الشاعر التونسي فتحي النصري وجد في الشعر طريقة حياة ووجود
محمد الغزي
ربما احتاجت عبارة النبرة الخافتة التي جاءت في العنوان إلى بعض الشرح والتوضيح. فهي من العبارات التي تواترت في الخطاب النقدي الحديث لتشير إلى ضرب مخصوص من الشعر آثر أن ينأى عن كل نزوع خطابي أو منبري، ويتجنب، عن وعي عامد، اللغة الحماسية التي تقوم على التفخيم ومد الصوت. وقد جاءت عبارة "النبرة الخافتة" ترجمة للعبارة الفرنسيةmi voix التي تعني حرفياً "نصف الملفوظ" أو "الصوت الخفيض" أو "الكلام المهموس".
هذا الضرب من الشعر لا يقرأ عادة على المنابر، ولا ينشد في المجامع، وإنما يقرؤه الإنسان في خلوته، في ضرب من التوحد، والتواطؤ الخفيّ. فهو أشبه ما يكون بموسيقى الغرفة التي نسمعها ولا نسمعها، نتفطن إلى إيقاعها ولا نتفطن، تترك أثرها في الروح والقلب من دون أن ترتفع أنغامها. فهي قريبة بعيدة، واضحة غامضة.
في معنى الشعر الهامس
في كتابه المعرف "في الميزان الجديد" يعرّج الناقد المصري محمد مندور على ضرب مخصوص من الشعر يسميه "الشعر المهموس". هذا الشعر هو الذي رآه أشكل بالعصر، وأعلق بالنفس، لأنّه الشعر الذي تمكن من تطويع اللغة من أجل تحريك النفوس وشفائها، بحسب عبارته، لهذا اعتبره نقيض الارتجال: الشعر المهموس هو نتاج إحساس رهيف بكل عناصر اللغة من معجم وصور وإيقاع، يعمد من خلاله، الشاعر إلى تطويع طاقاتها الكبيرة حتى يتمكن من التأثير في السامع.
وبعد أن يؤكد مندور أن الشعر الهامس هو الذي خلا من الحماسة والمنبرية وروح الخطابية، يضيف أنه الشعر الذي "يستلهم الحياة" والحياة كما يقول مندور شيء أليف، شيء قريب من الجميع، نراها فنتعرف إليها للحظتها، ونستمع إلى سرها فنصدقه. ويضرب مثالين دالين على هذا الشعر المهموس هما قصيدتا "أخي" لميخائيل نعيمة و"يا نفس" لنسيب عريضة.
في مجلة الرسالة الصادرة في 02-08-1943 يتناول الكاتب العراقي حسين الظريفي هذه المسألة، مسألة الهمس في الشعر مجدّداً، ليشير إلى أن الهمس في الأدب عامة وفي الشعر على وجه الخصوص، لا يتأتّى من المباني والمعاني فحسب، كما ذهب إلى ذلك محمد مندور، وإنما من الإيقاع، الإيقاع الذي تضرب به الأسماع على حد عبارته ومدى ذبذبته. ولهذا يعرف الهمس "بكونه القوةَ الموسيقية في الإعراب عن الخواطر والانفعالات".
النبرة الخافتة
إن المتأمل في أعمال فتحي النصري الشعرية الصادرة حديثاً عن دار المفردات للنشر في السعوديّة، يلحظ أنّ هذه النبرة الخافتة تعدّ من أخص خصائص شعر النصري وأولاها بالنظر والاستقراء، لا سيما أنها استغرقت كل القصائد، مهما كانت مضامينها أو نوع الشعر الذي انتمت إليه. كل الشعر الذي كتبه كان خفيض الصوت، هامساً، حييّاً، يقترب في أحيان كثيرة من الصمت، يكتفي باللفظ الأقل، ويدع للبياض مجالاً فسيحاً في النصوص.
هذه الخصائص مجتمعة والتي تومئ إليها عبارة النبرة الهامسة كانت، في تقديرنا، نتاج خيار فني واع، موصول برؤية الشاعر للخطاب الشعري ولعناصره الجمالية والتكوينية. وبعبارة أخرى نقول إن هذه النبرة الخافتة قد اكتسبها الشاعر بعد اختبار القصيدة الحديثة، ومحاورة عناصرها الفاعلة. ربما آلت هذه النبرة الخافتة إلى طبيعة الشعر الذي يكتبه الشاعر فتحي النصري، فهو خطاب ذاتي في المقام الأول، تجاوز مفاهيم التيار والحركة والاتجاه بما هي ضرب من التقارب في التجارب والرؤى، وانتصر لمفاهيم الفرادة والتميز والاختلاف. فالشعر هو تجربة الفرد مع اللغة أي مع الحياة والوجود.
