مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي
مسارات جمالية في حركة المشهد المسرحي الخليجي
إبراهيم الحسيني
يؤكد مهرجان المسرح الخليجي الذي يرعاه الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، ويديره الكاتب المسرحي أحمد بورحيمة على وجود حركة مسرحية تمتلئ بالأفكار وجماليات الصورة المسرحية، وعروض جيدة تتنافس فيما بينها للفوز بجوائز المهرجان القيمة، ففي ثلاث سنوات مضت -هي عمر المهرجان- تأتي الدورة الرابعة لمهرجان الشارقة للمسرح الخليجي، والتي عقدت في الفترة من (20 ـ 27) فبراير الماضي، تأتي لتؤكد على وجود عدة مسارات مهمة تتكون منها حركة المشهد المسرحي في دول الخليج، لعلّ أهمها يتجلى في العلاقة الوطيدة لصناع العروض المسرحية بفكرة الهوية المسرحية، من خلال التشبث باللغة العربية الفصيحة تارة، وأيضاً من خلال معالجة موضوعات تراثية وشعبية تارة أخرى، أو من خلال تضمين مفردات "البحر" المختلفة داخل البنية الديكورية للعروض المختلفة، وتلك المفردة "البحر" تعني الكثير بالنسبة للمسرح الخليجي فهي تعادل التاريخ، الهوية، الحكايات الشعبية، لذا فقد فرضت هذه المفردة نفسها على عروض المهرجان من حيث الثيمة الرئيسية لمعظم النصوص أو البنيات الديكورية للعروض، وقد ضم المهرجان في دورته الرابعة ستة عروض مسرحية داخل المسابقة الرسمية من كل دول الخليج العربي، هذا بخلاف عرض الافتتاح.
النمرود... جماليات فكرية وفنية متنوعة
عرض الافتتاح قدمته أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية من تأليف الشيخ د. سلطان بن محمد القاسمي، ومن تمثيل طلبة الأكاديمية، وبإخراج لرئيسها بيتر بارلو، وقد تشكل عرض النمرود من صياغات جمالية وفكرية مهمة، فمن حيث بنية المشهد المسرحي قدم المخرج بيتر بارلو متوالية من المشاهد الجمالية التي تتكون مفرداتها من اللون، الديكور، جسد الممثل، واعتمد تقنية توالي ظهور هذه الجماليات التشكيلية؛ وهو ما حقق فكر النص الذي كتبه الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، وقام فيه بسرد حياة واحد من طغاة الأرض؛ حيث تشكل الصراع داخل النص ما بين شخصية النمرود وما بين الشعب، فالنمرود يدعي الألوهية ويجبر الشعب على الإيمان به، وقد عبر العرض عن هذه المقابلة الصراعية بتضخيم حجم النمرود، وأيضاً تضخيم أعمدة قصره في مقابل وجود الشعب كوحدة جسدية واحدة تتحرك معاً أغلب الوقت.
واختار العرض اللغة الفصيحة كشأن كل كتابات الشيخ القاسمي المهتمة بالتأصيل عن طريق معالجتها لقضايا التاريخ والتراث، مما وضعنا أمام عرض متكامل نصاً وإخراجاً ولديه قدرة كبيرة على تصدير حالة من المتعة الفنية، كما أنه عرض يشي بمواهب كبيرة من طلاب أكاديمية الشارقة للفنون الأدائية في كافة مفردات العرض المسرحي؛ فهم رغم صغر سنهم إلا أنهم من الفنانين الكبار لكن في طور الاكتمال، وستنبني على أكتافهم في المستقبل القريب أجزاء مهمة في حركة تطوير المشهد المسرحي الخليجي بصفة خاصة والعربي بصفة عامة.
