حَجَرُ الصَبر The Patience Stone
عندما يضع الكاتب الفرنسي الأفغاني " عتيق رحيمي " عنوان الفصل الأول من روايته ( حجر الصبر ) ، التي صدرت عام 2008 ، هكذا : ( في مكان ما من أفغانستان أو أي مكان آخر ) فإنه يفسح المجال أمام القارئ للتعميم ، و أيضاً أمام المشاهد عندما أخرج روايته سينمائياً ــ بنفسه ــ عام 2012 . ولكنه تعميم في حدود أفغانستان ، و سنلاحظ إن التعميم مكاني و ليس زمانياً ، لأن الزمن في هذه الرواية محصورٌ في عهد ( طالبان ) .
و " عتيق رحيمي " ولد عام 1962 في العاصمة الأفغانية ( كابُل ) ، ولكن بعد أن إنحدرت البلاد في مستنقع الحروب الداخلية عقب تدخل الإتحاد السوڤييتي في أفغانستان في 25 ديسمبر / كانون الأول 1979 و تدهور الأمور ، خرج " رحيمي " من بلاده عام 1984 . في تلك السنة كان في الثانية و العشرين من عمره ، و قد توجه الى فرنسا ، و فيها أكمل دراسته فحصل على الدكتوراه ، و من فرنسا انطلقت شهرته كروائي ، و قد حصلت روايته ( حجر الصبر ) على جائزة (گونكور ) ــ و هي أهم جائزة أدبية فرنسية ــ و اشتهر كمخرج سينمائي أيضاً .
ولكن " رحيمي " الذي يكتب بالفرنسية و الفارسية ، راح يزور أفغانستان بين فترة و أخرى بعد سقوط ( طالبان ) عام 2002 ، ما هيأ المناخ لخياله الأدبي و السينمائي لنتاج يرصد الحياة و إرهاصاتها على يد طالبان في أفغانستان ، و هو ما جسّده في ( حجر الصبر ) .. رواية ً و فيلماً ، و في روايات أخرى .
ولكن نظراً لمحدودية الحيز المكاني ، سنجد أن الفيلم كما لو كان مقتبساً عن عمل مسرحي و ليس عن عمل روائي ، بل أن الرواية مكتوبة بصيغة السيناريو ، فبدت خصوصاً في صفحاتها الأخيرة ــ و هي في 110 صفحات بطبعتها المترجمة عن ( دار الساقي ) ــ مكتوبة بصيغة السيناريو لمسرحية . غير أن هذا ليس مهماً ، المهم هو عمق العمل ، و تمحوره بالتفاف لولبي حول فكرة وجودية تتخذ من محنة شابة في الثلاثين من عمرها محوراً لها . شابة تكافح وحدها في مجتمع تقطعت أوصاله ، و لم يعد لها ما يسندها فيه ، و فوق هذا لا هي مرتبطة بزوجها و لا هي منفكة عنه ، و هو بدوره لا هو حي و لا هو ميت ، إنه جسد بروح مخنوقة ، خنقتها رصاصة في رقبته ، شلّت حياته إثر مشاجرة مع رفيق مجاهد قال له ذات مرة ( سأبصق في فرج أمك ) ، و هي عبارة تزلزل الشرف المتمسك بتعاليم الدين ، الدين المتناقض في موقفه من المرأة ، ولكنه في النهاية ينظر إليها ككيس للذة .. يُرمى بعد حين . غير أننا سنكتشف أن هذا الشرف الملتصق بالدين إن هو إلا خرقة بالية ، فأخوة الرجل كانوا يتحرشون بها ، و عندما كانت تستحم كانوا يراقبونها و يستمنون ، و عندما لم تنجب منه اعتبرتها أمه عاقراً فحرضته على الزواج من إمرأة أخرى ، و أثناء تداعياتها ترى الزوجة الشابة أنَّ ذلك يعني أنْ يكون مستقبلها شبيهاً بمستقبل عمّـتها التي كانت عاقراً فجعلها زوجها خادمة لوالديه فراح والده يضاجعها حتى ضربته بعصاه ذات مرة فمات .. و انتهى بها الأمر كعاهرة .
