مجاعه
Starvation - Famine
المجاعة
مازال شبح المجاعة starvation يهدد حياة الملايين من البشر الذين يموتون جوعاً، وما يزال عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع في شكله المطلق أو النسبي يشهد ارتفاعاً مستمراً على الرغم من الجهود العالمية التي تبذل في مواجهتها، وعلى الرغم من تطور إنتاج الغذاء على الصعيد العالمي، ومع أن تخفيض عدد الجائعين إلى النصف مع حلول عام 2015 يعدّ هدفاً أساسياً من أهداف مؤتمر القمة العالمي للأغذية عام 1996 ومؤتمر قمّة الألفيّة عام 2000.
لقد ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون سوءَ التغذية من 791 مليون شخص عام 1997 إلى 852 مليون شخص عام 2002، منهم 815 مليون في البلدان النامية أي ما يعادل 95.6% و28 مليون في البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية، أي قرابة 3.3% وتسعة ملايين في البلدان الصناعية؛ أي أقل من نحو 1% فقط ، كما ارتفع عدد الجوعى في البلدان النامية بمعدل أربعة ملايين سنوياً في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، ووصلت نسبة ناقصي الأغذية في 28 دولة إلى 35% من سكان هذه الدول، في حين بلغت أكثر من 40% من السكان في عشرة بلدان في الفترة 2000- 2002. في هاييتي مثلاً بلغت نسبة ناقصي الأغذية 47% من السكان، وفي إريتريا 73%، وفي كل من بوروندي وإثيوبيا 78% و 46%.
واليوم فإن واحداً من كل سبعة أشخاص عاجز عن تلبية احتياجاته الغذائية الأساسية؛ ليعيش حياة صحية ونشيطة، كما أن أكثر من عشرة ملايين طفل دون سن الخامسة يموتون سنوياً في البلدان النامية بسبب سوء التغذية، ويولد سنوياً في هذه البلدان أكثر من عشرين مليون طفل ناقصي الوزن.
هذا كله يعني الاستمرار في التكاليف المباشرة وغير المباشرة للمجاعة، فبغض النظر عن الأعداد الكبيرة من البشر التي تحصدها المجاعة سنوياً فإن التكلفة الطبية لها تصل إلى 35 مليار دولار سنوياً، وإلى مئات المليارات من الدولارات تصل تكلفتها غير المباشرة التي تظهر في فقدان الإنتاجية والدخل بسبب الوفاة المبكرة أو العجز أو التغيب عن العمل أو قلة الفرص التعليمية والمهنية.
إزاء هذا الواقع المأساوي للمجاعة فإن المفكرين والمنظِّرين قد ذهبوا مذاهب مختلفة في تفسير الأسباب الكامنة وراءها، بحيث تعددت آراؤهم، واختلفت وجهات نظرهم بحسب اختلاف مآربهم ومشاربهم.
فريق من هؤلاء عدّ أن السبب الأساسي في انتشار المجاعة وزيادة عدد الجوعى في العالم (خاصة في البلدان النامية) يعود إلى التزايد السكاني المرتفع وغير المضبوط، على اعتبار أن ثمة سباقاً غير متكافئ بين نمو أعداد البشر والموارد الغذائية. وبما أن البشر يتزايدون وفق متوالية هندسية فيما تتزايد الموارد وفق متوالية حسابية، فإن التزايد الملحوظ للسكان سيؤدي إلى زيادة الطلب على الغذاء، ومن ثم إلى اتساع الفجوة الغذائية؛ لأن نمو الإنتاج الزراعي لن يواكب التطور الكمي الحاصل في أعداد السكان، ولذلك فإن خطر المجاعة ومشكلات نقص التغذية سوف تبقى موجودة على الرغم مما تحققه البشرية من تقدم علمي و«تكنولوجي».
ولأن المجاعة تتركز على وجه الخصوص في البلدان المتخلفة؛ ولأن معظم تلك البلدان تتسم بارتفاع معدلات نموها السكاني فقد زعم أصحاب هذا الاتجاه أن ثمة تلازماً في الوقوع بين المجاعة والنمو السكاني أو حتى بين المجاعة والاكتظاظ السكاني، وبناءً عليه يخلصون إلى القول إن محاربة المجاعة تكمن في القضاء على مشكلة نمو السكان واكتظاظهم؛ دون الانتباه إلى أنه من غير الضروري أن تكون كل البلاد التي تتسم بخفّة سكانية بالنسبة للأرض المزروعة هي عادة البلاد التي يكون مستوى التغذية فيها جيداً لكل الناس أو معظمهم (كما هي الحال في إفريقيا جنوب الصحراء).
