عالم التقنية 28 أكتوبر 2013
منهجية اللين: كيف تؤسس عملا في القرن الواحد والعشرين
لطالما كان إنشاء عمل أو شركة جديدة أمرا صعبا وينطوي على الكثير من المخاطرة. لقد كانت الطريقة السائدة والمنتشرة طيلة عقود للقيام بهذا الأمر تعتمد على كتابة خطة عمل مفصلة يتلوها طلب التمويل من المستثمرين، ثم بناء فريق ينجز العمل، فبناء المنتج أو تهيئة الخدمة، وأخيرا بذل أقصى الجهود للقيام بتسويقه وبيعه. وقد تواجه الخطة، في أثناء خطوة ما بين هذه الخطوات، نكسة ما، وكثيراً ما يحصل هذا، للأسف الشديد، وبنسبة تصل إلى 75 بالمئة، للعديد من الأعمال أو الشركات الناشئة التي يكون مصيرها الفشل.
وقد بدأت بالظهور مؤخرا حركة قوية تتبنى منهجية جديدة لجعل إنشاء الأعمال أقل مخاطرة، وهي منهجية اللين lean startup، التي تفضل التجريب والتعلم على التخطيط المسبق، والتغذية الراجعة من الزبائن على التوقعات المسبقة لأصحاب الأعمال عنهم، والتصميم المتدرج وبناء المنتج أو الخدمة على مراحل متكررة بدل التصميم التقليدي الذي يسعى إلى إنجاز المشروع برمته دفعة واحدة من اللحظة الأولى.
سيتم الحديث في هذه المقالة بإيجاز عن أسباب ظهور هذه المنهجية ومبادئها الأساسية وخطوات تطبيقها.
البداية
قد يتساءل البعض عن سبب ارتفاع نسبة الفشل التي أشير إليها في بداية هذا المقال. وقد يخطر ببال البعض الآخر أن يسأل: أليس من المفترض بالمتخصصين في علوم إدارة الأعمال أن يكونوا على علم بالمشكلة ودراية بكيفية حلها؟ وإذا كان هذا صحيحا، فكيف نفسر نسبة الفشل المرتفعة في ضوء كل هذا الانتشار والإقبال على علوم إدارة الأعمال؟
للإجابة عن هذه الأسئلة، لا بد لنا أن نعود قليلا إلى أصل نشوء علم إدارة الأعمال. فقد كان مقرر جامعة هارفرد لإدارة الأعمال، الذي ظهر عام 1908، وكان أول برنامج أكاديمي في الولايات المتحدة. ظهر بعد سنين طويلة من بدء نهضتها الاقتصادية وظهور العديد من الشركات التي كانت تعمل على مستوى الولايات المتحدة ككل، حيث ظهرت الحاجة لتجميع جميع الخبرات والمعرفة الإدارية وتقديمها بأسلوب علمي وأكاديمي.
وعلى الرغم من كل التقدم الذي تحقق على صعيد علوم إدارة الأعمال منذ ذلك الحين وعلى مدى القرن المنصرم، فإن تركيز معظم تلك العلوم كان على إدارة الأعمال والمؤسسات القائمة والموجودة مسبقا وتقديم الأدوات اللازمة لإدارة تلك المؤسسات بفاعلية وكفاءة: من التخطيط إلى المحاسبة والاستراتيجية إلى إدارة الموارد البشرية وغيرها، ولكن الشيء المهم الذي يجب إدراكه هو أنه، وحتى وقت قريب جدا، لم تكن هناك أدوات حقيقية تساعد على تأسيس أعمال ومؤسسات جديدة لم تكن موجودة مسبقا.
وهنا تطرح منهجية اللين القيام بدور حيوي عند القيام بتأسيس مشاريع جديدة. وهي منهجية صاعدة تطورت خلال السنوات الأخيرة، تقوم على فكرة جوهرية ومهمة، فحواها أن الشركات الناشئة ليست نسخة مصغرة عن الشركات والمنظمات القائمة، وأن اختلاف تلك الشركات الناشئة عن نظيراتها القائمة ليس اختلافا في حجم المؤسسة أو عدد عامليها، بل هو اختلاف في الوظيفة الأساسية لكل منهما: ففي حين تكمن وظيفة الشركة القائمة في تنفيذ أنموذج عمل business model يحقق لها الربح، فإن وظيفة الشركة الناشئة هو البحث عن ذلك الأنموذج الذي لم يتم التوصل إليه بعد.
