرْوعِ الأوصافِ، ونُعتتْ بأفْضلِ النُّعُوت وأجْملها، منْ قبل مُؤرِّخي الأدب العربيِّ؛ عربٍ ومُسْتشْرقين. هذا منْ دُونِ أنْ ننْسى أنَّ كُـتُبَهُ كانتْ تأريخاً وتوثيقاً للْمرْحلةِ الَّتي عاش فيها؛ على جميع الصُّعُد الفكْريَّةِ والعلْميَّةِ والأدبيَّةِ والاجْتماعيَّةِ والأخْلاقيَّةِ.
ولكنَّ مكانته وأهميَّته لاتنحصرُ في ذلكَ، إذ إنَّهُ كانَ صاحبَ مشروعٍ فكريٍّ استعصى فهمه على بعض المفكرين فاتُّهم منْ غيْر واحدٍ وفريقٍ بالْكُفْر والزّنْدقة حتّى وصل الأمْرُ ببعْضهم - رُبَّما اعْتماداً على دعْوى أبي الوفاء بْن عقيلٍ الَّتي ذكرها ابنُ الْجوزيِّ ـ إلى عَدِّه أحد «زنادقة الإسْلام الثّلاثة: ابن الرّاونْديِّ والتّوحيديِّ وأبي العلاء الْمعرِّيِّ. وقالُوا: إنَّ شرَّهُم على الإسْلام هُو التَّوحيديُّ لأنَّهُما صرَّحا ولمْ يُصرِّحْ». ونفى صاحبُ طبقات الشَّافعيَّة هذا الاتّهام بقوله: «ولمْ يثْبُتْ عنْدي الآن منْ حال أبي حيّان ما يُوجبُ الوقيعة فيه، ووقعْتُ على كثيرٍ منْ كلامه، فلمْ أجدْ فيه إلاّ ما يدُلُّ على أنّهُ كان قويّ النّفْس، مُزْدرياً بأهْل عصْره، ولايُوجب هذا القدْرُ أنْ يُنال منْهُ هذا النّيل». ووصفهُ ياقُوتُ بأنّهُ: «صُوفيُّ السّمْت والْهيئة، مُتعبّدٌ، والنّاسُ على ثقةٍ منْ دينه». ودافع عنْهُ مُحمّدُ كُرْدُ علي بأن أرْجعَ السَّبب الرَّئيس في هذه الاتّهامات إلى الْحقْد والْحسد والغيرة.
والحقُّ أنَّ التَّوحيديَّ ذاته هو السبب في هذه التناقضات الَّتي وقع فيها دارسوه القدماء والمحدثون، ويمكنُ إرجاع ذلك إلى سببين، أولهما غنى فكره وقابليته لكثير من وجوه الفكر شأنه في ذلك شأن معظم النوابغ الذين يظلُّ فكرهم نبعاً ثرًّا لكثيرٍ من التأويلات والاشتقاقات عبر الزمان. وثانيهما فكره الإلغازيُّ بحدِّ ذاته فهو إلى جانب محاربته المعتزلة ونعتهم بالكفر حيناً وقسوة القلب حينا آخر، وإلى جانب رفضه حياة المتصوفة والنفور منها في بعض الأحيان، فقد اعتنق الاعْتزال فكْراً، وأحد طُرُق التّصوُّف منْهجاً؛ فذهب مع الْمُعْتزلة في أُصُولها الْخمْسة، ومنْها التّعْطيلُ الَّذي يعْني تجْريد الذَّات الإلهيَّةِ من الصِّفات، «ومنْ قال بوصْف الْباري عزَّ اسْمُهُ فقد اعْتزل عن الْحقِّ»، وهذا ما يعُدُّهُ فُقهاءُ السُّـنَّة أُولى درجات الزَّندقة. وفي التّصوُّف وضع كتاباً جعل اسْمهُ: «الْحجُّ العقْليُّ إذا ضاق الفضاءُ عن الْحجِّ الشَّرْعيِّ». وفي أثناءِ ذلك أَكْثَرَ من خوض غمار المشكلات الفلسفية مناقشاً وقابلاً ورافضاً ومستحسناً ومستنكراً وكأَنَّهُ يتهرب من صَهْرِ هذه المشكلات في بوتقة مذهبٍ فلسفيٍّ واحدٍ كما فعل فلاسفة اليونان ومعاصروه من الفلاسفة المسلمين، ولعله يستحق بذلك أن يكونَ مؤسساً للفلسفة الوجوديَّة الَّتي ظهرت بصيغتها الاصطلاحية في أواخر القرن التاسع عشر وكانت بداية اللامذهبية الفلسفية، ولاسيما أن شخصيته وفكره لا يفترقان كثيراً عن شخصيات الفلاسفة الوجوديين وأفكارهم[ر. الوجودية].
