لعقود طويلة وفرت الأعمال الفنية، خصوصًا الأفلام والمسلسلات، الفضاء الأوسع الذي أتاح لنا مساحة للنقاش حول الذكاء الاصطناعي وأثره على حياة البشر، وزادت من انخراطنا في الجدل الدائر حول فوائد ومخاطر الإفراط في مكننة وأتمتة حياتنا اليومية. ولقد حظيت العدالة وإنفاذ القانون بمساحة لا بأس بها من هذا الإنتاج، فهل ساهمت هذه الأعمال الفنية حقيقةً في تشكيل الرأي العام حول هذا الموضوع؟ وإن فعلت فكيف أثرت على انطباعات الناس وتصوراتهم؟
المتابع المتفحص لهذه الأعمال قد يرى التباين في تأثير الإنتاجات الفنية على التصور العام لاستخدام الذكاء الاصطناعي في إنفاذ العدالة. ففي حين روجت بعض الأفلام لاستخدام الذكاء الاصطناعي في إنفاذ القانون كطريقة فعالة لمحاربة الجريمة وتعزيز الأمن وسلامة المجتمع، أثار البعض الآخر مخاوف بشأن العواقب الوخيمة المحتملة للاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي في نظام العدالة.
لمحة تاريخية
يمكننا تتبع جذور التطرق للجدل حول إعتماد البشر المفرط على التكنولوجيا في الأفلام إلى عشرينات القرن الماضي، من خلال أفلام كمتروبوليس (Metropolis - 1926)، الفيلم الكلاسيكي المأخوذ عن رواية ثيا فون هاربو والتي حملت نفس العنوان. وعلى الرغم من أن الفيلم ركز على قضايا الانقسام الطبقي في المجتمع، والفجوة بين الأغنياء والفقراء، والاستبداد، ولم يعرض الذكاء الاصطناعي بالشكل الذي نعرفه اليوم، إلا أنه صور مجتمعًا متقدمًا للغاية يعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا والأتمتة. ولطالما نُظر إلى شخصية الروبوت الشهيرة في الفيلم على أنها مقدمة للتصور الحديث للروبوتات والذكاء الاصطناعي في الخيال العلمي، مع أنها لم تكن في الحقيقة تمثيلًا مكتملًا للذكاء الاصطناعي، وكانت أقرب ما تكون إلى هيكل ميكانيكي يتحكم فيه الإنسان. لست شخصيًا من هواة الأفلام الصامتة ولكن هذا الفيلم الكلاسيكي الصامت تمكن في النهاية من ضرب عصفورين بحجر واحد، حيث فتح الباب أمام أفلام الخيال العلمي المستقبلي ذات الإنتاج الهائل، بينما استمر في تذكيرنا بأن الصراع طبقي في جوهره.
ومنذ تلك البدايات وحتى ثمانينات القرن الماضي، لم يكن الذكاء الاصطناعي شائعًا في أفلام الخيال العلمي كما هو اليوم، وكان تصويره في هذه الأفلام محدود النطاق. ومع ذلك، كان هنالك عدد قليل من الأفلام البارزة خلال هذه العقود استكشفت موضوعات الذكاء الاصطناعي وعلاقتها بالإنسانية. مثل فيلم الخيال العلمي (Forbidden Planet - 1956)، الذي أصبح يعد أحد الاعمال الكلاسيكية الرائدة، حيث كان من بين الأفلام الأولى الملونة التي عُرضت على الشاشة الكبيرة واحتوت مؤثرات مذهلة بالنسبة لزمنها، مع قصة جيدة أثارت قضايا مهمة حول استخدام التقنيات فائقة التقدم، والأهم من ذلك أنه قد تكون المرة الأولى التي نوقش فيها على الشاشة الكبيرة وبشكل صريح ضرورة وجود قوانين وأطر أخلاقية تحكم عمل الذكاء الاصطناعي والروبوتات. كما يزال الكثيرون يرون في الفيلم أصلًا وملهمًا لروائع لاحقة مثل "Star Trek" و"Star Wars". وبالطبع لا نستطيع تجاهل اقتباسات الفيلم الكثيرة عن مسرحية العاصفة لشكسبير، وبالتأكيد يمكننا مناقشة المشاكل الجندرية وبروز النظام الأبوي في كلا العملين في مساحة أخرى. ولكن في النهاية الفيلم فتح الباب على مصرعيه لصعود مرحلة أفلام الخيال العلمي الجيدة في العقود اللاحقة.
