ماري
Mari - Mari
ماري
تقع مدينة ماري القديمة، تل الحريري اليوم، على الضفة اليمنى لحوض الفرات السوري الأوسط على مسافة 10كم تقريباً إلى الشمال من بلدة البوكمال، وذلك في نقطة التقاء استراتيجي وجغرافي بين بلاد الرافدين في الشرق وبلاد الشام في الغرب وبلاد الأناضول في الشمال والخليج العربي جنوباً. ويشكل الجسم الرئيسي للموقع تلاً دائري الشكل قطره 1900م وارتفاعه 15م.
ورد اسم ماري في النصوص الرافدية القديمة، في قائمة الملوك السومريين، مقراً للسلالة العاشرة بعد الطوفان. وخمّن الباحثون وجودها في مكان ما بين ضفتي الفرات السوري والعراقي حتى اكتشفت المدينة بالمصادفة عام 1933، عندما كانت مجموعة من البدو تدفن أحد موتاها في التل، فعثرت على تمثال يحمل كتابة مسمارية؛ مما دفع إلى بدء التنقيب في الموقع، وبعام الاكتشاف نفسه من قبل بعثة فرنسية من متحف اللوڤر بإدارة أندريه بارو A.Parrot، بتفويض من سلطة الانتداب الفرنسي في ذلك الحين، الذي كشف في أكثر من عشرين موسم تنقيب عن أوابد معمارية مهمة، مثل القصر الملكي الكبير العائد إلى الألف الثاني ق.م، وفيه الأرشيف الملكي الضخم، ومعبد «نيني - زازا» ومعبد «عشتار» والعديد من التماثيل واللقى الأخرى. تابع التنقيب في الموقع بين أعوام 1979- 2004، جان كلود مارغرون J.C.Margueron، وتتالت في عهده مكتشفات جديدة منها القصر الشمالي الصغير ومشاغل المدينة والسويات الأقدم فيها. ومنذ عام 2005 يدير التنقيب باسـكال بترلان P.Butterland.
مرت مدينة ماري عبر تاريخها بعدة مراحل، بين بداية الألف الثالث ق.م حتى منتصف القرن الثامن عشر ق.م تقريباً.
المرحلة الأولى والأقدم هي المسماة المدينة الأولى- Ville I، حين أُنشئت المدينة أول مرة وذلك في عصر السلالات الباكرة، الألف الثالث ما بين أعوام 2900-2650 ق.م. وقد كان للموقع الجغرافي المهم، على طريق التجارة العالمية الكبرى، والأراضي الزراعية الخصبة في المنطقة الدور الحاسم في اختيار موقع المدينة الأولى التي تمكّنت من استخدام مياه النهر عبر قنوات شُقّت بين النهر والمدينة، واستُخدمت في الري أو في النقل. ولأن هذه المدينة مدفونة بعمق تحت أنقاض المدن اللاحقة، فقد تعذر الكشف عن معظم أجزائها، ولكن أظهرت التنقيبات أنها كانت مدينة قوية ومحصنة أحاط بها خندق دائري، حماها من الفيضانات، يليه سور داخلي بسماكة ستة أمتار حماها من الأعداء، كما كشفت التنقيبات عن إحدى بوابات هذه المدينة وعن شارع يصل بين هذه البوابة والقسم الأعلى من المدينة، وعن بعض المنشآت المخصصة للأعمال الحرفية مثل مشاغل السباكة والنسيج وصناعة الفخار والصدف، إضافة إلى بعض المنازل السكنية، غير أنه لم يُعثر من هذه المرحلة على أي معابد أو قصور، وكانت القطع الفنية الأخرى نادرة. ويبدو أن هذه المدينة قد هجرت نحو قرن من الزمن ولأسباب مجهولة.
