الحروب الصليبية The Crusades.شنتها أوروبا على العرب وإفريقيا الشمالية

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الحروب الصليبية The Crusades.شنتها أوروبا على العرب وإفريقيا الشمالية

    حروب صليبيه

    The Crusades - Les croisades

    الحروب الصليبية

    كانت الحروب الصليبية التي جردتها أوربا الغربية على المشرق العربي وإفريقيا الشمالية في القرون الثلاثة (الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر الميلادي) انعطافاً خطيراً في تاريخ أوربا العصور الوسطى، لأنها كانت في الظاهر مشروعاً لخلاص بيت المقدس وقبر السيد المسيح من أيدي المسلمين، ولكنها استهدفت عن طريق مباشر أو غير مباشر الاستيلاء على الأرض المقدسة وبلاد الشام.
    إن أولى مشكلات البحث في الحروب الصليبية تتمثل في المصطلح ومدلولاته المختلفة ولاسيما إذا كان المصطلح ذاته يحمل تناقضاً بين دلالته اللغوية وحقيقته التاريخية.
    في القرن الثاني عشر الميلادي ظهرت الكلمة اللاتينية Cruse Signati أي «الموسوم بالصليب» لأنهم كانوا يخيطون صلبان القماش على صدورهم وعلى الكتف الأيسر لستراتهم، أما المؤرخون العرب الذين عاصروا الهجوم الصليبي فإنهم لم يستخدموا مصطلحات مثل «الصليبيين» أو «الحملة الصليبية» وإنما تكلموا عن «الفرنج» أو «حركة الفرنج».
    وفي القرن الثامن عشر ميلادي ابتكرت الكلمة الإنجليزية Crusade «الحملة الصليبية» والكلمة الألمانية Kreuzzug ووقع المؤرخون العرب فيما بعد في شباك الترجمة عند الأوربيين وبدؤوا يستخدمون مصطلح «صليبي» و«حملة صليبية» في تناولهم للظاهرة التي درج أسلافهم على معالجتها تحت مصطلح الفرنج، ووجه الخطورة في هذا المصطلح عندما يستخدم في اللغة العربية، أنه يوحي بأن الحركة كانت حركة دينية ترتبط بالصليب رمز المسيحية، ولا تضعها في إطارها الصحيح باعتبارها مغامرة استيطانية متعصبة.
    ومن ناحية أخرى فإن استخدام هذا المصطلح يظلم المسيحيين الشرقيين الذين عانى قسم كبير منهم من وحشية الفرنج وعدوانهم.
    حددت كتب التاريخ المدى الزمني للحروب الصليبية بين سنتي 493-691هـ/1098-1291م، ولكن هذا التحديد في الواقع لا يعني سوى الدور الحاسم في تلك الحركة، وهو تحديد لا يقوم على أساس سليم، لأن الحركة الصليبية، بمعناها الواسع لها جذور ومقومات سبقت سنة 492هـ/1098م فحركة الريكونكويستا الإسبانية (أي حركة الاسترداد) كانت في الواقع حملة صليبية باكرة، وإرهاصاً سابقاً للحركة الصليبية حينما استولى ألفونسو السادس Alfonso VI ملك قشتالة على طليطلة سنة 478هـ/1085م.
    كما استمرت هذه الحروب بعد سقوط عكا سنة 691هـ/1291 إلى القرن الخامس عشر عندما استولى فرديناند ملك أرغون وإيزابيلا ملكة قشتالة على غرناطة آخر معاقل العرب في إسبانيا سنة 898هـ/1492م.
    إن تحديد الحملات الصليبية بثماني حملات يرجع إلى شهرتها، فقد اتجهت أربع حملات منها نحو الشام (الأولى، الثانية، الثالثة، السادسة) واثنتان إلى مصر (الخامسة والسابعة) والرابعة إلى القسطنطينية، والثامنة نزلت شمالي إفريقيا، وعلى الرغم من أن الحروب الصليبية اتخذت الصفة الدينية وكان للحماس الديني دوره الكبير، فإن هذه الحركة الصليبية انبعثت عن الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية التي سادت غربي أوربا في القرن الحادي عشر، ولم تكن الحروب الصليبية وليدة أحد هذه الأوضاع والعوامل فحسب، وإنما هي نتيجة لتفاعل جميع العوامل السابقة.
