رشد (محمد احمد)
Rushid (Mohammad ibn Ahmad ibn-) - Rushid (Mohammad ibn Ahmad ibn-)
ابن رشد (محمد بن أحمد -)
(520-595هـ/ 1126-1198م)
أبو الوليد العالم الفيلسوف محمد ابن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد ـ تمييزاً له من جده الفقيه إذ كان يسمى أيضاً أبا الوليد محمد بن رشد. ولد في قرطبة وتوفي بمراكش. كان من عائلة علم وفقه. فجده فقيه مشاور وقاض وإمام للمسجد الجامع بها، وتقلد والده أيضاً منصب القضاء. درس في موطنه العلوم الدينية حتى أصبح ضليعاً منها على مذهب مالك وحفظ موطأه عن ظهر قلب. واستهوته في علوم الدين تلك التي تعتمد على الدراية كأصول الفقه، لا على الرواية كعلم الحديث. كما درس الطب ضمن ما درسه من العلوم التي كانت تندرج ضمن الفلسفة أو ما سماه العرب العلوم الحكمية أو علوم الأوائل.
كان في مراكش عام 548هـ/ 1153م بدعوة على ما يظهر من عبد المؤمن ابن علي خليفة الموحدين للمساعدة على إقامة مؤسسته التعليمية. وبقي في مراكش إلى خلافة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الموحدي (558-580هـ/1163-1184م) وتم خلال ذلك الاتصال والتعارف بابن الطفيل الفيلسوف وطبيب الخليفة الذي قدم ابن رشد له مما كان له الأثر الكبير في مسيرة ابن رشد الفلسفية.
شكا الخليفة لطبيبه من قلق عبارة أرسطوطاليس - أو عبارة المترجمين عنه - وتطلعه لمن يلخص كتب هذا الفيلسوف اليوناني ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً ليقرّب مأخذها إلى الناس. ورأى ابن الطفيل أن كبر سنه لا يساعده على القيام بالمهمة فعرضها على ابن رشد الذي قبلها. وتمتع بالحظوة لدى الخليفة طوال عهده ثم حل محل ابن الطفيل طبيباً للخليفة. واستمر على هذه الحال جل سنوات خلافة أبي يوسف يعقوب المنصور(580-595هـ/1184-1199م) ولكن حل به في أواخرها سنة (591هـ/1195م) غضب الخليفة الذي أصدر أمراً يحرم فيه دراسة العلوم الحكمية ودعا جماعة من الفقهاء بقرطبة فبحثوا في آراء ابن رشد وانتهوا إلى الحكم على تعاليمه وعلى آراء جماعة آخرين بالمروق، ثم اتهم بالزندقة علناً في المسجد ونفي مع جماعة من العاملين في هذا المجال إلى اليسانة قرب غرناطة ذات الغالبية اليهودية من السكان. رويت أكثر من رواية عن السبب الشخصي لانقلاب موقف الخليفة، وكان زلات لسان لابن رشد تحط من هيبة المنصور، لكن المرجح أن السبب سياسي مرده إلى خوض الخليفة آنذاك جهاداً ضد الإسبان يحتاج فيه إلى التعبئة الدينية في الأندلس التي يقوم بها الفقهاء، علماً بأن غضبه على ابن رشد والفلاسفة حدث في العام نفسه الذي أحرز فيه نصره الكبير في الأرك. بعد نحو أربع سنوات سنة 595هـ صفح الخليفة المنصور عن ابن رشد استجابة لمساعي نفر من وجوه إشبيلية، واستدعاه إلى مراكش. حيث وافاه الأجل في العام نفسه، ودفن هناك أولاً ثم نقل إلى مدافن أهله بقرطبة.
قدّر الصوفي المشهور محيي الدين ابن عربي عندما حضر جنازة ابن رشد أنه خلّف من المؤلفات ما يعادل في الوزن زنة جثمانه. وكانت في علوم الدين وعلوم الفلسفة.
