حجاج يوسف ثقفي
Al-Hajjaj ibn Youssef Ath-Thaqafy - Al-Hajjaj ibn Youssef Ath-Thaqafy
الحجاج بن يوسف الثقفي
(41-95هـ/661-713م)
أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن عقيل بن مسعود الثقفي، من أبرز ولاة بني أمية ومن الخطباء المفوهين والساسة الدهاة، ترك أثره في كل ناحية من نواحي الإدارة والحكم والتنظيم المالي والاجتماعي في عصره.
ولد الحجاج بالطائف، ونشأ في أسرة مثقفة، فقد كان هو وأبوه معلمين بالطائف، وكذلك كانت أخته زينب تجمع إلى معرفة القراءة الاهتمام بالأمور العامة.
في سنة 64هـ انضم يوسف بن الحكم وابنه الحجاج إلى جيش حُبَيش بن دُلْجة القيني الذي أرسله مروان بن الحكم سنة 64هـ لقتال عبد الله ابن الزبير، ولكن جيش حُبيش هُزم، وانهزم فيه الحجاج وأبوه،وما نجوا يومئذ إلا على جمل واحد، ولحق الحجاج بعد ذلك بروح بن زنباع الجذامي فكان في عداد شرطته؛ ثم ما زال يظهر حتى قلده عبد الملك أمر عسكره وأمره بقتال عبد الله بن الزبير في مكة، وبعد حصار دام أشهراً، قُتل ابن الزبير في جمادى الآخرة سنة 73هـ/692م. فقلد عبد الملك الحجاج الحجاز واليمن واليمامة فوطد الأمن والاستقرار في الحجاز، وهدم سنة 74هـ بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير قد بناه، وأعاد بناء الكعبة على بنائها الأول وكساها الديباج.
بقي الحجاج والياً على الحجاز حتى سنة 75هـ/694م حين أتاه كتاب عبد الملك بتوليه العراق بعد وفاة واليها بشر بن مروان، وكانت الفتن المتلاحقة (حركة التوابين، حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي، حركات الخوارج) قد مزقت أوصال العراق، فلم يجد عبد الملك من هو أقدر على إحلال الأمن والنظام من الحجاج.
خرج الحجاج من المدينة في اثني عشر راكباً على النجائب ووصل الكوفة في رابعة النهار،فتوجه إلى المسجد، وصعد المنبر وهو ملثم بعمامة خز حمراء، وجلس على المنبر صامتاً، فأطال الصمت مما شق على الناس، فتناول أحدهم حصى وأراد أن يحصبه وقال: قاتله الله ما أعياه، ويبدو أن الحجاج كان ينتظر حدوث ما حدث، فهب واقفاً وحسر عن وجهه وانطلق بخطبته المشهورة التي مطلعها:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
وقد ختم خطبته التي يتهدد فيها ويعد، بدعوة الناس إلى الالتحاق فوراً بجيش المهلب بن أبي صفرة[ر] لمحاربة الخوارج الأزارقة[ر] واتبع أمره هذا بقوله مهدداً: «من وجدته بعد ثلاثة من بعث المهلب سفكت دمه وأنهبت ماله». وقد أراد بهذا أولاً أن يعيد الذين فروا من معسكر المهلب في رامهرمز حين سمعوا بوفاة الوالي بشر بن مروان، وأراد ثانياً إحلال النظام في مجتمع بَعُدَ العهد بينه وبين الطاعة والنظام، واستطاع المهلب بدعم الحجاج له أن ينصرف إلى قتال الأزارقة، ويلحق بهم الهزيمة تلو الهزيمة، واستمر في حربهم أكثر من سنتين، نجح في النهاية أن يقضي عليهم ويفرق جمعهم، فأكرمه الحجاج وأكرم أولاده وولاه خراسان.
