حياة ما بعد السقوط" للمخرج قاسم عبد توثيق حياتي لاهم احداث ما بعد 2003
معد فياض
عندما قرر المخرج السينمائي العراقي قاسم عبد السفر من لندن، التي يقيم فيها، الى بغداد، عبر طريق عمان البري، بعد سقوط نظام صدام حسين مباشرة عام 2003، لزيارة عائلته بعد اكثر من ثلاثين عاما، وللقاء والديه واخوته للمرة اولى بعد هذه المسافة الزمنية الطويلة، لم يكن قد خطط او قرر لانتاج فيلم سواء كان وثائقيا، وهو اختصاصه الافلام الوثائقية، ولا روائيا، بل استهل وصوله ولقاء عائلته بتصوير بعض اللقطات لاغراض اغناء ذاكرته او لارشيف العائلة، لكنه استمر بتسجيل، صوريا وصوتيا، احاديث ثلاثة أجيال من عائلته، وهم يتلون شهادات حية وموثقة ولا شك بمصداقيتها عن اوضاعهم واوضاع ما حولهم قبيل وبعد سقوط النظام وما جرى لهم، حتى استمر في هذا التسجيل على مدى خمس سنوات ليجد ان حصيلة ما جمعه هو أكثر من 55 ساعة فلمية اشتغل عليها لتحويلها الى فيلم وثائقي"حياة ما بعد السقوط"، حيث يعد هذا لفيلم واحدا من اهم وأبرز الوثائق المعتمدة، عراقيا وعربيا وعالميا.
يقول المخرج السينمائي قاسم عبد لشبكة رووداو الاعلامية:"عندما عدت إلى العراق بعد ثلاثين عاماً من الغياب، وجدت ثلاثة أجيال من عائلتي بأعمار ومشارب وأمزجة مختلفة، وكل منها احتمال شخصية رئيسية في أي عمل فني. لم تكن لديّ فكرة واضحة عن إخراج فيلم أو كتابة نص ما... لكنّ الفكرة بدأت بمعزل عنّي وتطوّرت تدريجاً. خلال أربع سنوات رصدتُ تحوّلات العائلة وتحولات المجتمع الذي تعيش فيه، لم يكن لدي سيناريو ولا مخطط للعمل. كنت أجمع المادة فقط لأعيد اكتشاف العائلة التي تركتها وأنا شاب. واتضح لي بعد حين أنني أصور رواية تتضح ملامحها مع تطور الأوضاع في العراق. المفارقة أنّ العائلة التي كانت متماسكة في ظل الحكم الديكتاتوري بدأت بالتفكك بعد الاحتلال. توصلت لاحقاً، وخصوصاً بعد مقتل أخي الأصغر في عملية غامضة، إلى قناعة بأنني لا يمكن أن أضيف شيئاً، فكلّ ما أضيفه لا يعني شيئاً".
يضيف قائلا:" تركت الكاميرا تسجل احتدام الاحداث وتناميها مع شهادات حية لافراد عائلتي، لم اقترح عليهم ما يقولوه، او الطريقة التي يتحدثون بها او المواضيع التي يختارونها، فهو بوح حقيقي ومباشر لما يحدث الان ولما يشعرون به".
تبدأ احداث الفيلم والكاميرا تستعرض طريق عودة المخرج عبر الطريق البري من عمان الى بغداد، وسرعان ما تنتقل الى الاستقبال الحافل للعائلة لابنها الذي غاب أكثر من ثلاثة عقود عنهم، على الطريقة العراقية، حيث جوق الموسيقى الشعبية والهلاهل والعناق والدموع، والابن العائد يستعرض الوجوه، وجوه اجيل الثالث من البنات والابناء، ويتأكد من شخوص اخوته الذين تغيرت ملامحهم، فهناك من شاب وهناك من تغيرت تفاصيله تماما، ولاول مرة يتعرف على زوج اخته.
احداث الفيلم الوثائقي "حياة ما بعد السقوط" تدور، بداية، في مساحات محدودة وخاصة البيت وبيت الاخ الصغير(سعد) الذي يملك ستوديو ومحل للاجهزة الموسيقية، واخيه الاكبر(منعم) المهندس في الخطوط الجوية العراقية والاخ الاصغر علي الذي سيتم تغييبه من قبل جماعة طائفية. ومن ثم تنفتح الكاميرا على مناظر ومساحات اكثر سعة، الشوارع المزدحمة بالسيارات والمحلات والاسواق والجسور لتستعرض بغداد في الايام الاولى بعد سقوط نظام صدام حسين.