المرحلة التالية: هي عصر المدينة الثانية - Ville II العائدة إلى عصر السلالات الباكرة الثالث والعصر الآكادي، بين 2550- 2200 ق.م. نشأت هذه المدينة على أنقاض المدينة الأولى ولكن وفق أسس تنظيمية جديدة، ليست معروفة من أي موقع معاصر آخر، تدل على معرفة عمرانية أصيلة ودقيقة استفادت من النظام الدفاعي للمدينة الأولى، فأنشئت مدينة توزعت فيها بانتظام مختلف الأبنية، الأحياء الإدارية والدينية والاقتصادية والسكنية، وربطتها شبكة شوارع رئيسية وفرعية متكاملة إلى جانب نظام دقيق للتعامل مع المياه والأمطار، سواء من خلال التصريف أم التخزين. المدينة الثانية هي المعروفة أكثر بين مدن ماري الثلاث؛ إذ كشفت التنقيبات عن جزء مهم منها، فقد رُدم خندق المدينة الأولى وأُقيم عليه سور دفاعي، ليس ضخماً لكنه كاف لتوفير الحماية اللازمة للرماة المدافعين عن المدينة، كما أُعيد بناء السور الداخلي للمدينة الأولى وتدعيمه مع الحفاظ على بواباته الأصلية، وظهرت طرقات كبرى تنطلق من مركز المدينة وتلتقي على شكل شبكة العنكبوت، وهناك الأحياء السكنية والأحياء ذات الأنشطة الأخرى المتنوعة.
حظيت المعابد بالاهتمام الأول وشُيدت وفق طراز معماري متميز؛ فبُنيت كلها في قلب المدينة، بعضها بُني وفق مخطط محلي وآخر حمل تأثيرات المناطق المجاورة. وقد كُشف في وسط المدينة عن ستة معابد، اثنان منها لم يكتمل بناؤهما، وهما معبدا «شمش» و«عشتاروت»، وهناك معابد «نينهورساع»، «سيدة الجبال» Ninhursag، و«نيني زازا» و«داجان» ومعبد «عشتار» الذي أُقيم في الجهة الغربية من المدينة، إضافة إلى المعبد الأقدم وهو بقايا الزيقورة المسماة الكتلة الحمراء Massif Rouge نسبة إلى اللَّبِنْ الأحمر الذي دل عليها، تقع إلى الجهة الشرقية المرتفعة من المدينة. ثم هناك ما أُسمي بـ«السور المقدس» Enceinte sacrée المجاور للقصر الملكي.
تعطي المعابد الفكرة الأفضل عن نمط العمارة الديني في ماري؛ إذ يتألف مخططها العام من مدخل، تليه صالة كبيرة مسقوفة استخدمت لتقديم الأضاحي، بلغت أبعادها 16م في بناء السور المقدس، يلي ذلك صالة العرش والتي أخذت شكلاً مربعاً في معبد نينهورساع وعشتار أو شكلاً متطاولاً في معبدي السور المقدس ونيني - زازا، واحتوت بعض المعابد على نصب من الأحجار السوداء Betyl إشارة إلى الإله المعبود ومصاطب جلوس. ضمّت هذه المعابد العديد من التماثيل التي نُحتت بأشكال التعبد لتبارك أصحابها، ومنها تمثال الملك إيكون - شاماغان Ikun-Shamagan وهو أكبر تمثال وُجد في ماري، وتمثال المغنية أورنينا الشهيرة، أورنانشِه Ur-Nanshé اللذان وجدا في حرم معبد نيني - زازا Nini-zaza في حين عُثر في حرم معبد عشتار على تمثال لَمجي ماري Lamgi Mari، ملك ماري، وقد تم بفضل الكتابة التي حملها معرفة هذه المملكة، كما وُجد في جدران المعبد العديد من مسامير التأسيس البرونزية. كذلك قامت في هذه المدينة منشآت ضخمة دل عليها، خاصة، القصر الملكي الذي شُيِّد في قلب المدينة المرتفعة وحمل صفات فريدة في العمارة الشرقية جعلت منه قصراً ومعبداً في الوقت نفسه. ومع أن التنقيبات لم تكشف إلا أجزاء صغيرة من هذه الآبدة، لكنها أظهرت مرور القصر بأربع مراحل عمرانية على امتداد فترة المدينة الثانية: المـرحلتان الأقدم المسميتان «القصر 3» Palais 3، و«القصر 2» Palais 2، ممثلتان بأجزاء بسيطة، بينما كشف في المرحلتين الأحدث (Palais 0 وPalais 1) عن النصف الشرقي من الآبدة، الذي يتضمن السور المقدس، والحي المجاور لمدخل القصر وقاعة العرش التي يعلوها سقف يستند إلى أعمدة وبعض المنشآت العمرانية الأخرى. ولا شك في أن القصر (المعبد) هو الأهم والأكثر ضخامة من نوعه حتى اليوم، وهو الأكثر إبداعاً وتجديداً من الناحية الفنية والعمرانية.