وبناء على هذا التمييز، بين مهمة البحث عن أنموذج العمل وبين تنفيذه، فإنه يمكننا أن نستنتج أننا بحاجة لأدوات وطرق تفكير مختلفة للقيام بكل من المهمتين، وأن معظم ما لدينا اليوم من علوم إداره يقع تحت بند تنفيذ نماذج الأعمال وإدارة المؤسسات القائمة. ومن هنا يتبين لنا حجم الخطأ الفادح الذي يرتكبه الرياديون عندما يقومون بتطبيق علوم إدارة الأعمال على شركاتهم الناشئة. فالأدوات التي تقدمها علوم إدارة الأعمال ليس عديمة الفائدة فحسب، بل قد تكون أحد أهم الأسباب الأساسية لفشل تلك الشركات، وهذا ما سنحاول أن نتبينه خلال هذا المقال.
وهم خطة العمل
من المعلوم تماما في أوساط الرياديين أن الخطوة الأولى المتعارف عليها لبدء مشروع ما، هو وضع خطة عمل business plan، تتضمن توصيفا للمشكلة أو الفرصة وحجمها. كما قد تتضمن عادة خطة مالية على خمس سنوات للنفقات والموارد المتوقعة للمؤسسة أو الشركة.
وبعد توصل الريادي إلى خطة عمل مقنعة، وحصوله على التمويل من المستثمرين، فإنه يبدأ بعملية تطوير المنتج، حيث يسخر المطورون والمهندسون مئات من ساعات العمل لإعداد المنتج للإطلاق، ويحصل ذلك بمعزل تام عن ملاحظات أو آراء المستخدمين أو الزبائن، حيث يحصل مثل هذا الأمر إلا بعد أن يتم إطلاق المنتج وتبدأ العملية الفعلية لبيعه. وفي غالب الأحيان وبعد أشهر أو سنوات من التطوير، يكتشف هؤلاء الرياديون، أن الزبائن لا يحتاجون أو لا يرغبون في معظم ميزات ذلك المنتج الذي أنفقوا جهودا مضنية في تطويره، وهو أمر لم يكن بالحسبان في خطة العمل التي أنفقوا ربما وقتا أطول في العمل عليها.
وهنا نواجه حقيقة تأكدت من خلال التجارب المختلفة على مدى العقود المنصرمة، مفادها أن خطط العمل نادرا ما تصمد أمام تحديات أول احتكاك وتفاعل مع الزبائن.
ولكن ما الذي يمكن أن تقدمه منهجية اللين في مواجهة هذه المشكلة؟ وهل يعني هذا أن علينا أن نتخلى عن التخطيط المسبق؟
الجواب بالتأكيد هو لا. ذلك أن المهم، وما يجب التركيز عليه، كما يقول ستيف بلانك Steve Blank، أحد أهم مؤسسي منهجية اللين، هو عملية التخطيط ذاتها، وليس الخطة. إن ما يجب أن نهتم به هو أن نضع خطة تكون مبنية على حقائق فعلية، وهنا يأتي الأساس الأول الذي تقوم عليه منهجية اللين، وهو أن كل ما لدى الرياديين القابعين وراء مكاتبهم في اليوم الأول من الشركة، هو مجرد أفكار وتوقعات جيدة، أو بالأحرى فرضيات بحاجة للاختبار والتحقق. ولهذا فإن ما يقوم به الرياديون هو تنظيم أفكارهم وفرضياتهم ضمن مخطط أنموذج العمل Business Model Canvas، بدلا من وضع خطة عمل خمسية. وهذا المخطط مخصص لتمثيل الطريقة التي تحصل فيها الشركة على الربح من خلال ما تقدمه لشرائح الزبائن وما تحصل عليه في المقابل، كل ذلك على ورقة واحدة من خلال تسليط الضوء على العناصر الأهم في الشركة والتي يجب ان يفكروا بها في اللحظة الأولى، وليس في خطة العمل أو الهيكلية الإدارية كما سنرى لاحقا.