لمْ يصل إلينا من عنوانات آثاره إلاَّ اثْنان وثلاثون عنواناً، بين كتابٍ ورسالةٍ مُخْتلفةِ الْموضُوع والطُّول، كان نصيبُ قُرابة نصْفها الفُقُودُ، حَتَّى عدم معْرفة مضْمُون مُعْظمها. فيما طُبع سبْعةُ عشر أثراً، هي الأكثر أهمِّيَّةً والأكْثرُ شُهْرةً، ولا ندْري إنْ كانتْ هذه الاثنين والثَّلاثين أثراً هي مُؤلَّفاتُ التَّوحِيديِّ كُلُّها أمْ ثَمَّةَ آثارٌ غيرُها، إذْ اشْتُهر عنْ فيلسُوفنا أنَّهُ أحْرقَ كُتُبهُ في أواخر حياته، لما أصابه من اليأس حسبما أشار في رسالته الَّتي كتبها إلى صديقه القاضي أبي سهْلٍ عليِّ بْن مُحمَّدٍ.
وعلى الرُّغم من أهميَّة معظم هذه الآثار، وغناها بكثير من المعارف والمعطيات الَّتي تكشف لنا عن طبيعة عصر التَّوحيدي فإنَّ أكثر هذه الآثار تعبيراً عن فكر التَّوحيدي وشخصيَّته وأسلوبه وعبقريَّته هو كتابه المسمى بـ «الإشارات الإلهيَّة»، ويليه في ذلك كتابه المسمى بـ «مثالب الوزيرين»، لأنَّ هذين الكتابين، بغض النظر عن الرَّسائل، هما الوحيدان اللذان كانا من محض إبداع التَّوحيدي بكل ما فيهما، وفيهما تتجلى بلاغته المتميزة، وتنجلي أفكاره.
يقعُ كتابُ «الإشارات الإلهيَّة» في أرْبعٍ وخمْسين رسالةً مُوجَّهةً كُلُّها - على الأرْجح - إلى منْ ضلُّوا طريقَ الْهداية الإلهيَّة. وإلى السَّالكين بعْض طُرُق الصُّوفيَّة. هذا إلى جانب كون هذه الرَّسائل بمنـزلةِ الصَّدى الْمُباشر للْحالات النَّفْسيَّة الَّتي مَرَّ بها التَّوحِيديُّ، ولاسِيَّما مُعاناتُهُ من الْغُرْبة النَّفْسيَّة والضَّياع والْحرْمان والْفقْر ،وأغْلبُ الظَّنِّ أنَّهُ بَدَأ كتابةَ هذه الرَّسائل مُنْذُ الْعقْدِ الْخامسِ مِنْ عُمْرهِ حَتَّى الثَّامن منْهُ، ولذلك فهي تَتَفَاوتُ بين الاسْتغْراقِ في الْمَلَكُوت الإلهيِّ منْ «مُناجياتٍ وأدْعيةٍ وابْتهالاتٍ تُصوِّرُ اسْتشْرافهُ إلى الْملأ الأعْلى»، وبين الإشْراع إلى التَّفْريج عنْ هُمُوم الذَّات ومتاعبها. الْعُزُوف عنْ ملاذِّ الدُّنْيا وتُرَّهاتِهَا مع أواخر الْعُمْرِ.