عُثر في المدينة الثانية على كثير من الآثار الأخرى، أهمها التماثيل التي دلت على تطور كبير لمدرسة متميزة في فن النحت. وقد جسدت هذه التماثيل أصحابها في المعابد، ونحتت بحيوية وواقعية كبيرتين وحملت كتابات بأسماء الأشخاص العائدة إليهم من ملوك أو قادة أو موظفين وكهنة وغيرهم وأسماء الآلهة، المهداة إليهم هذه التماثيل، لمباركة أصحابها وحمايتهم، وهذه هي الكتابات المسمارية الأقدم التي أتت من ماري. صُنعت التماثيل من الحجر الكلسي، وهي إما عامة لا على التعيين أو خاصة لأشخاص محددين؛ فنُحت الرجال وقوفاً حفاة، اليدان مضمومتان إلى الصدر في وضعية التعبد، النصف الأعلى عارٍ، والنصف الأسفل يغطيه مئزر على شكل جلد الخروف (كوناكس Kaunakes) واللحية طويلة ولكن من غير شارب، أما النساء فقد ارتدين لباساً يستر الكتف الأيمن وقبعة على الرأس (بولوس Polos)، وجُعلت العيون بالصدف أو المواد الأخرى. وهناك التماثيل النصفية والوجوه والتماثيل الزوجية وهي الأولى من نوعها في سورية. وكذلك عثر على بعض اللوحات النذرية المنفّذة بالنحت البارز ذات الموضوعات الميثولوجية مثل الولائم والمصارعة والمشاهد الحربية والحيوانات الخرافية، والعديد من اللوحات التي نفّذت موضوعاتها عن طريق التطعيم بالأحجار النادرة، وهذا من أكثر الفنون أصالة في ماري، كاللوحة المستطيلة التي قُسّمت إلى حقول ثلاثة ونفّذت من الصدف والعاج واللازورد والذهب، وأظهرت مشاهد للمتعبدين والمتعبدات والآلهة في مراسم «الزواج المقدس» التي كانت من أهم التقاليد الدينية في ماري. ومن اللقى الفريدة في القصر الملكي ما أصبح يُعرف بكنـز أور Le trésor d’Ur الذي وجد في جرَّة، وضم خرزة عليها كتابة قرئت من بعض الباحثين على أنها هدية من ملك أور إلى ملك ماري، كما ضمّ الكنـز صورة نسر برأس أسد وتمثالاً برونزياً لآلهة عارية وآخر من العاج لآلهة عارية أيضاً ومشابك وأساور وغير ذلك من المواد المنفذَّة من البرونز والفضة والذهب، وهناك الأواني الحجرية ومسامير التأسيس والأختام الأسطوانية ومجسمات البيوت وغيرها. الوثائق الكتابية من هذه المرحلة نادرة، دلت عليها بعض الرقم الطينية التي وجدت في سويات من هذا العصر.
