إنّ التماثل في الفيزياء هو صفة ذات أهمّية كبيرة، خصوصًا فيما يتعلق بالمادة والمادة المضادة. نقول، لو خلقت أو تكوّنت المادة والمادة المُظلمة بكميّات متساوية في أثناء الانفجار العظيم قبل 13.7 مليار سنة، إذن لماذا ظهرت المادة فقط حينئذ بشكلٍ أكبر، في حين أنّ المادة المضادة لم تظهر، أو لماذا نسبة المادة إلى المادة المضادة أكبر وأكثر. وإن كانت المادة والمادة المضادة مشابهات لبعضهنّ البعض، بغضّ النظر عن شحنتهنّ، فلماذا تفنى وتُباد المادة والمادة المضادة عندما تتصادم؟ هذه بعض الألغاز المستمرّة والعويصة في الفيزياء. بالرّغم من اقتراح العديد من النماذج، لكنّ المشكلة لم تحُلّ فعلًا. وتضيف هذه الأبحاث الأخيرة قطعة أخرى للغز.
في كلّ يوم، تتكوّن المادّة من البروتونات، النيوترونات والإلكترونات. وبالطّبع، تمتلك هذه الجسيمات ما يسمّى بالـ”النظير” – والنظير عادة يكون مشابهًا بشكلٍ كبير للمادّة أو العنصر ‘الأساسيّ’. وتُعرف نظائر هذه الجسيمات الأساسيّة باسم ‘الجسيمات المضادّة’ – بروتون-مضاد، نيوترون-مضاد، وبوزيترون (وهو مضاد الإلكترون). وتمتلك هذه النظائر أو الجسيمات المضادّة نفس الكتلة (أي مساوية لكتلة الجسيم الأصلي)، لكنّها تختلف من حيث الشحنة الكهربائيّة، بحيث تكون معاكسة للأصليّة. وعلى الرغم من كون النيوترونات ومضاد-النيوترون يمتلكان شحنة بشكلٍ حياديّ، لكنّها يتكوّنان من جزيئات تُعرف باسم الـ‘كواركات’، والتي تمتلك الشحنات الكهربائيّة الجزئيّة، وشُحن هذه الكواركات متساوية ومعاكسة لبعضها البعض في النيوترونات ومضاد-النيوترون.
التحقق من الشحنة السويّة:
إنّ الفيزياء النظريّة تشكّ في هذا التباين الاستثنائيّ بين المادة والمادة المضادة في الكون. ويُعرف هذا التباين تقنيًّا بـ‘تباين باريون’، وإنّ هذا التباين يُعزى إلى الاختلافات الواردة في بعض خصائص المادة والمادة المضادة، والمعروفة رسميًّا بـ‘شحنة التكافؤ’ (Charge-parity)، أو بـ(CP Symmetry Violation) – يُقال لها بالعربيّة، خرق تناظر الشحنة السويّة أو شحنة التكافؤ كما أسلفنا، أو انقلاب الشحنة السويّة. ومع ذلك، فإنّ جميع الآثار المؤدّية إلى ‘خرق تناظر الشحنة السويّة’، لا يفسّر رجحان أو كثرة المادة على المادة المضادة بشكلٍ كبير.
التفسيرات المحتملة وراء هذا الغموض، قد تكمن في الاختلافات بين خصائص المادة والمادة المضادة – وعلى سبيل المثال، لعلّ البروتون المضاد يضمحلّ وينحلّ أسرع من البروتون. “وإذا ما وُجد اختلاف كهذا، ومهما كان طفيفًا، فهو بالطّبع سيؤدّي إلى عواقب وخيمة على فهمنا المعاصر للقوانين الأساسيّة في الفيزياء”. وهذا ما يقوله كبير معدّي الدراسة ‘ستيفان أولمر’، وهو فيزيائيّ جسيمات في معهد اليابان للأبحاث الفيزيائيّة والكيميائيّة (RIKEN).