ومن كتبه المهمة أيضاً كتابه الشهير «الإمتاع والمؤانسة» الذي حظي باتفاق النُّـقَّادِ على أنَّه أثْمنُ الْمصادرِ لدراسةِ أَدَبِ التَّوحِيديِّ وفكْرِهِ، إلى جانب كونه وثيقةً مُهمَّةً للتَّعرُّف على الْحياة الاجْتماعيَّةِ والْفكْريَّةِ أيَّام الْبُويهيّين. وصفُهُ الْقِفْطيُّ بقوله: «هُو كتابٌ مُمْتِعٌ على الْحقيقة لمنْ لهُ مُشاركةٌ في فُنُونِ الْعلْمِ، فإنَّهُ خاضَ كُلَّ بحْرٍ وغاصَ كُلَّ لُجَّةٍ».
يُشْبهُ الْكتابُ كتاب «ألْف ليلةٍ وليلةٍ» في انْقسامُهُ إلى أرْبعينَ ليلةٍ، ويفْترقُ عن الثَّاني في الْموضُوعات الَّتي كانتْ في «الإمْتاع والْمُؤانسة» موضُوعاتٍ فلْسفيَّةً وعلْميَّةً ولُغويَّةً وأدبيَّةً، يقْترحُ أبو عبد الله الْعارض إحْدى مسائِلِها مع بداية كُلِّ ليلةٍ، ليرْتجل التَّوحِيديُّ الْجوابَ عنْها ارْتجالاً، ولاسِيَّما أنَّ مُعْظمَ الْمسائل الْمُقْترحة كانْت وليدةَ ساعتها، الأمرُ الَّذي ينُمُّ علىْ سعة اطِّلاع أبي حَيَّان وشُمُوليَّةِ ثقافته، إلى جانب ألْمعيَّتِهِ وحُضُور بديهته، وبراعته في تطْويع اللُّغة لأغْراضه الإنْشائيَّة، فكان الْكتابُ كُلُّهُ مُكرَّساً لإمْتاع الْعُقُول الْجادَّةِ والسَّامية التَّعْليم، وإنْ حاول الْمُؤلِّفُ أنْ يجْعلَ عملهُ جذَّاباً في كُلِّ مُحْتوياته وتقْديمه للْموضُوعات.
وعموماً يمكن تقسيم آثار التوحيدي إلى قسمٍ يضمُّ الأول المنشور منها، ويضمُّ القسم الثاني الآثار المفقودة. أما الآثار المنشورة فمنها:بصائر القدماء وذخائر الحكماء، أو البصائر والذخائر، رسالة إلَى أبي الفتح بن العميد، رسالة الإمامة، الصّداقة والصّديق، المقابسات، المناظرة بين أبي سعيد السِّيرافيِّ ومِتَّى بن يونس القُنَّائي.
أما آثاره المفقودة فمنها:الإقناع، التّذكرة التَّوحِيدية، الرَّدُّ على ابن جِنِّي في شعر المتنبي، رسالة إلَى أبي بكر الطالقاني .
عزت السيد أحمد
Abu Hayyan al-Tawhidi - Abou Hayan al-Tawhidi
أبو حيان التوحيدي
(310-414هـ/ 923-1024م)
أبو حيَّان عليُّ بْنُ مُحمَّدٍ بن العبَّاس التوحيدي، أديب وفيلسوف ومتصوف. أمِّا النِّسْبةُ إلى التَّوحيديِّ فقد ذهب مُعْظمُ الْمُؤرِّخين إلى أنَّها نسْبةٌ إلى مهْنةِ وَالِدِهِ الَّذي كان يبيعُ بالعراقِ نوعاً من التَّمْر يُسمَّى (التَّوحيد)، وذهب فريقٌ آخر إلى أنَّ النِّسْبةَ هُنا نسْبةٌ إلى عقيدة أهْلِ العدْلِ والتَّوحيد الَّذين عُرفوا بالْمُعْتزلة، وثَمَّةَ اخْتلافٌ آخرُ في انْتماءِ أبي حيَّان إلى هذه الفِرْقة. كان التَّوحيديُّ ذاتُهُ هو سبب هذا الخلاف إذ هاجم المعتزلة حيناً وتحدث بلغتهم حيناً آخر.