في مخطط أنموذج العمل المثبت أعلاه تسعة عناصر أساسية. والعنصر الأهم في هذا المخطط هو شرائح الزبائن المختلفة وهو موجود في أقصى اليمين، ولدينا في الوسط القيمة المقدَّمة، وهي مجموعة الخدمات والمنتجات التي تقدمها المؤسسة، وبين هذين العنصرين لدينا طبيعة العلاقة مع هؤلاء الزبائن وطرق التواصل معهم، أما على يسار القيمة فنجد كلا من الموارد الموجودة لدى الشركة والأنشطة التي تقوم بها من أجل تحقيق هذه القيمة، فضلا عن الشركاء وهم المنظمات والشركات الذين يرفدون كلا من هذه الموارد والأنشطة، والذين تعتمد عليهم الشركة في إيصال قيمتها. وعلى جانبي المخطط نجد كلا من الموارد والتكاليف، حيث يفترض بموارد نموذج العمل الناجح ان تفوق تكاليفه.
وبعد القيام بتمثيل المشروع على هذا المخطط فإن الخطوة التالية هي الأكثر أهمية وخطورة في نجاح المشروع. فبدلا من عَدِّ هذا الأنموذج حقائق مسلماً بها، يُنطلق منها لتنفيذ المنتَج النهائي مباشرة، فإن المطلوب هو التعامل مع كل ما هو مطروح في ذلك الأنموذج على أنه مجرد فرضيات لا يمكن التأكد منها والبرهنة عليها إلا من خلال التجريب والاحتكاك مع الواقع. وبناء على هذا الأمر فإن جوهر مهمة الشركة الناشئة يكمن في البحث ومن ثَم الوصول إلى أنموذج العمل الصحيح. وعند الوصول إلى هذا الأنموذج فإن الشركة تغدو بالفعل مستعدة لبدء التحول إلى شركة قائمة، وعندها تنتقل مهمتنا إلى تنفيذ هذا الأنموذج وتوسيعه، كما يحصل فعلا في الشركات القائمة والتي توصلت إلى نماذج أعمال ناجحة. وعند الوصول إلى ذلك، وفي هذه الحالة فقط، يمكننا أن نتحدث عن خطة عمل مبنية على معطيات وحقائق فعلية وليس على مجرد توقعات.
الخروج من المبنى
ولكن بعد أن وضعنا أفكارنا ونظمناها ضمن مخطط أنموذج العمل فإن علينا أن نتبين كيفية التحقق من تلك الفرضيات والأفكار التي طرحناها؟ وهنا يأتي في الحقيقة مبدأ مهم من مبادئ اللين هو “الخروج من المبنى”، أو ما يسمى عملية تطوير الزبون customer development.
وهذه العملية هي في الحقيقة العملية المقابلة لتطوير المنتج product development، وهي العملية التي تقوم الشركات القائمة بتنفيذها عند إطلاق الأفكار او المنتجات الجديدة، وتتألف من عدة مراحل، تمضي جميعها باتجاه واحد دون عودة من مرحلة إلى مرحلة: بدءاً من مرحلة الفكرة أو المفهوم، التي تتلوها عملية التطوير، فعملية الاختبار، وأخيرا تأتي عملية الإطلاق. وفي كل مرحلة من المراحل تعمل عدة فرق على التوازي، ففريق التسويق على سبيل المثال يقوم في المراحل المبكرة بإعداد المواد الخاصة بالإعلان أثناء تحضير المنتج، وأثناء مرحلة الاختبار وقبيل الإطلاق يتم تسريب الأخبار وإنشاء الضجة الإعلامية المبكرة، وأخيرا يتم إطلاق المنتج في حدث احتفالي ضخم. هذه المراحل تمر بها أيضاً وعلى التوازي كل من فرق المبيعات، والأعمال، والمطورين.
وبالنسبة للمطورين بالذات فإن مراحل عملهم هذه تعرف في الهندسة بأنموذج التطوير الشلالي waterfall development. ويقوم هذا الأنمودج على تقسيم العمل إلى مراحل منفصلة هي: جمع المتطلبات وفهم المشكلة، ثم الانتقال إلى تصميم الحل، وبعدها تنفيذه، ثم اختباره والتأكد من تحقيقه للمتطلبات، وأخيرا متابعة تخديمه وصيانته. وكما تقدم فإن عملية التطوير هذه اشتقت صفتها من الشلال بسبب اعتماد مبدأ الذهاب من مرحلة إلى مرحلة باتجاه واحد، دون أي عودة إلى الوراء.