تنحصر بطولة الفيلم بين إثنين ، هما : المرأة الشابة ( لعبت دورها الممثلة الإيرانية الجميلة " گــُـلشفته فرحاني " الحاصلة على العديد من الجوائز ، و هي تعيش في فرنسا ) و الرجل الممدد على الأرض في غرفة بائسة طوال الفيلم دون أن ينطق بكلمة ، و لا إسم له ( لعب دوره " حميد جوادان " ) . و هذا التمدد يذكرنا بشخصية " آل ماشي " في فيلم ( المريض الإنگليزي ) الذي لعب دوره الممثل " رالف فاينس " . مع إختلاف طبيعة رقود الإثنين ، فرقود " آل ماشي " كان فاتحَ باب ذكرياتٍ مهمة في تاريخ الحرب العالمية الثانية في الصحراء الليبية و خبايا الجاسوسية ( في الرواية .. أكثر منها في الفيلم ) ، فيما كان دور الرجل ( الزوج ) في المساحة الأفغانية سلبياً . هذه المرة كان هو نفسه كيساً لتفرغ المرأةُ نفاياتِ ذكرياتها البائسة فيه و هي تشهر أمامه حقيقة أنه هو الذي كان عاقراً ، و أن أمه الجاهلة الغافلة أخذتها الى ( حكيم ) استغفل الأم و أدخل الزوجة في غرفة مظلمة ليضاجعها شاب قوي ، ولكنه قليل الخبرة ، لتنجب منه الإبنة البكر التي توهمت أم الزوج أنها من إبنها ، وكذا توهم الزوج بخصوص الإبنة الثانية أيضاً .
هذه إنثيالات ، تدفقت في هيئة اعترافات باطنية ، في هيئة تداعيات نفسية ، أفرغت الزوجة الشابة كل كيسها منها ، كيسها الذي امتلأ عبر الأيام و السنين في غفلة منها .. حتى وجدت نفسها على حافة اليأس من حياة بلا معنىً ، و قد تحكّمت بها عقدة ( الشرف ) ، حتى أقدمت على وضع نهاية لهذا العبث الوجودي حين استيقظ الزوج من غفلته ، إستيقظ لا لشيء سوى للدفاع عن ( شرفه ) في خضم الغفلة .
الرواية ، و من ثم الفيلم ، فضحٌ و تعنيفٌ للرجل الأفغاني عموماً ، و هو كشف لحال المرأة الأفغانية ، عموماً أيضاً . و سنجد أنفسنا أمام إشكالية إجتماعية و نفسية تتحكم بالمجتمع الأفغاني ، و هذه ليست المرة الأولى التي يتصدى فيها الأدباء و الفنانون الأفغان لهذه الإشكالية ، ولكن " عتيق رحيمي " تناولها ، في روايته و من ثم في فيلمه ، بطريقة متميزة و متفردة .
يهدي " رحيمي " روايته الى الشاعرة الأفغانية " ناديا أنجُمان " التي قتلها زوجها " فريد أحمد جيدميا " عام 2005 ، بسبب خلاف عائلي ، ولكن جذر هذا ( الخلاف العائلي ) يعود في حقيقته الى كون الشاعرة ، البالغة الخامسة و العشرين من عمرها و المتخرجة من كلية آداب جامعة هيرات الأفغانية ، قد أصابت شهرة أدبية واسعة في أفغانستان و إيران بعد أن أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى المتميزة ( الوردة الأرجوانية ) فحظيت بإهتمام واسع من قبل وسائل الإعلام المقروءة و المسموعة و المرئية ، ما أثار حفيظة الزوج الذي يُفترض به أن يكون متفهماً للأمر ، كونه يحمل شهادة من كلية الآداب و يشغل منصباً إدارياً فيها ، ولكن سلطته الذكورية تغلبت على شهادته و منصبه المدني فقتل الشاعرة الأنثى . فكانت تلك فضيحة مدوية للمجتمع الذكوري الأفغاني الذي يُعتبر أشد المجتمعات شراسة تجاه المرأة في العالم . فصحيحٌ أن حكم طالبان كان قد سقط منذ عام 2002 إلا أن سمومه الذكورية المستندة إلى أحكام الدين مازالت تسري في نسيج المجتمع الذكوري في أفغانستان .