ألف في العقائد «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». وفي الفقه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد». وفي الفلك عدة رسائل. أما في الطب فوضع كتاب الكليات في سبعة كتب، وجملة رسائل وشرحاً لأرجوزة ابن سينا في الطب. أما في الفلسفة فيأتي على رأس كتبه «تهافت التهافت» في الرد على الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» والمقدمات في اثنتي عشرة مقالة بقي العديد منها في تراجم عبرية. وفي هذا المجال وقف ابن رشد جزءاً كبيراً من جهوده لدراسة أرسطو وشرح فكره. إذ كان يراه الإنسان الأكمل والمفكر الأعظم الذي وصل إلى حق لا يشوبه باطل ولا تنسخه الأيام، وكان أشد ما يكون تعصباً لمنطقه معتقداً بأنه لا سعادة لأحد من دونه ويكون له منها على قدر معرفته من هذا المنطق.
تناول ابن رشد كل ما استطاع الحصول عليه من مؤلفات أرسطو ودرسها وشرحها شروحاً متفاوتة بين طويلة ومتوسطة وموجزة. وقد اختلطت الشروح بالأصل، كما أدمجت فيها أفكار ابن رشد الخاصة. ويرى رينان أنه تعمد ذلك ليتمكن من نسبة الأفكار التي قد تثير عليه الفقهاء إلى شخص غيره. وقد وصل عدد هذه الشروح إلى ثمانية وعشرين شرحاً، لم يبق منها في العربية إلا القليل وحفظت العبرية الكثير منها وتكاد تكون كاملة في ترجماتها اللاتينية.
تستوقف الباحث في فكر ابن رشد ملامح بارزة. لعل أولها محاولته التوفيق بين الفلسفة الأرسطية، التي عدّها كثيرون إلحادية وبين الدين، «فكلاهما عند ابن رشد حق» و«الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له» و«الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والفطرة». من ناحية أخرى تصور ابن رشد العالم على أنه عملية تغير وحدوث منذ الأزل. وتحتاج هذه العملية إلى محرك أول هو الإله وماهيته فكر تليه ماهية عقول الأفلاك، وكل فلك فيها يحدث الحركة فيما هو دونه حتى تصل إلى فلك القمر وهو يؤثر في العقل الإنساني. وقد نظر كثير من أصحاب العقائد في الديانات لهذه الأفكار السماوية الثلاث كآراء إلحادية. أولها قوله بقدم العالم المادي والعقول المحركة له، ثانيها قوله بارتباط حوادث الكون جميعها ارتباط علة بمعلول على وجه حتمي مما لا يترك مجالاً للعناية الإلهية ولا للمعجزات والخوارق، وثالثهما قوله بفناء الجزئيات، وهو قول يجعل الخلود الفردي غير ممكن.
أما الجانب الأقل إثارة للخلاف من فكر ابن رشد فهو فلسفته السياسية. فرغم مهاجمته الحكام الجاهلين والمتكلمين المعادين للثقافة في عصره، إلا أنه ينسجم مع خط الكثيرين من الفلاسفة المسلمين في عدّه حياة التوحد لا تثمر صناعات ولا علوماً، لابد لها كي تتحقق من التعاون الذي يحصل في التجمع الإنساني. ولكي يعطي هذا التعاون أكله يجب أن يسهم فيه كل فرد من الرجال والنساء على حد سواء. ويرى أن الكثير من فقر عصره وبؤسه مردّه إلى تملك الرجل للمرأة كأنها نبات أو حيوان أليف لمجرد إمتاع فان ـ بدلاً من أن يمكنها من المشاركة في إنتاج الثروة المادية والفعلية وفي حفظها.
عرف الأوربيون ابن رشد باسم أفرويس Averroes وكان تأثيره في فكرهم ذا شأن كبير. عرفت مؤلفاته عن طريق ما ترجم منها في مدرستي طليطلة بإسبانيا. أو باليرمو في صقلية، وانعكس الاهتمام بها في استمرار الترجمة لها بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، وربما أمكن تفسير هذا الاهتمام لا بالرغبة في معرفة فكر ابن رشد فحسب وإنما بالتعرف من خلال شروحه تيارين فكريين متعارضين تجاهه فقد قبلتها ودافعت عنها المدرسة الفرنسيسكانية وعارضتها المدرسة الدومينيكية ورد عليها بعنف أقطابها وعلى رأسهم توما الأكويني وريموندو ليوليو، ولو أن آراءه لديهم شوهت وحرّفت عن مواضعها، كما أن توما الأكويني أكبر مهاجمي ابن رشد تبنى منهجه في التوفيق بين الدين والفلسفة.