قبل أن يتم القضاء على الأزارقة في الشرق قامت ثورة أخرى سنة 76هـ/695م أجج نارها فريق من الخوارج الصفرية على رأسهم صالح بن مسرح، وبعد مقتله تولى القيادة شبيب بن يزيد الشيباني من بني شيبان من قبيلة بكر، الذين كانوا يقطنون في أطراف الموصل ونصيبين وسنجار، وقد قاتل شبيب الجيوش التي أرسلها الحجاج في مواقع عدة وهزمها، فطلب الحجاج المدد من عبد الملك، فأمده الخليفة بجند من أهل الشام، تمكن بمعونتهم من القضاء عليهم، ومات شبيب غرقاً في نهر دُجيل إثر مطاردة الجيش الأموي له، وكان مصرعه سنة 77 أو 78هـ.
ما كاد الحجاج يخلد إلى الراحة بعد القضاء على حركات الخوارج من الأزارقة والصفرية، حتى جوبه بثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي[ر] (81-83هـ) التي كانت من أقسى الأزمات التي واجهتها الدولة الأموية وتعرض فيها مركز الحجاج إلى امتحان عسير خرج منه منتصراً بعد أن هزم عبد الرحمن بمساعدة مقاتلة الشام في معركتي دير الجماجم ومسكن سنة 83هـ/702م.
أصبح الحجاج سيد المشرق الإسلامي ما عدا خراسان حيث أظهر يزيد بن المهلب والي خراسان بعد وفاة والده المهلب بن أبي صفرة، تراخياً في ملاحقة أتباع عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، كما أنه تجاهل أوامر الحجاج المتكررة بالقدوم إلى واسط، وأخيراً عزل الحجاج يزيد بن الملهب بموافقة عبد الملك وسجنه سنة 85هـ.
يتميز عهد الحجاج بالمنجزات الضخمة التي تمت على يده، ففي سنة 83هـ أو 84هـ بدأ ببناء مدينة واسط ليكون قريباً من حاضرتيه الكوفة والبصرة، وكان غرض الحجاج من بناء مدينة واسط إدارياً بحتاً، وليس كما ذهب إليه بعضهم من أن كره الحجاج للعراقيين ورغبته في عزل جنود الشام كي لا تفسدهم معاشرتهم كانت سبب بنائه المدينة. وليس أدل على ذلك من أنه لما فرغ من بنائها، نقل إليها، كما يذكر بَحْشَل، أسلم بن سهل الرزّازي الواسطي (ت292هـ) مؤلف «تاريخ واسط»، بعضاً من وجوه أهل الكوفة وأمرهم أن يُصلّوا عن يمين المقصورة، ونقل بعضاً من وجوه أهل البصرة، وأمرهم أن يُصلّوا عن يسار المقصورة، وأمر من كان معه من أهل الشام أن يصلّوا حياله مما يلي المقصورة.
وحينما عمد عبد الملك إلى تعريب النقد وتحديد عياره ، بعث بالسكة إلى الحجاج فسيرها إلى الآفاق لتضرب الدراهم بها، وأمر أن تسحب النقود الأخرى التي كان يجري التعامل بها تدريجياً.
واتخذ الحجاج إجراءات مشددة لمراقبة ضرب العملة وضبط عيارها والحؤول دون ضرب عيار آخر لها، واتخذ دوراً للضرب في الكوفة والبصرة وواسط وجمع فيها الطباعين، ولم يتردد في إنزال أقسى العقوبات بكل من يحاول غش العملة أو إنقاص وزنها، وكاد يقتل سميراً اليهودي لأنه ضرب دراهم على غير سكة السلطان، ثم عفا عنه حينما تعهد أن يضع له أوزاناً دقيقة للعملة، وكان الناس قبل ذلك يأخذون الدرهم الوازن ويزنون به غيره.
ويعود للحجاج الفضل في تعريب دواوين الخراج الذي تم ما بين 82-83هـ، لأن البلاذري يذكر أن زادان فرّوخ الذي كان يتولى ديوان العراق قُتل في أثناء ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وهو خارج من منزل كان فيه، فاستكتب الحجاج صالح بن عبد الرحمن الذي كان يتقن الفارسية والعربية فعرّب الدواوين.
