مصطفى ديب
ليست "القربان" (المدى، 2017/ ط 2)، أفضل روايات العراقي غائب طعمة فرمان (1927 - 1990). بل وقد تبدو، لمن قرأ "النخلة والجيران" و"خمسة أصوات" و"آلام السيد معروف"، رواية عادية مقارنةً بها. لكنها، مع ذلك، تنطوي على ما يحمل القارئ على مواصلة قراءتها، ويضعه عند الانتهاء منها أمام عملٍ أدبيٍ مميز، سواءً لناحية بناء شخصياته وصياغة علاقتها بذاتها وببعضها بعضًا وبما يحيط بها أيضًا، أو في الكتابة عن العلاقات اليومية العابرة، ومعها العلاقة بالمكان التي تبدو مبهمة أحيانًا، وإشكالية في أحيانٍ أخرى.
"القربان" هي حكاية العلاقة المبهمة التي تربط شخصياتها الثانوية بأبطالها، خاصةً المقهى الذي يحضر في الرواية بمقدار حضوره في حياة كلٍ منهم
في الرواية سير شخصية عديدة تدل طريقة حضورها فيها على أن ما ظهر منها لا يعادل ما ظل مخفيًا. ومردُّ ذلك إلى قلة حديث شخصياتها عما يتعلق بها، وبأوضاعها النفسية والمادية والمعيشية، مقابل انشغالها التام باللحظة الراهنة، التي لا يشغلهم فيها سوى دبش، وابنته مظلومة، والمقهى الذي يحمل اسمه. وهؤلاء هم، فعليًا، أبطال "القربان". فما يحدث فيها لا يرتبط بغيرهم، ولا يصدر عن آخرين سواهم.
الحكاية إذًا هي حكاية هؤلاء الثلاثة. لكنها أيضًا حكاية أولئك الذين لا حديث لهم سوى دبش، وابنته مظلومة، ومقهاه. أولئك الذين لا يصلنا من سيَرهم، بماضيها وحاضرها، سوى ما يتعلق بهم، أو يتقاطع مع ما يجري لهم. إنها لذلك حكاية العلاقة المبهمة، وغير المبررة أحيانًا، التي تربط شخصياتها الثانوية بأبطالها، خاصةً المقهى الذي يجمعهم، ويربط بينهم، ويحضر في الرواية بمقدار حضوره في حياة كلٍ منهم.
وفي هذا الحضور ما يلفت الانتباه. فالمقهى في رواية غائب طعمة فرمان لا يحضر بصورته التقليدية الرومانسية الشائعة في معظم الروايات العربية، ولا بالمعنى الرائج لمفهوم المقهى أيضًا. إنه في نظر صاحبه، دبش، مجرد وسيلة لجني المال، ومضاعفة ثروته. بينما يراه العاملون فيه، ياسر وعبد الله، مجرد قبرٍ مظلمٍ دُفن فيه شبابهما. أما رواده، فيتعاملون معه بصفته شاهدًا على قسوة دبش وظلمه لزوجته ثم ابنته مظلومة، التي يصف اسمها أحوالها.
لا نعرف عن دبش أكثر مما يقال ويُروى عنه في حوارات رواد المقهى، وسكان الحي الذي يقع فيه، مع ياسر وعبد الله. منهم ومما يدور في حواراتهم، نعرف أنه لم يكن سوى حمالًا لدى والد زوجته التي تزوجها طمعًا في ميراث عائلتها، الذي وضع يده عليه بعد وفاة والديها. ومنهم نعرف أيضًا أنه دأب على دس السم لها حتى قتلها، ثم منع مظلومة من مغادرة البيت واستقبال الناس بعد وفاتها.
نعرف مِن هؤلاء، ياسر وعبد الله وسلمان وهادي والممرض وغيره، عن دبش وابنته مظلومة ووالدتها أيضًا، أكثر مما نعرف عنهم. وهم لذلك لا يحضرون في الرواية بصفتهم أفرادًا، وإنما حشدًا لا يشغله غير دبش وابنته ومقهاه، ولا يُجمع على شيءٍ سوى ضرورة موته الذي يرى فيه ياسر فرصته لإنقاذ مظلومة من معاناتها داخل عزلتها القسرية، التي فرضها عليها دبش. فيما يرى عبد الله إليه على أنه ما سيتيح له تحسين أوضاعه المادية البائسة، وتعويض سنوات شبابه الذي دُفن في المقهى.