لمْ تصلْ ترْجمةٌ وافيةٌ ولا دقيقةٌ عنْ مولد التَّوحيديِّ زماناً ولا مكاناً، ولا عنْ نشْأته ولا عنْ أصْله، حتَّى تكاد تكونُ محطَّاتُ حياته؛ الْمُهمَّةُ والعاديةُ، مجْهولةً، ولاسِيَّما الْخمْسين الأولى منْها، والَّتي تُشكِّلُ نصْفَ حياته. حتَّى وفاتُهُ الَّتي يُفْترضُ الدِّقَّةُ في تحْديدها بعْدما نالَ ما نالَ من الشُّهْرة، لمْ يتَّفق الْمُؤرِّخون على دقيق تاريخها.
ولذلك تضاربت الأقوال في مكان ولادته وتباينتْ، والأرجح أنه ولد في بغْداد دار السَّلام وهذا ما يُرجِّحُهُ الكثيرون لِمَا اشْتُهر عنْ أبيه منْ أنَّهُ امْتهن بيع التَّمْر فيها. أما تاريخ ولادته فقد بات من شبه المؤكد أنَّهُ قدْ وُلِدَ نَحْوَ سنة 310هـ/923م.
وكذلك أيضاً كانَ نصيبُ أصلهِ من الاختلاف، فقيل إنَّهُ فارسيٌّ، وقيل إنَّهُ عربيٌّ. ولكنَّ انْتساب أبي حيَّان إلى العُروبة ليس مثارَ رأيٍّ ولا تخْمينٍ، والأدلَّةُ على ذلك كثيرةٍ، وخيرُ ما فيها إثْباتُ التَّوحيديِّ ذاته أنَّهُ لمْ يكُنْ يعْرفُ الفارسية البتَّة، هذا إلى جانب أنَّ الكُتُب الفارسيَّة، مثْل «شيرازْنامة» لمْ تقُلْ بفارسِيَّتِهِ، وإنَّما نسبتْهُ إلى بغْداد.
بدأ التوحيديُّ صلته مع المعرفة والثقافةِ من خلال الوِرَاقَةِ الَّتي اتَّخذها مهْنةً لهُ، فاطلع بذلك على كثيرٍ من الكتب المؤلفة والمترجمة، وبفضل طموحه وظَّفَ هذا الاطلاعَ ليكوِّن ثقافةً واسعة الموارد ثرَّة المضامين. وقد تعدَّدتْ معارفُ التَّوحيديِّ وتَنَوَّعتْ أيضاً لتعدُّد أساتذته وتنوُّع اخْتصاصاتهم، فشملتْ - إلى حدٍّ بعيدٍ - مُخْتلف معارف عصْره منْ عُلوم اللُّغة؛ كالنَّحْو والبيان والبلاغة، إلى عُلوم الدِّين؛ كالقُرْآن والقراآت والفقْه والْحديث والتَّصوُّف، إلى الْمباحث الفلْسفيَّة وعلْم الكلام.
تفقَّه في عُلوم اللُّغة العربية، ولاسِيَّما النَّحْو، على قُطْبي علْم النَّحْو في زمانه وهُما أبو سعيدٍ السِّيرافي وعلي بنُ عيسى الرُّمَّاني. وأَخَذَ الفقْهَ والْحديثَ النَّبوي الشَّريف منْ ثلاثة أساتذةٍ كبارٍ، هُم: أبو حامدٍ الْمرْورَّوذي وأبو بكْرٍ الشَّافعي وأبو الفرج النَّهْرواني، وتأثَّر أكْثر ما تأثَّر بالْمرْورَّوذي. واسْتفادَ التَّوحيديُّ في عُلوم الدِّين أيضاً منْ أُسْتاذه أبي سعيدٍ السِّيرافي. ولم يقْتصِرْ التوحيدي في دراسة التَّصوُّف على السِّيرافي فَتَلَقَّاهُ أيضاً عنْ أبي مُحمَّدٍ جعْفر الخُلْدي وعن أبي الْحُسين مُحمَّد بن أحْمد بن سَمعون.