يرافق الاستعراض الصوري، احاديث لافراد العائلة لتفاصيل الاحداث اليومية، الفيلم لم يشارك فيه اي ممثل او ممثلة، افراد العائلة الواسعة فقط، كما انه، وكما أكد المخرج قاسم عبد، لم يجري حسب سيناريو او مخطط مسبق، او اية تعليقات مكتوبة، بل تحدث افراد العائلة، واغلبهم من الشابات: زينب وفاطمة وزينا وريتا وبشرى، التي ركز عليهم المخرج، بنات الاخ، اللواتي كشفن عن امكاتياتهن العالية في البوح عما بداخلهن، كاشفات عن كمية اليأس الذي شعرن به بعد تغيير الاوضاع، اذ تمت ازاحة حزب وجاء 100 حزب، وتمت ازاحة رئيس وخلفه 100 رئيس، وكن دقيقات في وصف الفوضى والضياع الذي يشعرن به، فاطمة، تخرجت مهندسة من الجامعة التكنولوجية ولم تجد اية فرصة للعمل"لانني لا انتمي لحزب ولا لجماعة معينة وما عندي واسطة، أما زينب، التي حرمت لاسباب لا علاقة لها بها من اكمال دراستها في معهد الفنون الجميلة فتتجه للخياطة التي تظهر من خلالها موهبتها الفنية، بينما الصغرى تسال"لماذا علي ان اكمل دراستي اذا لن اجد عمل وسابقى في البيت؟".
احاديث ونقاشات افراد العائلة تتضارب وتتشابك وتختلف، وهذا ما منح للفيلم اهمية ومصداقية، فبينما يتحدث الكبار من افراد العائلة عن الماضي والحاضر، نجد ان الشابات، الجيل الثالث، يتحدثن عن المستقبل، تصرح زيتا قائلة:" "اي مستقبل ينتظرنا او ننتظره"، وهذه العائلة التي تصنف ضمن العوائل المثقفة والمنفتحة فكريا وحياتيا، تناقش فيما بينها شتى الامور الحياتية والسياسية، الانتخابات والتصويت على الدستور، منهم من يتحمس للمشاركة ومنهم من يعتبر التصويت اضاعة للوقت والجهد لان النتائج ستاتي مثلما تريد الاحزاب المتنفذة.
هناك هموم أخرى، الاخت، الهام، التي تخشى على ابنها الوحيد محمد وزوجها الصحفي وكاتب القصة سعد هادي، خاصة بعد ان تمت تصفية عدد من الصحفيين من قبل الجماعات المسلحة، فتقرر الهجرة الى سوريا، وتغييب الاخ الاصغر، علي، والذي لا تعرف عائلته اين تم دفنه، والتهديدات والتفجيرات التي يتجاوز عددها السبع تفجيرات في اليوم الواحد، وخشية الاختطاف، حسبما تبوح به ريتا التي تخشى من اختطافها او ان تنفجر سيارة مفخخة وهي في طريقها الى الجامعة المستنصرية.
ونجد هنا من الصعوبة الحديث عن كل تفاصيل فيلم وثائقي زمنه ما يقرب من الثلاث ساعات، موزع على جزئين، ذلك ان"حياة ما بعد التغيير" ومن خلال تفاصيل حياة عائلة عراقية واحدة وثق تاريخ العراقيين كله في تلك الفترة وما جرى من احداث سياسية، الانتخابات، تعدد الاحزاب السياسية، التصويت على الدستور، الاقتتال الطائفي، التفجيرات، الفساد، الاختطاف، الهجرة، وأحزان العائلة العراقية وافراحها.
قاسم عبد الذي أخرج افلام وثائقية عديدة منها:وسط حقول الذرة الغريبة(1991)، ناجي العلي(1999)، حاجز أسود (2005)، أجنحة الروح(2011)، همس المدن(2014)، مرايا الشتات (2018) وغايب-الحاضر الغائب (2021)، كان قد تخرج من معهد الفنون الجميلة ببغداد قبل ان يسافر الى الاتحاد السوفياتي(سابقا) ويدرس التصوير والاخراج السينمائي في "معهد السينما لعموم الاتحاد السوفياتي" (افغيك( vgik الذي كان يعدّ من أبرز معاهد الفن السابع في العالم. ثم قرر الاستقرار في العاصمة البريطانية، لندن ليمارس عمله الفني هناك. منجزه الابداعي في الافلام الوثائقية وفرت له مساحة واسعة في اخراج فيلم"حياة ما بعد السقوط" بتقنيات متواضعة وداخل مساحات محدودة في احيان كثيرة ووسط ظروف عامة وشخصية صعبة للغاية، حيث توفي والده واختطف شقيقه الاصغر وتم تغييبه، خلال سنوات تصوير الفيلم التي امتدت ما بين 2003 وحتى 2007، بينما كانت الفوضى تعم العراق عامة وبغداد خاصة، حيث كان حمل كاميرا في شوارع بغداد تعد مغامرة قد تدفع حياتك ثمنا لها، مع انقطاع التيار الكهربائي، وكان هو المصور والتقني والمخرج في آن واحد، وبلا ميزانية او تمويل للفيلم، وتولت المخرجة السينمائية المعروفة ميسون الباجه جي مهمة المونتاج، منقبة في 55 ساعة من التصوير لاختيار لقطات الفيلم، حيث:"تبقى عندي خزين كبير من المادة الخام، تصوير وتسجيلات صوتية"، حسب ايضاح المخرج.