عنوان الرواية ، و من ثم الفيلم ، مُستقى من أسطورة أفغانية فارسية تفيد بأن ( حجر الصبر ) هو الحجر الأصم الذي تحكي له المرأةُ الكـَـتومُ الصَبورُ كل يوم ، و كل ساعة ، عمّا تحمله من أسرار و آلام .. حتى تأتي اللحظة التي ينفجر فيها ذلك الحجر و يتفتت ( تقابله في الثقافة الشعبية العراقية " دمية الصبر " التي تنتفخ مع كل حكاية حتى تنفجر ) . و الحجر ــ كما رأينا في الفيلم ــ هو الزوج الذي أوصلته الزوجة ، ببوحها ، إلى ذروة اللاتحمُّل .. ليخرج عن جموده الحجري . و سنجد أن الزوج الذي كان غائباً عن وجوده الإنساني إنما كان حاضراً في الفيلم كحجر ، و كان الممثل " جواديان " فاعلاً في دوره ، رغم جموده و صمته المطبق طوال الفيلم الذي استغرق ساعة و 36 دقيقة . كما سنجد أن اختزال الديكور في الفيلم الذي اقتصر حَيّـزُهُ على غرفتين بائستين و ركن ضيق مستور بستارة خضراء رخيصة ، إنما أغنى الفيلم بحضور طاغٍ للمضمون و هو يزيح الشكل الزائف في أفلام زائفة و بميزانيات عالية . ما يعني أن المخرج " عتيق رحيمي " كان يدرك ماذا أراد أن يقول .. و كيف قال ، ببلاغة سينمائية عالية و مختزلة . و قد صُورت المشاهد الخارجية في أفغانستان و في أحياء مغربية شبيهة بالأحياء الأفغانية في زمن طالبان .
حال المرأة ، في هذا الفيلم ، لا يمثل توقها الى تكريس هويتها الإجتماعية المسحوقة في أفغانستان حسب ، بل كذلك شوقها الى اللذة الجنسية التي يبدو أنها لم تصل اليها بسبب الأنانية الذكورية التي لا تتعامل مع المرأة كأنثى ذات مدركات إنسانية وجودية بل ككيس للتفريغ اللذيذ للمَني .. كسُمٍّ ( شيطاني ) . هكذا أرادت أن تقول المرأة في الفيلم في بوحها لزوجها / الحجر . ، لذلك فإن " رحيمي " يستهل روايته بقول الشاعر و المسرحي الفرنسي " أنتونين آرتو " ( 1896 ــ 1948 ) : ( من الجسد و بالجسد و مع الجسد منذ الجسد و حتى الجسد ) .
بعد هذا ، لن يجد المُشاهدُ غرابة في تعنيف ( المجاهد ) الطالباني لها حين يسألها عن سبيلها في كسب رزقها فتجيبه بأنها تبيع جسدها ، ولكنها لم تكن كذلك ، إنما أجابته هكذا لعلمها أن ذكورية هؤلاء المجاهدين الأفغان مخدوشة مع غير العذراوات . كما أن المشاهد سوف لن يجد غرابة في رد فعل الأنثى على هذه الذكورية البائسة حين تستجيب للفورة الجنسية لدى ( المجاهد ) الشاب ، فتستجيب لفيضِ ماء أنوثتها هي .. و ليذهب الدينُ و المجتمعُ و القـِـيَمُ الى الجحيم .