أما في الفلسفة فعلى الرُّغم من التأثر الكبير للتوحيدي بآراء السِّيرافي وأفكاره فإنَّ الإفادة الأجلَّ للتَّوحيديِّ في العُلوم الفلْسفيَّة كانتْ على أيدي علمين كبيرين هُما: يحْيى بن عَدِيٍّ وأبي سُليمان السِّجسْتاني الْمنْطقي اللذين لزمهُما ردْحاً طويلاً من الزَّمن، وأفاد منْهُما الكثير.
على أنَّ الذي لا يجوز نسيانه هنا هو أنَّ الأستاذ القدوة للتوحيدي في حياته وأدبه وفكره وأخلاقه ولغته وأسلوبه هو الجاحظ الذي وصفه بأنَّهُ: «الْجاحظُ واحدُ الدُّنْيا»، أو «فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة». وخصَّهُ بكتاب أسماه: «رسالةً في تقريظ الْجاحظ».
من هذا الحشدِ من كبار المفكرينَ الذين تتلمذ عليهم التَّوحيديُّ، واتساعِ مدى ثقافته ومعارفه صِيْغَتْ إلى حدٍّ بعيدٍ شخصيَّةُ التوحيديِّ وبها صاغ التوحيديُّ مكانته، فإنْ كنا نجْهلُ الشّيءَ الكثير عنْ شخْصيَّته وخصائصها والْمراحل الّتي مرَّتْ بها، على نحْوٍ من الدِّقـَّة، فإنَّ ما تركهُ منْ آثارٍ كان ذا دلالاتٍ عميقةٍ وواضحةٍ تشفُّ عنْ شخْصيَّة كاتبها. قال آدم ميتز: «لمْ يُكْتَبْ في النّثْر العربيِّ بعْد أبي حيَّان ما هُو أسْهلُ وأقْوى وأشدُّ تعْبيراً عن شخْصيَّة صاحبه ممَّا كتبهُ أبُو حيَّان». إذ أضفى مسحةً من نوازعه على آثاره، وبثَّها هُمُومَهُ وشكْواهُ، وعبَّر عن مُعاناته وآلامه. ويبْدُو ذلك جليًّا في ضُرُوب أحاديثه الْمُخْتلفة عن النّفْس والأخْلاق، والفنِّ، والْجمال، والعقْلِ، و«الصَّداقة والصَّديق»، وفي حديثه عنْ «مثالب الوزيرين»، وفي تساؤُلاته في «الْهوامل والشّوامل». وإذا وصلْنا ذلك بما وصلنا من أحْواله، وأخْباره، وعلاقاته مع الوُزراء، وما نالهُ منْ بعْضهم، وغير ذلك اسْتطعْنا أنْ نكْشف عنْ بعْض أهمِّ جوانب شخْصيَّته.
إنَّ الآثار الَّتي خلَّفها أبُو حيَّان تشْهدُ بتألُّق العبْقريَّة وعُمْقها وأبْعادها الإبْداعيَّة الَّتي لا تنْبجسُ إلاَّ عنْ موهبةٍ أصيلةٍ وقريحةٍ مُتَّقدةٍ. ولذلك عُرف التّوحيديُّ، كما قال ياقوت الحموي، بأنّهُ «فيلسُوفُ الأُدباء وأديبُ الفلاسفة. فرْدُ الدُّنْيا الَّذي لا نظير لهُ؛ ذكاءً وفطْنةً وفصاحةً ومُكْنةً». وكان، كما قال إحسان عباس «فنَّاناً أصيلاً لا يعْجزُ عن الاضْطلاع بأكثرِ الْحقائق الفلْسفيَّة دقَّةً؛ فنّاناً يُؤْمنُ بأنَّ فنَّهُ قادرٌ على أنْ يمْسح كُلَّ شيءٍ بصبْغته، ورفِّ رفيف الْجمال على الْحقائق الْجافية، والأفْكار الْمُعقَّدة».