انطلاقاً مع هذا النهج في التفسير فإن أصحاب هذا الاتجاه لم يدعوا فرصة لأي بارقة أمل لمستقبل البشرية إلا إذا انخفضت معدلات النمو السكاني، ففي تقرير صدر عن مؤسسة روكفلر Rockefeller عام 1950 ما ينبه على خطورة ارتفاع عدد السكان في العالم، «إن عاجلاً أو آجلاً سيؤدي إلى ضغط الناس المتزايد على وسائل المعيشة إلى أن تعود قوى الموت، فتستقر من جديد سواء عن طريق الهزال العام، أم عن طريق المجاعة والأوبئة»، وفي هذا السياق يجد ريتشارد نيلسون R.Nelson - صاحب نظرية المصيدة السكانية - «أن الزيادة السكانية في البلدان المتخلفة هي التي تدفع النظام المتخلف للتذبذب دائما حول مستوى الركود»، وقد بنى نيلسون تصوراته على مبدأ تحليلي يتمثل بالعلاقة بين زيادة الدخل وعدد السكان، ففي المناطق التي يكون فيها الدخل مرتفعاً تتحسن مستويات المعيشة، ويتحسن الوضع الصحي للسكان، فيرتفع معدل المواليد، وينخفض معدل الوفيات، ويرتفع معدل النمو السكاني؛ إلا أن المجتمع يحافظ على توازنه، لأن أعداد السكان الجديدة تمتص الفائض من الدخل، وتعيد حالة التوازن، أما في المناطق التي يكون فيها الاقتصاد متخلفاً؛ فتكون مستويات المعيشة، والمستويات الصحية منخفضة أيضاً، وتكون معدلات الخصوبة منخفضة والمواليد أقل، ويصل الدخل الفردي إلى حد الكفاف.
ومن الملاحظ أن التفسيرات المتداولة لمشكلة المجاعة، التي بُني جزء منها على أسس النظرية المالتوسية مازالت لا تولي الأوضاع الاقتصادية الدولية أي اعتبار موضوعي يذكر، فانتشار المجاعة لا يعود في حقيقته إلى زيادة عدد السكان، وهو ليس قدراً محتوماً منيت به البلدان التي ينتشر فيها، بل هو نتيجة طبيعية للاستغلال والظلم وعدم الإنصاف والتوزيع غير العادل للإنتاج ووسائل الإنتاج على الصعيد العالمي، ففي حين يؤلف سكان البلدان النامية 80% من سكان العالم فإنهم لا يستهلكون سوى 20% من الإنتاج العالمي، فيما يُستهلك 80% في الدول المتقدمة التي لا تضم سوى 20% من سكان العالم.
إن الهوة تزداد اتساعاً بين عالم متخم وعالم جائع وبدلاً من إنتاج الغذاء يتم إنتاج المزيد من السلاح، وبدلاً من التوزيع العادل للغذاء تحرم الملايين من الفائض منه، وبدلاً من عرضه في السوق يتم التخلص من فائضه بكل بساطة لمنع تدهور الأسعار.
إن انفراد البلدان النامية بكونها مركز المجاعة في العالم يعود - حسب رأي أصحاب هذا الاتجاه - إلى علاقات الاستغلال الحاصلة على المستوى العالمي من حيث إنها أدّت إلى تشويه بنيان الإنتاج القومي لهذه البلدان بإجبارها على التخصص في إنتاج المواد الأولية ودمج اقتصادها في السوق الرأسمالية العالمية؛ ليصبح موضوعاً لعمليات استغلال ونهب من قبل المراكز الرأسمالية المتقدمة، فقد انتهى تقرير مؤسسة باريلوتشي Bariloche بالأرجنتين إلى أن المشكلات التي يواجهها العالم اليوم (مشكلة الغذاء، الطاقة، تلوث البيئة، …) هي مشكلات ذات طبيعة اجتماعية وسياسية وليست ذات طبيعة حتمية، لأنها تقوم على التوزيع غير المتكافئ للقوة بين البلاد مقارنة ببعضها، وداخل البلد الواحد بين القوى المكونة له، والنتيجة هي القهر والاستلاب، وأن مواجهة هذه المشكلات لا يتم بإيقاف التنمية أو تقليل عدد السكان، إنما بالسعي إلى مجتمع جديد لا يكون فيه الإنتاج محدداً بقصد الربح والاستهلاك البذخي، إنما بالاحتياجات الأساسية والاجتماعية للفرد، ولن يحدث ذلك إلا عن طريق إحداث تغييرات جذرية في الأنظمة الاجتماعية السياسية في العالم، ويجد التقرير أن مصير البشرية لا يتوقف على عقبات طبيعية لا تذلل؛ إنما على عوامل اجتماعية يمكن للبشر تعديلها، مع أن هذا ليس يسيراً، ذلك أن تغيير القيم أصعب بكثير من تغيير الحدود الطبيعية، وعلى الرغم من ذلك فإن تنفيذ هذه المهمة هو الطريق الوحيد للوصول إلى مستقبل أفضل للبشرية.
