الشَّعْبيّ (عامر بن شَراحيل ـ)
(نحو 19 ـ 103هـ/ نحو 640 ـ 721م)
أبو عمرو، عامر بن شَراحِيْل بن عبد ذي كِبار (بكسر الكاف؛ وهو قَيْل من أقيال حِمْير)، ينتهي نسبه إلى الشَّعْب الأصغر، ثم الشَّعْب الأكبر؛ وهو بطن من بطون بني الهَمَيْسَع بن حِمْير، وقد اختلفت نسبة بَني هذا البطن بحسب البلد الذي سكنوا فيه، فقيل لمن نزل بالكوفة منهم: شَعْبِيّون. ومن نزل بالشّام: شَعْبانِيّون. ومن نزل بمِصْر والمغرب: الأُشْعوب. أمّا من بقي منهم في اليمن فقيل لهم: آل ذي شَعْبَين. وقد يظنّ من لا بَصَر له بأنساب العرب أنّ الشَّعبيّ من هَمْدان، وليس ذلك بشيءٍ، وإنّما دخل رهطه في هَمْدان، كما دخل آخرون منهم في الأزد، وآخرون في الأشعريّين.
راويةٌ من التّابعين، ورجل من رجال الحديث الثِّقات، فقيهٌ شاعرٌ، صاحب آثارٍ بصيرٌ باستحضارها ونشرِ مَطْوِيّها، يحدِّث بأحاديث المغازي حديث من شهدها، وفي ذلك يقول ابن عمر، رضي الله عنهما، وقد سمعه يحدٍّث بذلك: «إنّ هذا الفتى لَيُحَدِّث بأحاديث قد حضرناها، هو أعلم بها منّا». كان غاية في سَعة الحفظ، يضرب المثل بحفظه، وفي ذلك يقول: «ما كتبتُ سواداً في بياض قطّ، ولا حدّثني رجلٌ حديثًا إلاّ حفظتُهُ، وما أحببتُ أن يُعيده عليَّ». وقال: «ما أَرْوِي شيئًا أقلَّ من الشِّعر، ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أُعِيد»، وقال: «ما سمعت منذ عشرين سنة رجلاً يحدّث بحديث إلاّ وأنا أعلم به منه، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان به عالماً». ولمّا سُئل: «من أين لك كلّ هذا العلم؟ قال: بنَفْي الاغتمام، والسَّيْر في البلاد، وصبرٍ كصبر الحمار، وبكورٍ كبُكور الغُراب».
لم يكن في قومه من أهل الشّرف حتّى ألحقه الحجّاج بهم لمّا قدم الكوفة، ثم زاد له في الشّرف فجعله عريفًا على الشَّعْبِيّين، ومَنْكِباً (المَنْكِب: رأس العرفاء) على جميع هَمْدان، فلم يزل عند الحجّاج بأحسن منزلة حتّى خرج مع عبد الرّحمن ابن الأشعث، فلمّا كانت دير الجماجم وجِيْء بأسراها، جِيْء بالشّعبيّ فيهم، فقال له الحجّاج: ألَّبتَ علينا مع ابن الأشعث؟ اشهدْ على نفسك بالكفر. فقال الشّعبيّ معتذراً متخلِّصاً بحُسن حِجاجه ممّا دعاه إليه الحجّاج: «أصلح الله الأمير، نَبا بِنا المنزل، وأَحْزَن بنا الجَناب، واسْتَحْلسنا الخوف، واكْتَحَلنا السَّهَر، وخَبَطَتنا فتنة لم نكن فيها بَرَرة أتقياء، ولا فَجَرَة أقوياء. قال الحجّاج لله أبوك، لقد صدقت، ما بَرَرتم بخروجكم علينا ولا قَوِيْتم، خلّوا سبيل الشيخ».