ترجِعُ مكانة أبي حيان وأهمِّـيَّتُهُ في التَّاريخ العربيِّ؛ الأدبيِّ والفكْريِّ إلى جُمْلةٍ من العوامل الْمُتداخلة والْمُتكاملة، لعلَّ أكثرها أهَمِّيَّة بلاغته المشرقة، وأُسْلُوبُهُ الفذُّ الرَّائعُ الْمليءُ بالْمُتْعة الَّتي قَلَّ نظيرُها في تاريخ أدبنا العربيِّ. ولا غرابة في ذلك إذْ إنَّهُ كان أَحَدَ كبار مُنظِّري فَنِّ البلاغة وكيفيَّةِ الوُصُول إلى الكتابة البليغة البديعة، إلى جانب تفْصيله في محاسن الشِّعْر والنَّثْر ومعايبهما، ولعلَّه أفْضلُ منْ طَبَّقَ نَظَرِيَّتَهُ البلاغيَّةَ الَّتي جاءتْ حصيلةَ موقفه، وخُلاصةً رائعةً لتجْربته هُو ذاتُهُ، ولتجارب السَّابقين عليه وآرائهم، حَتَّى قيل عنْهُ: إنَّهُ أفْضلُ كُتَّاب النَّثْرِ العربيِّ على الإطْلاق، ووُصفْت كُـتُبُهُ بأرْوعِ الأوصافِ، ونُعتتْ بأفْضلِ النُّعُوت وأجْملها، منْ قبل مُؤرِّخي الأدب العربيِّ؛ عربٍ ومُسْتشْرقين. هذا منْ دُونِ أنْ ننْسى أنَّ كُـتُبَهُ كانتْ تأريخاً وتوثيقاً للْمرْحلةِ الَّتي عاش فيها؛ على جميع الصُّعُد الفكْريَّةِ والعلْميَّةِ والأدبيَّةِ والاجْتماعيَّةِ والأخْلاقيَّةِ.
ولكنَّ مكانته وأهميَّته لاتنحصرُ في ذلكَ، إذ إنَّهُ كانَ صاحبَ مشروعٍ فكريٍّ استعصى فهمه على بعض المفكرين فاتُّهم منْ غيْر واحدٍ وفريقٍ بالْكُفْر والزّنْدقة حتّى وصل الأمْرُ ببعْضهم - رُبَّما اعْتماداً على دعْوى أبي الوفاء بْن عقيلٍ الَّتي ذكرها ابنُ الْجوزيِّ ـ إلى عَدِّه أحد «زنادقة الإسْلام الثّلاثة: ابن الرّاونْديِّ والتّوحيديِّ وأبي العلاء الْمعرِّيِّ. وقالُوا: إنَّ شرَّهُم على الإسْلام هُو التَّوحيديُّ لأنَّهُما صرَّحا ولمْ يُصرِّحْ». ونفى صاحبُ طبقات الشَّافعيَّة هذا الاتّهام بقوله: «ولمْ يثْبُتْ عنْدي الآن منْ حال أبي حيّان ما يُوجبُ الوقيعة فيه، ووقعْتُ على كثيرٍ منْ كلامه، فلمْ أجدْ فيه إلاّ ما يدُلُّ على أنّهُ كان قويّ النّفْس، مُزْدرياً بأهْل عصْره، ولايُوجب هذا القدْرُ أنْ يُنال منْهُ هذا النّيل». ووصفهُ ياقُوتُ بأنّهُ: «صُوفيُّ السّمْت والْهيئة، مُتعبّدٌ، والنّاسُ على ثقةٍ منْ دينه». ودافع عنْهُ مُحمّدُ كُرْدُ علي بأن أرْجعَ السَّبب الرَّئيس في هذه الاتّهامات إلى الْحقْد والْحسد والغيرة.