وطال تأثيره في الجامعات الناشئة في أوربا كجامعة باريس وأكثر منها تأثراً كانت جامعة بادوا حيث رجالها أطباء وفلكيون وجرت معها جامعتي البندقية وبولونيا وظلت قلعة للرشدية حتى القرن السابع عشر. وربما استفادت من حماية مجلس شيوخ البندقية لحرية الباحثين، فلم يجد الجزويت ولا محاكم التفتيش التي تلاحق الرشديين سبيلاً إليهم. كذلك أخذ اليهود الأوربيون مؤلفات ابن رشد وشرحوها وترجموها فأصبحت العماد الأكبر الذي بني عليه العلم العبري ابتداء من القرن الثالث عشر، فاتبع أثر ابن رشد في التوفيق بين الدين والفلسفة المشهورون مثل أسرة بني طبّون أو (تبوّن) في القرنين الثالث عشر والخامس عشر. ووصل التأثير الرشدي على الملوك مثل فريدريك الثاني النورماندي، عن طريق ميخائيل سكوتس أحد من ترجموا لابن رشد، وعاش أمداً في البلاط النورماندي. كما أن الملك الفرنسي لويس الحادي عشر سعى لتنظيم التعليم في بلده سنة 1473 فأوصى باتباع أرسطو وشارحه ابن رشد.
وانعكس التأثير الرشدي في أوربا لدى دانتي أحد أعلام النهضة الذي وصفه بلقبه الشارح، وجعله في مرتبة عليا في الآخرة مع جالينوس وابن سينا ولكن في جهنم. ولفتت ظاهرة أثر ابن رشد في أوربا رينان أحد أعلام الفكر في فرنسا في القرن قبل الماضي فألف كتاباً عنه وعن أثره بعنوان «ابن رشد والرشدية».
أحمد بدر
Rushid (Mohammad ibn Ahmad ibn-) - Rushid (Mohammad ibn Ahmad ibn-)
ابن رشد (محمد بن أحمد -)
(520-595هـ/ 1126-1198م)
أبو الوليد العالم الفيلسوف محمد ابن أحمد بن محمد بن رشد الحفيد ـ تمييزاً له من جده الفقيه إذ كان يسمى أيضاً أبا الوليد محمد بن رشد. ولد في قرطبة وتوفي بمراكش. كان من عائلة علم وفقه. فجده فقيه مشاور وقاض وإمام للمسجد الجامع بها، وتقلد والده أيضاً منصب القضاء. درس في موطنه العلوم الدينية حتى أصبح ضليعاً منها على مذهب مالك وحفظ موطأه عن ظهر قلب. واستهوته في علوم الدين تلك التي تعتمد على الدراية كأصول الفقه، لا على الرواية كعلم الحديث. كما درس الطب ضمن ما درسه من العلوم التي كانت تندرج ضمن الفلسفة أو ما سماه العرب العلوم الحكمية أو علوم الأوائل.
كان في مراكش عام 548هـ/ 1153م بدعوة على ما يظهر من عبد المؤمن ابن علي خليفة الموحدين للمساعدة على إقامة مؤسسته التعليمية. وبقي في مراكش إلى خلافة أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن الموحدي (558-580هـ/1163-1184م) وتم خلال ذلك الاتصال والتعارف بابن الطفيل الفيلسوف وطبيب الخليفة الذي قدم ابن رشد له مما كان له الأثر الكبير في مسيرة ابن رشد الفلسفية.