    وكان السبب المباشر لانطلاق الحملة الصليبية الأولى ، المجمع الديني الذي عقده البابا أوربان الثاني Urban II في بياتشنزا Piacenza في إيطاليا في آذار 1095م/488هـ ودعا إليه الأساقفة من إيطاليا وبورغونية وفرنسا... وغيرها. ومَثُلَت سفارة من القسطنطينية أمام هذا المجمع، ومعهم طلب من الامبراطور البيزنطي إلى البابا، لكي يحث المحاربين الغربيين على مساعدة الامبراطورية الشرقية وإنقاذها من السلاجقة المسلمين الذين كانوا قد سيطروا على أقسام واسعة من أسيا الصغرى واسترجعوا أنطاكية من البيزنطيين. ووجدت البابوية في السفارة البيزنطية وطلب النجدة تحقيقاً للسمو البابوي على الملوك والإقطاع معاً والسيادة على العالم المسيحي، وفرصة لصرف خطر النورمانديين عن صقلية وجنوبي إيطاليا، وتوجيه نشاطهم للقتال في حرب مقدسة ضد العرب والإسلام، وفي تشرين الثاني 1095م/489هـ، ألقى البابا أوربان الثاني خطبة في الحشود التي اجتمعت في حقل فسيح بعد انتهاء مجمع كليرمونت الديني، دعا فيها إلى شن حملة مقدسة مسلحة باسم الرب بوصفه نائباً عنه في الأرض، وحث ملوك الغرب على نبذ خلافاتهم والانصياع إلى أوامره، ليتفرغ مسيحيو الغرب لما أسماه البابا حرب الله Guerre de Dieu أي الحرب المقدسة ضد العرب والمسلمين، وأشار البابا إلى منح الغفران لكل من سيشارك في هذه الحملة، سواء من مات في الطريق إلى الأرض المقدسة، أو قتل في الحرب ضد المسلمين.
    انقسمت الحملة الصليبية الأولى إلى مرحلتين: الحملة الشعبية، وحملة الأمراء، قاد الحملة الشعبية (489-490هـ/1095-1096) الراهب بطرس الناسك، ضمت تشكيلة متنوعة من المشردين وقطاع الطرق وغيرهم، وانضمت إلى مجموعة أخرى بقيادة والتر المفلس Walter der Arme ومارسوا السلب والنهب، وحتى الكنائس لم تنج من إجرامهم، وهاجم السلاجقة الحملة وأبادوها عن بكرة أبيها، وقتل والتر المفلس وهرب الناسك إلى أوربا ثم التحق بحملة الأمراء.
    أما حملة الأمراء (490-493هـ/ 1096-1099م) فقد كانت حملة منظمة قادها كثير من أمراء أوربا، منهم الدوق جود فري دي بويون Godfrey d’Bouillon وأخوه بلدوين من فرسان اللورين، وريموند أمير تولوز (طلوشة) وبصحبته المندوب البابوي، والكونت بوهمند من سادة ترنتو، وكان يحلم بإقطاع مملكة له ولجنوده النورمان من الأملاك البيزنطية في الشرق الأدنى، وكان معه ابن أخيه تانكريد الهوتفيلي Tancred of Hauteville، ونجحت الحملة الصليبية الأولى في تأسيس ثلاث إمارات ومملكة، هي إمارة الرها، أولى الإمارات اللاتينية في الشرق (492هـ/1098م) ثم إمارة أنطاكية في السنة نفسها، ومملكة بيت المقدس في15تموز 493هـ/ 1099م، والتي ارتكب فيها الصليبيون أبشع أساليب الإجرام والقتل، أما إمارة طرابلس فقد تأسست سنة 503هـ/1109م.