عاشت مدينة ماري الثانية نحو ثلاثة قرون، وكانت لها علاقات متبدلة مع مملكة «إبلا» المعاصرة، وتذكر نصوص إبلا «مدرسة الكتبة» في ماري،حيث تعلّم كتبة إبلا، كما تشير النصوص إلى حملة عسكرية من قبل إبلا ضد ماري في عهد ملكها ابلول - إيل. ولماري علاقات مع ممالك إيمار (تل مسكنة) وكيش في بلاد بابل وأور في بلاد سومر وغيرها. وتشير النصوص إلى أن ماري دُمّرت من قبل الحاكم الآكادي نارام سين في أثناء حملته العسكرية إلى المناطق الواقعة إلى شمال الامبراطورية الآكادية وغربها.
المرحلة الأخيرة في ماري تمثلها المدينة الثالثة Ville III العائدة إلى عصر الشاكَّّاناكّو Shakkanakku وإلى العصر العموري بين أعوام 2200- 1760ق.م، في هذه المرحلة وصلت إلى الحكم أسرة محلية أطلق عليها السومريون تسمية الشاكاناكو، وتعني الحاكم العسكري، وكانوا خاضعين لسلطة أور الثالثة الذين قاموا بتعيينهم وتصاهروا معهم، ومنهم ابيل - كن الذي أشارت نصوص ماري إلى أن ابنته قد تزوجت من ابن أورنامو ملك أور.
جرى في هذا العصر تجديد معبد نينهورساغ، وبُني معبد آخر هو «معبد الأُسود» الذي تألف من مدخل وُضعت على جانبيه تماثيل الأُسود، يقود إلى قاعة مستطيلة وفي نهايته مذبح. وإلى هذا العصر يعود قصر صغير آخر وبعض أجزاء القصر الملكي الكبير الذي شُيّد لاحقاً. ومن أهم مكتشفات هذه المرحلة التماثيل، ومنها تمثال إيشتوب - إيلوم Ishtup-Ilum وبعض المشاهد الجدارية للقصر الملكي المشار إليه، وعثر من هذه الفترة على بضع مئات من الرقم الكتابية.
في مطلع الألف الثاني ق.م، وبانتهاء عصر الشاكَّاناكّ، وصلت إلى الحكم في ماري سلالة عمورية، أهم حكامها يحدون - ليم Yahdun-Lim الذي وسّع سلطة ماري على الممالك المجاورة لها قبل أن يُقتل في مؤامرة بالقصر وتخضع ماري لنفوذ الحاكم الآشوري القوي شمشي - حدو Samsi-Addu الذي ولّى عليها ابنه يسمع- حدو؛ لكن بعد موته لم يستطع ابنه الحفاظ على ماري إذ تمكن زمري - ليم Zimri-Lim، وبمساعدة ملوك حلب (يمحاض) من استعادة عرش يحدون - ليم، وفي عهده بلغت ماري أوج ازدهارها. يعد القصر الملكي الكبير، قصر زمري - ليم، من أهم مكتشفات هذه المرحلة. ومع أن البناء الأول لهذا القصر يعود إلى مراحل سابقة إلا أنه اكتمل في عصر زمري - ليم وأصبح من أشهر قصور الشرق القديم، حتى إن ملك أُغاريت طلب توسط ملك يمحاض ليهيئ له زيارته والاطلاع عليه. ولاتأتي أهمية القصر من ضخامته وحسن تنظيمه وحسب، ولكن من الآثار التي وُجدت فيه أيضاً. مساحة القصر 2.5 هكتار، أبعاده 300*120م، وفيه أكثر من 300 غرفة وباحة، بُني من اللّبن والقرميد على أساسات حجرية، وتألَّف من وحدات (كتل) معمارية ذات وظائف مختلفة، إدارية واقتصادية وسكنية وخدمات وحراسة، تلتف حول قلب القصر، حيث باحة النخيل المجاورة لقاعة العرش. بعض أجزاء القصر محفوظة جيداً وتدل على وجود طابق آخر أو طابقين في بعض أقسامه التي ترتبط ببعضها بنظام حركة واتصال دقيق. أحاط بالقصر سور دفاعي تراوحت سماكته من ثلاثة أمتار- حيث القسم الإداري - إلى خمسة عشر متراً، حيث سكن الملك وعائلته. وقد خضع القصر لدراسات كثيفة، ولكن من الصعب الإحاطة بتفاصيل وظيفة هذه الآبدة العظيمة التي أسماها مكتشفها وبحق بـ«درة العمارة الشرقية».
