رابعه عدويه
Rabia al-Adawyah - Rabia al-Adawyah
رابعة العَدَوية
(…-185هـ/ … -801م)
رابعة بنت إسماعيل العدوية، القيسية، البصرية، وكنيتها أم الخير. من المتصوفات القانتات الخائفات، ممن تقدمن ومهرن في الفضل والصلاح، واشتهرن بعظيم النسك ومزيد العبادة، وكمال النزاهة والزهادة، وهي غير رابعة أو (رايعة) العدوية الشامية المتوفاة سنة 235هـ، إذ كثيراً ما يخلط الرواة بينهما.
كانت أسرتها موالي لآل عَتِيك، وهم من بني قيس بن عمرو الأَزْدي، سكنوا في مرو، ثم انتقلوا إلى البصرة، ومن آل عَتيك بنو العدوية، ولهذا تلقب رابعة بالعدوية والقيسية.
وقد نشأت في بيت فقير، يعاني أهله الإملاق وشظف العيش، فلما كبرت وتوفي والدها وهي في ريعان الصبا حدث في البصرة قحط شديد، فتفرقت هي وأخواتها الثلاث هائمات على وجوههن، فرآها تاجر ظالم، فأسرها، ثم باعها بستة دراهم لرجل أثقل عليها العمل، فلم تجد عزاء في هذه الحياة الشاقة إلا أن تخدم سيدها، وهي تصوم وتصلي، متهجدة طوال الليل، ساعية إلى تحرير نفسها في الباطن لتنتصر على القهر والعبودية.
ويروى أن سيدها أعتقها بعد ذلك، فاندفعت إلى الحياة الدنيا تسعى لرزقها بما تملكه من رقة في الطبع وسمو في الروح، فأتقنت العزف على آلة الناي، واحترفت مهنة الإطراب، إلا أنها مع ذلك لم تنقطع عن مجالسة الوعاظ في مساجد البصرة، وتلتقي هناك بالمتصوف الكبير رباح بن عمرو القيسي، الذي كان له بالغ الأثر في إرشادها إلى التقوى، وتحذيرها من إغواء الحياة الدنيا، فكان أن تابت إلى الله تعالى، ولزمت مجاهداتها الروحية من تهجد وصلاة ودعاء واستغفار، وقراءة للقرآن واستذكار للموت. فهذه جاريتها عبدة بنت أبي شوَّال تصفها فتقول: «كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبتْ من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس! كم تنامين! وإلى كم تقومين! يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور. قالت: فكان هذا دأبها دهرها، حتى ماتت».
تقدم لخطبتها عبد الواحد بن زيد أحد متصوفي البصرة ووجهائها، فردته، ثم خطبها محمد بن سليمان الهاشمي أمير البصرة آنذاك، فردته أيضاً، ولم تتزوج، فقد حل في قلبها الأنس بالله، واستثقلت كل أحد سواه، واعتقدت بأن الزهد في الدنيا راحة البدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن.
ثم إنها حجت إلى بيت الله الحرام، أداء للفريضة الواجبة، وتبركاً بالأماكن المقدسة، والتماساً لتعميق التجربة الروحية التي ظلت تترقى في مقاماتها حتى أواخر عمرها المديد.
ولم يكن لديها غير حصير تستر به بيتها، وإناء من فخار تشرب منه، وبساط من اللِّبد تجعله فراشها ومصلاها، ومشجب من قصب طوله من الأرض قدر ذراعين علَّقت عليه أكفانها تتأملها باكية متضرعة. يقول المُناوي في كتابه «طبقات الصوفية»: «كان كفنها لم يزل عندها، ويجدون محل سجودها كالماء المستنقع من كثرة البكاء».
ويروى أنها كانت تصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فقيل لها: ما تطلبين بهذا ؟ قالت: لا أريد به ثواباً، وإنما أفعله لكي يُسر رسول الله يوم القيامة، فيقول للأنبياء: انظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها.
وكانت مع كل هذه العبادة شديدة التواضع لله. فقد قال لها رجل: ادعي لي! فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله! أطع ربك واعبده وادْعُه، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
غير أن الأقدمين قد نسبوا إليها من نوادر الكرامات، وأضافوا إلى سيرة حياتها من عجائب الأخبار ما يحتاج إلى إمعان نظر وفضل تثبت وتحقيق.
ومع ذلك فقد أُثر عن رابعة العدوية جملة من الأقوال النثرية، وطائفة من الأبيات الشعرية تدل على أنها كانت من المتصوفة المبكرين الذين تبنوا نظرية العشق الإلهي، وسلكوا طريق الفناء عن الوجود الخارجي في جلال الوجود الأسمى وجماله، فمن ذلك قولها تناجي ربها: «وعزتك، لو طردتني عن بابك ما برحتُ عنه لِما وقع في قلبي من محبتك».