عندما نقرأ تاريخ أفغانستان ، نجد أن المجتمع الأفغاني يشبه تضاريس بلاده ، التي هي أعقد التضاريس في كل جغرافيا العالم ، في بقعة شهدت أعقد المشاكل العرقية و الحربية و الإجتماعية و السياسية و العقائدية في تاريخ آسيا ، منذ أن كانت جزءاً من الإمبراطورية الفارسية مروراً بغزوها من قبل الإسكندر الأكبر
و من ثم التحاقها بركب الدولة الإسلامية فالإمبراطورية المغولية فالبريطانية ، ثم الغزو السوڤييتي لها عام 1979 ، و أخيراً سيطرة المجاهدين عليها بعد خروج السوڤييت ثم بروز طالبان حتى إسقاطهم عام 2002 ثم عودتهم مرة أخرى بعد انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان عام 2021 لتعود طالبان بشراسة أشد و قد اكتسبت ما يشبه الشرعية الدولية . و تنطوي أفغانستان على تركيبة إجتماعية معقدة من منابت آسيوية مختلفة تتضارب في المعتقد و اللغة و السلوك الإجتماعي .. ولكنها تتوحد في نظرتها السلبية للمرأة ، وفق معيار واحد ، من حيث النظر اليها باعتبارها وسيلة للتفريخ .. ناقصة القيمة . و مقتل الشاعرة " ناديا أنجُمان " دليل على أن ثمة خطوطاً حمراء كثيرة أمام المرأة في المجتمع الأفغاني . و هذا الفيلم وضع هذا المجتمع أمام ( حجر الصبر ) . ولكن علينا أن ندرك أن فترة السبعينيات و الثمانينيات من القرن العشرين ، و التي كانت طالبات الجامعات في أفغانستان يرتدين خلالها التنورات القصيرة التى تصل الى منتصف الفخذ ، إنما كانت فترة عابرة ، و هي خارج الزمن الأفغاني ، و إن كان التطور الخفيف قد بدت ملامحه منذ الخمسينيات .
مَن لم يقرأ الرواية و يشاهد الفيلم مباشرةً سيبقى متعاطفاً مع الفيلم ، ولكنه قد يخرج بأسئلة تنطوي على غموض . أما مَن كان قد قرأ الرواية قبل مشاهدة الفيلم فسيفككه ، ليس وفقاً للرواية بل وفقاً للواقع الأفغاني الذي ستدفعه الرواية الى فهم خلفيته بحثاً عن السؤال : لماذا يحصل كل هذا في أفغانستان ؟
ملاحظة : غير رواية ( حجر الصبر ) ، ثمة روايات أخرى للكاتب المخرج "عتيق رحيمي " مترجمة الى العربية :
( أرضٌ و رماد ) ، ( ملعون دستويفسكى ) ، ( ألف منزل للرعب و الحلم ) ، ( حبٌ في المنفى ) .
عندما يضع الكاتب الفرنسي الأفغاني " عتيق رحيمي " عنوان الفصل الأول من روايته ( حجر الصبر ) ، التي صدرت عام 2008 ، هكذا : ( في مكان ما من أفغانستان أو أي مكان آخر ) فإنه يفسح المجال أمام القارئ للتعميم ، و أيضاً أمام المشاهد عندما أخرج روايته سينمائياً ــ بنفسه ــ عام 2012 . ولكنه تعميم في حدود أفغانستان ، و سنلاحظ إن التعميم مكاني و ليس زمانياً ، لأن الزمن في هذه الرواية محصورٌ في عهد ( طالبان ) .
و " عتيق رحيمي " ولد عام 1962 في العاصمة الأفغانية ( كابُل ) ، ولكن بعد أن إنحدرت البلاد في مستنقع الحروب الداخلية عقب تدخل الإتحاد السوڤييتي في أفغانستان في 25 ديسمبر / كانون الأول 1979 و تدهور الأمور ، خرج " رحيمي " من بلاده عام 1984 . في تلك السنة كان في الثانية و العشرين من عمره ، و قد توجه الى فرنسا ، و فيها أكمل دراسته فحصل على الدكتوراه ، و من فرنسا انطلقت شهرته كروائي ، و قد حصلت روايته ( حجر الصبر ) على جائزة (گونكور ) ــ و هي أهم جائزة أدبية فرنسية ــ و اشتهر كمخرج سينمائي أيضاً .
ولكن " رحيمي " الذي يكتب بالفرنسية و الفارسية ، راح يزور أفغانستان بين فترة و أخرى بعد سقوط ( طالبان ) عام 2002 ، ما هيأ المناخ لخياله الأدبي و السينمائي لنتاج يرصد الحياة و إرهاصاتها على يد طالبان في أفغانستان ، و هو ما جسّده في ( حجر الصبر ) .. رواية ً و فيلماً ، و في روايات أخرى .