عروض المهرجان
كان أولها عرض "الهود" فرقة مسرح الشباب من المملكة العربية السعودية، والذي كتبه راشد الشمراني وأخرجه معتز العبدالله وقد اعتمد العرض على وجود البحر كثيمة دالة على أفكاره بمفرداته المختلفة ووضعه كفكرة أساسية، فنحن أمام مجتمع صيد يعتمد في رزقه على البحر، لكن هناك دخيل يلقي به هذا البحر لقرية الصيادين فيتحكم بهم وبرزقهم، وهو ما يشعل الصراع بينه وبين أهل القرية، مما يضطر أحد أبناء القرية للوقوف ضده، فمن الذي سينتصر منهما، "أبو شداد" القادم من خلف البحار والطامع في أرزاق أهل القرية أم "يحيى" الصياد الفقير والشهم الذي يرتبط بعلاقة عاطفية مع إحدى بنات القرية "سلمى"؛ لذا يتأجج الصراع وتزداد سيطرة الغريب على مقدرات الأمور وتتفتت علاقات الحب، لكنها سرعان ما تلتئم مرة أخرى بفعل تكاتف أهل القرية.
وعرض "الهود" يتحلى بمفردات مرئية مستمدة من مجتمع الصيد، فالأكواخ الخشبية المبنية على البحر، وحالة الموسيقى الموحية بتلك الأجواء، الملابس الدالة على الصيادين... كل ذلك منح العرض طعماً مختلفاً ومنحنا معها رائحة البحر، والمتأمل للعرض السعودي سيجد به ما يستحق الكتابة عنه باعتباره من أوائل العروض السعودية التي سمحت للفتيات بالتمثيل على خشبة المسرح، واعتمدت الحدوتة الرئيسية له على قصة حب بين شاب وفتاة، وأظهرهما العرض وهما يتبادلان كلمات الحب عبر حوارات رومانسية رقيقة، كما احتوى العرض أيضاً على مشهد يتميز بجرأة شديدة ظهر فيه هذا الرجل الغريب القادم عبر البحر وهو يكسر علاقة الحب بين الشاب والفتاة باعتدائه جسدياً على الفتاة.
إنها ثيمة جديدة يكسر بها عرض "الهود" سنوات من الصمت المسرحي عن ظهور الفتيات على خشبات المسارح، وخطوة مهمة في عهد التحديث الذي تشهده المملكة السعودية الآن في كافة مجالات الفنون، وغالب الأمر أنها ستسفر عن مسرح جديد قادم ومختلف.
تقنية الهدم والبناء
هذا في حين يتجه عرض "يا خليج" لفرقة مسرح جلجامش من البحرين، وهو من تأليف يوسف الحمدان وإخراج عبد الله البكري إلى تكوين صور مرئية جمالية عبر حركات وأجساد الممثلين، داخل هذا التكوين الديكوري الموحش لبقايا البيوت وسفن الصيد وأشرعتها، تلك الصور الجمالية يقوم على صناعتها الجسد الجمعي للممثلين عبر حركته داخل الفضاء المسرحي، رقصات عنيفة تنتهي كل واحدة منها بتكوين جمالي، ينهدم التكوين ليتم بناء تكويناً جمالياً جديداً، وهكذا ما بين تكوين الصور الجمالية وهدمها لإعادة تكوينها مرة أخرى، تشكل قوام العرض الذي قدّم لنا شكلاً قاسياً وموحشاً للحياة البدائية في علاقتها بالبحر والصيد، حكايات تندمج مع الغناء الشعبي والموسيقى الحية، بالإضافة إلى لحظات درامية معبرة عن قسوة الحياة في مجتمع بدائي، ولم ينس صناع التجربة المسرحية أن يضعوا قصتهم داخل إطار حديث، وذلك من خلال هذا الشاب العصري القادم إلى ذلك المجتمع حاملاً حقيبة سفره العصرية، وبمجرد دخوله لهذا العالم تدب الحياة في الجميع لتظهر حالة الفقر والمعاناة التي يعيشها سكان هذا العالم الموحش داخل مجتمع العرض، والتي بالرغم من قسوتها إلا أنها مليئة بالغنى والثراء الفني والفكري.