غير أن التفسيرات العامة لمشكلة المجاعة على المستوى العالمي تُهمِل إلى حد كبير مجموعة من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الدول على اختلاف مستويات تطورها الاجتماعي والاقتصادي، ومن ذلك على سبيل المثال تقلص في الإنتاج الزراعي بسبب تخلف أساليب الزراعة المستخدمة وجمود العادات الزراعية في كثير من البلدان، مع أن غالبية سكانها يعملون بالزراعة.
كما تنتشر ظاهرة سعي هذه البلدان باتجاه الاستعاضة عن الزراعة بوهم الصناعة تحت دعوى التنمية الصناعية، وقد أخفق أغلب الدول النامية في هذا المسلك بعد أن استهلكت طاقات كبيرة وموارد غنية دون طائل، فتقلصت مساحة الأرض الزراعية، وهجر الزراع الريف إلى المدينة بحثاً عن العمل في المصانع، وتحوّلوا إلى عمالة غير مدربة في مجال الصناعة مما أثّر في إنتاجية الأرض.
ويلاحظ أيضاً مزيد من اعتماد الدول النامية على استيراد المواد الغذائية من السوق الرأسمالية العالمية؛ الأمر الذي يعني صعوبة الحصول عليها عند ارتفاع أسعارها. وبما أن غالبية الدول النامية لا تستعمل نظام الاحتياطيات الغذائية إلا على نحو محدود؛ فإنها ستكون عرضة للوقوع في أزمات النقص الغذائي، (كان أحد أسباب المجاعة في بلدان إفريقيا الجنوبية عام 2002 تدني احتياطيات الغذاء المحدودة).
ويضاف إلى ذلك مظاهر العجز المالي المستمرة التي تعانيها الدول النامية والنمو الفلكي الذي يحدث في ديونها الخارجية، ولكي تسد العجز؛ فإنها تغرق في الاستدانة المفرطة لعدم مقدرتها على ضغط وارداتها.
على العموم فإن اختلاف وجهات النظر عن الأسباب الحقيقية للمجاعة لا يخفي حقيقة ما هو موجود، ولن يكون ذا فائدة مع استمرار الكوارث التي يصنعها الإنسان، ولذلك إن المستقبل حسب رأي الخبراء والمختصين (رغم كل الآمال) لن يكون بأحسن حالاً مما هو عليه اليوم. هذا ما جاء على لسان رئيس برنامج الغذاء العالمي في الأمم المتحدة عندما أعرب عن تشاؤمه بالفترة المقبلة من حيث تفاقم الأزمات الإنسانية على مستوى العالم النامي، وهذا ما جاء في تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية حين أشار إلى أن مئات الملايين من البشر في الدول النامية سيعانون مجاعةً مزمنةً مع حلول عام 2030، وهذا ما تؤكّده الإحصاءات الدولية حين تبين أن معدلات انخفاض المجاعات والأمراض الناجمة عن سوء التغذية لم تتجاوز 5% في عقد التسعينيات من القرن الماضي، كما ارتفعت معدلات الحاجة لإمدادات غذائية طارئة من 18 عملية سنوياً في بداية التسعينيات إلى 33 عملية مع بداية الألفية الثالثة. لذلك كله فإن استمرار وجود عوامل إفقار البلدان النامية وعوامل استنزاف مواردها وإعادة إنتاج تخلفها (الذي يزداد عمقاً واتساعاً بفعل العولمة ونظام القطب الواحد) هو الكفيل باستمرار وجود المجاعات في العالم.