والحقُّ أنَّ التَّوحيديَّ ذاته هو السبب في هذه التناقضات الَّتي وقع فيها دارسوه القدماء والمحدثون، ويمكنُ إرجاع ذلك إلى سببين، أولهما غنى فكره وقابليته لكثير من وجوه الفكر شأنه في ذلك شأن معظم النوابغ الذين يظلُّ فكرهم نبعاً ثرًّا لكثيرٍ من التأويلات والاشتقاقات عبر الزمان. وثانيهما فكره الإلغازيُّ بحدِّ ذاته فهو إلى جانب محاربته المعتزلة ونعتهم بالكفر حيناً وقسوة القلب حينا آخر، وإلى جانب رفضه حياة المتصوفة والنفور منها في بعض الأحيان، فقد اعتنق الاعْتزال فكْراً، وأحد طُرُق التّصوُّف منْهجاً؛ فذهب مع الْمُعْتزلة في أُصُولها الْخمْسة، ومنْها التّعْطيلُ الَّذي يعْني تجْريد الذَّات الإلهيَّةِ من الصِّفات، «ومنْ قال بوصْف الْباري عزَّ اسْمُهُ فقد اعْتزل عن الْحقِّ»، وهذا ما يعُدُّهُ فُقهاءُ السُّـنَّة أُولى درجات الزَّندقة. وفي التّصوُّف وضع كتاباً جعل اسْمهُ: «الْحجُّ العقْليُّ إذا ضاق الفضاءُ عن الْحجِّ الشَّرْعيِّ». وفي أثناءِ ذلك أَكْثَرَ من خوض غمار المشكلات الفلسفية مناقشاً وقابلاً ورافضاً ومستحسناً ومستنكراً وكأَنَّهُ يتهرب من صَهْرِ هذه المشكلات في بوتقة مذهبٍ فلسفيٍّ واحدٍ كما فعل فلاسفة اليونان ومعاصروه من الفلاسفة المسلمين، ولعله يستحق بذلك أن يكونَ مؤسساً للفلسفة الوجوديَّة الَّتي ظهرت بصيغتها الاصطلاحية في أواخر القرن التاسع عشر وكانت بداية اللامذهبية الفلسفية، ولاسيما أن شخصيته وفكره لا يفترقان كثيراً عن شخصيات الفلاسفة الوجوديين وأفكارهم[ر. الوجودية].
لمْ يصل إلينا من عنوانات آثاره إلاَّ اثْنان وثلاثون عنواناً، بين كتابٍ ورسالةٍ مُخْتلفةِ الْموضُوع والطُّول، كان نصيبُ قُرابة نصْفها الفُقُودُ، حَتَّى عدم معْرفة مضْمُون مُعْظمها. فيما طُبع سبْعةُ عشر أثراً، هي الأكثر أهمِّيَّةً والأكْثرُ شُهْرةً، ولا ندْري إنْ كانتْ هذه الاثنين والثَّلاثين أثراً هي مُؤلَّفاتُ التَّوحِيديِّ كُلُّها أمْ ثَمَّةَ آثارٌ غيرُها، إذْ اشْتُهر عنْ فيلسُوفنا أنَّهُ أحْرقَ كُتُبهُ في أواخر حياته، لما أصابه من اليأس حسبما أشار في رسالته الَّتي كتبها إلى صديقه القاضي أبي سهْلٍ عليِّ بْن مُحمَّدٍ.
وعلى الرُّغم من أهميَّة معظم هذه الآثار، وغناها بكثير من المعارف والمعطيات الَّتي تكشف لنا عن طبيعة عصر التَّوحيدي فإنَّ أكثر هذه الآثار تعبيراً عن فكر التَّوحيدي وشخصيَّته وأسلوبه وعبقريَّته هو كتابه المسمى بـ «الإشارات الإلهيَّة»، ويليه في ذلك كتابه المسمى بـ «مثالب الوزيرين»، لأنَّ هذين الكتابين، بغض النظر عن الرَّسائل، هما الوحيدان اللذان كانا من محض إبداع التَّوحيدي بكل ما فيهما، وفيهما تتجلى بلاغته المتميزة، وتنجلي أفكاره.
