شعبة بن الحجاج
(82 ـ 160هـ/701 ـ 776م)
أبو بسطام، شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي، مولاهم، الواسطي الأصل البصري الدار من أئمة رجال الحديث، حفظاً ودراية وتثبيتاً، ولد في واسط، ونشأ فيها ثم أقام في البصرة وهو من تابعي التابعين وأعلام المحدثين وكبار الأئمة المحققين، أجمعوا على إمامته في الحديث وجلالته وتحريه واحتياطه وإتقانه.
رأى الحسن البصري ومحمد بن سيرين، من أشهر شيوخه: «الشعبي وأنس بن سيرين وعمرو بن دينار، وخلائق لا يحصون من التابعين وغيرهم. أشهر من روى عنه: سليمان الأعمش وأيوب السختياني ومحمد بن إسحاق التابعيون، وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وعبد الله بن المبارك ويحيى القطان، وآخرين كُثر من كبار العلماء».
أقبل في بداية أمره على الشعر حتى أصبح عارفاً به، وقد شهد له بالتقدم في معرفة الشعر واحد من كبار أدباء عصره، وهو الأصمعي؛ حيث قال: لم نر قط أعلم من شعبة بالشعر. وبعد تلك الرحلة التي أمضاها مع شعر الشعراء تحول إلى طلب الحديث،قال: «كنت ألزم الطرماح ـ الشاعر المعروف ـ أسأله عن الشعر فمررت يوماً بالحكم بن عتيبة وهو يحدث فأعجبني الحديث وقلت هذا أحسن من الشعر فمن يومئذ طلبت الحديث. وكان قتادة إذا سأله عن الشعر قال له: أنشدك بيتاً وتحدثني حديثاً».
وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين فصار علماً يقتدى به وتبعه عليه بعده أهل العراق، حتى قال الإمام الشافعي: «لولا شعبة ما عُرِف الحديث بالعراق». فكان أول من تكلم في الرواة بالعراق جرحاً وتعديلاً ثم تلاه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين. كان شديداً على من لم يكن أهلاً للرواية، يتوعدهم برفع أمرهم إلى السلطان، ويكون أكثر شدة مع من اتُهم بالكذب على رسول الله، وبالمقابل فرحه يكون شديداً إذا صح الحديث لديه، قال حين سئل عن حديث: «والله لو صح لي هذا الحديث عن رسول الله، كان أحب إلي من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين».
حرص حريصاً شديداً على ضبط الأحاديث وإتقانها، فكان يكتفي عند تلقي الحديث على ما يستطيع حفظه، وكان يرفض أن يحدث بالحديث الذي سمعه مرة واحدة من شيخه خشية ألا يكون أتقنه وضبطه، لهذا كان يكثر من الذهاب إلى شيوخه، قال: «ما سمعت من رجل عدد حديث إلا اختلفت إليه أكثر من عدد ما سمعت منه الحديث». ولم يكن يقبل الحديث الذي لم يصرح فيه راويه بالسماع من شيخه، وكان يترك الراوي لأقل هنة فيه، فقد ترك راوياً لأنه رآه في الحمام بغير إزار، وآخر لأنه طفف في الميزان. قال سفيان الثوري: «ما رأيت أحداً أورع في الحديث من شعبة يشك في الحديث الجيد فيتركه». ومع كل تلك الحيطة التي اتخذها والجهد الذي بذله لصيانة سنة رسول اللهr خشي أن يكون قد قصّر في القيام بتلك المهمة الجليلة، حتى أنه بكى في يومه الذي مات فيه، فقيل له: «إن لك في الإسلام موضعاً»، فقال: «دعني فلوددت أني وقاد حمام وأني لم أعرف الحديث».
كان كثير الصلاة والصيام سخي النفس، زهد في الدنيا فلم يجمع لها وقنع بالقليل من حطامها، قال سليمان بن حرب: «لو نظرت إلى ثياب شعبة لم تكن تسوى عشرة دراهم إزاره ورداءه وقميصه». ومع زهده كثيراً ما كان يحض طلابه على الاكتساب مع تركه له ـ لقيام أخويه بأمره ـ وتفرغه للعلم، فكان يقول لهم: «الزموا السوق فإنما أنا عيال على أخوي». وقال لأشعت السمان: «لزمت السوق فأفلحت ولزمت أنا الحديث فأفلست».