عزت شاهين
Starvation - Famine
المجاعة
مازال شبح المجاعة starvation يهدد حياة الملايين من البشر الذين يموتون جوعاً، وما يزال عدد الأشخاص الذين يعانون من الجوع في شكله المطلق أو النسبي يشهد ارتفاعاً مستمراً على الرغم من الجهود العالمية التي تبذل في مواجهتها، وعلى الرغم من تطور إنتاج الغذاء على الصعيد العالمي، ومع أن تخفيض عدد الجائعين إلى النصف مع حلول عام 2015 يعدّ هدفاً أساسياً من أهداف مؤتمر القمة العالمي للأغذية عام 1996 ومؤتمر قمّة الألفيّة عام 2000.
لقد ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون سوءَ التغذية من 791 مليون شخص عام 1997 إلى 852 مليون شخص عام 2002، منهم 815 مليون في البلدان النامية أي ما يعادل 95.6% و28 مليون في البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية، أي قرابة 3.3% وتسعة ملايين في البلدان الصناعية؛ أي أقل من نحو 1% فقط ، كما ارتفع عدد الجوعى في البلدان النامية بمعدل أربعة ملايين سنوياً في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، ووصلت نسبة ناقصي الأغذية في 28 دولة إلى 35% من سكان هذه الدول، في حين بلغت أكثر من 40% من السكان في عشرة بلدان في الفترة 2000- 2002. في هاييتي مثلاً بلغت نسبة ناقصي الأغذية 47% من السكان، وفي إريتريا 73%، وفي كل من بوروندي وإثيوبيا 78% و 46%.
واليوم فإن واحداً من كل سبعة أشخاص عاجز عن تلبية احتياجاته الغذائية الأساسية؛ ليعيش حياة صحية ونشيطة، كما أن أكثر من عشرة ملايين طفل دون سن الخامسة يموتون سنوياً في البلدان النامية بسبب سوء التغذية، ويولد سنوياً في هذه البلدان أكثر من عشرين مليون طفل ناقصي الوزن.
هذا كله يعني الاستمرار في التكاليف المباشرة وغير المباشرة للمجاعة، فبغض النظر عن الأعداد الكبيرة من البشر التي تحصدها المجاعة سنوياً فإن التكلفة الطبية لها تصل إلى 35 مليار دولار سنوياً، وإلى مئات المليارات من الدولارات تصل تكلفتها غير المباشرة التي تظهر في فقدان الإنتاجية والدخل بسبب الوفاة المبكرة أو العجز أو التغيب عن العمل أو قلة الفرص التعليمية والمهنية.
إزاء هذا الواقع المأساوي للمجاعة فإن المفكرين والمنظِّرين قد ذهبوا مذاهب مختلفة في تفسير الأسباب الكامنة وراءها، بحيث تعددت آراؤهم، واختلفت وجهات نظرهم بحسب اختلاف مآربهم ومشاربهم.
فريق من هؤلاء عدّ أن السبب الأساسي في انتشار المجاعة وزيادة عدد الجوعى في العالم (خاصة في البلدان النامية) يعود إلى التزايد السكاني المرتفع وغير المضبوط، على اعتبار أن ثمة سباقاً غير متكافئ بين نمو أعداد البشر والموارد الغذائية. وبما أن البشر يتزايدون وفق متوالية هندسية فيما تتزايد الموارد وفق متوالية حسابية، فإن التزايد الملحوظ للسكان سيؤدي إلى زيادة الطلب على الغذاء، ومن ثم إلى اتساع الفجوة الغذائية؛ لأن نمو الإنتاج الزراعي لن يواكب التطور الكمي الحاصل في أعداد السكان، ولذلك فإن خطر المجاعة ومشكلات نقص التغذية سوف تبقى موجودة على الرغم مما تحققه البشرية من تقدم علمي و«تكنولوجي».
ولأن المجاعة تتركز على وجه الخصوص في البلدان المتخلفة؛ ولأن معظم تلك البلدان تتسم بارتفاع معدلات نموها السكاني فقد زعم أصحاب هذا الاتجاه أن ثمة تلازماً في الوقوع بين المجاعة والنمو السكاني أو حتى بين المجاعة والاكتظاظ السكاني، وبناءً عليه يخلصون إلى القول إن محاربة المجاعة تكمن في القضاء على مشكلة نمو السكان واكتظاظهم؛ دون الانتباه إلى أنه من غير الضروري أن تكون كل البلاد التي تتسم بخفّة سكانية بالنسبة للأرض المزروعة هي عادة البلاد التي يكون مستوى التغذية فيها جيداً لكل الناس أو معظمهم (كما هي الحال في إفريقيا جنوب الصحراء).