شكا الخليفة لطبيبه من قلق عبارة أرسطوطاليس - أو عبارة المترجمين عنه - وتطلعه لمن يلخص كتب هذا الفيلسوف اليوناني ويقرب أغراضها بعد أن يفهمها فهماً جيداً ليقرّب مأخذها إلى الناس. ورأى ابن الطفيل أن كبر سنه لا يساعده على القيام بالمهمة فعرضها على ابن رشد الذي قبلها. وتمتع بالحظوة لدى الخليفة طوال عهده ثم حل محل ابن الطفيل طبيباً للخليفة. واستمر على هذه الحال جل سنوات خلافة أبي يوسف يعقوب المنصور(580-595هـ/1184-1199م) ولكن حل به في أواخرها سنة (591هـ/1195م) غضب الخليفة الذي أصدر أمراً يحرم فيه دراسة العلوم الحكمية ودعا جماعة من الفقهاء بقرطبة فبحثوا في آراء ابن رشد وانتهوا إلى الحكم على تعاليمه وعلى آراء جماعة آخرين بالمروق، ثم اتهم بالزندقة علناً في المسجد ونفي مع جماعة من العاملين في هذا المجال إلى اليسانة قرب غرناطة ذات الغالبية اليهودية من السكان. رويت أكثر من رواية عن السبب الشخصي لانقلاب موقف الخليفة، وكان زلات لسان لابن رشد تحط من هيبة المنصور، لكن المرجح أن السبب سياسي مرده إلى خوض الخليفة آنذاك جهاداً ضد الإسبان يحتاج فيه إلى التعبئة الدينية في الأندلس التي يقوم بها الفقهاء، علماً بأن غضبه على ابن رشد والفلاسفة حدث في العام نفسه الذي أحرز فيه نصره الكبير في الأرك. بعد نحو أربع سنوات سنة 595هـ صفح الخليفة المنصور عن ابن رشد استجابة لمساعي نفر من وجوه إشبيلية، واستدعاه إلى مراكش. حيث وافاه الأجل في العام نفسه، ودفن هناك أولاً ثم نقل إلى مدافن أهله بقرطبة.
قدّر الصوفي المشهور محيي الدين ابن عربي عندما حضر جنازة ابن رشد أنه خلّف من المؤلفات ما يعادل في الوزن زنة جثمانه. وكانت في علوم الدين وعلوم الفلسفة.
ألف في العقائد «فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال». وفي الفقه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد». وفي الفلك عدة رسائل. أما في الطب فوضع كتاب الكليات في سبعة كتب، وجملة رسائل وشرحاً لأرجوزة ابن سينا في الطب. أما في الفلسفة فيأتي على رأس كتبه «تهافت التهافت» في الرد على الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» والمقدمات في اثنتي عشرة مقالة بقي العديد منها في تراجم عبرية. وفي هذا المجال وقف ابن رشد جزءاً كبيراً من جهوده لدراسة أرسطو وشرح فكره. إذ كان يراه الإنسان الأكمل والمفكر الأعظم الذي وصل إلى حق لا يشوبه باطل ولا تنسخه الأيام، وكان أشد ما يكون تعصباً لمنطقه معتقداً بأنه لا سعادة لأحد من دونه ويكون له منها على قدر معرفته من هذا المنطق.
تناول ابن رشد كل ما استطاع الحصول عليه من مؤلفات أرسطو ودرسها وشرحها شروحاً متفاوتة بين طويلة ومتوسطة وموجزة. وقد اختلطت الشروح بالأصل، كما أدمجت فيها أفكار ابن رشد الخاصة. ويرى رينان أنه تعمد ذلك ليتمكن من نسبة الأفكار التي قد تثير عليه الفقهاء إلى شخص غيره. وقد وصل عدد هذه الشروح إلى ثمانية وعشرين شرحاً، لم يبق منها في العربية إلا القليل وحفظت العبرية الكثير منها وتكاد تكون كاملة في ترجماتها اللاتينية.
تستوقف الباحث في فكر ابن رشد ملامح بارزة. لعل أولها محاولته التوفيق بين الفلسفة الأرسطية، التي عدّها كثيرون إلحادية وبين الدين، «فكلاهما عند ابن رشد حق» و«الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له» و«الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة وهما المصطحبتان بالطبع المتحابتان بالجوهر والفطرة». من ناحية أخرى تصور ابن رشد العالم على أنه عملية تغير وحدوث منذ الأزل. وتحتاج هذه العملية إلى محرك أول هو الإله وماهيته فكر تليه ماهية عقول الأفلاك، وكل فلك فيها يحدث الحركة فيما هو دونه حتى تصل إلى فلك القمر وهو يؤثر في العقل الإنساني. وقد نظر كثير من أصحاب العقائد في الديانات لهذه الأفكار السماوية الثلاث كآراء إلحادية. أولها قوله بقدم العالم المادي والعقول المحركة له، ثانيها قوله بارتباط حوادث الكون جميعها ارتباط علة بمعلول على وجه حتمي مما لا يترك مجالاً للعناية الإلهية ولا للمعجزات والخوارق، وثالثهما قوله بفناء الجزئيات، وهو قول يجعل الخلود الفردي غير ممكن.