كتبت قبل سنوات وأنا اطالع ديوان "منمنمات، يليها أخبار الريح" أن الشاعر، في هذه المجموعة، يخاف من النبرة العالية، يتجنّبها، يريد للقصيدة أن تقول ما تريد أن تقول بنبرة خافتة، حييّة، فيها الكثير من الوجل والتواضع. ربّما تعلّم الشاعر من الشعر الملتزم الذي اختبره في الثمانينيات، أن الشعر نقيض الخطابة، قوانينه تختلف عن قوانينها، ومقاصده عن مقاصدها. الشعر خطاب رهيف، أرهف من بتلة وردة، وأخفّ من ريشة طائر، كما يقول أحد الشعراء، وقوّة الشعر إنّما تكمن في هذه الرهافة وهذه الخفّة: "ليَ بيتٌ غيرُ هذا البيت/ ألفيهِ إذا جنَّ الظلامْ/ هو بيتٌ آخَرٌ غيرُ الذي ألّفته/ لا يتبدّى ليَ إلاّ في المنام/ غيرَ أنّي إذ أوافيه/ وأمضي في نواحيه/ أرى مأوى أليفا/ وأراني فيه مثلَ الماءِ/ إذ ينسابُ في الماء خفيفا/ هو بيتٌ آخرٌ/ غيرَ الذي أعرفه/ بعضُه ضوءٌ/ وظلّ بعضُهُ/ لكنه دانٍ حميم/ كلما طوّفت فيه/ خلتني مغتربا/ آب إلى الحيّ القديم".
اللغة المألوفة
لكن هذا الكلام لا ينطبق على ديوان واحد وإنما على كل الدواوين. ففيها جميعاً استأنس الشاعر بلغة قريبة، مألوفة تقوم على الإيقاع مقوّماً من مقوّمات غنائيّتها. الإيقاع ههنا لا تؤسسه المصادر التقليدية كتناوب القوافي والالتزام بالتفعيلة فحسب، وإنّما تؤسّسه أيضاً مصادر ألطف، كالجناس والترديد بأنواعه الثلاثة، الصوتي واللفظي والتركيبي. فالشعر هنا "دلالة موقّعة" أو "إيقاع دالّ"، فيه من الغنائيّة شجنها، ومن الدراميّة تعدّد أصواتها. فتحي النصري يصوّر ويسرد في آن، جامعاً بين كينونة الشعر وصيرورة القصّ. وهو بذلك يخوض غمار تجربة شعريّة معقّدة لأنّها تجمع بين طريقتين في الأداء مختلفتين.
لكنّ الأهمّ أن هذه المجموعة ليست إلاّ نشيداً طويلاً يزجيه الشاعر فتحي النصري للحياة، ليست إلاّ قصيدة واحدة يحتفي من خلالها بالشعر ويعيد صياغة الوجود على غير مثال سابق. فتحي النصري ينتمي إلى سلالة الشعراء الذين آمنوا بالشعر طريقة حياة وشكل وجود. فعالم النصّ لدى هذا الشاعر غير منفصل عن نصّ العالم، فهما متداخلان تداخل التعمية والتسوية والتشابك. إن الشعر سليل الحياة، هذا ما تقوله قصائد فتحي النصري بطرائق شتى، وكون الشعر سليل الحياة فهذا يعني أن الشعر يسهم في تحرير هذه الحياة، في نقل العالم من مجال الضرورة إلى مجال الحرية. وهذا النزوع الذاتي يأخذ في ديوان "أبواب" شكلاً جديداً بحيث يعمد الشاعر إلى استدعاء سيرته الذاتية ويحولها إلى مصدر من مصادر قصيدته. ففي قصائد "أبواب" تحتشد إشارات ومفردات سيرية متنوعة، أضفت على هذا الشعر نبرته الحميمة الهامسة.الشعر هنا مجلى الذات التي تتكلم زمنها، وتقول تجربتها، وتفردها. وثمّة تطابق واضح بين أنا الشاعر الأصليّة والأنا المتلفظة في الخطاب، وإن تعدّدت الضمائر وتنوعت. في هذه القصائد يلتقط الشاعر، وعبر جمل شعرية مفعمة بالموسيقى، مواقف وتجارب ومشاهد من تاريخه الشخصي، محيلاً على مكان وزمان مخصوصين يؤكدان "تاريخية الأحداث". جاءت نصوص النصري، في هذه المجموعة، بوصفها إحدى المحاولات المتقدّمة لكتابة قصيدة سردية، تجمع، بحسّ جماليّ لافت، بين صيرورة القصّ وكينونة الشعر. هذه الظاهرة، وإن تردّدت في دواوين النصري السابقة إلا أنها استقرّت في هذا الديوان واستتبّت مقوماتها، وأصبحت ملمحاً مهمّاً من ملامح تجربة الشاعر.
في قصيدة "حكاية جنوب المتوسط" يستدعي الشاعر مناخات الحكاية الأليغورية ويستدعي معها مراسم القصّ العربية: حضور الراوي، تردد اللازمة "كان يا ما كان"، استدعاء الكائنات الخرافية. لكن النصري لا يستحضر حكاية قديمة، وإنما يبتكر حكاية جديدة كما يبتكر أحداثها وشخوصها. فهو لا يعمد إلى التضمين والاقتباس كما عمد الرواد، وإنما يكتب الحكاية ويطوّعها إلى مقاصده وجملة أسئلته. ونحن لا نبالغ إذا قلنا إن النصري يعدّ من أكثر الشعراء افتتاناً بالحكاية، يرفد نصوصه بطاقاتها التخييلية الكبيرة..