انطلاقاً مع هذا النهج في التفسير فإن أصحاب هذا الاتجاه لم يدعوا فرصة لأي بارقة أمل لمستقبل البشرية إلا إذا انخفضت معدلات النمو السكاني، ففي تقرير صدر عن مؤسسة روكفلر Rockefeller عام 1950 ما ينبه على خطورة ارتفاع عدد السكان في العالم، «إن عاجلاً أو آجلاً سيؤدي إلى ضغط الناس المتزايد على وسائل المعيشة إلى أن تعود قوى الموت، فتستقر من جديد سواء عن طريق الهزال العام، أم عن طريق المجاعة والأوبئة»، وفي هذا السياق يجد ريتشارد نيلسون R.Nelson - صاحب نظرية المصيدة السكانية - «أن الزيادة السكانية في البلدان المتخلفة هي التي تدفع النظام المتخلف للتذبذب دائما حول مستوى الركود»، وقد بنى نيلسون تصوراته على مبدأ تحليلي يتمثل بالعلاقة بين زيادة الدخل وعدد السكان، ففي المناطق التي يكون فيها الدخل مرتفعاً تتحسن مستويات المعيشة، ويتحسن الوضع الصحي للسكان، فيرتفع معدل المواليد، وينخفض معدل الوفيات، ويرتفع معدل النمو السكاني؛ إلا أن المجتمع يحافظ على توازنه، لأن أعداد السكان الجديدة تمتص الفائض من الدخل، وتعيد حالة التوازن، أما في المناطق التي يكون فيها الاقتصاد متخلفاً؛ فتكون مستويات المعيشة، والمستويات الصحية منخفضة أيضاً، وتكون معدلات الخصوبة منخفضة والمواليد أقل، ويصل الدخل الفردي إلى حد الكفاف.
ومن الملاحظ أن التفسيرات المتداولة لمشكلة المجاعة، التي بُني جزء منها على أسس النظرية المالتوسية مازالت لا تولي الأوضاع الاقتصادية الدولية أي اعتبار موضوعي يذكر، فانتشار المجاعة لا يعود في حقيقته إلى زيادة عدد السكان، وهو ليس قدراً محتوماً منيت به البلدان التي ينتشر فيها، بل هو نتيجة طبيعية للاستغلال والظلم وعدم الإنصاف والتوزيع غير العادل للإنتاج ووسائل الإنتاج على الصعيد العالمي، ففي حين يؤلف سكان البلدان النامية 80% من سكان العالم فإنهم لا يستهلكون سوى 20% من الإنتاج العالمي، فيما يُستهلك 80% في الدول المتقدمة التي لا تضم سوى 20% من سكان العالم.
إن الهوة تزداد اتساعاً بين عالم متخم وعالم جائع وبدلاً من إنتاج الغذاء يتم إنتاج المزيد من السلاح، وبدلاً من التوزيع العادل للغذاء تحرم الملايين من الفائض منه، وبدلاً من عرضه في السوق يتم التخلص من فائضه بكل بساطة لمنع تدهور الأسعار.
إن انفراد البلدان النامية بكونها مركز المجاعة في العالم يعود - حسب رأي أصحاب هذا الاتجاه - إلى علاقات الاستغلال الحاصلة على المستوى العالمي من حيث إنها أدّت إلى تشويه بنيان الإنتاج القومي لهذه البلدان بإجبارها على التخصص في إنتاج المواد الأولية ودمج اقتصادها في السوق الرأسمالية العالمية؛ ليصبح موضوعاً لعمليات استغلال ونهب من قبل المراكز الرأسمالية المتقدمة، فقد انتهى تقرير مؤسسة باريلوتشي Bariloche بالأرجنتين إلى أن المشكلات التي يواجهها العالم اليوم (مشكلة الغذاء، الطاقة، تلوث البيئة، …) هي مشكلات ذات طبيعة اجتماعية وسياسية وليست ذات طبيعة حتمية، لأنها تقوم على التوزيع غير المتكافئ للقوة بين البلاد مقارنة ببعضها، وداخل البلد الواحد بين القوى المكونة له، والنتيجة هي القهر والاستلاب، وأن مواجهة هذه المشكلات لا يتم بإيقاف التنمية أو تقليل عدد السكان، إنما بالسعي إلى مجتمع جديد لا يكون فيه الإنتاج محدداً بقصد الربح والاستهلاك البذخي، إنما بالاحتياجات الأساسية والاجتماعية للفرد، ولن يحدث ذلك إلا عن طريق إحداث تغييرات جذرية في الأنظمة الاجتماعية السياسية في العالم، ويجد التقرير أن مصير البشرية لا يتوقف على عقبات طبيعية لا تذلل؛ إنما على عوامل اجتماعية يمكن للبشر تعديلها، مع أن هذا ليس يسيراً، ذلك أن تغيير القيم أصعب بكثير من تغيير الحدود الطبيعية، وعلى الرغم من ذلك فإن تنفيذ هذه المهمة هو الطريق الوحيد للوصول إلى مستقبل أفضل للبشرية.