وفي مجال الإصلاح اللغوي، تمت في عهد الحجاج بن يوسف جهود لضبط الكتابة العربية والقواعد، والمحافظة على قراءة العربية وعلى كتاب الله من اللحن والتحريف والتصحيف، وكان اللحن قد بدأ يشيع بين العرب المسلمين بسبب اختلاطهم بالشعوب الأخرى، كما شاع بين الموالي الذين ينتمون إلى أصول غير عربية، مما أوجد في المجتمع حاجة ملحة إلى وضع قواعد ثابتة لضبط قراءة القرآن خاصة والعربية عامة، يفيد منها جمهور العرب والمسلمين وتساعدهم على تقويم ألسنتهم، يذكر ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان»، أنه حينما كثر التصحيف وانتشر بالعراق سأل الحجاج كُتّابه أن يضعوا للحروف المشتبهة علامات فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفراداً وأزواجاً وخالف بين أماكنها، ولكن التصحيف وقع كذلك مع استعمال النقط فأحدثوا الإعجام بوضع النقط والحركات.
وقد عُرف عن الحجاج كثرة قراءته للقرآن والتأمل في معانيه والاستشهاد بآياته، كما كان يقدِّر أهله ويكرم حفظته، يذكر الجاحظ أن الحجاج كان يُدني حفظة القرآن مما جعل بعض الناس ينكبون على حفظه حتى إن بعضهم حفظه في سنة، وكان يحث قادته على ضرورة تمسك جندهم بالقرآن الكريم كما فعل حين كتب إلى قتيبة بن مسلم الباهلي «خذ عسكرك بتلاوة القرآن فإنه أمنع حصونك».
والحجاج أيضاً صاحب الفضل في المبادرة للقيام بالكثير من الفتوحات التي تحققت في زمن الخليفة الوليد ابن عبد الملك (86-96هـ/705-714م) فهو الذي بعث قتيبة بن مسلم الباهلي[ر] عامله على خراسان لفتح منطقة ما وراء النهر فأتم قتيبة ما ندب من أجله، وفتح بيكند وبخارى وسمرقند، ووصل إلى حدود الصين، وهو الذي سير محمد بن القاسم الثقفي[ر] لفتح حوض نهر السند والهند.
ولم يكن من عادة الحجاج الخروج في الحملات العسكرية، وإنما كان يشرف على تجهيزها بنفسه، ويزودها بكل ما تحتاجه، فقد قيل عن الجيش الذي سيره برئاسة محمد بن القاسم الثقفي أنه جهزه بكل شيء حتى الخيوط والمسال؛ كما أنه كان على اتصال دائم بقادة جيوشه يمدهم بالنصح والتوجيهات.
وفي العقد الأخير من حكمه للعراق، قام الحجاج بإصلاحات زراعية، فالثورات الداخلية ولاسيما حركات الخوارج أضرت بالأراضي الزراعية وتسببت في كسر الخراج، وتفاقمت في القرن الأول الهجري، هجرة الفلاحين الذين أسلموا إلى المدن الأمر الذي أدى إلى قلة الأيدي العاملة في الزراعة وهذا ما دفع عمال الحجاج إلى أن يكتبوا إليه قائلين: «إن الخراج قد انكسر وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار»، فعمد الحجاج إلى إعادة الفلاحين إلى قراهم الأصلية (فقراهم أولى بهم) كما أنه جلب الأيدي العاملة من الخارج للعمل في إصلاح الأراضي وزراعتها.
واستصلح الحجاج الأراضي عن طريق تجفيف المستنقعات وبعض البطائح وشق الترع والقنوات، وحفر مجاري الأنهار لإيصال الماء إلى الأراضي البور وتحويلها إلى مناطق زراعية، وحفر عدداً من الأنهار كنهر الزابي ونهر الأنبار، وأقام الجسور على الأنهار وفوق الترع حتى يسهل على المزارعين التنقل بين الأراضي الزراعية الواقعة على ضفاف تلك الأنهار.