ومن ذلك قولها في هذه المقطوعة الشعرية:
أحبكَ حبَّينِ: حبَّ الهوى
وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حبُّ الهوى
فشغلي بذِكْركَ عمَّن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ له
فكشفُكَ للحُجْبِ حتى أراكا
فما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي
ولكنْ لك الحمدُ في ذا وذاكا
ففي قولها: أحبك حبينِ، تفرقة بين نوعين من الحب، الأول: حب الهوى الذي هو حب الذِّكر الدائم لله عز وجل اعترافاً بنعمه وهِباته، والثاني: الحب الذي هو أهل له، أي حب المذكور لذاته وفي ذاته، وهو حب التعظيم والإجلال لوجه العظيم ذي الجلال، ولذلك يمازجه الخوف من عدم الوفاء بالواجب أو عدم القبول. وكلا الحبين تفضل من الله وامتنان، وليس للعبد يد فيه.
توفيت رابعة عن عمر يناهز الثمانين عاماً، وكان ذلك سنة 185هـ كما يرى ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان». وهذا ما يؤيده المستشرق الفرنسي ماسينيون ويدعمه بحجج مقنعة، لأن بعض المراجع التاريخية يزعم أنها توفيت سنة 135هـ.
وكذلك اختلف المؤرخون في مكان قبرها، فإن ابن خلكان يقول: «وقبرها يزار، وهو بظاهر القدس من شرقيه على رأس جبل يسمى الطور». وتبعه في ذلك عدد ممن ترجم لرابعة، وبما أنه لا يُعلم أنها رحلت إلى الشام، أو زارت القدس الشريف حتى تموت هناك، فلا بد من التسليم بما ذكره ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» حين تحدث عن «المقدس» من أن هذا القبر في جبل الطور «ليس هو بقبرها، وإنما قبرها بالبصرة».
محمد كمال
Rabia al-Adawyah - Rabia al-Adawyah
رابعة العَدَوية
(…-185هـ/ … -801م)
رابعة بنت إسماعيل العدوية، القيسية، البصرية، وكنيتها أم الخير. من المتصوفات القانتات الخائفات، ممن تقدمن ومهرن في الفضل والصلاح، واشتهرن بعظيم النسك ومزيد العبادة، وكمال النزاهة والزهادة، وهي غير رابعة أو (رايعة) العدوية الشامية المتوفاة سنة 235هـ، إذ كثيراً ما يخلط الرواة بينهما.
كانت أسرتها موالي لآل عَتِيك، وهم من بني قيس بن عمرو الأَزْدي، سكنوا في مرو، ثم انتقلوا إلى البصرة، ومن آل عَتيك بنو العدوية، ولهذا تلقب رابعة بالعدوية والقيسية.
وقد نشأت في بيت فقير، يعاني أهله الإملاق وشظف العيش، فلما كبرت وتوفي والدها وهي في ريعان الصبا حدث في البصرة قحط شديد، فتفرقت هي وأخواتها الثلاث هائمات على وجوههن، فرآها تاجر ظالم، فأسرها، ثم باعها بستة دراهم لرجل أثقل عليها العمل، فلم تجد عزاء في هذه الحياة الشاقة إلا أن تخدم سيدها، وهي تصوم وتصلي، متهجدة طوال الليل، ساعية إلى تحرير نفسها في الباطن لتنتصر على القهر والعبودية.
ويروى أن سيدها أعتقها بعد ذلك، فاندفعت إلى الحياة الدنيا تسعى لرزقها بما تملكه من رقة في الطبع وسمو في الروح، فأتقنت العزف على آلة الناي، واحترفت مهنة الإطراب، إلا أنها مع ذلك لم تنقطع عن مجالسة الوعاظ في مساجد البصرة، وتلتقي هناك بالمتصوف الكبير رباح بن عمرو القيسي، الذي كان له بالغ الأثر في إرشادها إلى التقوى، وتحذيرها من إغواء الحياة الدنيا، فكان أن تابت إلى الله تعالى، ولزمت مجاهداتها الروحية من تهجد وصلاة ودعاء واستغفار، وقراءة للقرآن واستذكار للموت. فهذه جاريتها عبدة بنت أبي شوَّال تصفها فتقول: «كانت رابعة تصلي الليل كله، فإذا طلع الفجر هجعت في مصلاها هجعة خفيفة حتى يسفر الفجر، فكنت أسمعها تقول إذا وثبتْ من مرقدها ذلك وهي فزعة: يا نفس! كم تنامين! وإلى كم تقومين! يوشك أن تنامي نومة لا تقومين منها إلا لصرخة يوم النشور. قالت: فكان هذا دأبها دهرها، حتى ماتت».