يفسِّر هذا الانطباع انصراف شخصيات الرواية عن ذاتها وهمومها، وندرة حديثها عنها أيضًا. فالافتراض هنا أن الحشد يلغي الفرد. أو هذا على الأقل ما نراه في رواية فرمان، التي لا يخرج شخوصها من الحشد، ويعودون أفرادًا، إلا بعد موت دبش الذي دبّره ياسر بالاتفاق مع الممرض، الذي استبدل الأنسولين بالماء.
"القربان" عمل أدبي مميز سواءً لناحية بناء شخصياته وصياغة علاقتها بذاتها وببعضها بعضًا، أو في الكتابة عن العلاقات اليومية العابرة
لكن هذه العودة تبقى مؤقتة. فما إن يسترد شخوص الرواية ذواتهم ويعودون أفرادًا فاعلين في مكانهم وزمانهم، ومتفاعلين معهما أيضًا، حتى تعود قصة المقهى ومظلومة لتشغلهم مجددًا. إذ يروي بعضهم أن ياسر يمنع مظلومة من مغادرة البيت، شأنه شأن والدها دبش. وأن عبد الله فقد عقله بسبب شعوره بأن ياسر استحوذ على المقهى، الذي يرى أنه أحق منه في إدارته بعد أن دفن فيه شبابه، وعاش بسببه في فقرٍ مدقعٍ يعاين آثاره، يوميًا، في ملامح وجه زوجته وأجساد أطفاله الهزيلة.
يفقد عبد الله عقله حقًا بسبب المقهى. وللسبب نفسه، يُقتل ياسر فيُغلق المقهى بعد مقتله. ورغم أن هوية القاتل تبقى مجهولة، إلا أن ما يحدث بعد وقوع الجريمة، يشير إلى أن عبد الله هو من قتل ياسر، وأن من دفعه إلى فعل ذلك هو حسن العلوان، صديق دبش، الذي يريد نهب ميراثه، ويعرف أن سبيله الوحيد للاستحواذ عليه هو مظلومة.
ليست "القربان" (المدى، 2017/ ط 2)، أفضل روايات العراقي غائب طعمة فرمان (1927 - 1990). بل وقد تبدو، لمن قرأ "النخلة والجيران" و"خمسة أصوات" و"آلام السيد معروف"، رواية عادية مقارنةً بها. لكنها، مع ذلك، تنطوي على ما يحمل القارئ على مواصلة قراءتها، ويضعه عند الانتهاء منها أمام عملٍ أدبيٍ مميز، سواءً لناحية بناء شخصياته وصياغة علاقتها بذاتها وببعضها بعضًا وبما يحيط بها أيضًا، أو في الكتابة عن العلاقات اليومية العابرة، ومعها العلاقة بالمكان التي تبدو مبهمة أحيانًا، وإشكالية في أحيانٍ أخرى.
"القربان" هي حكاية العلاقة المبهمة التي تربط شخصياتها الثانوية بأبطالها، خاصةً المقهى الذي يحضر في الرواية بمقدار حضوره في حياة كلٍ منهم
في الرواية سير شخصية عديدة تدل طريقة حضورها فيها على أن ما ظهر منها لا يعادل ما ظل مخفيًا. ومردُّ ذلك إلى قلة حديث شخصياتها عما يتعلق بها، وبأوضاعها النفسية والمادية والمعيشية، مقابل انشغالها التام باللحظة الراهنة، التي لا يشغلهم فيها سوى دبش، وابنته مظلومة، والمقهى الذي يحمل اسمه. وهؤلاء هم، فعليًا، أبطال "القربان". فما يحدث فيها لا يرتبط بغيرهم، ولا يصدر عن آخرين سواهم.
الحكاية إذًا هي حكاية هؤلاء الثلاثة. لكنها أيضًا حكاية أولئك الذين لا حديث لهم سوى دبش، وابنته مظلومة، ومقهاه. أولئك الذين لا يصلنا من سيَرهم، بماضيها وحاضرها، سوى ما يتعلق بهم، أو يتقاطع مع ما يجري لهم. إنها لذلك حكاية العلاقة المبهمة، وغير المبررة أحيانًا، التي تربط شخصياتها الثانوية بأبطالها، خاصةً المقهى الذي يجمعهم، ويربط بينهم، ويحضر في الرواية بمقدار حضوره في حياة كلٍ منهم.