كان سخي النفس رقيق المشاعر محباً للمساكين باذلاً ماله للمحتاجين، فعندما وهبه المهدي ثلاثين ألف درهم وألف جَرِيب - وهو مكيال معلوم في زمانه- قسمها وما أبقى منها شيئاً. وإذا ركب زورقاً أعطى الأجرة عن جميع راكبيه. قال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم لمسكين من شعبة إذا رأى المسكين لا يزال ينظر إليه حتى يتغيب عن وجهه. وقال غير مرة لطلابه: لولا حوائج لي إليكم ما جلست معكم. وحوائجه أن يسأل لجيرانه الفقراء. وكان لا يرد سائلاً، وربما أتاه سائل وليس معه ما يدفعه إليه فيقترض له من أحد جلسائه ثم يرد ما اقترضه بعد ذلك. وإذا وقف في مجلسه سائل لا يحدثهم حتى يُعطى.
قدم شعبة إلى بغداد حينما حُبس أخوه على ستة آلاف دينار خسرها بطعام اشتراه من السلطان، فخرج إلى المهدي ليكلمه فيه فلما دخل عليه قال له: يا أمير المؤمنين أنشدني قتادة وسماك بن حرب لأمية بن أبي الصلت يقوله لعبد الله بن جُدعان:
أأذكُرُ حاجَتي أم قد كَفاني
حَياؤُكَ إنَّ شيمَتَكَ الحَياءُ
كريمٌ لا يُغَيِّرُهُ صباحٌ عن
الخُلقِ السَّنيِّ ولا مَساءُ
فأرضُكَ كُلُّ مًكرُمَةٍ بَناها
بَنو تَيم وأنت لها سماءُ
فقال لا يا أبا بسطام لا تذكرها قد عرفناها وقضيناها لك ادفعوا إليه أخاه لاتلزموه شيئاً. فعاب سفيان الثوري دخوله على السلطان، فقال شعبة: «هو لم يُحبس أخوه».
له ابن اسمه سعد وأخوان بشار وحماد. ذُكر أن له كتاباً في التفسير، قاله صاحب كشف الظنون. قال سعد بن شعبة: أوصى أبي إذا مات أن أغسل كتبه فغسلتها وكان أبي إذا اجتمعت عنده كتب من الناس أرسلني بها فأدفعها في الطين. وكانت هذه سنة متبعة عند كثير من علماء الأمة المتقدمين؛ لأن العمدة عندهم كانت الحفظ في الصدور مع عيبهم لمن اقتصر على الحفظ في السطور.
توفي شعبة بالبصرة وهو ابن سبع وسبعين سنة.
نصار نصار
(82 ـ 160هـ/701 ـ 776م)
أبو بسطام، شعبة بن الحجاج بن الورد العتكي الأزدي، مولاهم، الواسطي الأصل البصري الدار من أئمة رجال الحديث، حفظاً ودراية وتثبيتاً، ولد في واسط، ونشأ فيها ثم أقام في البصرة وهو من تابعي التابعين وأعلام المحدثين وكبار الأئمة المحققين، أجمعوا على إمامته في الحديث وجلالته وتحريه واحتياطه وإتقانه.
رأى الحسن البصري ومحمد بن سيرين، من أشهر شيوخه: «الشعبي وأنس بن سيرين وعمرو بن دينار، وخلائق لا يحصون من التابعين وغيرهم. أشهر من روى عنه: سليمان الأعمش وأيوب السختياني ومحمد بن إسحاق التابعيون، وسفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح وعبد الله بن المبارك ويحيى القطان، وآخرين كُثر من كبار العلماء».
أقبل في بداية أمره على الشعر حتى أصبح عارفاً به، وقد شهد له بالتقدم في معرفة الشعر واحد من كبار أدباء عصره، وهو الأصمعي؛ حيث قال: لم نر قط أعلم من شعبة بالشعر. وبعد تلك الرحلة التي أمضاها مع شعر الشعراء تحول إلى طلب الحديث،قال: «كنت ألزم الطرماح ـ الشاعر المعروف ـ أسأله عن الشعر فمررت يوماً بالحكم بن عتيبة وهو يحدث فأعجبني الحديث وقلت هذا أحسن من الشعر فمن يومئذ طلبت الحديث. وكان قتادة إذا سأله عن الشعر قال له: أنشدك بيتاً وتحدثني حديثاً».
وهو أول من فتش بالعراق عن أمر المحدثين وجانب الضعفاء والمتروكين فصار علماً يقتدى به وتبعه عليه بعده أهل العراق، حتى قال الإمام الشافعي: «لولا شعبة ما عُرِف الحديث بالعراق». فكان أول من تكلم في الرواة بالعراق جرحاً وتعديلاً ثم تلاه يحيى بن سعيد القطان وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين. كان شديداً على من لم يكن أهلاً للرواية، يتوعدهم برفع أمرهم إلى السلطان، ويكون أكثر شدة مع من اتُهم بالكذب على رسول الله، وبالمقابل فرحه يكون شديداً إذا صح الحديث لديه، قال حين سئل عن حديث: «والله لو صح لي هذا الحديث عن رسول الله، كان أحب إلي من أهلي ومالي ومن الناس أجمعين».
