مع اشتداد رياح التغيير التي رافقت صعود الذكاء الاصطناعي في السنوات الأخيرة بات على القائمين على قطاعات العدالة والعاملين فيها التنبه للقادم الجديد، والعمل بجدية على استكشاف الفرص والمخاطر التحويلية لهذه التقنيات على قطاع العدالة وسيادة القانون بشكل عام، وخصوصًا أن الجميع سيتأثرون بشكل أو بآخر بالاعتماد المتزايد والمتسارع على الذكاء الاصطناعي وسط الصراع المحتدم بين المؤيدين والمعارضين لاستخداماته في تحقيق العدالة. ويزيد من تعقيد الوضع أن الأمور شائكة ومتداخلة وتتعدى عوامل التكنولوجيا والرقمنة لتتشابك مع عوامل متعددة كالبيئة التشريعية، والمنظومة الأخلاقية، والأطر والضوابط الحقوقية، وبشكل أوسع بفلسفة حتمية ارتباط النظم العدلية بالوعي والإدراك البشري.
ونحن هنا لا نناقش موضوعًا مستقبليًا من مواضيع الخيال العلمي، بل نناقش منظومة جديدة بدأ بالفعل تطبيقها ولو بأشكال اختبارية منذ سنوات في دول عديدة مثل الصين، والهند، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والبرازيل وعشرات الدول غيرها. وتتراوح التطبيقات ما بين تحسين إدارة العمليات القضائية، إلى العدالة التنبؤية وإنفاذ القانون.
نحن نناقش هنا منظومة جديدة بدأ بالفعل تطبيقها ولو بأشكال اختبارية منذ سنوات في دول عديدة، وتتراوح تطبيقاتها ما بين تحسين إدارة العمليات القضائية، إلى العدالة التنبؤية وإنفاذ القانون.
فبينما يُدفع المتحمسون للذكاء الاصطناعي بقدرته على تحسين الحياة وسبل العيش في جميع أنحاء العالم، والمساهمة في تحقيق الأهداف الإنمائية العالمية، وأنه سيزيد الفاعلية ويحسن الكفاءة في مجال العدالة، ويقلل التكاليف، ويسرع العمليات ويزيد من نزاهتها. يعتمد المقاومون للتغيير في نظرتهم على مخاوفهم المشروعة حول تحيز الذكاء الاصطناعي، ومخاوف تصاعد التمييز، ومخاطر انتهاك الخصوصية، وضعف الشفافية والاستقلالية.
ومن أجل استيعاب "المشادات الدائرة" بشكل أفضل علينا أن نبدأ من فهم ما هو الذكاء الاصطناعي وكيف بدأ يتغلغل في مجال العدالة، وأتمنى أن يكون هذا المقال بداية تساهم في إماطة اللثام عن وجه القادم الجديد.
ما هو الذكاء الاصطناعي؟
تتعدد التعريفات ولكن بالمجمل يشير الذكاء الاصطناعي إلى التطبيقات البرمجية القادرة على محاكاة وظائف معينة للذكاء البشري، بما في ذلك ميزات مثل الإدراك والتفكير وحل المشكلات والتفاعل اللغوي وحتى إنتاج الأعمال الإبداعية. وتتميز هذه التطبيقات الذكية بقدرتها على التعلم والتكيف واتخاذ القرارات المستنيرة بشكل ذاتي بناءً على البيانات والمعلومات التي يتم جمعها وتحليلها ومعالجتها. وتستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات بما فيها تحقيق العدالة، سواء كان ذلك في مراحل ما قبل المحاكمة أو المحاكمة نفسها، أو ما بعد إصدار الحكم وتنفيذه. وشأنه شأن أي تقنية جديدة، تترافق مع الذكاء الاصطناعي إيجابيات وسلبيات، لكن المعضلة هنا هي أنه جاء ليبقى ويتمدد، وعليه فإنه لا مفر من تفهم سلبياته وإدراك أبعادها والعمل على معالجتها باكرًا حتى نتمكن من التمتع بميزاته في تحقيق عدالة ناجزة في عالمنا المعاصر.
المكاسب والتجارب
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يجلب العديد من الفوائد لنظام العدالة، ولكنه يجلب معه أيضًا بعض التحديات والمشاكل الشائكة، فأهم منافعه تكمن في تحسين الأداء والكفاءة من خلال المساعدة في أتمتة العديد من المهام الروتينية، مثل تحليل المستندات والبحث القانوني وحتى الفصل في المخالفات البسيطة، وهو ما يوفر الوقت للقضاة والمحامين ويساعدهم على التركيز على القضايا الأكثر تعقيدًا. ففي الهند على سبيل المثال، اساخدمت المحاكم الافتراضية عن بعد لتسوية منازعات الخلافات البسيطة عبر الإنترنت، وخلال جائحة كورونا في الفترة ما بين آذار 2020، وآذار 2021، استمعت المحاكم الهندية إلى ما يزيد عن ثمانية ملايين قضية عبر تقنيات مؤتمرات الفيديو عن بعد.