تقدم لخطبتها عبد الواحد بن زيد أحد متصوفي البصرة ووجهائها، فردته، ثم خطبها محمد بن سليمان الهاشمي أمير البصرة آنذاك، فردته أيضاً، ولم تتزوج، فقد حل في قلبها الأنس بالله، واستثقلت كل أحد سواه، واعتقدت بأن الزهد في الدنيا راحة البدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن.
ثم إنها حجت إلى بيت الله الحرام، أداء للفريضة الواجبة، وتبركاً بالأماكن المقدسة، والتماساً لتعميق التجربة الروحية التي ظلت تترقى في مقاماتها حتى أواخر عمرها المديد.
ولم يكن لديها غير حصير تستر به بيتها، وإناء من فخار تشرب منه، وبساط من اللِّبد تجعله فراشها ومصلاها، ومشجب من قصب طوله من الأرض قدر ذراعين علَّقت عليه أكفانها تتأملها باكية متضرعة. يقول المُناوي في كتابه «طبقات الصوفية»: «كان كفنها لم يزل عندها، ويجدون محل سجودها كالماء المستنقع من كثرة البكاء».
ويروى أنها كانت تصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، فقيل لها: ما تطلبين بهذا ؟ قالت: لا أريد به ثواباً، وإنما أفعله لكي يُسر رسول الله يوم القيامة، فيقول للأنبياء: انظروا إلى امرأة من أمتي هذا عملها.
وكانت مع كل هذه العبادة شديدة التواضع لله. فقد قال لها رجل: ادعي لي! فالتصقت بالحائط وقالت: من أنا يرحمك الله! أطع ربك واعبده وادْعُه، فإنه يجيب المضطر إذا دعاه.
غير أن الأقدمين قد نسبوا إليها من نوادر الكرامات، وأضافوا إلى سيرة حياتها من عجائب الأخبار ما يحتاج إلى إمعان نظر وفضل تثبت وتحقيق.
ومع ذلك فقد أُثر عن رابعة العدوية جملة من الأقوال النثرية، وطائفة من الأبيات الشعرية تدل على أنها كانت من المتصوفة المبكرين الذين تبنوا نظرية العشق الإلهي، وسلكوا طريق الفناء عن الوجود الخارجي في جلال الوجود الأسمى وجماله، فمن ذلك قولها تناجي ربها: «وعزتك، لو طردتني عن بابك ما برحتُ عنه لِما وقع في قلبي من محبتك».
ومن ذلك قولها في هذه المقطوعة الشعرية:
أحبكَ حبَّينِ: حبَّ الهوى
وحبًّا لأنك أهلٌ لذاكا
فأما الذي هو حبُّ الهوى
فشغلي بذِكْركَ عمَّن سواكا
وأما الذي أنت أهلٌ له
فكشفُكَ للحُجْبِ حتى أراكا
فما الحمدُ في ذا ولا ذاك لي
ولكنْ لك الحمدُ في ذا وذاكا
ففي قولها: أحبك حبينِ، تفرقة بين نوعين من الحب، الأول: حب الهوى الذي هو حب الذِّكر الدائم لله عز وجل اعترافاً بنعمه وهِباته، والثاني: الحب الذي هو أهل له، أي حب المذكور لذاته وفي ذاته، وهو حب التعظيم والإجلال لوجه العظيم ذي الجلال، ولذلك يمازجه الخوف من عدم الوفاء بالواجب أو عدم القبول. وكلا الحبين تفضل من الله وامتنان، وليس للعبد يد فيه.
توفيت رابعة عن عمر يناهز الثمانين عاماً، وكان ذلك سنة 185هـ كما يرى ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان». وهذا ما يؤيده المستشرق الفرنسي ماسينيون ويدعمه بحجج مقنعة، لأن بعض المراجع التاريخية يزعم أنها توفيت سنة 135هـ.
وكذلك اختلف المؤرخون في مكان قبرها، فإن ابن خلكان يقول: «وقبرها يزار، وهو بظاهر القدس من شرقيه على رأس جبل يسمى الطور». وتبعه في ذلك عدد ممن ترجم لرابعة، وبما أنه لا يُعلم أنها رحلت إلى الشام، أو زارت القدس الشريف حتى تموت هناك، فلا بد من التسليم بما ذكره ياقوت الحموي في كتابه «معجم البلدان» حين تحدث عن «المقدس» من أن هذا القبر في جبل الطور «ليس هو بقبرها، وإنما قبرها بالبصرة».
محمد كمال