حطييه
Al-Hutay’a - Al-Hutay’a
الحطيئة
(…- نحو 45هـ/ …- نحو 665م)
أبو مُلَيكة، جَرْول بن أوس، يُلَزُّ في بني عَبْس، من غَطَفان، ولم ينبُت فيهم، مُتَدافعٌ نسبُهُ بين قبائل العرب، لا يتورّع إذا أغضبته واحدةٌ منها أن يضرِب بنسبه إلى أخرى من دون سبب، لُقِّب بالحطيئة لقِصَره وقُربه منَ الأرض، شاعرٌ مخضرمٌ أدرك الجاهليّة وسلخ فيها دهرًا، والإسلامَ فأسلم ثمّ ارتدّ، ثمّ آب رقيقَ الدِّين، ذا شرٍّ وسَفَهٍ، لم يَحْسُن إسلامه، ولم تُحمد سيرته، يُعدّ في فحول الشّعراء ومتقدِّميهم وفصحائهم.
ارتدّ مع مُرتدِّي العرب، وخاض خَوضَهم فناصرهم بلسانه، وشدّ أسرهم بقوافيه، من ذلك قوله يحرّضهم على قتال المسلمين من كلمةٍ له:
أَلا كلُّ أَرْماحٍ قِصارٍ أَذِلَّةٍ
فِداءٌ لأَرْماحٍ رُكِزْنَ على الغَمْرِ
أَطَعْنا رسولَ اللهِ إِذْ كانَ صادقًا
فيا عَجَبًا ما بالُ أبي بَكْرِ
لِيُورِثَنا بَكْرًا إذا مات بَعْدَهُ
فتِلْكَ - وبيتِ الله - قاصِمَةُ الظَّهْرِ
كان هجّاءً فحّاشًا خوّاضًا في أعراض الخَلْق، لم يَكَدْ ينجو من لسانه أحد، إذ هجا أمّه وأباه وزوجه ونفسه، بأقْذَع الهجاء وأَمَضِّه، من ذلك قوله يهجو أمّه:
أَلَمْ أُوْضِحْ لكِ البغضاءَ منِّي
ولكنْ لا إِخالُكِ تفهمينا
حياتُكِ، ما عَلِمْتُ، حياةُ سوءٍ
وموتُكِ قد يَسُرُّ الصّالِحِيْنا
وقال يهجو امرأته:
أُطَوِّفُ ما اُطَوِّفُ ثمّ آوِي
إلى بيتٍ قَعِيْدَتُهُ لَكاعِ
وهَجا نفسه هجاءً لا يخلو من تَنَدُّرٍ وتَفَكُّهٍ، وذلك بعد أن سعى إلى التماسِ إنسانٍ يهجوه فلم يُصِبْهُ، وشقّ ذلك عليه، فقال بعد أنِ اطَّلَع على وجهه في حوضِ ماء فرأى قُبحه:
أَبَتْ شَفَتايَ اليومَ إلاّ تَكَلُّمًا
بِشَرٍّ فما أدري لِمَنْ أنا قائلُهْ
أَرى ليَ وجهًا شَوَّهَ اللهُ خَلْقَهُ
فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وقُبِّحَ حامِلُهْ
جاور الحطيئة الزِّبْرقانَ بن بدر، فلم يَحْمَد جواره، وتحوَّل عنه إلى بَغِيْض بن عامر، أحد بني أَنْف النّاقة، وخاض في عِرض الزِّبْرِقان وتَمَرَّغ فيه حتّى استعدى الزِّبْرقانُ عليه عمرَ بن الخطّاب، رضي الله عنه، وأنشده قول الحطيئة من أبياتٍ له:
دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتِها
واقْعُدْ فإنّك أنت الطّاعِمُ الكاسِي
فألقاه عمر في حفرةٍ اتَّخذها مَحْبِسًا، فقال الحطيئة يستعطفه ويُحَنِّنه على صِبيته:
ماذا تقولُ لأَفْراخٍ بذي مَرَخٍ
زغب الحواصلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ؟
غَيَّبْتَ كاسِبَهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ
فاغْفِرْ، عليك سلامُ الله، يا عُمَرُ
فرَقَّ له عمر وخلّى سبيله، بعد أنِ اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وأخذ عليه ألاّ يهجو أحدًا منهم بعدئذٍ، فوفى الحطيئة بعهده حياةَ عمر، ثمّ انتكس بعد رحيله، وعاد إلى سالف إِلْفِه.
ممّا يُستجاد له في المدح قوله:
مَتى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضوءِ نارِهِ
تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ
وقد ذهب نفرٌ إلى أنّه أمدح بيتٍ قالته العرب.