وفي شباط من العام الحالي حققت المحكمة العليا في الهند تقدمًا كبيرًا عندما استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي لتدوين إجراءاتها في الوقت الفعلي من خلال تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (TERES)، وتم ذلك من خلال ترجمة حجج ومرافعات المحكمة وتدوينها خلال انعقاد جلسة الاستماع الدستورية بشأن الجدل السياسي في ولاية ماهاراشترا. كما أطلقت الهند منصة عبر الإنترنت لتساهم في الأبحاث والتنقيب عن البيانات القانونية، والتنبؤ بتقدم القضايا ومسارها.
تتسم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بالدقة في تحليل كميات هائلة من البيانات واكتشاف الأنماط التي قد يفوتها ويغفل عنها البشر، وهو ما قد يؤدي إلى تحسين دقة القرارات.
بالإضافة إلى ذلك، تتسم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بالدقة في تحليل كميات هائلة من البيانات واكتشاف الأنماط التي قد يفوتها ويغفل عنها البشر، وهو ما قد يؤدي إلى تحسين دقة القرارات، وقد قامت المحكمة العليا في الهند بتطوير أنظمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لفحص القضايا بشكل محوسب وفرزها وتصنيفها ووضع الملاحظات والاعتراضات على الالتماسات غير الصحيحة مما يخفف من عبء العمل على البشر.
ورغم المخاوف التي سنتطرق لها لاحقًا، فإن الذكاء الاصطناعي قادر على تقديم الكثير في مجال التحليلات التنبؤية، والتي تشمل كلًا من العدالة التنبؤية (Predictive Justice) و أعمال الشرطة التنبؤية (Predictive Policing)، إذ يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات والتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية، بما في ذلك أنماط الجريمة وأنماط ومعدلات العود الجرمي، واحتمالية عودة المدعى عليه للإجرام، إذ يمكن أن تساعد هذه التحليلات في اتخاذ قرارات بشأن التوقيف والكفالات والإفراج المشروط والأحكام وجوانب أخرى من نظام العدالة. وأحد الأمثلة في هذا المجال هو استخدام أدوات تقييم المخاطر، وهي عبارة عن خوارزميات تشمل استخداماتها تحليل البيانات والمعلومات التاريخية للتنبؤ باحتمالية عودة المدعى عليه إلى الجريمة، إذ يستخدم بعض القضاة في المحاكم الأمريكية أدوات مثل (COMPAS) للمساعدة في اتخاذ القرارات بشأن إصدار الأحكام والإفراج المشروط وقيم الكفالات، بهدف تقليل معدلات العودة إلى الإجرام والحفاظ على أمن المجتمع والعامة وسلامتهم. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي تختبر الشرطة في المملكة المتحدة تقنيات الذكاء الاصطناعي (HART) للمساعدة في اتخاذ قرارات التوقيف، وهي أداة صممت لتساعد في التنبؤ بما إذا كان المشتبه بهم يشكلون خطرًا منخفضًا أو متوسط أو مرتفعًا من حيث احتمالية ارتكابهم المزيد من الجرائم في غضون مدة قوامها عامان.
ونحن هنا لا نناقش موضوعًا مستقبليًا من مواضيع الخيال العلمي، بل نناقش منظومة جديدة بدأ بالفعل تطبيقها ولو بأشكال اختبارية منذ سنوات في دول عديدة مثل الصين، والهند، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والبرازيل وعشرات الدول غيرها. وتتراوح التطبيقات ما بين تحسين إدارة العمليات القضائية، إلى العدالة التنبؤية وإنفاذ القانون.
نحن نناقش هنا منظومة جديدة بدأ بالفعل تطبيقها ولو بأشكال اختبارية منذ سنوات في دول عديدة، وتتراوح تطبيقاتها ما بين تحسين إدارة العمليات القضائية، إلى العدالة التنبؤية وإنفاذ القانون.
فبينما يُدفع المتحمسون للذكاء الاصطناعي بقدرته على تحسين الحياة وسبل العيش في جميع أنحاء العالم، والمساهمة في تحقيق الأهداف الإنمائية العالمية، وأنه سيزيد الفاعلية ويحسن الكفاءة في مجال العدالة، ويقلل التكاليف، ويسرع العمليات ويزيد من نزاهتها. يعتمد المقاومون للتغيير في نظرتهم على مخاوفهم المشروعة حول تحيز الذكاء الاصطناعي، ومخاوف تصاعد التمييز، ومخاطر انتهاك الخصوصية، وضعف الشفافية والاستقلالية.
ومن أجل استيعاب "المشادات الدائرة" بشكل أفضل علينا أن نبدأ من فهم ما هو الذكاء الاصطناعي وكيف بدأ يتغلغل في مجال العدالة، وأتمنى أن يكون هذا المقال بداية تساهم في إماطة اللثام عن وجه القادم الجديد.