    أما الذي مهد الطريق لهذا الاجتياح الصليبي،فهو التمزق السياسي الذي كانت تعاني منه بلاد الشام، وعجز الخلافة العباسية عن القيام بدور فعال في حركة الجهاد والمقاومة، كما أن الخلافة الفاطمية في القاهرة كانت تمر بمرحلة الضعف والشيخوخة، وتعاني أزمات سياسية نتيجة ضعف الخلفاء وتكالب الأعداء وتنافس الوزراء على الحكم.
    كان لسقوط بيت المقدس في أيدي الصليبيين أكبر الأثر في انبعاث حركة المقاومة والجهاد، وتحملت إمارات السلاجقة العبء الأكبر في قتالهم، وحققت انتصارات باهرة في معارك عدة، منها معركة حرَّان، ومعركة ساحة الدم، كما عرفت عند المؤرخين اللاتين، ولكن تلك الانتصارات لم تصل إلى درجة التحرير، لعجز إمارات السلاجقة عن تحقيق أي اتحاد، وبقيت المقاومة محدودة نحو ثلاثين سنة حتى ظهر عماد الدين الزنكي بن آقسنقر صاحب الموصل ليقود حركة الجهاد والمقاومة العربية الإسلامية، فطوَّع قوته وموارده في خدمة الجهاد ضد الصليبين، وبدأ بتوحيد وتماسك الجبهة العربية الإسلامية في الشام والجزيرة، فبعد أن ملك بعض البلاد الجزرية التي كانت بيد الأراتقة، ضم سنة 522 هـ حلب باعتبارها أهم مركز في شمال الشام يمكن اتخاذه نقطة انطلاق لمواجهة الصليبيين، وتمكن عماد الدين في المدة الواقعة بين 524-538هـ/1129-1143م من توسيع رقعة دولته بضم كل من حماه وحمص وبعلبك إليها، وحررت قواته عدداً من المدن والحصون من أيدي الصليبيين، مثل الأثارب ومعرة النعمان وكفر طاب وبعرين وفي سنة 539هـ/1144م نجح في تحرير الرها، وأمر عماد الدين رجاله بإعادة ما أخذ من أهلها من أثاث ومال وسبي، ووجه رجاله لعمارة ما هدم منها وترميمها.
    أثار استيلاء المسلمين على الرها فزع العالم المسيحي الغربي، فبدأت الاستعدادات لإرسال حملة صليبية ثانية (541-543هـ/1146-1148م) على رأسها كونراد الثالث ملك ألمانيا ولويس السابع ملك فرنسا ، ولكن هذه الحملة فشلت منذ بدايتها، فقد وقع معظم رجال الحملة فريسة بأيدي المسلمين.
    لم يصل إلى الأراضي المقدسة سوى أعداد قليلة انضم إليها فرسان الداوية (المعبد) وفرسان القديس يوحنا (الاسبتارية) وهاجمت الحملة دمشق ومنيت بالفشل، وعاد كونراد ولويس إلى بلادهما، يجران أذيال الفشل.
    توفي عماد الدين زنكي سنة 541هـ/1146م غيلة بيد أحد مماليكه، ولكن وفاته لم تؤثر على حركة وحدة الشرق العربي والجهاد ضد الصليبيين، لأن ابنه نور الدين محمود حمل الراية وسار على نهج أبيه في تحقيق الوحدة وتحرير الأرض المغتصبة، فارتبط الجهاد من أجل الوحدة بالجهاد من أجل التحرير.