وربما كان الحجاج أول من أقدم على إقراض المزارعين قروضاً من بيت المال لمساعدتهم على التغلب على الكوارث الطبيعية التي قد تلحق بمحاصيلهم بسبب الفيضانات أو انحباس الأمطار أو تفشي الأوبئة الزراعية، ويذكر ابن رستة أن مجموع هذه القروض بلغ مليوني درهم، وهذا أشبه بالقروض التي يمنحها مصرف التسليف الزراعي في بعض الدول الحديثة.
تمتع الحجاج إضافة إلى حنكته السياسية بملكة أدبية جعلته في مقدمة أدباء ذلك العصر وخطبائه. وقد شهد له علماء عصره بالفصاحة والأدب، فقال فيه العالم اللغوي أبو عمرو بن العلاء: «ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج».
وكان الحجاج يطرب للعبارات الفصيحة وتهزه معانيها خاصة إذا جاءت على غير تكلف ولا تصنع في القول، وكثيراً ما نجَّت الفصاحة وحسن اللفظ والاعتذار الأدبي اللبق أصحابها من موت محقق على يدي الحجاج بسبب جرائم اقترفوها.
وتذكر المصادر أن الحجاج منذ قدم العراق قرَّب الشعراء إليه واصطنع الفحول منهم، ويعد جرير بن عطية الخطفي (28-114هـ/640-732م) من أشهر الشعراء الذين قرّبهم الحجاج، حتى عُدَّ شاعر الحجاج الأول، وقد مدح جرير الحجاج في كثير من قصائده مشيداً بسياسته وحزمه وطاعته للخليفة وشدته على أعداء الدولة، كما امتدح شجاعته وبأسه وشدته على الذين يتلاعبون بأموال الدولة وأهل الفساد والرشوة وقطاع الطرق، ومن الشعراء الذين امتدحوا الحجاج، الفرزدق همام بن غالب التميمي (ت114هـ/732م) إلا أنه فيما بعد هجا الحجاج تمشياً مع رغبة سليمان بن عبد الملك الذي كان يتحامل على الحجاج ونكل بأسرته.
وأشاد الأخطل غياث بن غوث (ت92هـ/710م) بالحجاج وامتدحه لعبد الملك، ووفدت عليه كذلك ليلى الأخيلية ابنة عبد الله الرحّال الشاعرة المعروفة (ت80هـ/700م) وقد أوردت المصادر الأدبية وخاصة الأغاني أخبار هذه الوفادات ومدحها للحجاج، وإعجابه بشعرها وإكرامه لها.
توفي الحجاج في واسط ، وقد أقر الوليد عمال الحجاج كلهم على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته.
ذهب الناس في الحكم على الحجاج كل مذهب،لم توحد بينهم نظرة ولا جمعتهم قاعدة واحدة في محاولتهم وصف الرجل وتقويم أعماله فاختلفت الموازين والأحكام وتفاوتت بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، فالمؤيدون والمعجبون كانوا يرون فيه الحاكم القوي الأمين الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، والوالي الذي قضى على الفتن وعوامل الاضطراب، وأمَّن الناس على أنفسهم وأموالهم، ومنع الرشوة وابتزاز الأموال والفساد في الحكم، ونظر في مظالم الناس واستأنف الفتح والجهاد، أما معارضوه من شيعة وخوارج وقُرّاء فكانوا يتهمونه بالقسوة والظلم والطغيان وسفك الدماء، بل إن بعضهم اتهمه بالكفر، ويبدو أن كثيراً من الآراء المعادية للحجاج قد انطلقت من عقالها بعد وفاته، ووجدت متنفساً لها في عهد سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز اللذين كانا يبغضانه، واستمر الأمر على هذه الحال وعلى نطاق أوسع في عصر بني العباس المعادين للأمويين ورجالاتهم.