وقام العلماء باختبارٍ يعتبر الأكثر صرامة على الإطلاق، عن الاختلافات بين البروتونات والبروتونات-المضادة، حيث تحقّقوا من نسبة الشحنة الكهربائيّة للكتلة على حواليّ 6.500 زوجًا من هذه الجسيمات على مدى فترة 35 يومًا. ولتجنّب حدوث التلامس بين المادة والمادة المضادة، قام الباحثون بمحاصرة البروتونات والبروتونات-المضادة في مجالاتٍ مغناطيسيّة. ثمّ قاموا بعد ذلك بقياس الطريقة الدوريّة التي تحرّكت أو انتقلت بها الجسيمات في المجالات المغناطيسيّة – وهذه خاصيّة تُعرف باسم ‘تردّد السيكلوترون’، والتي تتناسب بدورها على حدّ سواء مع شحنة-كتلة الجسيمات، وقوّة المجال المغناطيسيّ.
ومن الناحية الفنيّة، فلم يَقُم الباحثون باستخدام البروتونات البسيطة في التجارب، بل استخدموا ما يُعرف بـ‘أيونات الهيدروجين السالبة’، والتي تتكون من بروتونٍ محاطٍ بإلكترونين. وقد قاموا بهذا لتبسيط التجارب – فإنّ البروتونات-المضادّة وأيونات الهيدروجين السالبة على حدّ سواء سالبة الشحنة، ولذلك؛ سيكون ردّها تجاه المجالات المغناطيسيّة متشابه. والعلماء بدورهم، يقومون بتسجيل التأثيرات الحاصلة على الإلكترونات أثناء التجربة.
صور متطابقة تمامًا:
“وجد العلماء بالنهاية، أنّ نسبة الكتلة إلى الشحنة لدى البروتونات والبروتونات-المضادّة، متطابقة عند 69 جزءًا في التريليون فقط”. وهذا ما قاله أولمر في بيان. وهذا القياس أفضل بأربع مرّات من القياسات السابقة على هذه النسبة.
وبالإضافة إلى ذلك، وجد العلماء أنّ نسبة الكتلة إلى الشحنة التي قاسوها، لا تختلف من أكثر من 720 جزء في التريليون في اليوم الواحد، أي كما تدور الأرض حول محورها، وتسافر حول الشمس أيضًا. وهذا يشير بدوره إلى أنّ البروتونات والبروتونات-المضادة تتصرّف بطريقة مشابهة مع مرور الوقت، لإنهّا تندفع في الفضاء بسرعة متساوية، وهذا يعني أنّها لا تخرق تناظر (CPT)، والذي سيأتي ذكره لاحقًا.
إنّ تناظر (CPT) هو عنصر أساسيّ في النموذج القياسيّ لفيزياء الجسيمات، وهو أفضل وصف لتاريخ ‘كيف جعلت الجسيمات الأولية الكون يتصرّف بهذه الطريقة’. وإلى الآن، لم يحدث أيّ خرق معروف لتناظر (CPT) – وهذا بعكس تناظر (CP)، فإنّ القوة النوويّة الضعيفة هي الوحيدة من بين القوى الأساسيّة التي تستطيع أن تخرق التكافؤ وتخرق تناظر الشحنة السويّة أيضًا (CP). “إنّ أي انتهاك أو خرق لتناظر (CPT) سيُحدث تأثيرًا كبيرًا على فهمنا للطبيعة بأكملها”. يقول أولمر.