تعد الرسوم الجدارية (الفريسك) أهم ما اشتهر به قصر زمري- ليم، وهي رسوم نُفذت بعدة ألوان على خلفية من الملاط الكلسي، وتنتمي إلى مراحل مختلفة من عمر القصر، وأهمها المشهد الذي يصور تتويج زمري- ليم ملكاً، حيث يظهر الملك وهو يتسلم الحلقة والعصا، رمز السلطة، من الإلهة عشتار، وتحيط بالمشهد آلهة أخرى وأشجار النخيل، وإلى هذا العصر يُنسب المعبد- البرج للإلهة نينهورساغ ومعبد شمش. وقد عُثر في المدينة الثالثة على أفضل التماثيل ومن بينها تمثال «ربة الينبوع»، وهو قطعة فريدة نُحتت بالحجم الطبيعي وتمثل امرأة (آلهة) ترتدي ثوباً مهدَّباً وتُشاهد على الثوب أسماك هابطة وصاعدة تسبح في مياه تفيض من إناء تمسكه الإلهة بكلتا يديها. وهناك التماثيل البرونزية، منها الأُسود التي وُجدت على أبواب معبد دجن Dagan، إضافة إلى الأختام الأسطوانية والأواني الفخارية وغير ذلك.
إن الكشف الأكثر أهمية في هذا القصر هو الأرشيف الملكي الذي كُشف بين أعوام 1935-1939 وضمَّ نحو العشرين ألف لوحة كتابية، فعُدَّ مكتبة تنافس أكبر مكتبات الشرق القديم. ومع أن هذا الأرشيف لا يغطي إلا مرحلة قصيرة من تاريخ ماري، هي نحو 30 عاماً بين حكم يسمع- حدد وزمري - ليم، إلا أنه ساعد على تصحيح تاريخ الألف الثاني كله، وأضاف معلومات سياسية وعسكرية ودينية واقتصادية بالغة القيمة العلمية والتاريخية. وقد دُرس هذا الأرشيف في البداية من قبل عالم الآشوريات الشهير جورج دوسان G.Dossin، ثم تناوب على دراسته باحثون مختلفون منهم موريس بيرو M.Birot وجان ماري دوران J.-M.Durand الذي استخدم هذا الأرشيف بطريقة مسيئة، دفعت المديرية العامة للآثار والمتاحف إلى المطالبة بعودته من فرنسا، التي نُقل إليها منذ اكتشافه، لوضع ضوابط دراسته على نحو علمي نزيه.
بقيت ماري في عصرها الثالث مملكة قوية ومستقلة إلى أن بدأت تسطع في المشرق قوة الحاكم البابلي الكبير حمورابي، الذي تشير النصوص إلى أنه وبعد أن تحالف مع ماري ضد الممالك الرافدية عاد وانقلب عليها وهاجمها بـ 20 ألف جندي واحتلها ثم دمرها وحرق قصرها بعد نهبه في عام 1759 ق.م. بعدها لم تستطع هذه المملكة النهوض من كبوتها ومتابعة حياتها بالوتيرة السابقة نفسها؛ لكن كُشفت فيها منشآت سكنية بسيطة لبعض الناجين من الدمار أو أناس أتوا بعد الكارثة، وانتقل قسم من أهلها إلى مملكة «عانة» المجاورة وعاصمتها ترقا (تل العشارة). ثم سكنت المدينة حامية عسكرية آشورية، ويُعتقد بأن البابليين، الكلدانيين، قد خلفوا الآشوريين في ماري ثم أتى بعدهم السلوقيون، الذين بسقوطهم في منتصف القرن الثالث ق.م غابت الحياة في ماري إلى أن أتت معاول المنقبين لتكشف عنها.