نجدة خماش
Al-Hajjaj ibn Youssef Ath-Thaqafy - Al-Hajjaj ibn Youssef Ath-Thaqafy
الحجاج بن يوسف الثقفي
(41-95هـ/661-713م)
أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن عقيل بن مسعود الثقفي، من أبرز ولاة بني أمية ومن الخطباء المفوهين والساسة الدهاة، ترك أثره في كل ناحية من نواحي الإدارة والحكم والتنظيم المالي والاجتماعي في عصره.
ولد الحجاج بالطائف، ونشأ في أسرة مثقفة، فقد كان هو وأبوه معلمين بالطائف، وكذلك كانت أخته زينب تجمع إلى معرفة القراءة الاهتمام بالأمور العامة.
في سنة 64هـ انضم يوسف بن الحكم وابنه الحجاج إلى جيش حُبَيش بن دُلْجة القيني الذي أرسله مروان بن الحكم سنة 64هـ لقتال عبد الله ابن الزبير، ولكن جيش حُبيش هُزم، وانهزم فيه الحجاج وأبوه،وما نجوا يومئذ إلا على جمل واحد، ولحق الحجاج بعد ذلك بروح بن زنباع الجذامي فكان في عداد شرطته؛ ثم ما زال يظهر حتى قلده عبد الملك أمر عسكره وأمره بقتال عبد الله بن الزبير في مكة، وبعد حصار دام أشهراً، قُتل ابن الزبير في جمادى الآخرة سنة 73هـ/692م. فقلد عبد الملك الحجاج الحجاز واليمن واليمامة فوطد الأمن والاستقرار في الحجاز، وهدم سنة 74هـ بنيان الكعبة الذي كان ابن الزبير قد بناه، وأعاد بناء الكعبة على بنائها الأول وكساها الديباج.
بقي الحجاج والياً على الحجاز حتى سنة 75هـ/694م حين أتاه كتاب عبد الملك بتوليه العراق بعد وفاة واليها بشر بن مروان، وكانت الفتن المتلاحقة (حركة التوابين، حركة المختار بن أبي عبيد الثقفي، حركات الخوارج) قد مزقت أوصال العراق، فلم يجد عبد الملك من هو أقدر على إحلال الأمن والنظام من الحجاج.
خرج الحجاج من المدينة في اثني عشر راكباً على النجائب ووصل الكوفة في رابعة النهار،فتوجه إلى المسجد، وصعد المنبر وهو ملثم بعمامة خز حمراء، وجلس على المنبر صامتاً، فأطال الصمت مما شق على الناس، فتناول أحدهم حصى وأراد أن يحصبه وقال: قاتله الله ما أعياه، ويبدو أن الحجاج كان ينتظر حدوث ما حدث، فهب واقفاً وحسر عن وجهه وانطلق بخطبته المشهورة التي مطلعها:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
وقد ختم خطبته التي يتهدد فيها ويعد، بدعوة الناس إلى الالتحاق فوراً بجيش المهلب بن أبي صفرة[ر] لمحاربة الخوارج الأزارقة[ر] واتبع أمره هذا بقوله مهدداً: «من وجدته بعد ثلاثة من بعث المهلب سفكت دمه وأنهبت ماله». وقد أراد بهذا أولاً أن يعيد الذين فروا من معسكر المهلب في رامهرمز حين سمعوا بوفاة الوالي بشر بن مروان، وأراد ثانياً إحلال النظام في مجتمع بَعُدَ العهد بينه وبين الطاعة والنظام، واستطاع المهلب بدعم الحجاج له أن ينصرف إلى قتال الأزارقة، ويلحق بهم الهزيمة تلو الهزيمة، واستمر في حربهم أكثر من سنتين، نجح في النهاية أن يقضي عليهم ويفرق جمعهم، فأكرمه الحجاج وأكرم أولاده وولاه خراسان.