ما هو الذكاء الاصطناعي؟
تتعدد التعريفات ولكن بالمجمل يشير الذكاء الاصطناعي إلى التطبيقات البرمجية القادرة على محاكاة وظائف معينة للذكاء البشري، بما في ذلك ميزات مثل الإدراك والتفكير وحل المشكلات والتفاعل اللغوي وحتى إنتاج الأعمال الإبداعية. وتتميز هذه التطبيقات الذكية بقدرتها على التعلم والتكيف واتخاذ القرارات المستنيرة بشكل ذاتي بناءً على البيانات والمعلومات التي يتم جمعها وتحليلها ومعالجتها. وتستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات بما فيها تحقيق العدالة، سواء كان ذلك في مراحل ما قبل المحاكمة أو المحاكمة نفسها، أو ما بعد إصدار الحكم وتنفيذه. وشأنه شأن أي تقنية جديدة، تترافق مع الذكاء الاصطناعي إيجابيات وسلبيات، لكن المعضلة هنا هي أنه جاء ليبقى ويتمدد، وعليه فإنه لا مفر من تفهم سلبياته وإدراك أبعادها والعمل على معالجتها باكرًا حتى نتمكن من التمتع بميزاته في تحقيق عدالة ناجزة في عالمنا المعاصر.
المكاسب والتجارب
يمكن للذكاء الاصطناعي أن يجلب العديد من الفوائد لنظام العدالة، ولكنه يجلب معه أيضًا بعض التحديات والمشاكل الشائكة، فأهم منافعه تكمن في تحسين الأداء والكفاءة من خلال المساعدة في أتمتة العديد من المهام الروتينية، مثل تحليل المستندات والبحث القانوني وحتى الفصل في المخالفات البسيطة، وهو ما يوفر الوقت للقضاة والمحامين ويساعدهم على التركيز على القضايا الأكثر تعقيدًا. ففي الهند على سبيل المثال، اساخدمت المحاكم الافتراضية عن بعد لتسوية منازعات الخلافات البسيطة عبر الإنترنت، وخلال جائحة كورونا في الفترة ما بين آذار 2020، وآذار 2021، استمعت المحاكم الهندية إلى ما يزيد عن ثمانية ملايين قضية عبر تقنيات مؤتمرات الفيديو عن بعد.
وفي شباط من العام الحالي حققت المحكمة العليا في الهند تقدمًا كبيرًا عندما استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي لتدوين إجراءاتها في الوقت الفعلي من خلال تقنيات معالجة اللغة الطبيعية (TERES)، وتم ذلك من خلال ترجمة حجج ومرافعات المحكمة وتدوينها خلال انعقاد جلسة الاستماع الدستورية بشأن الجدل السياسي في ولاية ماهاراشترا. كما أطلقت الهند منصة عبر الإنترنت لتساهم في الأبحاث والتنقيب عن البيانات القانونية، والتنبؤ بتقدم القضايا ومسارها.
تتسم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بالدقة في تحليل كميات هائلة من البيانات واكتشاف الأنماط التي قد يفوتها ويغفل عنها البشر، وهو ما قد يؤدي إلى تحسين دقة القرارات.
بالإضافة إلى ذلك، تتسم خوارزميات الذكاء الاصطناعي بالدقة في تحليل كميات هائلة من البيانات واكتشاف الأنماط التي قد يفوتها ويغفل عنها البشر، وهو ما قد يؤدي إلى تحسين دقة القرارات، وقد قامت المحكمة العليا في الهند بتطوير أنظمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لفحص القضايا بشكل محوسب وفرزها وتصنيفها ووضع الملاحظات والاعتراضات على الالتماسات غير الصحيحة مما يخفف من عبء العمل على البشر.
ورغم المخاوف التي سنتطرق لها لاحقًا، فإن الذكاء الاصطناعي قادر على تقديم الكثير في مجال التحليلات التنبؤية، والتي تشمل كلًا من العدالة التنبؤية (Predictive Justice) و أعمال الشرطة التنبؤية (Predictive Policing)، إذ يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات والتنبؤ بالاتجاهات المستقبلية، بما في ذلك أنماط الجريمة وأنماط ومعدلات العود الجرمي، واحتمالية عودة المدعى عليه للإجرام، إذ يمكن أن تساعد هذه التحليلات في اتخاذ قرارات بشأن التوقيف والكفالات والإفراج المشروط والأحكام وجوانب أخرى من نظام العدالة. وأحد الأمثلة في هذا المجال هو استخدام أدوات تقييم المخاطر، وهي عبارة عن خوارزميات تشمل استخداماتها تحليل البيانات والمعلومات التاريخية للتنبؤ باحتمالية عودة المدعى عليه إلى الجريمة، إذ يستخدم بعض القضاة في المحاكم الأمريكية أدوات مثل (COMPAS) للمساعدة في اتخاذ القرارات بشأن إصدار الأحكام والإفراج المشروط وقيم الكفالات، بهدف تقليل معدلات العودة إلى الإجرام والحفاظ على أمن المجتمع والعامة وسلامتهم. وعلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي تختبر الشرطة في المملكة المتحدة تقنيات الذكاء الاصطناعي (HART) للمساعدة في اتخاذ قرارات التوقيف، وهي أداة صممت لتساعد في التنبؤ بما إذا كان المشتبه بهم يشكلون خطرًا منخفضًا أو متوسط أو مرتفعًا من حيث احتمالية ارتكابهم المزيد من الجرائم في غضون مدة قوامها عامان.