غير أن التفسيرات العامة لمشكلة المجاعة على المستوى العالمي تُهمِل إلى حد كبير مجموعة من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها الدول على اختلاف مستويات تطورها الاجتماعي والاقتصادي، ومن ذلك على سبيل المثال تقلص في الإنتاج الزراعي بسبب تخلف أساليب الزراعة المستخدمة وجمود العادات الزراعية في كثير من البلدان، مع أن غالبية سكانها يعملون بالزراعة.
كما تنتشر ظاهرة سعي هذه البلدان باتجاه الاستعاضة عن الزراعة بوهم الصناعة تحت دعوى التنمية الصناعية، وقد أخفق أغلب الدول النامية في هذا المسلك بعد أن استهلكت طاقات كبيرة وموارد غنية دون طائل، فتقلصت مساحة الأرض الزراعية، وهجر الزراع الريف إلى المدينة بحثاً عن العمل في المصانع، وتحوّلوا إلى عمالة غير مدربة في مجال الصناعة مما أثّر في إنتاجية الأرض.
ويلاحظ أيضاً مزيد من اعتماد الدول النامية على استيراد المواد الغذائية من السوق الرأسمالية العالمية؛ الأمر الذي يعني صعوبة الحصول عليها عند ارتفاع أسعارها. وبما أن غالبية الدول النامية لا تستعمل نظام الاحتياطيات الغذائية إلا على نحو محدود؛ فإنها ستكون عرضة للوقوع في أزمات النقص الغذائي، (كان أحد أسباب المجاعة في بلدان إفريقيا الجنوبية عام 2002 تدني احتياطيات الغذاء المحدودة).
ويضاف إلى ذلك مظاهر العجز المالي المستمرة التي تعانيها الدول النامية والنمو الفلكي الذي يحدث في ديونها الخارجية، ولكي تسد العجز؛ فإنها تغرق في الاستدانة المفرطة لعدم مقدرتها على ضغط وارداتها.
على العموم فإن اختلاف وجهات النظر عن الأسباب الحقيقية للمجاعة لا يخفي حقيقة ما هو موجود، ولن يكون ذا فائدة مع استمرار الكوارث التي يصنعها الإنسان، ولذلك إن المستقبل حسب رأي الخبراء والمختصين (رغم كل الآمال) لن يكون بأحسن حالاً مما هو عليه اليوم. هذا ما جاء على لسان رئيس برنامج الغذاء العالمي في الأمم المتحدة عندما أعرب عن تشاؤمه بالفترة المقبلة من حيث تفاقم الأزمات الإنسانية على مستوى العالم النامي، وهذا ما جاء في تقرير لمنظمة الأغذية والزراعة العالمية حين أشار إلى أن مئات الملايين من البشر في الدول النامية سيعانون مجاعةً مزمنةً مع حلول عام 2030، وهذا ما تؤكّده الإحصاءات الدولية حين تبين أن معدلات انخفاض المجاعات والأمراض الناجمة عن سوء التغذية لم تتجاوز 5% في عقد التسعينيات من القرن الماضي، كما ارتفعت معدلات الحاجة لإمدادات غذائية طارئة من 18 عملية سنوياً في بداية التسعينيات إلى 33 عملية مع بداية الألفية الثالثة. لذلك كله فإن استمرار وجود عوامل إفقار البلدان النامية وعوامل استنزاف مواردها وإعادة إنتاج تخلفها (الذي يزداد عمقاً واتساعاً بفعل العولمة ونظام القطب الواحد) هو الكفيل باستمرار وجود المجاعات في العالم.
عزت شاهين