إنها عوالم ترتبط بالبحر وتحمل داخل طياتها صرخة مدوية للحفاظ على الهوية الخليجية في ظل تغيرات الواقع، عبر نص كتبه الحمدان كسيناريو سينمائي يشير إلى الأفكار ولا يعرضها بشكلها المباشر، وعبر إخراج اعتمد رؤية تشكيلية مفرداتها: جسد الممثل، قطع الديكور المتناثرة، شباك الصيد وبقايا السفن، مجموعة أجساد الممثلين، الرقصات التعبيرية الحادة... ليصنع عبر كل ذلك أسطورته المرئية الخاصة.
أما العرض الإماراتي "زغنبوت" للكاتب إسماعيل عبدالله، والمخرج محمد العامري لفرقة مسرح الشارقة الوطني، وهما معاً (الكاتب والمخرج) ثنائي ناجح في الكثير من تجاربهما، والتي كان آخرها عرض "رحل النهار" الذي حصل على جائزة الشيخ سلطان بن محمد القاسمي في مهرجان الهيئة العربية للمسرح الأخير، الذي أقيم في شهر يناير الماضي بالمغرب 2023، نجدهما في تجربتهما الجديدة يوظفان الكثير من مفردات التراث الخليجي، ويعتمدان البحر أيضاً كثيمة رئيسة في عملهما، فنحن بإيزاء حكاية عن مجتمع يعاني من الفقر الشديد بسبب قلة الصيد والزراعة، وهو ما تنقسم حوله الآراء وتختلف، رجل الدين يقوم بوعظ الناس وحثّهم على الصبر لعل الله يبدل الأحوال، بينما أحد رجالات القرية يدعو الناس للبحث عن مصادر رزق جديدة وعدم الاستسلام للواقع، وبين هذا وذاك يظهر ذلك الرجل الهندي القادم عبر البحر ليقدم حلولا للنجاة ووعوداً بالرخاء في مقابل زواجه من ابنة النوخذة، وكلمة النوخذة في التراث الخليجي تدل وتشير على ربان السفينة، وابنة النوخذه "الجوهرة" هي دلالة على الهوية الخليجية الذي جاء هذا الرجل الهندي ليخطفها، وبالتالي فوقوف شباب القرية ضد إغواءات الهندي وضد تبريرات أحد تجار القرية الذين يمشون في ركابه، ويدعون له ما هو في حقيقة الأمر إلا دعوة لعدم التفريط في الهوية يطلقها العرض.
حفل العرض بقامات تمثيلية متميزة منها: أحمد الجسمي، إبراهيم سالم، بدور، محمد جمعة... واستطاع تقديم صورة مرئية جمالية مع غناء شعبي وملامح كوميدية بسيطة لكنها رائعة، كما قام ببلورة حالة من حالات الصراع بين الأفكار المختلفة، فالهندي القادم يمثل فكرة، والتاجر المستغل هو فكرة أخرى تمشي في ركابه، ورجل الدين فكرة استرضائية، وشباب القرية فكرة مضادة... وهكذا فالعرض صراع أفكار استطاع مخرجه أنسنتها وتقديمها داخل رؤية فنية وفكرية ممتعة، لذا استحق العرض عدداً كبيراً من الجوائز، منها: أفضل تأليف، وأفضل إخراج، وأيضاً أفضل عرض مسرحي متكامل.
كوميديا خارج السرب
هذا في حين أن هناك عروضاً أخرى اهتمت بتقديم معالجات كوميدية عصرية مثل العرض الكويتي "عنقود العنب" الذي كتبته نادية القناعي، وأخرجه عبدالله سالم القلاف لفرقة المسرح العربي، والذي دارت فكرته حول الاستغلال الذي يقوم بها بعض البشر تجاه من حولهم، وذلك في قالب كوميدي لطيف استطاع أن ينتزع منا الكثير من الضحكات، ومن خلال موسيقى مرحة كانت مناسبة لسريان الأحداث في سلاسة كبيرة، وقد ضم العرض مجموعة متميزة من شباب المسرحيين الكويتيين، مثل: إبراهيم الشيخلي، أوس الشطي، مريم الحلو، حنان المهدي.