    استغل جوسلين الثاني صاحب الرها ـ الذي كان مقيماً بتل باشر غرب الفرات - وفاة عماد الدين زنكي وسار في عساكره إلى الرها واستردها من المسلمين، ولكن نور الدين هاجم الرها واستعادها في جمادى الآخر سنة 541هـ/1146م، كما حرر حصن إنّب (حصن من أعمال أعزاز من نواحي حلب) وحصن دلوك وانطرسوس. وضمَّ دمشق إلى حكمه سنة 549هـ بحسن سياسته وبجهود أسد الدين شيركوه وأخيه نجم الدين أيوب دون إراقة دماء المسلمين، وأحسن معاملة أهلها وأكرم الفقهاء وكبار الرعية وأبطل المكوس المفروضة على بعض محصولاتهم الزراعية. وفي سنة 559هـ/1163م استولى على حارم، كما حرر بانياس 560 هـ/1164م. وبلغت سراياه اللاذقية.
    وأهم ما شهدته تلك المرحلة السباق بين عموري (أما لريك الأول) ملك بيت المقدس ونور الدين محمود للسيطرة على مصر، إذ كانت الخلافة الفاطمية تعاني آلام الموت البطيء، وانتهى السباق بفوز نور الدين وذكر اسم الخليفة العباسي في الخطبة سنة 567هـ/1171م في مسجد عمرو بن العاص في القاهرة، وكان الخليفة الفاطمي العاضد طريح الفراش، ومات بعد أسبوع من دون أن يدري أنه آخر الخلفاء الفاطميين.
    توفي نور الدين في دمشق سنة 569هـ/1174م، ودفن فيها تاركاً لصلاح الدين الذي كان الخليفة العاضد عيَّنه وزيراً له، مهمة إتمام رسالته بتوحيد البلاد وتحريرها.
    استطاع صلاح الدين بالحروب والسياسة في خمسة عشر عاماً أن يجمع الشمل ويوحد الأجزاء المتفرقة وأن يُكِّون جبهة عربية متحدة من الجزيرة والشام شمالاً إلى مصر والنوبة و اليمن جنوبا، ومن برقة غرباً إلى الفرات شرقاً، وأدرك صلاح الدين أن القضاء على مشروع الصليبيين للهجوم على مصر، لا يتم إلا بتصفية الوجود الصليبي في بلاد الشام، فدخل في حرب جدية حتى أنزل بهم هزيمة فادحة في معركة حطين[ر] 24 ربيع الثاني 583هـ/تموز 1187م. استمرت انتصارات صلاح الدين فسقطت المعاقل الصليبية الواحدة تلو الأخرى، فاستولى على عكا وجبيل وبيروت ثم حرر القدس ودخلها فاتحاً في رجب 583هـ/ تشرين الأول 1187م، وضرب أروع الأمثلة في التسامح والكرم والإنسانية في التعامل مع الأهالي والأسرى، ثم حرر قلعة الشقيف وحصن كوكب.
    كان سقوط بيت المقدس بأيدي العرب حادثة كبرى اهتز لها غربي أوربا مما عجّل بإرسال حملة ثالثة اشترك فيها فريدريك بربروسة إمبراطور ألمانيا، وفيليب الثاني ملك فرنسا وريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، وفي سنة 585هـ/1189م تحركت قوات الإمبراطور الألماني فردريك وسارت عبر الطريق البري الذي سارت عليه من قبل الحملة الصليبية الأولى، ولكن الإمبراطور لقي حتفه في نهر سلوقية في كيليكية، ولم يصل من جيشه إلى الأراضي المقدسة سوى شرذمة قليلة منهم، وأبحر ريتشارد على رأس جيشه من مرسيلية واستولى على جزيرة قبرص وبلغ عكا في حزيران 1191م، وكان فيليب قد سبق إليها، وحاصر الفرنج عكا مدة تسعة عشر شهراً واستولوا عليها بعد جهد بالغ، ولكن هذه القوى فشلت باسترداد القدس فانسحب فيليب عائداً إلى بلاده، وعقد ريتشارد مع صلاح الدين صلح الرملة سنة 588 هـ أبحر بعدها إلى إنكلترا، وهكذا نجحت الحملة الصليبية الثالثة بالاستيلاء على عكا، ولكنها لم تفلح في الاستيلاء على بيت المقدس.