وعلاوة على ذلك، فإنّ نِسَب الشحنة إلى الكتلة لا تختلف بأكثر من 870 جزءًا في المليار في مجال الجاذبيّة الأرضيّة. وهذا يعني بكلّ بساطة، ضَعفُ مبدأ التكافؤ، والذي يرى أنّ كلّ مادّة أو شيء يقع بالمعدّل نفسه في نفس ‘مجال الجاذبيّة’، ولا بدّ أن نشير إلى أنّ مبدأ التكافؤ الذي ظهر بعض الضعف فيه، هو حجر الزاوية والأساس في نظريّة آينشتاين في ‘النسبيّة العامّة’ (قام آينشتاين بطرح العديد من الأمثلة لشرح الموضوع بشكلٍ مسهب، يمكنك البحث عن الموضوع)، والتي بغضّ النظر عن الأمور الأخرى، هي أفضل تفسير حتّى الآن لكيفيّة عمل الجاذبيّة. وإلى الآن أيضًا، لا يوجد أيّ خرق لـ‘مبدأ التكافؤ الضعيف’، ولو حصل ذلك، سيقود بالطّبع إلى ثورةٍ في فهم علوم الجاذبيّة والزمكان، وصِلَتها بالمادّة والطاقة.
“وباستخدام مجالات مغناطيسيّة ومناهج أكثر ثباتًا، يخطّط العلماء إلى تحقيق قياسات أدقّ على الأقل بعشر مرّات ممّا حقّقناه إلى الآن”. يقول أولمر.
وفي دراسة أخرى عن طريق تجربة التماثل بين الباريون والباريون المضاد (Baryon Antibaryon Symmetry Experiment) –BASE- في مركز الأبحاث الأوربية ‘سيرن’ قد توصلت إلى استنتاجات متوقّعة تؤكّد التشابه الكبير بين المادة والمادة – المضادة. وبالرغم من أنّ النتيجة قد نشرت في مجلة الفيزياء الطبيعية Nature Physics بأنّها تضيف دليلًا آخر على أنّ المادة والمادة المضادة نقيضان، إلا أنّها تسبَّبت في تعقيد بعض الأمور عند محاولة فهم الكون.
يحاول الفيزيائيون اكتشاف فيما إذا كانت جميع قوانين الفيزياء خاضعة إلى نوع من التناظر يدعى تناظرCPT – والذي أشرنا إليها سابقًا (وهو تماثل أو تناظر في الشحنة والتكافؤ ‘وانعكاس الزمن’)، المبادئ الثلاثة للتناظر هي أنّ جسيمًا ما يمتلك شحنة مناقضة يتم استبداله بصورة معكوسة بهيئة جسيم مضاد ويخضع إلى انعكاس الزمن. وقد صرّح الباحث كونستانتينوس ‘Constantinos’ من مختبر لورنس بيركيلي الوطنيّ في كاليفورنيا، الذي يعمل على جهاز مصادم الأيونات الكبير: “كل القوى الأساسيّة المعروفة اليوم يجب أن تكون خاضعة لمبدأ تناظرCPT. المبادئ الثلاثة هي نفسها عند تطبيقها على الجسيمات المضادة بدلا من الجسيمات، ولكن بالعبور بشكل معكوس إلى الخلف بدلًا من التقدّم في الزمن.”
وفي هذه الابحاث الجارية، قد تمّ إثبات صحّة تناظر CPTللديوترونات أيضًا*deuterons، والديوترونات المضادة ونواة الهيليوم-3 ونواة الهيليوم-3 المضادة، حيث تمّ العثور على هذه الأنوية الخفيفة (أنوية الهيليوم) في تجربة مصادم الأيونات الكبير، عن طريق تصادم أنوية الرصاص مع بعضها بطاقات عالية. من خلال قياس المدّة التي تستغرقها الأنوية الخفيفة للانتقال إلى الكاشف، يمكن استنباط نسبة الكتلة إلى الشحنة، والتي وُجدت بأنّها متساوية للأنوية وللأنوية المضادة. بالإضافة إلى ذلك، قد تمّ التوصّل إلى أنّ طاقة تماسك الأنوية مع بعضها هي نفسها خلال أزواج المادة وأزواج المادة المضادة.