هذا في حين أن عرض فرقة صلالة للفنون المسرحية الأهلية التي قدمته سلطنة عمان من تأليف وإخراج عماد بن محسن الشنفري، يتجه أيضاً وينضم لقائمة العروض السابقة في محاولاته لتأصيل الهوية، فهو يختار ثيمة مسرحية شهيرة في التاريخ عن ذلك الحاكم الذي يقتل عائلة معادية بالكامل، في حين يشفق على طفلها من القتل ويقوم بتربيته في قصره، وهو ما يستخدمه أحد أفراد عائلته من الطامعين في الحكم ضده، فيقوم بتأليب هذا الطفل الأجنبي بعدما يكبر على الحاكم الذي رباه، لكن من الأشياء الجميلة في العرض ذلك الدمج ما بين التراثي والحداثي في الموسيقى والغناء، وقدرة ممثلي العرض على تقديم أفضل ما لديهم من مهارات تمثيلية وأدائية مختلفة.
مسارات ثلاثة
ووفق هذه الثيمات التي عالجتها العروض نجد الكثير من السمات المشتركة داخل المشهد المسرحي الخليجي، ومنها: الاهتمام بمعالجة قضايا التراث والتاريخ والتمسك بأفكار التأصيل والهوية، ومنها وجود البحر ومجتمع الصيد بمفرداته المختلفة من حكايات شعبية تحمل الكثير من القضايا والأفكار، مفردات مرئية مثل: أشرعة السفن، شباك الصيد، بقايا حطام السفن والبيوت، الدكك الخشبية، الآلات الموسيقيىة التراثية... ومنها مفردات مسموعة مثل: الأغاني والموسيقى الشعبية القديمة التي تستخدم الآلات التراثية، أما حكايات النوخذة وما تمثله شخصيته من قيمة تاريخية فحاضرة بأشكال متنوعة.
في حين تبتعد بعض العروض عن مسار التراث والتاريخ وتقترب من العوالم المعاصرة، فتقدم الكوميديا بآلياتها المختلفة وحكايات الواقع الراهن مثل العرض الكويتي، كما يتم الدمج في أحيان أخرى لنحصل على مسار ثالث (تراثي / معاصر)، يقع ما بين المسارين الأول الخاص بقضايا التراث والتاريخ، والثاني الخاص بالمعاصرة في مسار يجمعهما معاً من مثل عرض سلطنة عمان، ولكل مسار من الثلاثة جمالياته الخاصة سواء كانت مرئية أو مسموعة.
واللافت للنظر في عروض هذا العام هو هذه الحالة من التطور السينوغرافي الذي يهتم بجماليات الصورة المرئية ودلالات الألوان في علاقتها مع الثيمات الدرامية المطروحة، كما أن وجود الرقص بتنويعاته الشعبية والمعاصرة، والذي كان حاضراً في بنية المشهد المسرحي كان شيئاً إيجابياً لاستكمال الصورة المسرحية على مستوى التكوينات الجمالية المعبرة عن معان كثيرة تخدم أفكار الطرح الدرامي، بالإضافة إلى الاهتمام أيضاً بالموسيقى والغناء والتي احتلت جزءاً كبيراً من مساحات العروض ومنحتها تفاعلاً جيداً مع الجمهور العربي والخليجي في آن، كما أن العروض في مجملها تبشر بقدوم جيل مسرحي جديد في كافة مفردات العمل المسرحي، ينضاف جنباً إلى جنب مع القامات المسرحية الكبيرة داخل حركة المسرح الخليجي.