قبل أن يتم القضاء على الأزارقة في الشرق قامت ثورة أخرى سنة 76هـ/695م أجج نارها فريق من الخوارج الصفرية على رأسهم صالح بن مسرح، وبعد مقتله تولى القيادة شبيب بن يزيد الشيباني من بني شيبان من قبيلة بكر، الذين كانوا يقطنون في أطراف الموصل ونصيبين وسنجار، وقد قاتل شبيب الجيوش التي أرسلها الحجاج في مواقع عدة وهزمها، فطلب الحجاج المدد من عبد الملك، فأمده الخليفة بجند من أهل الشام، تمكن بمعونتهم من القضاء عليهم، ومات شبيب غرقاً في نهر دُجيل إثر مطاردة الجيش الأموي له، وكان مصرعه سنة 77 أو 78هـ.
ما كاد الحجاج يخلد إلى الراحة بعد القضاء على حركات الخوارج من الأزارقة والصفرية، حتى جوبه بثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث الكندي[ر] (81-83هـ) التي كانت من أقسى الأزمات التي واجهتها الدولة الأموية وتعرض فيها مركز الحجاج إلى امتحان عسير خرج منه منتصراً بعد أن هزم عبد الرحمن بمساعدة مقاتلة الشام في معركتي دير الجماجم ومسكن سنة 83هـ/702م.
أصبح الحجاج سيد المشرق الإسلامي ما عدا خراسان حيث أظهر يزيد بن المهلب والي خراسان بعد وفاة والده المهلب بن أبي صفرة، تراخياً في ملاحقة أتباع عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث، كما أنه تجاهل أوامر الحجاج المتكررة بالقدوم إلى واسط، وأخيراً عزل الحجاج يزيد بن الملهب بموافقة عبد الملك وسجنه سنة 85هـ.
يتميز عهد الحجاج بالمنجزات الضخمة التي تمت على يده، ففي سنة 83هـ أو 84هـ بدأ ببناء مدينة واسط ليكون قريباً من حاضرتيه الكوفة والبصرة، وكان غرض الحجاج من بناء مدينة واسط إدارياً بحتاً، وليس كما ذهب إليه بعضهم من أن كره الحجاج للعراقيين ورغبته في عزل جنود الشام كي لا تفسدهم معاشرتهم كانت سبب بنائه المدينة. وليس أدل على ذلك من أنه لما فرغ من بنائها، نقل إليها، كما يذكر بَحْشَل، أسلم بن سهل الرزّازي الواسطي (ت292هـ) مؤلف «تاريخ واسط»، بعضاً من وجوه أهل الكوفة وأمرهم أن يُصلّوا عن يمين المقصورة، ونقل بعضاً من وجوه أهل البصرة، وأمرهم أن يُصلّوا عن يسار المقصورة، وأمر من كان معه من أهل الشام أن يصلّوا حياله مما يلي المقصورة.
وحينما عمد عبد الملك إلى تعريب النقد وتحديد عياره ، بعث بالسكة إلى الحجاج فسيرها إلى الآفاق لتضرب الدراهم بها، وأمر أن تسحب النقود الأخرى التي كان يجري التعامل بها تدريجياً.
واتخذ الحجاج إجراءات مشددة لمراقبة ضرب العملة وضبط عيارها والحؤول دون ضرب عيار آخر لها، واتخذ دوراً للضرب في الكوفة والبصرة وواسط وجمع فيها الطباعين، ولم يتردد في إنزال أقسى العقوبات بكل من يحاول غش العملة أو إنقاص وزنها، وكاد يقتل سميراً اليهودي لأنه ضرب دراهم على غير سكة السلطان، ثم عفا عنه حينما تعهد أن يضع له أوزاناً دقيقة للعملة، وكان الناس قبل ذلك يأخذون الدرهم الوازن ويزنون به غيره.
ويعود للحجاج الفضل في تعريب دواوين الخراج الذي تم ما بين 82-83هـ، لأن البلاذري يذكر أن زادان فرّوخ الذي كان يتولى ديوان العراق قُتل في أثناء ثورة عبد الرحمن بن الأشعث وهو خارج من منزل كان فيه، فاستكتب الحجاج صالح بن عبد الرحمن الذي كان يتقن الفارسية والعربية فعرّب الدواوين.