هذه النتائج التي تكون أدق ب100 مرّة من القراءات السابقة، تؤكّد تناظرCPT. قبل إثبات صحّة تناظرCPT، هذه الأنوية الخفيفة كانت ستؤول إلى فيزياءٍ غير معروفة، ما بعد النموذج القياسي ‘Standard Model’ الذي يفسّر معظم الفيزياء دون الذريّة كما نعرفها حتى الآن. إنّ النموذج القياسي محدود؛ لا يمكنه تفسير المادة المضادة على سبيل المثال؛ لذلك حاول الفيزيائيون أن يصنعوا نموذجًا جديدًا يفسّر هذه الظواهر الأكثر غرابة، في حين قيّدت هذه القراءات بشكل غير متوقّع النظريات المحتملة لتفسير ما يحدث في الكون أبعد من النموذج القياسي.
هذه النظريات قد يكون لها آثار على نظرية الانفجار العظيم، وقال كونستانتينوس : “كيف بالإمكان أن تكون كلّ قوانين الطبيعة تقريبًا تساوي بين الجسيمات والجسيمات المضادة، وقد خلّفت وراءها المادة فقط من الانفجار العظيم.” لكن كونستانتينوس لاحظ أنّها مجرّد قطعة صغيرة في اللغز الأكبر للكون: “ستستغرق الكثير من القياسات لمحاولة فهم ما الذي جعل الكون على ما يبدو عليه الان، من غير المتوقّع أنّ قياسًا واحدًا فقط يمكن أن يحدث فارقًا كبيرًا.”
بالنهاية، إنّ التجارب كثيرة ومتواصلة، وكلّما تقدّمنا في هذا العالم أكثر، كلما تم دحض نظريّات ووضع نظريّات جديدة تساعدنا على فهم هذا الكون بشكلٍ أكبر وأوسع من ذي قبل. فمع كلّ الذي اكتشفناه عن هذا الكون ووصلنا إليه، ما زلنا نجهل الكثير من الأمور الغامضة، التي ننتظر بكلّ شوق وحماس أن نعرفها ونكتشفها. إنّ عجلة التقدّم مازالت متواصلة، ولا ندري ما إذا كانت ستتوقّف في يومٍ من الأيّام عند حدّ معيّن، لكن نرجو أن يكون هذا الحد، حدّ عظيم، لكن إن وُجد حقًّا.
*الديوترون: هي نواة أحد نظائر الهيدروجين، ويدعى ديوتريوم – وهو جسيم مستقر مكوّن من بروتون واحد ونيوترون واحد.
في كلّ يوم، تتكوّن المادّة من البروتونات، النيوترونات والإلكترونات. وبالطّبع، تمتلك هذه الجسيمات ما يسمّى بالـ”النظير” – والنظير عادة يكون مشابهًا بشكلٍ كبير للمادّة أو العنصر ‘الأساسيّ’. وتُعرف نظائر هذه الجسيمات الأساسيّة باسم ‘الجسيمات المضادّة’ – بروتون-مضاد، نيوترون-مضاد، وبوزيترون (وهو مضاد الإلكترون). وتمتلك هذه النظائر أو الجسيمات المضادّة نفس الكتلة (أي مساوية لكتلة الجسيم الأصلي)، لكنّها تختلف من حيث الشحنة الكهربائيّة، بحيث تكون معاكسة للأصليّة. وعلى الرغم من كون النيوترونات ومضاد-النيوترون يمتلكان شحنة بشكلٍ حياديّ، لكنّها يتكوّنان من جزيئات تُعرف باسم الـ‘كواركات’، والتي تمتلك الشحنات الكهربائيّة الجزئيّة، وشُحن هذه الكواركات متساوية ومعاكسة لبعضها البعض في النيوترونات ومضاد-النيوترون.