    بقي صلاح الدين شهوراً قليلة في القدس ثم اتجه إلى دمشق حيث انتقل إلى جوار ربه في صفر سنة 589هـ/1193م ،وفقدت الأمة العربية بموته بطلاً من أبطالها.
    استمرت الحملات الصليبية باتجاه الشرق، فجاءت الحملة الصليبية الرابعة (599-601هـ/1202-1204م) وكان هدفها الأساسي احتلال مصر. وبينما كان الجيش يستعد للإبحار نحو مصر، نشبت ثورة في القسطنطينية، وخُلِع إسحاق الثاني وهرب ابنه إلى الغرب طالباً مساعدة البابوية وجموع الصليبيين، وتعهد بإخضاع الكنيسة الشرقية للبابوية ومساعدة الصليبيين في حملتهم.
    وهكذا تحولت الحملة الصليبية الرابعة عن هدفها الرئيسي ورسالتها الدينية، وقامت باحتلال القسطنطينية عام601هـ/1204م ودخلوها كالجراد، ونهبوا التحف والتراث ولم يتركوا أثراً فنياً أو أدبياً إلا أفسدوه، حتى الكنائس لم تنج من عبثهم، وكان غزو القسطنطينية أخطر ضربة نزلت بها منذ تأسيسها، فلا غرو أن ينظر البيزنطيون إلى الحروب الصليبية على أنها هجمات بربرية همجية.
    وفي سنة 614هـ/1217م اتجهت حملة صليبية خامسة نحو مصر، وكان الباعث عليها، أن الجمهوريات الإيطالية البحرية، أدركت أن مركز الثقل في السياسة الإسلامية قد انتقل من الشام إلى مصر، وأن سفنهم لا يتسنى لها الاتصال بالبحر الأحمر والمساهمة بتجارة المحيط الهندي الرابحة ما لم تتم السيطرة على وادي النيل، وبعد كفاح دام سنتين استطاع السلطان الكامل بن العادل بمعرفة أخويه الأشرف والملك المعظم أن يرغم الفرنج على التخلي عن دمياط، وأذن لهم بالرجوع إلى بلادهم بعد أن هلك منهم عدد كبير.
    كان فشل حملة دمياط ضربة موجعة لهيبة البابوية، لذلك أخذ البلاط البابوي يضغط بشدة لشن حرب صليبية جديدة يقودها الإمبراطور فريدريك الثاني إمبراطور ألمانيا وملك صقلية الذي تعهد بالقيام بالحملة، ولكنه تقاعس عن تنفيذ عهده عدة مرات، فغضب البابا غريغوري التاسع، وأصدر عام 625هـ/1227م قرار الحرمان الكنسي ضد الإمبراطور.
    كان فردريك الثاني من أبرز الشخصيات الأوربية في العصور الوسطى، أجاد اللغة العربية وتعلم على أيدي عدد من العلماء العرب المسلمين، وأظهر وداً واحتراماً كبيرين للمسلمين وعقائدهم، ولكنه وجد نفسه وعرشه في موقف بالغ الخطورة، فلما استنجد الملك الكامل الأيوبي به في أثناء خلافه مع أخيه المعظم، قبل مساعدته مقابل أن يعطيه «بيت المقدس» وغادر إيطاليا متجهاً نحو الشام سنة 626هـ/1228م, وتعد الحملة الصليبية السادسة من أغرب الحملات الصليبية، لأن قائدها محروم من الكنيسة، ولا يحمل حقداً أو تعصباً تجاه العرب المسلمين، كما أن القوة التي اصطحبها لا تدل على أنه جاء ليحارب.
    دارت مفاوضات طويلة بين السلطان الكامل الأيوبي والإمبراطور، وتم توقيع اتفاقية يافا بينهما، تقرر فيها أن يأخذ فردريك مدينة القدس، على أن تظل الصخرة المقدسة والمسجد الأقصى والحرم بأيدي المسلمين، ودخل فردريك القدس من دون قتال وصرح في كنيسة القيامة، أن قرار الحرمان الذي صدر بحقه باطل، وتوج نفسه ملكاً على بيت المقدس لأنه ليس باستطاعة أحد من رجال الكنيسة أن يقوم بهذه المهمة، وفي حزيران سنة 627هـ/1229م عاد الإمبراطور فردريك إلى أوربا.