ولمّا كان الشّعبيّ من الأدب وحُسْن التَّلطّف بمكان، وجّهه عبد الملك بن مروان إلى ملك الرّوم في بعض أمره، فاستكثر الملكُ الشَّعبيَّ، وخالَه من بيت الملك، فقال له: «أمِن أهل بيت الملك أنت؟ قال: لا. قال: أنت أحقّ بموضع صاحبك منه. قال الشّعبيّ: على بابه عشرة آلاف كلّهم خيرٌ منّي. قال: هذا من عقلك». وقيل: إنّه لمّا أراد الشّعبيّ الرجوع إلى عبد الملك حمّله الملك رقعةً، فلمّا صار الشّعبيّ إلى عبد الملك ودفع الرّقعة إليه، نظر فيها عبد الملك وقال للشّعبيّ: «أعلمتَ ما في الرّقعة؟» قال: «لا». قال: «فيها عجبتُ من العرب كيف ملّكت غير هذا». ثم قال عبد الملك: «كتب إليّ بهذا لمّا حسَدني بك، فأراد أن يغريني بقتلك» فقال الشّعبيّ: «لو رآك، يا أمير المؤمنين، ما استكثرني».
ومن أدبه وحُسْن حِجاجه أنه لمّا دخل على الحجّاج ذات مرّة، وسأله الحجّاج عن عطائه قائلاً: «كم عطاءك؟ قال: ألفين. قال الحجاج: ويحك، كم عطاؤك؟ قال: ألفان. قال: فلِمَ لَحَنْت فيما لا يلحن فيه مثلك؟ قال: لحن الأمير فلحنت، وأعرب فأعربت، ولم أكن لِيَلْحن الأمير فأُعرب أنا عليه، فأكون كالمُقَرِّع له بلحنه، والمُسْتطيل عليه بفضل القول قبله». فأعجبه ذلك منه ووَهَبه مالاً.
وممّا أُثِر عن الشّعبي قوله: «اتّقوا الفاجر من العلماء، والجاهل من المتعبّدين فإنّهما آفة كلّ مفتون». وقوله: «عليك بالتُؤدة فإنّك على فعل ما لم تفعل أقدر منك على ردّ ما فعلت». وقوله: «زِيْن العلم بحِلْم أهله». وكان مولعاً بهذا البيت:
ليستِ الأحلامُ في حين الرِّضا
إنّما الأحلامُ في حين الغَضَب
مقبل التام عامر الأحمدي
(نحو 19 ـ 103هـ/ نحو 640 ـ 721م)
أبو عمرو، عامر بن شَراحِيْل بن عبد ذي كِبار (بكسر الكاف؛ وهو قَيْل من أقيال حِمْير)، ينتهي نسبه إلى الشَّعْب الأصغر، ثم الشَّعْب الأكبر؛ وهو بطن من بطون بني الهَمَيْسَع بن حِمْير، وقد اختلفت نسبة بَني هذا البطن بحسب البلد الذي سكنوا فيه، فقيل لمن نزل بالكوفة منهم: شَعْبِيّون. ومن نزل بالشّام: شَعْبانِيّون. ومن نزل بمِصْر والمغرب: الأُشْعوب. أمّا من بقي منهم في اليمن فقيل لهم: آل ذي شَعْبَين. وقد يظنّ من لا بَصَر له بأنساب العرب أنّ الشَّعبيّ من هَمْدان، وليس ذلك بشيءٍ، وإنّما دخل رهطه في هَمْدان، كما دخل آخرون منهم في الأزد، وآخرون في الأشعريّين.
راويةٌ من التّابعين، ورجل من رجال الحديث الثِّقات، فقيهٌ شاعرٌ، صاحب آثارٍ بصيرٌ باستحضارها ونشرِ مَطْوِيّها، يحدِّث بأحاديث المغازي حديث من شهدها، وفي ذلك يقول ابن عمر، رضي الله عنهما، وقد سمعه يحدٍّث بذلك: «إنّ هذا الفتى لَيُحَدِّث بأحاديث قد حضرناها، هو أعلم بها منّا». كان غاية في سَعة الحفظ، يضرب المثل بحفظه، وفي ذلك يقول: «ما كتبتُ سواداً في بياض قطّ، ولا حدّثني رجلٌ حديثًا إلاّ حفظتُهُ، وما أحببتُ أن يُعيده عليَّ». وقال: «ما أَرْوِي شيئًا أقلَّ من الشِّعر، ولو شئت لأنشدتكم شهراً لا أُعِيد»، وقال: «ما سمعت منذ عشرين سنة رجلاً يحدّث بحديث إلاّ وأنا أعلم به منه، ولقد نسيت من العلم ما لو حفظه رجل لكان به عالماً». ولمّا سُئل: «من أين لك كلّ هذا العلم؟ قال: بنَفْي الاغتمام، والسَّيْر في البلاد، وصبرٍ كصبر الحمار، وبكورٍ كبُكور الغُراب».