التحقق من الشحنة السويّة:
إنّ الفيزياء النظريّة تشكّ في هذا التباين الاستثنائيّ بين المادة والمادة المضادة في الكون. ويُعرف هذا التباين تقنيًّا بـ‘تباين باريون’، وإنّ هذا التباين يُعزى إلى الاختلافات الواردة في بعض خصائص المادة والمادة المضادة، والمعروفة رسميًّا بـ‘شحنة التكافؤ’ (Charge-parity)، أو بـ(CP Symmetry Violation) – يُقال لها بالعربيّة، خرق تناظر الشحنة السويّة أو شحنة التكافؤ كما أسلفنا، أو انقلاب الشحنة السويّة. ومع ذلك، فإنّ جميع الآثار المؤدّية إلى ‘خرق تناظر الشحنة السويّة’، لا يفسّر رجحان أو كثرة المادة على المادة المضادة بشكلٍ كبير.
التفسيرات المحتملة وراء هذا الغموض، قد تكمن في الاختلافات بين خصائص المادة والمادة المضادة – وعلى سبيل المثال، لعلّ البروتون المضاد يضمحلّ وينحلّ أسرع من البروتون. “وإذا ما وُجد اختلاف كهذا، ومهما كان طفيفًا، فهو بالطّبع سيؤدّي إلى عواقب وخيمة على فهمنا المعاصر للقوانين الأساسيّة في الفيزياء”. وهذا ما يقوله كبير معدّي الدراسة ‘ستيفان أولمر’، وهو فيزيائيّ جسيمات في معهد اليابان للأبحاث الفيزيائيّة والكيميائيّة (RIKEN).
وقام العلماء باختبارٍ يعتبر الأكثر صرامة على الإطلاق، عن الاختلافات بين البروتونات والبروتونات-المضادة، حيث تحقّقوا من نسبة الشحنة الكهربائيّة للكتلة على حواليّ 6.500 زوجًا من هذه الجسيمات على مدى فترة 35 يومًا. ولتجنّب حدوث التلامس بين المادة والمادة المضادة، قام الباحثون بمحاصرة البروتونات والبروتونات-المضادة في مجالاتٍ مغناطيسيّة. ثمّ قاموا بعد ذلك بقياس الطريقة الدوريّة التي تحرّكت أو انتقلت بها الجسيمات في المجالات المغناطيسيّة – وهذه خاصيّة تُعرف باسم ‘تردّد السيكلوترون’، والتي تتناسب بدورها على حدّ سواء مع شحنة-كتلة الجسيمات، وقوّة المجال المغناطيسيّ.
ومن الناحية الفنيّة، فلم يَقُم الباحثون باستخدام البروتونات البسيطة في التجارب، بل استخدموا ما يُعرف بـ‘أيونات الهيدروجين السالبة’، والتي تتكون من بروتونٍ محاطٍ بإلكترونين. وقد قاموا بهذا لتبسيط التجارب – فإنّ البروتونات-المضادّة وأيونات الهيدروجين السالبة على حدّ سواء سالبة الشحنة، ولذلك؛ سيكون ردّها تجاه المجالات المغناطيسيّة متشابه. والعلماء بدورهم، يقومون بتسجيل التأثيرات الحاصلة على الإلكترونات أثناء التجربة.
صور متطابقة تمامًا:
“وجد العلماء بالنهاية، أنّ نسبة الكتلة إلى الشحنة لدى البروتونات والبروتونات-المضادّة، متطابقة عند 69 جزءًا في التريليون فقط”. وهذا ما قاله أولمر في بيان. وهذا القياس أفضل بأربع مرّات من القياسات السابقة على هذه النسبة.
وبالإضافة إلى ذلك، وجد العلماء أنّ نسبة الكتلة إلى الشحنة التي قاسوها، لا تختلف من أكثر من 720 جزء في التريليون في اليوم الواحد، أي كما تدور الأرض حول محورها، وتسافر حول الشمس أيضًا. وهذا يشير بدوره إلى أنّ البروتونات والبروتونات-المضادة تتصرّف بطريقة مشابهة مع مرور الوقت، لإنهّا تندفع في الفضاء بسرعة متساوية، وهذا يعني أنّها لا تخرق تناظر (CPT)، والذي سيأتي ذكره لاحقًا.