ومرة أخرى لنحاول أن نكتشف الخطأ الذي يحصل عندما نطبق ما نراه في الشركات القائمة على شركاتنا الناشئة. فما هي بالتحديد المشكلة الكامنة في مراحل عملية تطوير المنتج وفي أنموذج التطوير الشلالي؟
المشكلة هي عدُّ تصورنا عن كلٍ من المشكلة والحل، حقائق مسلم بها، في حين أن كل ما لدينا في البداية هو مجرد فرضيات لم نتأكد منها بعد، وقيامنا بمعاملة هذه الفرضيات على أنها حقائق، واستثمار معظم مواردنا من وقت ومال وجهد، وهي موارد محدودة في النهاية، في بناء منتَج ما، لسنا متأكدين بعد فيما إذا ما كان هو المنتَج الصحيح الذي يلبي حاجة المستخدمين أو الزبائن.
وإذا علمنا أن السبب الأكبر لفشل الشركات لايكمن في تطوير منتجاتها وإنما في الحصول على زبائن، فإننا نستطيع تصور أهمية طرح عملية “تطوير الزبون” كمقابل لعملية “تطوير المنتج” في منهجية اللين. فما يجب علينا أن نركز عليه، في مرحلة الشركة الناشئة هو فهم احتياجات الزبون ومشاكله، وبناء المنتجات أو الحلول التي تتوافق معها، وأن يكون ذلك من خلال التجربة والحقائق على الأرض، وعندما نصل إلى هذه النقطة، وبعد أن نكون قد “طورنا الزبون”، يمكننا أن نلتفت إلى عملية تطوير المنتج النهائي وبناء الشركة على نطاق أوسع.
ولا بد لنا، من أجل تطبيق عملية تطوير المنتج، أن نطبق منهجية يعود أصلها أيضاً إلى هندسة البرمجيات، وهي منهجية الأجايل. فبدلا من تطوير منتج كامل بخمسين ميزة، نقوم من خلاله بتنفيذ تصورنا الشامل عن المشكلة والحل، فإننا في منهجية الأجايل، نقوم بتطوير ما يسمى “بمنتج بالحد الأدنى القابل للتطبيق” Minimum viable product أو اختصارا MVP، نقوم من خلاله بتنفيذ ميزة أو ميزتين من مزايا المنتج، مزايا يجب ان تكون كافية حتى نستطيع الحصول على تغذية راجعة من الزبون feedback، وهذه التغذية الراجعة هي التي ستمكننا من اختبار فهمنا للمشكلة والحل وتعلم المزيد من الحقائق عن هذا المنتَج.
وتنقسم عملية تطوير الزبون إلى قسمين وأربعة مراحل. في القسم الأول والمرحلة الأولى والثانية يكون تركيز الشركة أو المؤسسة على البحث عن أنموذج العمل الأنسب، وفي القسم الآخر والمراحل المتبقية يكون التركيز في المقابل على البدء بتنفيذ أنموذج العمل وتوسيعه لزبائن أكثر وبناء للشركة على هذا الأساس.
وعبر المراحل يأخذ منتج MVP أشكالا متعددة تخدم أهداف عملية تطوير الزبون. ففي المرحلة الأولى من مراحل عملية تطوير الزبون، وهي مرحلة “اكتشاف الزبون” customer discovery، نهدف إلى اختبار صحة تصوراتنا وأفكارنا عن مشكلة الزبون و حاجاته من جهة، ومدى الحاجة إلى المنتج أو الخدمة المقدمة من جهة أخرى, ففي هذه المرحلة يكون المنتج كافيا من أجل عملية الاختبار فقط. فلو كان المنتج موقع ويب، أو تطبيق موبايل، فإن صورة أو مخططاً عن واجهة التطبيق أو الموقع هو أمر كاف لمعرفة الكثير عن آراء الزبائن وملاحظاتهم ، وشكل منتج MVP يتغير بتنوع مجالات المشاريع، بدءاً من النماذج البلاستيكية أو الخشبية عندما نتحدث عن منتجات فيزيائية، وقد يكون ورشات وأنشطة مبسطة إذا كنا نتحدث عن برنامج أو مؤسسة تعليمية، وهذا ما يسمى بمنتج MVP قليل الدقة low-fidelity MVP.