    لم تبق القدس طويلاً بأيدي الصليبيين، فقد تمكن السلطان الصالح نجم الدين أيوب بن الكامل من استردادها سنة 642هـ/1244م، وبقيت القدس بيد العرب نحو سبعة قرون قبل أن يدخلها جيش أوربي، وبذلك أعاد الملك الصالح للبيت الأيوبي مكانته السابقة في قلوب العرب المسلمين.
    كانت عودة بيت المقدس إلى العرب السبب الرئيس لإرسال حملة صليبية سابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، فاحتلت دمياط واتجهت نحو الدلتا، وهناك منيت بهزيمة كبرى في معركة المنصورة، وأسر لويس التاسع وأطلق سراحه لقاء فدية سنة 648هـ/1250م.
    أبحر لويس وأتباعه إلى عكا في صفر سنة 648هـ، وبذلك انتهت الحملة الصليبية التي اقترنت بقيام دولة المماليك الأولى في مصر، وقد قام لويس التاسع أيضاً بحملة ثامنة إلى تونس لتحقيق حلمه، لكنه مات ومات حلمه معه.
    بعد استلام الظاهر بيبرس[ر] السلطة في مصر سنة658هـ/1260م، بدأ بتأمين حدوده، وقام باستعدادات دفاعية فبنى القلاع والأبراج وربط أنحاء دولته بشبكة من خطوط البريد البرية والجوية (بالحمام الزاجل) وأنشأ قوة بحرية واهتم بتقوية جيشه، ودخل بيبرس في عمليات حربية واسعة، فاستولى على المدن الساحلية (قيسارية 664هـ/1265م، وأرسوف وقلعة صفد 665هـ/1266م، وحرر يافا سنة 666هـ/1267م ثم حصن شقيف أرنون المنيع (قلعة حصينة قرب بانياس) كما حرر إمارة أنطالكية 667هـ/1268، وأخذ الوجود الصليبي يتلاشى رويداً رويداً. توفي الظاهر سنة 676هـ/1277 بعد أن عمل الكثير للأمة العربية والإسلامية. ورفع السلطان سيف الدين قلاوون (678-689/1279-1290م) راية الجهاد، فانتصر على الصليبيين في معركة قرب حمص سنة 680هـ/1281م وفتح حصن المرقب (على مقربة من طرطوس) الذي كان من أخطر القلاع والحصون الصليبية، كما فتح اللاذقية 685هـ/1286، وهي آخر بلد تبقى للصليبيين من أمارة أنطاكية، وفي سنة 688هـ حرر طرابلس، وفتح بيروت وجبلة، وتوفي قلاوون في الوقت الذي كان يستعد فيه لتحرير عكا.
    استلم الحكم ابنه الأشرف قلاوون (689 ـ 693هـ/1290 ـ 1293م) الذي سار على درب أبيه في محاربة الصليبيين، وأنزل بهم الضربة الختامية، حيث تمكن من تحرير عكا سنة 691هـ/1291م, وبذلك أسدل الستار على الحروب الصليبية في بلاد الشام، هذه الحروب التي حطمت أحلام كل من ساهم فيها أو دعا إليها على صخرة الصمود العربي والإرادة الصلبة.
    نتائج الحملات الصليبية في الشرق والغرب المسيحي
    أ- في الشرق:
    ـ خلفت الحملات الصليبية في الشرق العربي الخراب والدمار وقضت على زهرة أبناء البلاد وأضعفت قوة المسلمين، وجعلتهم أقل مقاومة ضد هجمات المغول.
    ـ اهتزت البنية السكانية، والنظام القيمي والأخلاقي وعلاقة القوى الاجتماعية اهتزازاً كبيراً .
