التقاطعُ بين فنِّ التصوير الفوتوغرافي والعمارة:
فنُّ التصويرِ الفوتوغرافي المعماري هو عبارة عن نَسخ معقّد لعالمٍ ثلاثيّ الأبعاد على سطحٍ مستوٍ صغير. كما أنّها دليلٌ على التفاعل بين مجاليْن متشابهيْن ومتّصليْن ببعضهما، تشابكت تأثيراتهما مع بعضها في الآونة الأخيرة. في حين يستمرّ المعماريّون والمؤرِّخون بنشرِ الصورِ الفوتوغرافية كسجلاتٍ مفهرسةٍ لقطعٍ أثريةٍ، مبانٍ، ومواقعَ بشكلٍ متزايد، كنتيجةٍ لتأكيد أنَّ العمارةَ أصبحت شكلًا من أشكال التواصل الجماهيري. إنّ تاريخ الشراكة بين العمارة وفنّ التصوير الفوتوغرافي مثيرٌ للاهتمام بسبب أوجه الشبه والفروقات الدقيقة بين هذيْن المجاليْن؛ فالعمارة ترى التصوير الفوتوغرافي على أنّه صورةٌ تلقائيةٌ أو بصمةٌ مباشرةٌ للعالم المُشيَّد، ولكنّها تُبرز أيضًا بلاغة وأيديولوجية الصورة في إيصال الهدف المحدّد منها. منذُ البداية، وبالتّحديد عند إعلان اختراع التصوير الفوتوغرافي في عام 1839 م، ظهرت العديد من التقارير الحماسيّة من قِبل المؤرِّخين والمصوِّرين عن تجربة الشعور ب "التواجد في المكان" جسديًا، عند حمل صورةٍ صغيرةٍ تمثّل نموذجًا لقصر البندقية أو عدّ تفاصيل الألواح الزجاجية لنوافذ المنزل مطبوعةً على ورقةٍ سلبية. أصبحت هذه التصريحات اللافتة للنظر -التي صاغها جون روسكين John Ruskin (1819-1900)، وليام هنري فوكس تالبوت William Henry Fox Talbot (1800-1877)، والعديد من المسافرين والمؤرّخين الآخرين في الماضي– الأساسَ في تعزيز مكانة المهندس المعماري لأنّه المسؤول عن نقل رسالة هذين المجاليْن. أشار (باري بيرغدول Barry Bergdoll) في دراسته المقنعة عن صور الإمبراطورية الثانية التي التقطها إدوارد بالدوس Edward Baldus) (1813-1889، إلى أنّ المصور الفوتوغرافي بقيَ بمثابة "كيان مجهول" بالنسبة للمهندس المعماري، وإلى أنّ الصورة كانت تُوقّع من قِبل صانع البناء عوضًا عن صانع هذا التمثيل البصري. علاوةً على ذلك، فقد كان هذا السجل استجابةً إلى أجندةٍ محددة.
نَحَت أسلوب (بالدوس) التصويري المباني ضمن سياقها العمراني بهدف تفسير سياسة (بارون جورج يوجين هاسمان Baron Georges Eugene Haussmann ) (1809-1891) حيث ظهرت المباني والصروح كمناراتٍ ضمن آفاقٍ مفتوحة. امتدّ هذا الأسلوب على فتراتٍ طويلةٍ من الزمن، فمنذ أوائلَ عشرينات القرن الماضي، بنى تاريخ التصوير المعماري رواياته وأساليبه على أساس تحديد الهوية بين العناصر وصورها الفوتوغرافية. في الواقع، إذا تميز التصوير الفوتوغرافي المعماري في القرن التاسع عشر بتاريخٍ غير مرئيّ ولكنّه مستمرٌ من التلاعب بالصور والتعديل عليها، فإنّ هذه الاعتبارات تدلّ على الممارسات الحداثيّة بشكلٍ جذري. فقد كتب (بياتريز كولومينا Beatriz Colomina) و (جان لويس كوهين Jean – Louis Cohen) عن التعديلات التي أجراها لوكوربوزييه (1887-1965) على الصور لدعم نظرياته، ممّا يدلّ على فَهْمه العميق لوسائل الإعلام المطبوعة وكونها "سياقٌ جديدٌ للإنتاج يوازي موقع البناء" كما يتضّح في منشوراته المبكرة ولا سيما مجلة L'Esprit nouveau . وتنطبق اعتباراتٌ مماثلةٌ حول استخدام ميس فان ديروه (1886-1969) الرمزي لتراكب الصور، حيث قام هذا المهندس المعماري بقصّ ولصق رسومات لتعديل زجاج ناطحة السحاب في الصور (1921-1922)، وعدّل صورة مشروعٍ Adam Department Store (1928-1929) بحيث يظهر مبنيًا ضمن السياق العمراني في شارع (فريدريكستراس Fredrichstrasse) في مدينة برلين، بغرض بناء مشاريع رسم تبدو واقعيةً مع أنّها لم تُبنَ على أرض الواقع. تتنوّع التعديلات على الصور بين التمويه المثالي والتعديلات اليدوية المرئية التي تظهر في أعمال ميس فان ديروه، حيث يطغى عمل المهندس المعماري على مميزات وصفات الصورة.