وسأقفز عن ستينات وسبعينات القرن الماضي لأصل لمرحلة صعود الاعمال الفنية المختصة بالذكاء الاصطناعي والتي بدأت في فترة الثمانينات، وساهم في هذا الصعود القفزات التقنية في رسومات الكمبيوتر والمؤثرات الخاصة لصانعي الأفلام التي سمحت بإنشاء عوالم وصور مذهلة بصريًا وأكثر واقعية من ناحية عرض الروبوتات والذكاء الاصطناعي والتقنيات المستقبلية الأخرى، والأهم أن عالمنا وصل لمرحلة من النضج يستطيع فيها تقبل أفكار هذه الاعمال، والانخراط في نقاشات أكثر جدية وعمقًا حول آثار الاعتماد المفرط على التكنولوجيا. ولقد أتحفتنا هذه المرحلة بأعمال مثل (Terminator 1984)، و(Robocop 1987). وتبعتها العديد من الأعمال بداية الألفية الثالثة مثل (A.I. 2001)، و(Minority Report 2002)، و(I, Robot 2004)، وسلسلة ((Person of Interest 2011-2016، وسلسلة (Black Mirror 2011-)، وغيرها الكثير. وسأحاول التركيز هنا على الاعمال التي طرحت موضوع الذكاء الاصطناعي ضمن إطار العدالة وإنفاذ القانون لأنها الأقرب إلى إهتمامي الشخصي.
دور الأفلام في تشكيل تصوراتنا
صورت أعمال مثل (Minority Report) و(Robocop) و(Person of Interest) استخدام الذكاء الاصطناعي في إنفاذ القانون كأداة قوية يمكن أن تساعد في التنبؤ بالجرائم ومنعها وتعزيز سيادة القانون، وأثارت في نفس الوقت الكثير من التساؤلات حول تأثير إساءة إستخدام هذه التكنولوجيا على حقوق الإنسان والحريات الفردية، ومواضيع الحوكمة والمساءلة.
للأسف لن أستطيع التحدث عن رائعة سبيلبيرغ (A.I. 2001) التي أظنها شخصيًا أكثر الأعمال التي تناولت الذكاء الاصطناعي شاعريةً وعمقًا من الناحية الإنسانية والفكرية، وسأركز هنا على فيلمين فقط، وسأبدأ بعمل سبيلبيرغ الثاني الأقرب لمجال اهتمامي (Minority Report). الفيلم يتناول قضية الذكاء الاصطناعي ومكافحة الجريمة، وتدور أحداثه في العام 2056، حيث تستخدم سلطات إنفاذ القانون نظام يسمى ما قبل الجريمة لاعتقال وإدانة الأفراد قبل ارتكابهم للجرائم، بناءً على تنبؤات يسهم فيها ثلاثة أشخاص ذوي قدرات خاصة يتم استغلالهم ضمن نظام يعتمد بشكل كبير على تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات والتنبؤ. أعتبر العمل مؤثرًا في تشكيل التصورات الشعبية لدور التكنولوجيا في نظام العدالة الجنائية، حيث استكشف الفيلم الآثار الأخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في إنفاذ القانون، والفوائد والمخاطر المحتملة من استخدامه، والتوازن بين تحقيق الأمن والحريات المدنية. ومن جملة الاسئلة التي أثارها الفيلم: هل يمكننا توقع الجريمة ومنعها قبل حدوثها؟ وهل من الأخلاقي معاقبة الأفراد على أفعالهم "المستقبلية" بناءً على تنبؤات مجموعة من البرمجيات والخوارزميات؟ وعلى فرض صح التنبؤ وكان دقيقًا، كيف يمكننا أن نحاسب الناس على النوايا وهم لم يرتكبوا جرمًا فعليًا "بعد"؟! بل كيف نحاسبهم بعد أن منعناهم من ارتكاب الجريمة في المقام الأول؟ وهي أسئلة باتت في الواقع ملحة في السنوات الأخيرة مع صعود أنظمة العدالة التنبؤية والشرطة التنبؤية، والتي لربما ما زالت في بداياتها ولكنها فتحت الباب نحو التطبيق الفعلي للتنبؤ بالجريمة ومكافحتها، ونستطيع رؤية التطبيق على الارض لأنظمة مثل COMPAS وHART. والمفارقة إن ممارسة الحكم على الناس بناءً على التوقعات ليست غريبة عن واقعنا الحالي، فبعض بلداننا ما زالت تطبق تشريعات قديمة متعلقة بمنع الجريمة، وبعض هذه التشريعات تمنح الحاكم صلاحية إيقاف من يشاء، ودون سقف زمني، وخارج إطار القضاء، وأحيانًا بدون مسببات بحجة الحفاظ على الأمن المجتمعي! وكل ما يلزمه للقيام بذلك هو فقط سلطته التقديرية والتحجج بمنع الجريمة! قد يكون الفرق الوحيد بين الاثنين اعتماد الفكرة في الفيلم على نتائج تنبؤات خوارزميات قد تخضع لشيء من الحوكمة والمساءلة، بينما في واقعنا لا تخضع إلا لتقدير الحاكم الشخصي!