    ـ سادت العملات الأوربية في الأسواق العربية، وغابت السيادة العربية على التجارة العالمية بين الشرق والغرب.
    ـ استنزفت الحملات الصليبية قوى الإبداع في الحضارة العربية الإسلامية ثم جمودها، مما أدى إلى تخلف المنطقة العربية، وصار النشاط الثقافي في القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، موجهاً نحو الحفاظ على التراث الفكري المجيد، أكثر من إثرائه بالإبداع والتجديد، وتدهورت الثقافة العربية الإسلامية في الشرق في أثناء الحروب الصليبية وانطفأت الأنوار المشعة في الهندسة والطب والموسيقى وغيرها.
    وازدهرت حركة التأليف التاريخي، على الرغم من بروز ظاهرة تأليف الذيول استكمالاً لكتاب آخر مثال: «التبر المسبوك في ذيل السلوك» للسخاوي ، ليكون منسوباً إلى كتاب المقريزي المشهور: «السلوك لمعرفة دول الملوك». وراج سوق الأدب الوصفي، وطرح الأدب الشعبي نفسه، فبرزت السير والقصص الشعبية مثل «ألف ليلة وليلة»، وراج سوق الخطابة، وانتشرت الطرق الصوفية في صفوف الدراويش. واقتبس العرب في فن العمارة عن الصليبيين العقد (القوس) الصليبي، وهو في الغالب من النوع المدبب للعقود البسيطة المتقاطعة الزوايا. كما اقتبسوا من مبتكرات الصليبيين لبس الدروع الثقيلة وإلباسها للخيول واستعمالهم الوسائد القطنية تحت الدروع.
    ب- في الغرب المسيحي:
    ـ أدت الحروب الصليبية إلى إضعاف أمراء الإقطاع وتصدع النظام الإقطاعي، وحل نظام القومية بين الشعوب من جهة، وتحررت المدن وازداد نفوذها فضلاً عن ازدياد قوة وثراء الملوك من جهة أخرى.
    ـ بثت الحملات الصليبية روح النشاط في الحياة المدنية الأوربية، لمعرفة الأوربيين بأساليب العرب التجارية والصناعية، فتعلموا من العرب علم تقويم البلدان، وكيف يرسمون خرائط للبحر المتوسط واستخدام البوصلة والاسطرلاب في الملاحة. وظهرت مدن تجارية جديدة منافسة للمدن الإيطالية، مثل مرسيلية وبرشلونة وبعض مدن الشمال.
    أما في ميدان الزراعة والصناعة فقد انتشر كثير من النباتات والحاصلات الجديدة في غربي البحر المتوسط، كالسمسم والخروب والدخن والأرز والليمون والبطيخ والبرقوق والبصل، وظل المشمس عدة سنوات يسمى «برقوق دمشق»، وجاءت إلى أوربا ـ لأول مرة ـ نباتات وصناعات جديدة، فشاع في الغرب استعمال القرنفل وغيره من التوابل، وأضيف الزنجبيل إلى قائمة الألوان التي أخذها الصليبيون من مصر، وكان الأوربيون حتى ذلك الوقت يستعملون العسل في تحلية أطعمتهم، وأخذوا عن الشرق زراعة قصب السكر، وكان السكر أولى الكماليات التي أدخلت إلى الغرب، وقد أصبح حجر الشب ونبات الصبر من العقاقير الجديدة التي شاع استعمالها في الغرب، وأصبح لدى الأوربيين غرام بالبخور وغيره من الصموغ العطرية التي تخرجها بلاد العرب والورد الدمشقي، والزيوت التي تخصصت في صنعها دمشق.
    ـ انتشرت في الأسواق الأوربية، الأقمشة المزركشة، والموصلين Muslin والمخمل والدمشقي Damsk والقطيفة والحرير وغيرها.
    وأدخل الصليبيون إلى بلادهم البسط والسجاجيد والفرش.