وقوله في بني جعفر بن قُرِيع، المعروفين ببني أنف النّاقة:
قومٌ همُ الأَنْفُ والأَذْنابُ غيرُهم
ومَنْ يُسَوِّي بأَنْفِ النّاقةِ الذَّنَبا ؟!
وكانوا يُعَيَّرون بهذا الاسم، ويفرّون منه فيدخلون في بني عمومتهم، فلمّا قال الحطيئة هذا البيت صار مَدْحًا لهم، يفتخرون به.
وله في الحكمة ما لا يُلفى فيه مَطْعَنٌ، ولا قالتِ العرب أصدقَ منه، هو قوله:
مَنْ يفعلِ الخيرَ لا يَعْدمْ جَوازِيَهُ
لا يذهبُ العُرْفُ بين الله والنّاسِ
تصرّف الحطيئة في جميع فنون الشّعر مديحًا وهجاءً وفخرًا ونَسِيبًا، وأجاد في ذلك أجمع، وما انتهى إلينا من شعره يغلب عليه المديح، على شهرة قوافي الهجاء وذُيوعها.
امتاز شعره بقوّة المتن، وشدّة الأَسْر، وطول النَّفَس، مع تعشّق الرّجل القافيةَ الشّرود، التي لا تُناخ لأوّل من يدنو فتُرْكب، بل تَعْلَق من يعاني في تَطْلابها، ويَنْصب في إعرابها، ويطرب لافتراعها، وفي ذلك يقوله:
إذا ارتْقَى فيه الّذي لا يَعْلَمُهْ
الشِّعْرُ صَعْبٌ وطويلٌ سُلَّمُهْ
يُرِيْدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إلى الحَضِيْضِ قَدَمُهْ
أبرز السّمات في معاني شعره مشاكلةُ قصائد المديح لنظائرها في شعر غيره، وقلّة حَوْك قصائد الهجاء وتَثقيفها وتَنَخُّلها، واكْتِظاظ النّعوت في الوصف ولاسيّما وصف النّساء الشّوابّ، إذ يعِجّ بالألفاظ التي تنمّ على مواطن الفتنة والشّهوة والأَسْر فيهنّ. قضى الحطيئة غيرَ جازعٍ ولا أَسِفٍ على هَجْوه النّاسَ، بل جزِع بأَخَرَةٍ على المديح الجيِّد يُمدَح به مَنْ ليس له أهلاً.
مقبل التام عامر الأحمدي
Al-Hutay’a - Al-Hutay’a
الحطيئة
(…- نحو 45هـ/ …- نحو 665م)
أبو مُلَيكة، جَرْول بن أوس، يُلَزُّ في بني عَبْس، من غَطَفان، ولم ينبُت فيهم، مُتَدافعٌ نسبُهُ بين قبائل العرب، لا يتورّع إذا أغضبته واحدةٌ منها أن يضرِب بنسبه إلى أخرى من دون سبب، لُقِّب بالحطيئة لقِصَره وقُربه منَ الأرض، شاعرٌ مخضرمٌ أدرك الجاهليّة وسلخ فيها دهرًا، والإسلامَ فأسلم ثمّ ارتدّ، ثمّ آب رقيقَ الدِّين، ذا شرٍّ وسَفَهٍ، لم يَحْسُن إسلامه، ولم تُحمد سيرته، يُعدّ في فحول الشّعراء ومتقدِّميهم وفصحائهم.
ارتدّ مع مُرتدِّي العرب، وخاض خَوضَهم فناصرهم بلسانه، وشدّ أسرهم بقوافيه، من ذلك قوله يحرّضهم على قتال المسلمين من كلمةٍ له:
أَلا كلُّ أَرْماحٍ قِصارٍ أَذِلَّةٍ
فِداءٌ لأَرْماحٍ رُكِزْنَ على الغَمْرِ
أَطَعْنا رسولَ اللهِ إِذْ كانَ صادقًا
فيا عَجَبًا ما بالُ أبي بَكْرِ
لِيُورِثَنا بَكْرًا إذا مات بَعْدَهُ
فتِلْكَ - وبيتِ الله - قاصِمَةُ الظَّهْرِ
كان هجّاءً فحّاشًا خوّاضًا في أعراض الخَلْق، لم يَكَدْ ينجو من لسانه أحد، إذ هجا أمّه وأباه وزوجه ونفسه، بأقْذَع الهجاء وأَمَضِّه، من ذلك قوله يهجو أمّه:
أَلَمْ أُوْضِحْ لكِ البغضاءَ منِّي
ولكنْ لا إِخالُكِ تفهمينا
حياتُكِ، ما عَلِمْتُ، حياةُ سوءٍ
وموتُكِ قد يَسُرُّ الصّالِحِيْنا
وقال يهجو امرأته:
أُطَوِّفُ ما اُطَوِّفُ ثمّ آوِي
إلى بيتٍ قَعِيْدَتُهُ لَكاعِ
وهَجا نفسه هجاءً لا يخلو من تَنَدُّرٍ وتَفَكُّهٍ، وذلك بعد أن سعى إلى التماسِ إنسانٍ يهجوه فلم يُصِبْهُ، وشقّ ذلك عليه، فقال بعد أنِ اطَّلَع على وجهه في حوضِ ماء فرأى قُبحه:
أَبَتْ شَفَتايَ اليومَ إلاّ تَكَلُّمًا
بِشَرٍّ فما أدري لِمَنْ أنا قائلُهْ
أَرى ليَ وجهًا شَوَّهَ اللهُ خَلْقَهُ
فَقُبِّحَ مِنْ وَجْهٍ وقُبِّحَ حامِلُهْ
جاور الحطيئة الزِّبْرقانَ بن بدر، فلم يَحْمَد جواره، وتحوَّل عنه إلى بَغِيْض بن عامر، أحد بني أَنْف النّاقة، وخاض في عِرض الزِّبْرِقان وتَمَرَّغ فيه حتّى استعدى الزِّبْرقانُ عليه عمرَ بن الخطّاب، رضي الله عنه، وأنشده قول الحطيئة من أبياتٍ له:
دَعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتِها
واقْعُدْ فإنّك أنت الطّاعِمُ الكاسِي
فألقاه عمر في حفرةٍ اتَّخذها مَحْبِسًا، فقال الحطيئة يستعطفه ويُحَنِّنه على صِبيته:
ماذا تقولُ لأَفْراخٍ بذي مَرَخٍ
زغب الحواصلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ؟
غَيَّبْتَ كاسِبَهم في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ
فاغْفِرْ، عليك سلامُ الله، يا عُمَرُ
فرَقَّ له عمر وخلّى سبيله، بعد أنِ اشترى منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، وأخذ عليه ألاّ يهجو أحدًا منهم بعدئذٍ، فوفى الحطيئة بعهده حياةَ عمر، ثمّ انتكس بعد رحيله، وعاد إلى سالف إِلْفِه.
ممّا يُستجاد له في المدح قوله:
مَتى تَأْتِه تَعْشُو إلى ضوءِ نارِهِ
تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوْقِدِ
وقد ذهب نفرٌ إلى أنّه أمدح بيتٍ قالته العرب.
وقوله في بني جعفر بن قُرِيع، المعروفين ببني أنف النّاقة:
قومٌ همُ الأَنْفُ والأَذْنابُ غيرُهم
ومَنْ يُسَوِّي بأَنْفِ النّاقةِ الذَّنَبا ؟!
وكانوا يُعَيَّرون بهذا الاسم، ويفرّون منه فيدخلون في بني عمومتهم، فلمّا قال الحطيئة هذا البيت صار مَدْحًا لهم، يفتخرون به.
وله في الحكمة ما لا يُلفى فيه مَطْعَنٌ، ولا قالتِ العرب أصدقَ منه، هو قوله:
مَنْ يفعلِ الخيرَ لا يَعْدمْ جَوازِيَهُ
لا يذهبُ العُرْفُ بين الله والنّاسِ
تصرّف الحطيئة في جميع فنون الشّعر مديحًا وهجاءً وفخرًا ونَسِيبًا، وأجاد في ذلك أجمع، وما انتهى إلينا من شعره يغلب عليه المديح، على شهرة قوافي الهجاء وذُيوعها.
امتاز شعره بقوّة المتن، وشدّة الأَسْر، وطول النَّفَس، مع تعشّق الرّجل القافيةَ الشّرود، التي لا تُناخ لأوّل من يدنو فتُرْكب، بل تَعْلَق من يعاني في تَطْلابها، ويَنْصب في إعرابها، ويطرب لافتراعها، وفي ذلك يقوله:
إذا ارتْقَى فيه الّذي لا يَعْلَمُهْ
الشِّعْرُ صَعْبٌ وطويلٌ سُلَّمُهْ
يُرِيْدُ أَنْ يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ
زَلَّتْ بِهِ إلى الحَضِيْضِ قَدَمُهْ
أبرز السّمات في معاني شعره مشاكلةُ قصائد المديح لنظائرها في شعر غيره، وقلّة حَوْك قصائد الهجاء وتَثقيفها وتَنَخُّلها، واكْتِظاظ النّعوت في الوصف ولاسيّما وصف النّساء الشّوابّ، إذ يعِجّ بالألفاظ التي تنمّ على مواطن الفتنة والشّهوة والأَسْر فيهنّ. قضى الحطيئة غيرَ جازعٍ ولا أَسِفٍ على هَجْوه النّاسَ، بل جزِع بأَخَرَةٍ على المديح الجيِّد يُمدَح به مَنْ ليس له أهلاً.
مقبل التام عامر الأحمدي