أما في المرحلة الثانية من مراحل تطوير الزبون وهي مرحلة “التحقق من الزبون” customer validation، فإن الشركة تقوم حقا بتطوير منتج MVP بعدد محدود من الميزات، ولكنها تقوم بإعداده وتهيئته لعملية بيعه بشكل حقيقي وليس لمجرد اختباره كما كان الحال في المرحلة السابقة، وهذا ما يسمى بمنتج MVP عالي الدقة high-fidelity MVP. وأما عن هدف هذه المرحلة، فيجب أن نعلم أنه لا يكفي أن يتم بناء منتج يحل مشكلة الزبون، ولكن يجب أن يكون متوازياً مع استعداد ذلك الزبون ورغبته وقدرته على الدفع، وهذا ما يسمى بتوافق المنتج والسوق product-market fit، أي توافق الحل الذي نطرحه مع المشكلة الموجودة، وعندما تصل الشركة إلى التحقق والتأكد الفعلي من هذه النقطة، يمكنها أن تعتبر أنها توصلت إلى أنموذج عمل الشركة المناسب الذي ينبغي البدء بعملية توسيعه، وتبدأ بعدها المرحلة الثالثة والرابعة، وهما مرحلة “إنشاء الزبون” customer creation ومرحلة “بناء الشركة” company building، وهما المرحلتان اللتان ينتقل فيهما تركيز الشركة، من البحث عن أنموذج العمل المناسب، إلى بدء عملية تنفيذه وتوسيعه على نطاق أكبر.
ولكننا لم نصل إلى الفرق الجوهري الذي يميز عملية تطوير المنتج عن عملية تطوير الزبون، فثمة فرق آخر غير التركيز على الزبون، وهو أن عملية تطوير الزبون ليست عملية خطية بل تكرارية. ففي كل مرحلة، وبعد كل تغذية راجعة من الزبون، هناك إمكانية لتعديل المنتج وتطويره وطرحه مرة أخرى بعد التعديل، حتى يتم تحقيق هدف المرحلة. ويمكن باستمرار الانتقال والعودة إلى مرحلة سابقة عندما تتبين الحاجة لذلك. وهذا ما يسمى بالتكرار iteration عندما يكون التعديل بسيطاً، والإعادة pivot عندما يكون التعديل جوهرياً.
وإذا عرفنا أن ثلثي الشركات الناشئة التي نجحت وازدهرت، كانت قد قامت بتعديل خططها وتصوراتها التي بدأت بها، فإننا يمكننا أن نرى بوضوح عظمة منهجية اللين. فالقاعدة الأساسية للنجاح هي الفشل بسرعة والتعلم بشكل مبكر والوصول إلى المنتج وأنموذج العمل الصحيح قبل نفاد موارد الشركة الناشئة المحدودة، ومنهجية اللين هي التي تساعدك على أن تقوم بهذا بشكل منهجي ومدروس.
المؤسسون هم العاملون
وهنا نصل إلى المحطة الأخيرة من الأفكار المغلوطة التي نطبقها في شركاتنا الناشئة. فالعديد من الرياديين المتحمسين عندما يريد أن يبدأ بتنفيذ مشروعه، فإن أول ما يخطر بباله هو أن يضع هيكلية إدارية وظيفية شبيهة بالهيكلية الإدارية للشركات القائمة، التي تتضمن غالبا أقساما خاصة للتطوير والإعلان والتسويق والمبيعات وغيرها من الوظائف التي تقوم بها المنظمة أو الشركة. وحسب هذا التصور فإن مهمة المؤسسين وأصحاب الفكرة هو وضع الرؤية والاستراتيجية الخاصة بهذه الشركة، في حين تكمن مهمة تلك الأقسام الخاصة في تنفيذ تلك الرؤية أو الاستراتيجية، مما يعدّ أحد أكبر الأخطاء ومن ثَمَّ أحد أسباب الفشل في منهجية اللين، وما تطرحه منهجية اللين في هذا السياق هو أن الشركة الناشئة التي ما زالت تبحث عن أنموذج العمل المناسب لا ينبغي لها أن تتضمن هذه الأقسام الوظيفية المنفصلة. وبدلاً من ذلك هناك فريق تطوير الزبون customer development team، والمؤسسون جزء من هذا الفريق، الذي تكمن وظيفته في القيام بتنفيذ عملية تطوير الزبون التي سبق الحديث عنها في القسم السابق.