    ـ حلت المرايا الزجاجية محل المرايا المصنوعة من البرونز أو الصلب المصقول.
    ـ استخدم الأوربيون الزجاج الملون في قصورهم وكنائسهم وخاصة الكنائس القوطية.
    ـ ساعد تدفق الثروات من الشرق على تطور الحياة وازدياد عدد السكان ولاسيما في المدن وانتشر الغنى والترف وتراجع نفوذ الإقطاع وظهرت الطبقة البرجوازية.
    ـ كان أثر القصص العربية في الأدب الأوربي أكثر شمولاً ووضوحا،ً فإن بعض القصص المسيحية الدينية ـ كقصة الكأس التي استعملها المسيح في العشاء الأخير - كان لها أصل سوري، وترجمت قصص وحكايات إلى اللغات الأوروبية الحديثة منها «ألف ليلة وليلة»، وكتاب «كليلة ودمنة» وانتشرت قصص رحلات السندباد في أوربا، بعنوان «الرؤساء الحكماء السبعة» وغيرها.
    ـ كما ظهرت طبقة جديدة من المتخصصين بأمور الشرق، فقد ترجم أصطفان الأنطاكي 521هـ/1127م كتاب الطب الملكي لعلي بن عباس، وبقي هذا الكتاب عمدة الدراسة الطبية ستة قرون في مدارس أوربا الطبية.
    ـ زار إدلارد أف باث Adelard of Bath أنطاكية وطرسوس في فترة الاحتلال الصليبي، ونقل ترجمات فلكية وهندسية عن العرب إلى الغرب، وفي القرن الثالث عشر زار مصر وسورية أول أوربي كتب في الجبر وهو ليوناردو فيبوناتشي Leonardo Fibonacci، وهو الذي أهدى مؤلفه في الأعداد التربيعية إلى فردريك الثاني.
    ـ لم يعرف الغرب مستشفيات مخصصة للمرضى، إلا بعد الحملات الصليبية، وأنشئت مدارس للطب في مونبيلييه وكمبردج وغيرها وكانت كلها تستخدم الكتب العربية المترجمة إلى اللاتينية أساساً لتدريس الطب، وأنشئت كراسي للغة العربية في عدد من الجامعات الأوربية، منها جامعة باريس.
    ـ أخذ الصليبيون عن العرب كيفية تدريب الحمام الزاجل الذي كان من وسائل التراسل قبل ذلك بكثير، وأول من رتب له الجرايات ونظمه تنظيماً دقيقاً نور الدين محمود بن زنكي.
    ـ واقتبسوا استعمال «الرنوك» (شعار للملوك والأمراء الأتراك والمماليك) فقد كانت وسيلة للتعارف أولاً، ثم تطورت فغدت رمزاً للأسر والفرق العسكرية، وظهرت في أوربا في القرن الثاني عشر، واستخدمها الأمراء الإقطاعيون على أسلحتهم وقصورهم.
    ـ وفي مجال العمارة: تطور نظام بناء الحصون وطرق الدفاع في ألمانيا وبورغونية إبان الحملات الصليبية، إذ أخذ الصليبيون عن العرب الأساليب المعمارية في بناء القلاع والحصون، وطريقة جعل المدخل الموصل من باب القلعة إلى داخلها على شكل زاوية قائمة، أو جعله ملتوياً بحيث لا يمكن للعدو الذي بباب القلعة رؤية الفناء الداخلي لها، وقد شيدت القصور في فرنسا في القرن الرابع عشر الميلادي على هذا الطراز، وحمل الصليبيون معهم من إيطاليا ونورماندية قدراً كافياً من العلم بالمباني الحربية، ونقلوا بعضه إلى العرب، ويتجلى ذلك في بناء قلعة القاهرة، وكانت الحصون والكنائس هي مبانيهم الرئيسة،ولا يزال معظم تلك الحصون باقياً إلى اليوم، ومن بينها، حصن الأكراد، والمرقب، وشقيف.
    وجيه خشفة
يعمل...
X