إنّ تناظر (CPT) هو عنصر أساسيّ في النموذج القياسيّ لفيزياء الجسيمات، وهو أفضل وصف لتاريخ ‘كيف جعلت الجسيمات الأولية الكون يتصرّف بهذه الطريقة’. وإلى الآن، لم يحدث أيّ خرق معروف لتناظر (CPT) – وهذا بعكس تناظر (CP)، فإنّ القوة النوويّة الضعيفة هي الوحيدة من بين القوى الأساسيّة التي تستطيع أن تخرق التكافؤ وتخرق تناظر الشحنة السويّة أيضًا (CP). “إنّ أي انتهاك أو خرق لتناظر (CPT) سيُحدث تأثيرًا كبيرًا على فهمنا للطبيعة بأكملها”. يقول أولمر.
وعلاوة على ذلك، فإنّ نِسَب الشحنة إلى الكتلة لا تختلف بأكثر من 870 جزءًا في المليار في مجال الجاذبيّة الأرضيّة. وهذا يعني بكلّ بساطة، ضَعفُ مبدأ التكافؤ، والذي يرى أنّ كلّ مادّة أو شيء يقع بالمعدّل نفسه في نفس ‘مجال الجاذبيّة’، ولا بدّ أن نشير إلى أنّ مبدأ التكافؤ الذي ظهر بعض الضعف فيه، هو حجر الزاوية والأساس في نظريّة آينشتاين في ‘النسبيّة العامّة’ (قام آينشتاين بطرح العديد من الأمثلة لشرح الموضوع بشكلٍ مسهب، يمكنك البحث عن الموضوع)، والتي بغضّ النظر عن الأمور الأخرى، هي أفضل تفسير حتّى الآن لكيفيّة عمل الجاذبيّة. وإلى الآن أيضًا، لا يوجد أيّ خرق لـ‘مبدأ التكافؤ الضعيف’، ولو حصل ذلك، سيقود بالطّبع إلى ثورةٍ في فهم علوم الجاذبيّة والزمكان، وصِلَتها بالمادّة والطاقة.
“وباستخدام مجالات مغناطيسيّة ومناهج أكثر ثباتًا، يخطّط العلماء إلى تحقيق قياسات أدقّ على الأقل بعشر مرّات ممّا حقّقناه إلى الآن”. يقول أولمر.
وفي دراسة أخرى عن طريق تجربة التماثل بين الباريون والباريون المضاد (Baryon Antibaryon Symmetry Experiment) –BASE- في مركز الأبحاث الأوربية ‘سيرن’ قد توصلت إلى استنتاجات متوقّعة تؤكّد التشابه الكبير بين المادة والمادة – المضادة. وبالرغم من أنّ النتيجة قد نشرت في مجلة الفيزياء الطبيعية Nature Physics بأنّها تضيف دليلًا آخر على أنّ المادة والمادة المضادة نقيضان، إلا أنّها تسبَّبت في تعقيد بعض الأمور عند محاولة فهم الكون.
يحاول الفيزيائيون اكتشاف فيما إذا كانت جميع قوانين الفيزياء خاضعة إلى نوع من التناظر يدعى تناظرCPT – والذي أشرنا إليها سابقًا (وهو تماثل أو تناظر في الشحنة والتكافؤ ‘وانعكاس الزمن’)، المبادئ الثلاثة للتناظر هي أنّ جسيمًا ما يمتلك شحنة مناقضة يتم استبداله بصورة معكوسة بهيئة جسيم مضاد ويخضع إلى انعكاس الزمن. وقد صرّح الباحث كونستانتينوس ‘Constantinos’ من مختبر لورنس بيركيلي الوطنيّ في كاليفورنيا، الذي يعمل على جهاز مصادم الأيونات الكبير: “كل القوى الأساسيّة المعروفة اليوم يجب أن تكون خاضعة لمبدأ تناظرCPT. المبادئ الثلاثة هي نفسها عند تطبيقها على الجسيمات المضادة بدلا من الجسيمات، ولكن بالعبور بشكل معكوس إلى الخلف بدلًا من التقدّم في الزمن.”