وفي هذا الحضور ما يلفت الانتباه. فالمقهى في رواية غائب طعمة فرمان لا يحضر بصورته التقليدية الرومانسية الشائعة في معظم الروايات العربية، ولا بالمعنى الرائج لمفهوم المقهى أيضًا. إنه في نظر صاحبه، دبش، مجرد وسيلة لجني المال، ومضاعفة ثروته. بينما يراه العاملون فيه، ياسر وعبد الله، مجرد قبرٍ مظلمٍ دُفن فيه شبابهما. أما رواده، فيتعاملون معه بصفته شاهدًا على قسوة دبش وظلمه لزوجته ثم ابنته مظلومة، التي يصف اسمها أحوالها.
لا نعرف عن دبش أكثر مما يقال ويُروى عنه في حوارات رواد المقهى، وسكان الحي الذي يقع فيه، مع ياسر وعبد الله. منهم ومما يدور في حواراتهم، نعرف أنه لم يكن سوى حمالًا لدى والد زوجته التي تزوجها طمعًا في ميراث عائلتها، الذي وضع يده عليه بعد وفاة والديها. ومنهم نعرف أيضًا أنه دأب على دس السم لها حتى قتلها، ثم منع مظلومة من مغادرة البيت واستقبال الناس بعد وفاتها.
نعرف مِن هؤلاء، ياسر وعبد الله وسلمان وهادي والممرض وغيره، عن دبش وابنته مظلومة ووالدتها أيضًا، أكثر مما نعرف عنهم. وهم لذلك لا يحضرون في الرواية بصفتهم أفرادًا، وإنما حشدًا لا يشغله غير دبش وابنته ومقهاه، ولا يُجمع على شيءٍ سوى ضرورة موته الذي يرى فيه ياسر فرصته لإنقاذ مظلومة من معاناتها داخل عزلتها القسرية، التي فرضها عليها دبش. فيما يرى عبد الله إليه على أنه ما سيتيح له تحسين أوضاعه المادية البائسة، وتعويض سنوات شبابه الذي دُفن في المقهى.
يفسِّر هذا الانطباع انصراف شخصيات الرواية عن ذاتها وهمومها، وندرة حديثها عنها أيضًا. فالافتراض هنا أن الحشد يلغي الفرد. أو هذا على الأقل ما نراه في رواية فرمان، التي لا يخرج شخوصها من الحشد، ويعودون أفرادًا، إلا بعد موت دبش الذي دبّره ياسر بالاتفاق مع الممرض، الذي استبدل الأنسولين بالماء.
"القربان" عمل أدبي مميز سواءً لناحية بناء شخصياته وصياغة علاقتها بذاتها وببعضها بعضًا، أو في الكتابة عن العلاقات اليومية العابرة
لكن هذه العودة تبقى مؤقتة. فما إن يسترد شخوص الرواية ذواتهم ويعودون أفرادًا فاعلين في مكانهم وزمانهم، ومتفاعلين معهما أيضًا، حتى تعود قصة المقهى ومظلومة لتشغلهم مجددًا. إذ يروي بعضهم أن ياسر يمنع مظلومة من مغادرة البيت، شأنه شأن والدها دبش. وأن عبد الله فقد عقله بسبب شعوره بأن ياسر استحوذ على المقهى، الذي يرى أنه أحق منه في إدارته بعد أن دفن فيه شبابه، وعاش بسببه في فقرٍ مدقعٍ يعاين آثاره، يوميًا، في ملامح وجه زوجته وأجساد أطفاله الهزيلة.
يفقد عبد الله عقله حقًا بسبب المقهى. وللسبب نفسه، يُقتل ياسر فيُغلق المقهى بعد مقتله. ورغم أن هوية القاتل تبقى مجهولة، إلا أن ما يحدث بعد وقوع الجريمة، يشير إلى أن عبد الله هو من قتل ياسر، وأن من دفعه إلى فعل ذلك هو حسن العلوان، صديق دبش، الذي يريد نهب ميراثه، ويعرف أن سبيله الوحيد للاستحواذ عليه هو مظلومة.