لقد برهن المخرج السينمائي قاسم عبد بان الفيلم الوثائقي بحاجة الى فكرة، تماما مثل اي منجز ابداعي صعب، القصيدة او العمل التشكيلي او المؤلفة الموسيقية او الرواية او المسرحية، وعندما تتوفر هذه الفكرة ويشتغل عليها بابداع وبمهنية عالية سوف يكون المنجز ابداعي وقريب من المتلقي، ذلك انه لم يبحث عن المواضيع في بطون الكتب التاريخية او ان يعرض نسخ من الصحف او يستعين بمتحدثين متخصصين من خارج إطار العائلة، والامر الثاني هو ان بساطة الفكرة اظهرت عمق تفكير وطروحات المتحدثين، فهم المادة الحية في احداث الفيلم التي جرت بتسلسل اقترب من المسار الدرامي لاي فيلم روائي، او ان اسلوب الطرح كان روائيا بعفويته. وعلى مدى ما يقرب من الثلاث ساعات لم اشعر كمشاهد بالملل على الاطلاق، والاكثر من هذا ان المخرج وضعني وسط الحدث وفي حمأته حتى اني تصورت باني احد افراد العائلة التي ناقشت واستعرضت وتحدثت عن كل مشاكلها الاجتماعية، وهي مشاكل وهموم اية عائلة عراقية تنتمي الى الطبقة الوسطى بمفهموها الثقافي والحضاري، عائلة منفتحة لان تقول كل شيء دون تحفظ.
لاكثر اهمية في فيلم"حياة ما بعد السقوط" الذي شاهدته بعد مرور عقدين من السنين على تغيير النظام السابق، في نيسان 2003، هو خلوه من الممثلين المحترفين، فافراد العائلة، وحسب المخرج:" اخي الاكبر منعم واختي الهام وزوجها سعد هادي، واخي سعد ثم البنات زينب وفاطمة وزينا وريتا وبشرى واخي المرحوم علي" هم شخوص الفيلم". كانت احاديثهم وطروحاتهم تلقائية ومنسجمة مع العمل وغير متصنعة سواء بالحديث او الازياء او طريقة الحديث او اسلوب التعبير عن الاراء، وهذا يشمل الجميع، بدءا من الام المسنة مرورا بالاعمام والخوال والعمة وزوجها، وحتى اصغر بنت في العائلة. افراد العائلة هم الابطال الحقيقيين للفيلم، وهم الفيتامينات التي اغنت الشريط السينمائي الوثائقي عافية وتطورا.
الفيلم الوثائقي"حياة ما بعد السقوط" كان قد حاز على اربعة جوائز عالمية: جائزة أفضل فيلم في "مهرجان ميونيخ الدولي للأفلام الوثائقية" 2008 ، وجائزة الصقر الذهبي في مهرجان الفلم العربي في روتردام 2008 ، وجائزة أفضل فلم وثائقي في مهرجان الفلم العربي كاليفورنيا 2009 ، وجائزة أفضل فلم وثائقي في مهرجان الخليج 2009.
ووصفت حينها لجنة ُ تحكيم امهرجان ميونخ الفيلم، بأنه سجَل "يومياتٍ بسيطةٍ للحياة في بغداد بعد سقوط النظام العراقي، لتتحول في مجرى الفيلم إلى شهادة عالمية عن الحياة في ظروف الحرب".
كما كان المخرج قاسم عبد قد حصل على جوائز عالمية اخرى عن افلامه:
ناجي العلي (فنان ذو رؤيا) جائزة الجمهور- مهرجان السينما العربية المستقلة لندن 1999، وجائزة النقاد - مهرجان حقوق الإنسان في رام الله فلسطين 2000.
"حاجز سردا" جائزة أفضل تصوير- مهرجان العراق للفلم القصير 2005.
"همس المدن" جائزة تقديرية من مهرجان سينما الواقع باريس 2014.
"مرايا الشتات" جائزة النقاد مهرجان مسقط السينمائي الدولي، اضافة الى جائزة تقديرية مهرجان وهران الدولي 2018 ، وجائزة الصداقة السردينية الفلسطنية في مهرجان الأرض ساردينية 2019.
ذكر ان المخرج السينمائي قاسم عبد كان قد بادر مع المخرجة السينمائية وزميلته ميسون الباجه جي عند عودته الى العراق بتاسيس"كلية بغداد المستقلة للسينما والتلفزيون"، وهو مشروع شجاع وطموح سعى لتدريب وتأهيل عدد من الشابات والشباب العراقيين لانتاج أفلام تسجيلية في فترة صعبة وحرجة من تاريخ العراق، أثمرت عن انتاج العديد من الأفلام التسجيلية الناجحة التي حققت نتائج متقدمة في عدد من المهرجانات السينمائية، أبرزها مهرجان الخليج العربي، وروتردام للفلم العربي في هولندا.