وفي هذه الابحاث الجارية، قد تمّ إثبات صحّة تناظر CPTللديوترونات أيضًا*deuterons، والديوترونات المضادة ونواة الهيليوم-3 ونواة الهيليوم-3 المضادة، حيث تمّ العثور على هذه الأنوية الخفيفة (أنوية الهيليوم) في تجربة مصادم الأيونات الكبير، عن طريق تصادم أنوية الرصاص مع بعضها بطاقات عالية. من خلال قياس المدّة التي تستغرقها الأنوية الخفيفة للانتقال إلى الكاشف، يمكن استنباط نسبة الكتلة إلى الشحنة، والتي وُجدت بأنّها متساوية للأنوية وللأنوية المضادة. بالإضافة إلى ذلك، قد تمّ التوصّل إلى أنّ طاقة تماسك الأنوية مع بعضها هي نفسها خلال أزواج المادة وأزواج المادة المضادة.
هذه النتائج التي تكون أدق ب100 مرّة من القراءات السابقة، تؤكّد تناظرCPT. قبل إثبات صحّة تناظرCPT، هذه الأنوية الخفيفة كانت ستؤول إلى فيزياءٍ غير معروفة، ما بعد النموذج القياسي ‘Standard Model’ الذي يفسّر معظم الفيزياء دون الذريّة كما نعرفها حتى الآن. إنّ النموذج القياسي محدود؛ لا يمكنه تفسير المادة المضادة على سبيل المثال؛ لذلك حاول الفيزيائيون أن يصنعوا نموذجًا جديدًا يفسّر هذه الظواهر الأكثر غرابة، في حين قيّدت هذه القراءات بشكل غير متوقّع النظريات المحتملة لتفسير ما يحدث في الكون أبعد من النموذج القياسي.
هذه النظريات قد يكون لها آثار على نظرية الانفجار العظيم، وقال كونستانتينوس : “كيف بالإمكان أن تكون كلّ قوانين الطبيعة تقريبًا تساوي بين الجسيمات والجسيمات المضادة، وقد خلّفت وراءها المادة فقط من الانفجار العظيم.” لكن كونستانتينوس لاحظ أنّها مجرّد قطعة صغيرة في اللغز الأكبر للكون: “ستستغرق الكثير من القياسات لمحاولة فهم ما الذي جعل الكون على ما يبدو عليه الان، من غير المتوقّع أنّ قياسًا واحدًا فقط يمكن أن يحدث فارقًا كبيرًا.”
بالنهاية، إنّ التجارب كثيرة ومتواصلة، وكلّما تقدّمنا في هذا العالم أكثر، كلما تم دحض نظريّات ووضع نظريّات جديدة تساعدنا على فهم هذا الكون بشكلٍ أكبر وأوسع من ذي قبل. فمع كلّ الذي اكتشفناه عن هذا الكون ووصلنا إليه، ما زلنا نجهل الكثير من الأمور الغامضة، التي ننتظر بكلّ شوق وحماس أن نعرفها ونكتشفها. إنّ عجلة التقدّم مازالت متواصلة، ولا ندري ما إذا كانت ستتوقّف في يومٍ من الأيّام عند حدّ معيّن، لكن نرجو أن يكون هذا الحد، حدّ عظيم، لكن إن وُجد حقًّا.
*الديوترون: هي نواة أحد نظائر الهيدروجين، ويدعى ديوتريوم – وهو جسيم مستقر مكوّن من بروتون واحد ونيوترون واحد.