لم يكن في قومه من أهل الشّرف حتّى ألحقه الحجّاج بهم لمّا قدم الكوفة، ثم زاد له في الشّرف فجعله عريفًا على الشَّعْبِيّين، ومَنْكِباً (المَنْكِب: رأس العرفاء) على جميع هَمْدان، فلم يزل عند الحجّاج بأحسن منزلة حتّى خرج مع عبد الرّحمن ابن الأشعث، فلمّا كانت دير الجماجم وجِيْء بأسراها، جِيْء بالشّعبيّ فيهم، فقال له الحجّاج: ألَّبتَ علينا مع ابن الأشعث؟ اشهدْ على نفسك بالكفر. فقال الشّعبيّ معتذراً متخلِّصاً بحُسن حِجاجه ممّا دعاه إليه الحجّاج: «أصلح الله الأمير، نَبا بِنا المنزل، وأَحْزَن بنا الجَناب، واسْتَحْلسنا الخوف، واكْتَحَلنا السَّهَر، وخَبَطَتنا فتنة لم نكن فيها بَرَرة أتقياء، ولا فَجَرَة أقوياء. قال الحجّاج لله أبوك، لقد صدقت، ما بَرَرتم بخروجكم علينا ولا قَوِيْتم، خلّوا سبيل الشيخ».
ولمّا كان الشّعبيّ من الأدب وحُسْن التَّلطّف بمكان، وجّهه عبد الملك بن مروان إلى ملك الرّوم في بعض أمره، فاستكثر الملكُ الشَّعبيَّ، وخالَه من بيت الملك، فقال له: «أمِن أهل بيت الملك أنت؟ قال: لا. قال: أنت أحقّ بموضع صاحبك منه. قال الشّعبيّ: على بابه عشرة آلاف كلّهم خيرٌ منّي. قال: هذا من عقلك». وقيل: إنّه لمّا أراد الشّعبيّ الرجوع إلى عبد الملك حمّله الملك رقعةً، فلمّا صار الشّعبيّ إلى عبد الملك ودفع الرّقعة إليه، نظر فيها عبد الملك وقال للشّعبيّ: «أعلمتَ ما في الرّقعة؟» قال: «لا». قال: «فيها عجبتُ من العرب كيف ملّكت غير هذا». ثم قال عبد الملك: «كتب إليّ بهذا لمّا حسَدني بك، فأراد أن يغريني بقتلك» فقال الشّعبيّ: «لو رآك، يا أمير المؤمنين، ما استكثرني».
ومن أدبه وحُسْن حِجاجه أنه لمّا دخل على الحجّاج ذات مرّة، وسأله الحجّاج عن عطائه قائلاً: «كم عطاءك؟ قال: ألفين. قال الحجاج: ويحك، كم عطاؤك؟ قال: ألفان. قال: فلِمَ لَحَنْت فيما لا يلحن فيه مثلك؟ قال: لحن الأمير فلحنت، وأعرب فأعربت، ولم أكن لِيَلْحن الأمير فأُعرب أنا عليه، فأكون كالمُقَرِّع له بلحنه، والمُسْتطيل عليه بفضل القول قبله». فأعجبه ذلك منه ووَهَبه مالاً.
وممّا أُثِر عن الشّعبي قوله: «اتّقوا الفاجر من العلماء، والجاهل من المتعبّدين فإنّهما آفة كلّ مفتون». وقوله: «عليك بالتُؤدة فإنّك على فعل ما لم تفعل أقدر منك على ردّ ما فعلت». وقوله: «زِيْن العلم بحِلْم أهله». وكان مولعاً بهذا البيت:
ليستِ الأحلامُ في حين الرِّضا
إنّما الأحلامُ في حين الغَضَب
مقبل التام عامر الأحمدي