ولكن نظراً لمحدودية الحيز المكاني ، سنجد أن الفيلم كما لو كان مقتبساً عن عمل مسرحي و ليس عن عمل روائي ، بل أن الرواية مكتوبة بصيغة السيناريو ، فبدت خصوصاً في صفحاتها الأخيرة ــ و هي في 110 صفحات بطبعتها المترجمة عن ( دار الساقي ) ــ مكتوبة بصيغة السيناريو لمسرحية . غير أن هذا ليس مهماً ، المهم هو عمق العمل ، و تمحوره بالتفاف لولبي حول فكرة وجودية تتخذ من محنة شابة في الثلاثين من عمرها محوراً لها . شابة تكافح وحدها في مجتمع تقطعت أوصاله ، و لم يعد لها ما يسندها فيه ، و فوق هذا لا هي مرتبطة بزوجها و لا هي منفكة عنه ، و هو بدوره لا هو حي و لا هو ميت ، إنه جسد بروح مخنوقة ، خنقتها رصاصة في رقبته ، شلّت حياته إثر مشاجرة مع رفيق مجاهد قال له ذات مرة ( سأبصق في فرج أمك ) ، و هي عبارة تزلزل الشرف المتمسك بتعاليم الدين ، الدين المتناقض في موقفه من المرأة ، ولكنه في النهاية ينظر إليها ككيس للذة .. يُرمى بعد حين . غير أننا سنكتشف أن هذا الشرف الملتصق بالدين إن هو إلا خرقة بالية ، فأخوة الرجل كانوا يتحرشون بها ، و عندما كانت تستحم كانوا يراقبونها و يستمنون ، و عندما لم تنجب منه اعتبرتها أمه عاقراً فحرضته على الزواج من إمرأة أخرى ، و أثناء تداعياتها ترى الزوجة الشابة أنَّ ذلك يعني أنْ يكون مستقبلها شبيهاً بمستقبل عمّـتها التي كانت عاقراً فجعلها زوجها خادمة لوالديه فراح والده يضاجعها حتى ضربته بعصاه ذات مرة فمات .. و انتهى بها الأمر كعاهرة .
تنحصر بطولة الفيلم بين إثنين ، هما : المرأة الشابة ( لعبت دورها الممثلة الإيرانية الجميلة " گــُـلشفته فرحاني " الحاصلة على العديد من الجوائز ، و هي تعيش في فرنسا ) و الرجل الممدد على الأرض في غرفة بائسة طوال الفيلم دون أن ينطق بكلمة ، و لا إسم له ( لعب دوره " حميد جوادان " ) . و هذا التمدد يذكرنا بشخصية " آل ماشي " في فيلم ( المريض الإنگليزي ) الذي لعب دوره الممثل " رالف فاينس " . مع إختلاف طبيعة رقود الإثنين ، فرقود " آل ماشي " كان فاتحَ باب ذكرياتٍ مهمة في تاريخ الحرب العالمية الثانية في الصحراء الليبية و خبايا الجاسوسية ( في الرواية .. أكثر منها في الفيلم ) ، فيما كان دور الرجل ( الزوج ) في المساحة الأفغانية سلبياً . هذه المرة كان هو نفسه كيساً لتفرغ المرأةُ نفاياتِ ذكرياتها البائسة فيه و هي تشهر أمامه حقيقة أنه هو الذي كان عاقراً ، و أن أمه الجاهلة الغافلة أخذتها الى ( حكيم ) استغفل الأم و أدخل الزوجة في غرفة مظلمة ليضاجعها شاب قوي ، ولكنه قليل الخبرة ، لتنجب منه الإبنة البكر التي توهمت أم الزوج أنها من إبنها ، وكذا توهم الزوج بخصوص الإبنة الثانية أيضاً .
هذه إنثيالات ، تدفقت في هيئة اعترافات باطنية ، في هيئة تداعيات نفسية ، أفرغت الزوجة الشابة كل كيسها منها ، كيسها الذي امتلأ عبر الأيام و السنين في غفلة منها .. حتى وجدت نفسها على حافة اليأس من حياة بلا معنىً ، و قد تحكّمت بها عقدة ( الشرف ) ، حتى أقدمت على وضع نهاية لهذا العبث الوجودي حين استيقظ الزوج من غفلته ، إستيقظ لا لشيء سوى للدفاع عن ( شرفه ) في خضم الغفلة .