وفي مجال الإصلاح اللغوي، تمت في عهد الحجاج بن يوسف جهود لضبط الكتابة العربية والقواعد، والمحافظة على قراءة العربية وعلى كتاب الله من اللحن والتحريف والتصحيف، وكان اللحن قد بدأ يشيع بين العرب المسلمين بسبب اختلاطهم بالشعوب الأخرى، كما شاع بين الموالي الذين ينتمون إلى أصول غير عربية، مما أوجد في المجتمع حاجة ملحة إلى وضع قواعد ثابتة لضبط قراءة القرآن خاصة والعربية عامة، يفيد منها جمهور العرب والمسلمين وتساعدهم على تقويم ألسنتهم، يذكر ابن خلكان في كتابه «وفيات الأعيان»، أنه حينما كثر التصحيف وانتشر بالعراق سأل الحجاج كُتّابه أن يضعوا للحروف المشتبهة علامات فيقال إن نصر بن عاصم قام بذلك فوضع النقط أفراداً وأزواجاً وخالف بين أماكنها، ولكن التصحيف وقع كذلك مع استعمال النقط فأحدثوا الإعجام بوضع النقط والحركات.
وقد عُرف عن الحجاج كثرة قراءته للقرآن والتأمل في معانيه والاستشهاد بآياته، كما كان يقدِّر أهله ويكرم حفظته، يذكر الجاحظ أن الحجاج كان يُدني حفظة القرآن مما جعل بعض الناس ينكبون على حفظه حتى إن بعضهم حفظه في سنة، وكان يحث قادته على ضرورة تمسك جندهم بالقرآن الكريم كما فعل حين كتب إلى قتيبة بن مسلم الباهلي «خذ عسكرك بتلاوة القرآن فإنه أمنع حصونك».
والحجاج أيضاً صاحب الفضل في المبادرة للقيام بالكثير من الفتوحات التي تحققت في زمن الخليفة الوليد ابن عبد الملك (86-96هـ/705-714م) فهو الذي بعث قتيبة بن مسلم الباهلي[ر] عامله على خراسان لفتح منطقة ما وراء النهر فأتم قتيبة ما ندب من أجله، وفتح بيكند وبخارى وسمرقند، ووصل إلى حدود الصين، وهو الذي سير محمد بن القاسم الثقفي[ر] لفتح حوض نهر السند والهند.
ولم يكن من عادة الحجاج الخروج في الحملات العسكرية، وإنما كان يشرف على تجهيزها بنفسه، ويزودها بكل ما تحتاجه، فقد قيل عن الجيش الذي سيره برئاسة محمد بن القاسم الثقفي أنه جهزه بكل شيء حتى الخيوط والمسال؛ كما أنه كان على اتصال دائم بقادة جيوشه يمدهم بالنصح والتوجيهات.
وفي العقد الأخير من حكمه للعراق، قام الحجاج بإصلاحات زراعية، فالثورات الداخلية ولاسيما حركات الخوارج أضرت بالأراضي الزراعية وتسببت في كسر الخراج، وتفاقمت في القرن الأول الهجري، هجرة الفلاحين الذين أسلموا إلى المدن الأمر الذي أدى إلى قلة الأيدي العاملة في الزراعة وهذا ما دفع عمال الحجاج إلى أن يكتبوا إليه قائلين: «إن الخراج قد انكسر وإن أهل الذمة قد أسلموا ولحقوا بالأمصار»، فعمد الحجاج إلى إعادة الفلاحين إلى قراهم الأصلية (فقراهم أولى بهم) كما أنه جلب الأيدي العاملة من الخارج للعمل في إصلاح الأراضي وزراعتها.
واستصلح الحجاج الأراضي عن طريق تجفيف المستنقعات وبعض البطائح وشق الترع والقنوات، وحفر مجاري الأنهار لإيصال الماء إلى الأراضي البور وتحويلها إلى مناطق زراعية، وحفر عدداً من الأنهار كنهر الزابي ونهر الأنبار، وأقام الجسور على الأنهار وفوق الترع حتى يسهل على المزارعين التنقل بين الأراضي الزراعية الواقعة على ضفاف تلك الأنهار.