أما الجانب الأقل إثارة للخلاف من فكر ابن رشد فهو فلسفته السياسية. فرغم مهاجمته الحكام الجاهلين والمتكلمين المعادين للثقافة في عصره، إلا أنه ينسجم مع خط الكثيرين من الفلاسفة المسلمين في عدّه حياة التوحد لا تثمر صناعات ولا علوماً، لابد لها كي تتحقق من التعاون الذي يحصل في التجمع الإنساني. ولكي يعطي هذا التعاون أكله يجب أن يسهم فيه كل فرد من الرجال والنساء على حد سواء. ويرى أن الكثير من فقر عصره وبؤسه مردّه إلى تملك الرجل للمرأة كأنها نبات أو حيوان أليف لمجرد إمتاع فان ـ بدلاً من أن يمكنها من المشاركة في إنتاج الثروة المادية والفعلية وفي حفظها.
عرف الأوربيون ابن رشد باسم أفرويس Averroes وكان تأثيره في فكرهم ذا شأن كبير. عرفت مؤلفاته عن طريق ما ترجم منها في مدرستي طليطلة بإسبانيا. أو باليرمو في صقلية، وانعكس الاهتمام بها في استمرار الترجمة لها بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، وربما أمكن تفسير هذا الاهتمام لا بالرغبة في معرفة فكر ابن رشد فحسب وإنما بالتعرف من خلال شروحه تيارين فكريين متعارضين تجاهه فقد قبلتها ودافعت عنها المدرسة الفرنسيسكانية وعارضتها المدرسة الدومينيكية ورد عليها بعنف أقطابها وعلى رأسهم توما الأكويني وريموندو ليوليو، ولو أن آراءه لديهم شوهت وحرّفت عن مواضعها، كما أن توما الأكويني أكبر مهاجمي ابن رشد تبنى منهجه في التوفيق بين الدين والفلسفة.
وطال تأثيره في الجامعات الناشئة في أوربا كجامعة باريس وأكثر منها تأثراً كانت جامعة بادوا حيث رجالها أطباء وفلكيون وجرت معها جامعتي البندقية وبولونيا وظلت قلعة للرشدية حتى القرن السابع عشر. وربما استفادت من حماية مجلس شيوخ البندقية لحرية الباحثين، فلم يجد الجزويت ولا محاكم التفتيش التي تلاحق الرشديين سبيلاً إليهم. كذلك أخذ اليهود الأوربيون مؤلفات ابن رشد وشرحوها وترجموها فأصبحت العماد الأكبر الذي بني عليه العلم العبري ابتداء من القرن الثالث عشر، فاتبع أثر ابن رشد في التوفيق بين الدين والفلسفة المشهورون مثل أسرة بني طبّون أو (تبوّن) في القرنين الثالث عشر والخامس عشر. ووصل التأثير الرشدي على الملوك مثل فريدريك الثاني النورماندي، عن طريق ميخائيل سكوتس أحد من ترجموا لابن رشد، وعاش أمداً في البلاط النورماندي. كما أن الملك الفرنسي لويس الحادي عشر سعى لتنظيم التعليم في بلده سنة 1473 فأوصى باتباع أرسطو وشارحه ابن رشد.
وانعكس التأثير الرشدي في أوربا لدى دانتي أحد أعلام النهضة الذي وصفه بلقبه الشارح، وجعله في مرتبة عليا في الآخرة مع جالينوس وابن سينا ولكن في جهنم. ولفتت ظاهرة أثر ابن رشد في أوربا رينان أحد أعلام الفكر في فرنسا في القرن قبل الماضي فألف كتاباً عنه وعن أثره بعنوان «ابن رشد والرشدية».
أحمد بدر