الرواية ، و من ثم الفيلم ، فضحٌ و تعنيفٌ للرجل الأفغاني عموماً ، و هو كشف لحال المرأة الأفغانية ، عموماً أيضاً . و سنجد أنفسنا أمام إشكالية إجتماعية و نفسية تتحكم بالمجتمع الأفغاني ، و هذه ليست المرة الأولى التي يتصدى فيها الأدباء و الفنانون الأفغان لهذه الإشكالية ، ولكن " عتيق رحيمي " تناولها ، في روايته و من ثم في فيلمه ، بطريقة متميزة و متفردة .
يهدي " رحيمي " روايته الى الشاعرة الأفغانية " ناديا أنجُمان " التي قتلها زوجها " فريد أحمد جيدميا " عام 2005 ، بسبب خلاف عائلي ، ولكن جذر هذا ( الخلاف العائلي ) يعود في حقيقته الى كون الشاعرة ، البالغة الخامسة و العشرين من عمرها و المتخرجة من كلية آداب جامعة هيرات الأفغانية ، قد أصابت شهرة أدبية واسعة في أفغانستان و إيران بعد أن أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى المتميزة ( الوردة الأرجوانية ) فحظيت بإهتمام واسع من قبل وسائل الإعلام المقروءة و المسموعة و المرئية ، ما أثار حفيظة الزوج الذي يُفترض به أن يكون متفهماً للأمر ، كونه يحمل شهادة من كلية الآداب و يشغل منصباً إدارياً فيها ، ولكن سلطته الذكورية تغلبت على شهادته و منصبه المدني فقتل الشاعرة الأنثى . فكانت تلك فضيحة مدوية للمجتمع الذكوري الأفغاني الذي يُعتبر أشد المجتمعات شراسة تجاه المرأة في العالم . فصحيحٌ أن حكم طالبان كان قد سقط منذ عام 2002 إلا أن سمومه الذكورية المستندة إلى أحكام الدين مازالت تسري في نسيج المجتمع الذكوري في أفغانستان .
عنوان الرواية ، و من ثم الفيلم ، مُستقى من أسطورة أفغانية فارسية تفيد بأن ( حجر الصبر ) هو الحجر الأصم الذي تحكي له المرأةُ الكـَـتومُ الصَبورُ كل يوم ، و كل ساعة ، عمّا تحمله من أسرار و آلام .. حتى تأتي اللحظة التي ينفجر فيها ذلك الحجر و يتفتت ( تقابله في الثقافة الشعبية العراقية " دمية الصبر " التي تنتفخ مع كل حكاية حتى تنفجر ) . و الحجر ــ كما رأينا في الفيلم ــ هو الزوج الذي أوصلته الزوجة ، ببوحها ، إلى ذروة اللاتحمُّل .. ليخرج عن جموده الحجري . و سنجد أن الزوج الذي كان غائباً عن وجوده الإنساني إنما كان حاضراً في الفيلم كحجر ، و كان الممثل " جواديان " فاعلاً في دوره ، رغم جموده و صمته المطبق طوال الفيلم الذي استغرق ساعة و 36 دقيقة . كما سنجد أن اختزال الديكور في الفيلم الذي اقتصر حَيّـزُهُ على غرفتين بائستين و ركن ضيق مستور بستارة خضراء رخيصة ، إنما أغنى الفيلم بحضور طاغٍ للمضمون و هو يزيح الشكل الزائف في أفلام زائفة و بميزانيات عالية . ما يعني أن المخرج " عتيق رحيمي " كان يدرك ماذا أراد أن يقول .. و كيف قال ، ببلاغة سينمائية عالية و مختزلة . و قد صُورت المشاهد الخارجية في أفغانستان و في أحياء مغربية شبيهة بالأحياء الأفغانية في زمن طالبان .