تبقى ماري المدينة الوحيدة في سورية والمشرق ذات النمط العمراني المتميز، وهي ممثل فريد للحضارة الرافدية -السورية بكل تجلياتها. وقد ساعدها موقعها الاستراتيجي، بين المناطق الجبلية الشمالية والسهول الرافدية في الجنوب، على السيطرة على التجارة المحلية وتدعيم نفوذها باطّراد. كانت هذه المدينة حجر الزاوية في كل ما يخص الواقع الاقتصادي والسياسي للعالم السوري - الرافدي الذي ازدهر معها وتراجع كلما تراجعت. وهكذا فإن دراسة ماري تكفي لإنارة تاريخ المنطقة كلها في الألفين الثالث والثاني ق.م.
جان كلود مارغرون، سلطان محيسن
Mari - Mari
ماري
تقع مدينة ماري القديمة، تل الحريري اليوم، على الضفة اليمنى لحوض الفرات السوري الأوسط على مسافة 10كم تقريباً إلى الشمال من بلدة البوكمال، وذلك في نقطة التقاء استراتيجي وجغرافي بين بلاد الرافدين في الشرق وبلاد الشام في الغرب وبلاد الأناضول في الشمال والخليج العربي جنوباً. ويشكل الجسم الرئيسي للموقع تلاً دائري الشكل قطره 1900م وارتفاعه 15م.
مرت مدينة ماري عبر تاريخها بعدة مراحل، بين بداية الألف الثالث ق.م حتى منتصف القرن الثامن عشر ق.م تقريباً.
مخطط مدينة ماري |
مدينة ماري (الزيقورات قرب القصر) |
حظيت المعابد بالاهتمام الأول وشُيدت وفق طراز معماري متميز؛ فبُنيت كلها في قلب المدينة، بعضها بُني وفق مخطط محلي وآخر حمل تأثيرات المناطق المجاورة. وقد كُشف في وسط المدينة عن ستة معابد، اثنان منها لم يكتمل بناؤهما، وهما معبدا «شمش» و«عشتاروت»، وهناك معابد «نينهورساع»، «سيدة الجبال» Ninhursag، و«نيني زازا» و«داجان» ومعبد «عشتار» الذي أُقيم في الجهة الغربية من المدينة، إضافة إلى المعبد الأقدم وهو بقايا الزيقورة المسماة الكتلة الحمراء Massif Rouge نسبة إلى اللَّبِنْ الأحمر الذي دل عليها، تقع إلى الجهة الشرقية المرتفعة من المدينة. ثم هناك ما أُسمي بـ«السور المقدس» Enceinte sacrée المجاور للقصر الملكي.
تمثال "لمجي ماري، ملك ماري" الذي عثر عليه في معبد عشتار. وللكتابة التي يحملها على كتفيه فضل في معرفة مملكة ماري |
تمثال الحاكم "إيبيه ـ إيل Ebih - Il" عثر عليه في معبد عشتار ويعود تاريخه إلى 2400 ق.م (متحف اللوفر) |
عاشت مدينة ماري الثانية نحو ثلاثة قرون، وكانت لها علاقات متبدلة مع مملكة «إبلا» المعاصرة، وتذكر نصوص إبلا «مدرسة الكتبة» في ماري،حيث تعلّم كتبة إبلا، كما تشير النصوص إلى حملة عسكرية من قبل إبلا ضد ماري في عهد ملكها ابلول - إيل. ولماري علاقات مع ممالك إيمار (تل مسكنة) وكيش في بلاد بابل وأور في بلاد سومر وغيرها. وتشير النصوص إلى أن ماري دُمّرت من قبل الحاكم الآكادي نارام سين في أثناء حملته العسكرية إلى المناطق الواقعة إلى شمال الامبراطورية الآكادية وغربها.