ويتأرجح التاريخ التكافلي بين العمارة وفن التصوير الحديث، بدءًا من نقد التصوير كونه شكل من أشكال الانفصال عن الواقع (خاصةً مع أدولف لوس Adolf Loos) (1870-1933)، إلى تقبّله كونه وسيلة إنتاجٍ تقنيةٍ وصناعيةٍ (والتر غروبيوس Walter Gropius –صور الباوهاوس) (1883-1969)، ثمّ إلى التحدي المتمثّل في توضيح مساقط (كونستانتين ميلينكوف Konstantin Melinkov) غير المتناظرة (1890-1974) في العمارة الإنشائية -بالأخص، الجناح المؤقت في معرض باريس العالمي للفنون الزخرفية في عام 1925. وصولاً إلى وصف فوتوغرافي منظم جيداً. خلال تاريخ الحداثة، تداخل مفهوما العمارة وفنّ التصوير في نشر ومناقشة المشاريع الجديدة، ولكن التعاون بين هذين المجاليْن أدّى إلى طرح العديد من التساؤلات حول عرض الأفكار والتجربة الفعلية في البناء.
تغيّر اتجاه التنافس بين العمارة وفنّ التصوير الذي ساد في القرن العشرين مع بداية عصر ما بعد الحداثة، مما حفّز المعماريين على التفكير بشكل "صُوري". كما لاحظ بنجامين بتش لوه Benjamin Buchloh "وجّه معماريّو ما بعد الحداثة تصاميمَهم باتجاه قدرة الكتل المعمارية، المواد والفراغات على تحقيق شروط تصوير الأسطح جيدًا، وذلك ضمن عملية لا متناهية لتحويل التكتونية والفراغية إلى شيءٍ مذهل". وبشكلٍ مشابه، يقوم المصوّرون باتخاذ إجراءاتٍ معمارية، كما هو حال النحّات والمصوِّر الألماني توماس ديماند Thomas Demand) (1964 الذي يحوّل صورًا إلى نماذجَ مبنيةٍ ثم يقوم بتصويرها
يتضّحُ من هذه الملاحظات الموجزة ومن الأدبيّات الموجودة -التي صاغ معظمَها مؤرِّخوا العمارة ومنظِّروا الفن المعاصر- أنّ النّقاش حول العلاقة بين العمارة والتصوير الفوتوغرافي لا يمكن أن يكون مفيدًا ويعطي نتائج مُرضية إلا من خلال منهجيةٍ متعدّدة الاختصاصات تأخذ في الاعتبار سياق الإنتاج والنشر الإعلامي للصور. من وجهة نظر مؤرّخي الصور، فإنّ هذه المنهجية الخاصة تعطي سردًا جديدًا للتسلسل المتعارَف عليه لروائع التصوير المعماري -من روجر فنتون Roger Fenton)1819-1869) أو إدوارد بالدوس (Edouard Baldus) إلى واكر إيفانز Walker Evans) 1903-1975) أو برنارد بيتشر Bernard Becher) 1931-2007) و هيلا بيتشر Hilla Becher) 1934)- وتحدد تعريفًا بسيطًا للتصوير على "دليلٍ" أو بصمةٍ مباشرةٍ للعالم المبني.
********
إعداد: نادين نصر الله نادري
تنسيق: دانا ماجد غانم
نشر إلكتروني: دانا ايمن بني المرجه
نشر إلكتروني: رؤى محمد بشار العش