وربما كان الحجاج أول من أقدم على إقراض المزارعين قروضاً من بيت المال لمساعدتهم على التغلب على الكوارث الطبيعية التي قد تلحق بمحاصيلهم بسبب الفيضانات أو انحباس الأمطار أو تفشي الأوبئة الزراعية، ويذكر ابن رستة أن مجموع هذه القروض بلغ مليوني درهم، وهذا أشبه بالقروض التي يمنحها مصرف التسليف الزراعي في بعض الدول الحديثة.
تمتع الحجاج إضافة إلى حنكته السياسية بملكة أدبية جعلته في مقدمة أدباء ذلك العصر وخطبائه. وقد شهد له علماء عصره بالفصاحة والأدب، فقال فيه العالم اللغوي أبو عمرو بن العلاء: «ما رأيت أفصح من الحسن البصري ومن الحجاج».
وكان الحجاج يطرب للعبارات الفصيحة وتهزه معانيها خاصة إذا جاءت على غير تكلف ولا تصنع في القول، وكثيراً ما نجَّت الفصاحة وحسن اللفظ والاعتذار الأدبي اللبق أصحابها من موت محقق على يدي الحجاج بسبب جرائم اقترفوها.
وتذكر المصادر أن الحجاج منذ قدم العراق قرَّب الشعراء إليه واصطنع الفحول منهم، ويعد جرير بن عطية الخطفي (28-114هـ/640-732م) من أشهر الشعراء الذين قرّبهم الحجاج، حتى عُدَّ شاعر الحجاج الأول، وقد مدح جرير الحجاج في كثير من قصائده مشيداً بسياسته وحزمه وطاعته للخليفة وشدته على أعداء الدولة، كما امتدح شجاعته وبأسه وشدته على الذين يتلاعبون بأموال الدولة وأهل الفساد والرشوة وقطاع الطرق، ومن الشعراء الذين امتدحوا الحجاج، الفرزدق همام بن غالب التميمي (ت114هـ/732م) إلا أنه فيما بعد هجا الحجاج تمشياً مع رغبة سليمان بن عبد الملك الذي كان يتحامل على الحجاج ونكل بأسرته.
وأشاد الأخطل غياث بن غوث (ت92هـ/710م) بالحجاج وامتدحه لعبد الملك، ووفدت عليه كذلك ليلى الأخيلية ابنة عبد الله الرحّال الشاعرة المعروفة (ت80هـ/700م) وقد أوردت المصادر الأدبية وخاصة الأغاني أخبار هذه الوفادات ومدحها للحجاج، وإعجابه بشعرها وإكرامه لها.
توفي الحجاج في واسط ، وقد أقر الوليد عمال الحجاج كلهم على أعمالهم التي كانوا عليها في حياته.
ذهب الناس في الحكم على الحجاج كل مذهب،لم توحد بينهم نظرة ولا جمعتهم قاعدة واحدة في محاولتهم وصف الرجل وتقويم أعماله فاختلفت الموازين والأحكام وتفاوتت بين أقصى اليسار وأقصى اليمين، فالمؤيدون والمعجبون كانوا يرون فيه الحاكم القوي الأمين الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، والوالي الذي قضى على الفتن وعوامل الاضطراب، وأمَّن الناس على أنفسهم وأموالهم، ومنع الرشوة وابتزاز الأموال والفساد في الحكم، ونظر في مظالم الناس واستأنف الفتح والجهاد، أما معارضوه من شيعة وخوارج وقُرّاء فكانوا يتهمونه بالقسوة والظلم والطغيان وسفك الدماء، بل إن بعضهم اتهمه بالكفر، ويبدو أن كثيراً من الآراء المعادية للحجاج قد انطلقت من عقالها بعد وفاته، ووجدت متنفساً لها في عهد سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز اللذين كانا يبغضانه، واستمر الأمر على هذه الحال وعلى نطاق أوسع في عصر بني العباس المعادين للأمويين ورجالاتهم.
نجدة خماش