حال المرأة ، في هذا الفيلم ، لا يمثل توقها الى تكريس هويتها الإجتماعية المسحوقة في أفغانستان حسب ، بل كذلك شوقها الى اللذة الجنسية التي يبدو أنها لم تصل اليها بسبب الأنانية الذكورية التي لا تتعامل مع المرأة كأنثى ذات مدركات إنسانية وجودية بل ككيس للتفريغ اللذيذ للمَني .. كسُمٍّ ( شيطاني ) . هكذا أرادت أن تقول المرأة في الفيلم في بوحها لزوجها / الحجر . ، لذلك فإن " رحيمي " يستهل روايته بقول الشاعر و المسرحي الفرنسي " أنتونين آرتو " ( 1896 ــ 1948 ) : ( من الجسد و بالجسد و مع الجسد منذ الجسد و حتى الجسد ) .
بعد هذا ، لن يجد المُشاهدُ غرابة في تعنيف ( المجاهد ) الطالباني لها حين يسألها عن سبيلها في كسب رزقها فتجيبه بأنها تبيع جسدها ، ولكنها لم تكن كذلك ، إنما أجابته هكذا لعلمها أن ذكورية هؤلاء المجاهدين الأفغان مخدوشة مع غير العذراوات . كما أن المشاهد سوف لن يجد غرابة في رد فعل الأنثى على هذه الذكورية البائسة حين تستجيب للفورة الجنسية لدى ( المجاهد ) الشاب ، فتستجيب لفيضِ ماء أنوثتها هي .. و ليذهب الدينُ و المجتمعُ و القـِـيَمُ الى الجحيم .
عندما نقرأ تاريخ أفغانستان ، نجد أن المجتمع الأفغاني يشبه تضاريس بلاده ، التي هي أعقد التضاريس في كل جغرافيا العالم ، في بقعة شهدت أعقد المشاكل العرقية و الحربية و الإجتماعية و السياسية و العقائدية في تاريخ آسيا ، منذ أن كانت جزءاً من الإمبراطورية الفارسية مروراً بغزوها من قبل الإسكندر الأكبر
و من ثم التحاقها بركب الدولة الإسلامية فالإمبراطورية المغولية فالبريطانية ، ثم الغزو السوڤييتي لها عام 1979 ، و أخيراً سيطرة المجاهدين عليها بعد خروج السوڤييت ثم بروز طالبان حتى إسقاطهم عام 2002 ثم عودتهم مرة أخرى بعد انسحاب الجيش الأمريكي من أفغانستان عام 2021 لتعود طالبان بشراسة أشد و قد اكتسبت ما يشبه الشرعية الدولية . و تنطوي أفغانستان على تركيبة إجتماعية معقدة من منابت آسيوية مختلفة تتضارب في المعتقد و اللغة و السلوك الإجتماعي .. ولكنها تتوحد في نظرتها السلبية للمرأة ، وفق معيار واحد ، من حيث النظر اليها باعتبارها وسيلة للتفريخ .. ناقصة القيمة . و مقتل الشاعرة " ناديا أنجُمان " دليل على أن ثمة خطوطاً حمراء كثيرة أمام المرأة في المجتمع الأفغاني . و هذا الفيلم وضع هذا المجتمع أمام ( حجر الصبر ) . ولكن علينا أن ندرك أن فترة السبعينيات و الثمانينيات من القرن العشرين ، و التي كانت طالبات الجامعات في أفغانستان يرتدين خلالها التنورات القصيرة التى تصل الى منتصف الفخذ ، إنما كانت فترة عابرة ، و هي خارج الزمن الأفغاني ، و إن كان التطور الخفيف قد بدت ملامحه منذ الخمسينيات .
مَن لم يقرأ الرواية و يشاهد الفيلم مباشرةً سيبقى متعاطفاً مع الفيلم ، ولكنه قد يخرج بأسئلة تنطوي على غموض . أما مَن كان قد قرأ الرواية قبل مشاهدة الفيلم فسيفككه ، ليس وفقاً للرواية بل وفقاً للواقع الأفغاني الذي ستدفعه الرواية الى فهم خلفيته بحثاً عن السؤال : لماذا يحصل كل هذا في أفغانستان ؟
ملاحظة : غير رواية ( حجر الصبر ) ، ثمة روايات أخرى للكاتب المخرج "عتيق رحيمي " مترجمة الى العربية :
( أرضٌ و رماد ) ، ( ملعون دستويفسكى ) ، ( ألف منزل للرعب و الحلم ) ، ( حبٌ في المنفى ) .