تمثال راهبة ترتدي قبعة على الرأس (بولوس) عثر عليه في معبد نيني ـ زازا بماري ويعود تاريخه إلى الألف الثالث ق.م |
جرى في هذا العصر تجديد معبد نينهورساغ، وبُني معبد آخر هو «معبد الأُسود» الذي تألف من مدخل وُضعت على جانبيه تماثيل الأُسود، يقود إلى قاعة مستطيلة وفي نهايته مذبح. وإلى هذا العصر يعود قصر صغير آخر وبعض أجزاء القصر الملكي الكبير الذي شُيّد لاحقاً. ومن أهم مكتشفات هذه المرحلة التماثيل، ومنها تمثال إيشتوب - إيلوم Ishtup-Ilum وبعض المشاهد الجدارية للقصر الملكي المشار إليه، وعثر من هذه الفترة على بضع مئات من الرقم الكتابية.
في مطلع الألف الثاني ق.م، وبانتهاء عصر الشاكَّاناكّ، وصلت إلى الحكم في ماري سلالة عمورية، أهم حكامها يحدون - ليم Yahdun-Lim الذي وسّع سلطة ماري على الممالك المجاورة لها قبل أن يُقتل في مؤامرة بالقصر وتخضع ماري لنفوذ الحاكم الآشوري القوي شمشي - حدو Samsi-Addu الذي ولّى عليها ابنه يسمع- حدو؛ لكن بعد موته لم يستطع ابنه الحفاظ على ماري إذ تمكن زمري - ليم Zimri-Lim، وبمساعدة ملوك حلب (يمحاض) من استعادة عرش يحدون - ليم، وفي عهده بلغت ماري أوج ازدهارها. يعد القصر الملكي الكبير، قصر زمري - ليم، من أهم مكتشفات هذه المرحلة. ومع أن البناء الأول لهذا القصر يعود إلى مراحل سابقة إلا أنه اكتمل في عصر زمري - ليم وأصبح من أشهر قصور الشرق القديم، حتى إن ملك أُغاريت طلب توسط ملك يمحاض ليهيئ له زيارته والاطلاع عليه. ولاتأتي أهمية القصر من ضخامته وحسن تنظيمه وحسب، ولكن من الآثار التي وُجدت فيه أيضاً. مساحة القصر 2.5 هكتار، أبعاده 300*120م، وفيه أكثر من 300 غرفة وباحة، بُني من اللّبن والقرميد على أساسات حجرية، وتألَّف من وحدات (كتل) معمارية ذات وظائف مختلفة، إدارية واقتصادية وسكنية وخدمات وحراسة، تلتف حول قلب القصر، حيث باحة النخيل المجاورة لقاعة العرش. بعض أجزاء القصر محفوظة جيداً وتدل على وجود طابق آخر أو طابقين في بعض أقسامه التي ترتبط ببعضها بنظام حركة واتصال دقيق. أحاط بالقصر سور دفاعي تراوحت سماكته من ثلاثة أمتار- حيث القسم الإداري - إلى خمسة عشر متراً، حيث سكن الملك وعائلته. وقد خضع القصر لدراسات كثيفة، ولكن من الصعب الإحاطة بتفاصيل وظيفة هذه الآبدة العظيمة التي أسماها مكتشفها وبحق بـ«درة العمارة الشرقية».