ويلخص ستيف بلانك أهمية هذا الأمر بالعبارة المضحكة التالية “عندما يحصل خطأ ما، فإننا نطرد الفكرة، ولا نطرد الموظفين”. فالرؤية والفكرة تكون موجودة فقط عند المؤسسين، وعندما يتم جلب موظف فإن مهمته تنحصر في التنفيذ، ومن ثَمَّ فإنه عندما يخبِرُ موظف التسويق مؤسس الشركة أن المنتج لم يعجب الزبائن أو أن بعض ميزاته غير مهمة، فإن ردة الفعل الأكثر احتمالا من المؤسس هو أن سبب الفشل إنما يعود إلى موظف التسويق الذي يلام على فشله في شرح فكرة المنتج أو تسويقها.
ومثل هذا الكلام قد يكون صحيحا في شركة قائمة لها زبائنها ومنتجاتها، ولكن عندما نتحدث عن شركة ناشئة لاتزال تبحث عن أنموذج عملها، وعن زبائنها الذين تستطيع أن تقدم لهم الخدمة المناسبة، فإن الاحتمال الأكبر هو أن يكون سبب الخطأ من الفكرة نفسها وليس من الموظفين، وما يجب فعله في هذه الحالة هو تعديل أو تغيير المنتج أو أنموذج العمل، من خلال الانتقال والعودة والتكرار الموجود في عملية تطوير الزبون. والمؤسسون هم الأشخاص الوحيدون الذين يمتلكون القدرة والصلاحية على تغيير أنموذج العمل وتغيير خصائص المنتج، ومن ثَمَّ فإنه لا بد من انخراط المؤسسين في جميع عمليات البيع والتسويق والتطوير، وبالتالي لا بد من أن تكون كل هذه العمليات موضوعة بين أيدي فريق واحد يديره المؤسسون هو فريق تطوير الزبون.
الخاتمة
وهكذا يتبين لنا الطريقة التي تُغير فيها منهجية اللين من نظرتنا للريادة وللأدوات التي نحتاجها بحق من أجل تأسيس شركات وأعمال ناجحة. وعلى الرغم من بساطة هذه المبادئ فإن على الريادي بداية أن يفكر في فرضياته وتصوراته عن شركته ومنتجه ضمن إطار مخطط أنموذج الأعمال، وأن ينطلق خارج المبنى، إلى الزبائن والمستخدمين ليستكشف احتياجاتهم ومشاكلهم، ويبني منتجه ببداية بسيطة ويطوره بشكل تدريجي يختبر من خلاله فهمه وتصوره عن المشكلة والحل، ويقوم بهذا الأمر بنفسه مع بقية المؤسسين وأصحاب الفكرة، ويستمر في هذا الطريق بين تكرار وعودة إلى أن يصل إلى أنموذج العمل المناسب الذي تلتقي فيه الحاجة أو مشاكل الزبائن مع المنتج أو الخدمة التي يقدمها، عندها فقط يقوم بالانتقال إلى مرحلة تنفيذ أنموذج العمل، وبدء استخدام أدوات إدارة الأعمال التقليدية، وبناء منظمة باختصاصات وظيفية حول أنموذج عمله وشركته الناجحة.
وإذا اقتنع الريادي بأهمية هذه المبادئ، فالطريقة الأمثل لتعلم منهجية اللين هو عن طريق بناء مشروع أو شركة حقيقية، واستخدامه للأدوات والمفاهيم التي تطرحها منهجية اللين أثناء عمله على هذا المشروع. ليس أمامه شيء لينتظره!
لقد تم إعداد هذا المقال بالاعتماد بشكل كبير على مقالة ستيف بلانك: “كيف ستغير منهجية اللين كل شيء” في مجلة هارفرد للأعمال HBR، بالإضافة إلى مقرره المفتوح على موقع Udacity.com المعنون “كيف تبني عملا ناشئا” How to build a startup. وتم تلخيص وإعادة صياغة المحتوى وتبسيطه لتقديمه إلى القارئ والريادي العربي وتشجيعه على تعرف هذه المنهجية بشكل أفضل. لهذا ينصح بالاطلاع على هذين المصدرين، كما ينصح بالاطلاع على سلسلة مصورة صدرت مؤخراً تشرح تطبيق منهجية اللين وإطار أنموذج العمل جنبا إلى جنب، بدءاً من الفكرة وانتهاء بالتنفيذ النهائي للمشروع.
الكاتب: الأمجد توفيق بن عبد النبي اصطيف
*المقال حاز على جائزة 500 دولار في مسابقة أفضل مقال في مجال ريادة الأعمال