يقعُ كتابُ «الإشارات الإلهيَّة» في أرْبعٍ وخمْسين رسالةً مُوجَّهةً كُلُّها - على الأرْجح - إلى منْ ضلُّوا طريقَ الْهداية الإلهيَّة. وإلى السَّالكين بعْض طُرُق الصُّوفيَّة. هذا إلى جانب كون هذه الرَّسائل بمنـزلةِ الصَّدى الْمُباشر للْحالات النَّفْسيَّة الَّتي مَرَّ بها التَّوحِيديُّ، ولاسِيَّما مُعاناتُهُ من الْغُرْبة النَّفْسيَّة والضَّياع والْحرْمان والْفقْر ،وأغْلبُ الظَّنِّ أنَّهُ بَدَأ كتابةَ هذه الرَّسائل مُنْذُ الْعقْدِ الْخامسِ مِنْ عُمْرهِ حَتَّى الثَّامن منْهُ، ولذلك فهي تَتَفَاوتُ بين الاسْتغْراقِ في الْمَلَكُوت الإلهيِّ منْ «مُناجياتٍ وأدْعيةٍ وابْتهالاتٍ تُصوِّرُ اسْتشْرافهُ إلى الْملأ الأعْلى»، وبين الإشْراع إلى التَّفْريج عنْ هُمُوم الذَّات ومتاعبها. الْعُزُوف عنْ ملاذِّ الدُّنْيا وتُرَّهاتِهَا مع أواخر الْعُمْرِ.
ومن كتبه المهمة أيضاً كتابه الشهير «الإمتاع والمؤانسة» الذي حظي باتفاق النُّـقَّادِ على أنَّه أثْمنُ الْمصادرِ لدراسةِ أَدَبِ التَّوحِيديِّ وفكْرِهِ، إلى جانب كونه وثيقةً مُهمَّةً للتَّعرُّف على الْحياة الاجْتماعيَّةِ والْفكْريَّةِ أيَّام الْبُويهيّين. وصفُهُ الْقِفْطيُّ بقوله: «هُو كتابٌ مُمْتِعٌ على الْحقيقة لمنْ لهُ مُشاركةٌ في فُنُونِ الْعلْمِ، فإنَّهُ خاضَ كُلَّ بحْرٍ وغاصَ كُلَّ لُجَّةٍ».
يُشْبهُ الْكتابُ كتاب «ألْف ليلةٍ وليلةٍ» في انْقسامُهُ إلى أرْبعينَ ليلةٍ، ويفْترقُ عن الثَّاني في الْموضُوعات الَّتي كانتْ في «الإمْتاع والْمُؤانسة» موضُوعاتٍ فلْسفيَّةً وعلْميَّةً ولُغويَّةً وأدبيَّةً، يقْترحُ أبو عبد الله الْعارض إحْدى مسائِلِها مع بداية كُلِّ ليلةٍ، ليرْتجل التَّوحِيديُّ الْجوابَ عنْها ارْتجالاً، ولاسِيَّما أنَّ مُعْظمَ الْمسائل الْمُقْترحة كانْت وليدةَ ساعتها، الأمرُ الَّذي ينُمُّ علىْ سعة اطِّلاع أبي حَيَّان وشُمُوليَّةِ ثقافته، إلى جانب ألْمعيَّتِهِ وحُضُور بديهته، وبراعته في تطْويع اللُّغة لأغْراضه الإنْشائيَّة، فكان الْكتابُ كُلُّهُ مُكرَّساً لإمْتاع الْعُقُول الْجادَّةِ والسَّامية التَّعْليم، وإنْ حاول الْمُؤلِّفُ أنْ يجْعلَ عملهُ جذَّاباً في كُلِّ مُحْتوياته وتقْديمه للْموضُوعات.
وعموماً يمكن تقسيم آثار التوحيدي إلى قسمٍ يضمُّ الأول المنشور منها، ويضمُّ القسم الثاني الآثار المفقودة. أما الآثار المنشورة فمنها:بصائر القدماء وذخائر الحكماء، أو البصائر والذخائر، رسالة إلَى أبي الفتح بن العميد، رسالة الإمامة، الصّداقة والصّديق، المقابسات، المناظرة بين أبي سعيد السِّيرافيِّ ومِتَّى بن يونس القُنَّائي.
أما آثاره المفقودة فمنها:الإقناع، التّذكرة التَّوحِيدية، الرَّدُّ على ابن جِنِّي في شعر المتنبي، رسالة إلَى أبي بكر الطالقاني .
عزت السيد أحمد