تعد الرسوم الجدارية (الفريسك) أهم ما اشتهر به قصر زمري- ليم، وهي رسوم نُفذت بعدة ألوان على خلفية من الملاط الكلسي، وتنتمي إلى مراحل مختلفة من عمر القصر، وأهمها المشهد الذي يصور تتويج زمري- ليم ملكاً، حيث يظهر الملك وهو يتسلم الحلقة والعصا، رمز السلطة، من الإلهة عشتار، وتحيط بالمشهد آلهة أخرى وأشجار النخيل، وإلى هذا العصر يُنسب المعبد- البرج للإلهة نينهورساغ ومعبد شمش. وقد عُثر في المدينة الثالثة على أفضل التماثيل ومن بينها تمثال «ربة الينبوع»، وهو قطعة فريدة نُحتت بالحجم الطبيعي وتمثل امرأة (آلهة) ترتدي ثوباً مهدَّباً وتُشاهد على الثوب أسماك هابطة وصاعدة تسبح في مياه تفيض من إناء تمسكه الإلهة بكلتا يديها. وهناك التماثيل البرونزية، منها الأُسود التي وُجدت على أبواب معبد دجن Dagan، إضافة إلى الأختام الأسطوانية والأواني الفخارية وغير ذلك.
إن الكشف الأكثر أهمية في هذا القصر هو الأرشيف الملكي الذي كُشف بين أعوام 1935-1939 وضمَّ نحو العشرين ألف لوحة كتابية، فعُدَّ مكتبة تنافس أكبر مكتبات الشرق القديم. ومع أن هذا الأرشيف لا يغطي إلا مرحلة قصيرة من تاريخ ماري، هي نحو 30 عاماً بين حكم يسمع- حدد وزمري - ليم، إلا أنه ساعد على تصحيح تاريخ الألف الثاني كله، وأضاف معلومات سياسية وعسكرية ودينية واقتصادية بالغة القيمة العلمية والتاريخية. وقد دُرس هذا الأرشيف في البداية من قبل عالم الآشوريات الشهير جورج دوسان G.Dossin، ثم تناوب على دراسته باحثون مختلفون منهم موريس بيرو M.Birot وجان ماري دوران J.-M.Durand الذي استخدم هذا الأرشيف بطريقة مسيئة، دفعت المديرية العامة للآثار والمتاحف إلى المطالبة بعودته من فرنسا، التي نُقل إليها منذ اكتشافه، لوضع ضوابط دراسته على نحو علمي نزيه.
بقيت ماري في عصرها الثالث مملكة قوية ومستقلة إلى أن بدأت تسطع في المشرق قوة الحاكم البابلي الكبير حمورابي، الذي تشير النصوص إلى أنه وبعد أن تحالف مع ماري ضد الممالك الرافدية عاد وانقلب عليها وهاجمها بـ 20 ألف جندي واحتلها ثم دمرها وحرق قصرها بعد نهبه في عام 1759 ق.م. بعدها لم تستطع هذه المملكة النهوض من كبوتها ومتابعة حياتها بالوتيرة السابقة نفسها؛ لكن كُشفت فيها منشآت سكنية بسيطة لبعض الناجين من الدمار أو أناس أتوا بعد الكارثة، وانتقل قسم من أهلها إلى مملكة «عانة» المجاورة وعاصمتها ترقا (تل العشارة). ثم سكنت المدينة حامية عسكرية آشورية، ويُعتقد بأن البابليين، الكلدانيين، قد خلفوا الآشوريين في ماري ثم أتى بعدهم السلوقيون، الذين بسقوطهم في منتصف القرن الثالث ق.م غابت الحياة في ماري إلى أن أتت معاول المنقبين لتكشف عنها.
تبقى ماري المدينة الوحيدة في سورية والمشرق ذات النمط العمراني المتميز، وهي ممثل فريد للحضارة الرافدية -السورية بكل تجلياتها. وقد ساعدها موقعها الاستراتيجي، بين المناطق الجبلية الشمالية والسهول الرافدية في الجنوب، على السيطرة على التجارة المحلية وتدعيم نفوذها باطّراد. كانت هذه المدينة حجر الزاوية في كل ما يخص الواقع الاقتصادي والسياسي للعالم السوري - الرافدي الذي ازدهر معها وتراجع كلما تراجعت. وهكذا فإن دراسة ماري تكفي لإنارة تاريخ المنطقة كلها في الألفين الثالث والثاني ق.م.
جان كلود مارغرون، سلطان محيسن