حرص حريصاً شديداً على ضبط الأحاديث وإتقانها، فكان يكتفي عند تلقي الحديث على ما يستطيع حفظه، وكان يرفض أن يحدث بالحديث الذي سمعه مرة واحدة من شيخه خشية ألا يكون أتقنه وضبطه، لهذا كان يكثر من الذهاب إلى شيوخه، قال: «ما سمعت من رجل عدد حديث إلا اختلفت إليه أكثر من عدد ما سمعت منه الحديث». ولم يكن يقبل الحديث الذي لم يصرح فيه راويه بالسماع من شيخه، وكان يترك الراوي لأقل هنة فيه، فقد ترك راوياً لأنه رآه في الحمام بغير إزار، وآخر لأنه طفف في الميزان. قال سفيان الثوري: «ما رأيت أحداً أورع في الحديث من شعبة يشك في الحديث الجيد فيتركه». ومع كل تلك الحيطة التي اتخذها والجهد الذي بذله لصيانة سنة رسول اللهr خشي أن يكون قد قصّر في القيام بتلك المهمة الجليلة، حتى أنه بكى في يومه الذي مات فيه، فقيل له: «إن لك في الإسلام موضعاً»، فقال: «دعني فلوددت أني وقاد حمام وأني لم أعرف الحديث».
كان كثير الصلاة والصيام سخي النفس، زهد في الدنيا فلم يجمع لها وقنع بالقليل من حطامها، قال سليمان بن حرب: «لو نظرت إلى ثياب شعبة لم تكن تسوى عشرة دراهم إزاره ورداءه وقميصه». ومع زهده كثيراً ما كان يحض طلابه على الاكتساب مع تركه له ـ لقيام أخويه بأمره ـ وتفرغه للعلم، فكان يقول لهم: «الزموا السوق فإنما أنا عيال على أخوي». وقال لأشعت السمان: «لزمت السوق فأفلحت ولزمت أنا الحديث فأفلست».
كان سخي النفس رقيق المشاعر محباً للمساكين باذلاً ماله للمحتاجين، فعندما وهبه المهدي ثلاثين ألف درهم وألف جَرِيب - وهو مكيال معلوم في زمانه- قسمها وما أبقى منها شيئاً. وإذا ركب زورقاً أعطى الأجرة عن جميع راكبيه. قال النضر بن شميل: ما رأيت أرحم لمسكين من شعبة إذا رأى المسكين لا يزال ينظر إليه حتى يتغيب عن وجهه. وقال غير مرة لطلابه: لولا حوائج لي إليكم ما جلست معكم. وحوائجه أن يسأل لجيرانه الفقراء. وكان لا يرد سائلاً، وربما أتاه سائل وليس معه ما يدفعه إليه فيقترض له من أحد جلسائه ثم يرد ما اقترضه بعد ذلك. وإذا وقف في مجلسه سائل لا يحدثهم حتى يُعطى.
قدم شعبة إلى بغداد حينما حُبس أخوه على ستة آلاف دينار خسرها بطعام اشتراه من السلطان، فخرج إلى المهدي ليكلمه فيه فلما دخل عليه قال له: يا أمير المؤمنين أنشدني قتادة وسماك بن حرب لأمية بن أبي الصلت يقوله لعبد الله بن جُدعان:
أأذكُرُ حاجَتي أم قد كَفاني
حَياؤُكَ إنَّ شيمَتَكَ الحَياءُ
كريمٌ لا يُغَيِّرُهُ صباحٌ عن
الخُلقِ السَّنيِّ ولا مَساءُ
فأرضُكَ كُلُّ مًكرُمَةٍ بَناها
بَنو تَيم وأنت لها سماءُ
فقال لا يا أبا بسطام لا تذكرها قد عرفناها وقضيناها لك ادفعوا إليه أخاه لاتلزموه شيئاً. فعاب سفيان الثوري دخوله على السلطان، فقال شعبة: «هو لم يُحبس أخوه».
له ابن اسمه سعد وأخوان بشار وحماد. ذُكر أن له كتاباً في التفسير، قاله صاحب كشف الظنون. قال سعد بن شعبة: أوصى أبي إذا مات أن أغسل كتبه فغسلتها وكان أبي إذا اجتمعت عنده كتب من الناس أرسلني بها فأدفعها في الطين. وكانت هذه سنة متبعة عند كثير من علماء الأمة المتقدمين؛ لأن العمدة عندهم كانت الحفظ في الصدور مع عيبهم لمن اقتصر على الحفظ في السطور.
توفي شعبة بالبصرة وهو ابن سبع وسبعين سنة.
نصار نصار