حيره
Al-Hirah - Al-Hirah
الحيرة
الحيرة مدينة بائدة في العراق كانت تمتد موازية لضفة الفرات اليمنى (الغربية) قائمة على رافد للفرات يسمى نهر كافر. وهي قريبة من بلدة أبو صخير ومن النجف والكوفة والقادسية. ويصعب تحديد امتدادها القديم. وكل ما بقي منها اليوم سلسلة من التلال. وموقع الحيرة جيد صحيح الهواء وقد قيل إن يوماً وليلة في الحيرة خير من دواء سنة. وتوصف الحيرة بالروحاء والبيضاء.
يُرِجع الاخباريون تأسيس الحيرة إلى الملك الكلداني بختنصر (نبوخذ نصر) (604-561ق.م) دون مؤيد يركن إليه. ومن المحتمل أن بدايتها ترجع إلى زمن أقدم. ومن الواضح أنها كانت بالأصل محطة قديمة من محطات الفرات في المسيرة نحو الخليج العربي وسوقاً للبداة. ولا يمكن البت في أمر نشأتها الأولى إلا باستقصاء أثري شامل ومركّز. إذ إن أعمال التنقيب التي قامت بها البعثة الأثرية البريطانية في بعض تلالها الأثرية عام 1931 وكذلك التنقيب الذي نفذته السلطة الأثرية العراقية في أواخر الأربعينات، لم تتعمق في السويات الأدنى ولم تزد شيئاً على المعروف من مصنّفات الاخباريين العرب. حتى إن التل الذي عرف بالتواتر باسم تل الخورنق وغيره من تلال الحيرة القديمة، لم تظهر فيها مبان واضحة الهوية، إذ إن آجرَّ البناء والزخارف الجصية وما قد يكون فيها من أعمدة رخامية قد اقتلعت واستخدمت في تشييد أبنية في أبي صخير والنجف والكوفة خاصّة.
واسم الحيرة معرّب عن كلمة «حيرتا» الآرامية التي تعني القلعة أو المعسكر المحصَّن. وهذا الاسم هو على الراجح من تسميات الألف الأول قبل الميلاد، الأمر الذي يدفع إلى الظن بأن الحيرة كانت آنذاك تقوم بمهمة رأس جسر محصَّن يشرف على منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية في إحدى الدويلات الآرامية، قبل أن تدخل في نطاق الممالك الآشورية والكلدانية والفارسية.
بدأ التوثق النسبي من أمر الحيرة بدءاً من مطلع القرن الثالث الميلادي حين غدت عاصمة لدولة عربية عرفت بدولة المناذرة أو دولة اللخميين، وضمت هذه الدولة مدينة الأنبار وامتدت في أوجها من الفرات الأوسط إلى منتصف الخليج العربي وسادت كل القبائل الضاربة في هذه المنطقة وفي غربها أحياناً حتى منطقة الحرات في سورية ،ودامت هذه الحال أربعة قرون ونصف، كان يقوم في أثنائها على رأس دولة الحيرة ملك له بلاط كبير على نسق بلاط الأكاسرة في المدائن، وله وزير يسمى الرديف، ويعتمد على قوات عسكرية نظامية وغير نظامية، وبعضها من الفرس.
إن السبب في قبول الفرس قيام دولة اللخميين في الحيرة وقبول الروم بقيام دولة الغساسنة في الشام هو أن منازعاتهم في القرن الثالث الميلادي قد أضعفت الدولتين وهددت وجودهما في بادية الشام، الأمر الذي اتضح من تجمع القبائل العربية وتمركزها في التخوم وتنامي قوتها، وقد رأت الدولتان الإفادة من هذه القوة الشديدة البأس في صد غارات البدو عن المناطق الحضارية التابعة لهما، وتغاضيتا عن سعي قادة هذه القبائل اللخمية والغسانية لتأسيس السلطة الخاصة بهم وإنشاء سلالات ملكية.
أضعفت المنازعات بين الأخوة دولة المناذرة حتى أن النعمان الثالث بن المنذر(580-602م) أُبقي في بلاط الفرس سجيناً حتى مات، وأقام الفرس إياس بن قبيصة الطائي (602-611م) ملكا على الحيرة، دون أن يكون من سلالة المناذرة، وأشركوا معه في الحكم رجلاً فارسياً، تولى عرش الحيرة بعد موت إياس اثنان من اللخميين الموالين للفرس آخرهما المنذر الخامس الملقب بالمغرور، وبذلك عادت السيادة للخميين. لكن ذلك كان مؤقتاً لأن الجيوش العربية الإسلامية بدأت الفتوحات. واستولى خالد بن الوليد على الحيرة صلحاً (عام 13هـ/633م). وكانت أول ما افتتح من العراق.
أثار حفيظة الفرس تسليم الحيرة صلحاً فعملوا على استرجاعها وعينوا قابوس بن قابوس بن المنذر ملكاً عليها فسار إلى القادسية وهناك تفرق جمعه وقتل.
كان سكان الحيرة ثلاثة أقسام أساسية: التنوخيون ولهم الشأن الكبير، والعباديون الذين كانوا مسيحيين على مذهب النساطرة وقليل منهم اليعاقبة. ولا يدل اسم العباديين على قبيلة أو بطن محدد، إنما يعني جماعة من قبائل شتى جمعت بينهم وحدة الدين ووحدة الموطن، وأطلق عليهم اسم العباديين لأنهم تعبدوا الله وخالفوا الوثنيين. وهم أهل قراءة وكتابة وحِرَفٍ وفنون. والقسم الثالث في الحيرة هم الأحلاف وهم قبائل عربية من غير اللخميين لحقت بهم إلى الحيرة. وكان في الحيرة جماعة من النبيط هم من قدماء أهل العراق يضاف إليهم جماعة من الفرس، أو على دين الفرس، وبعض معتنقي اليهودية.
وكانت لهجات أهل الحيرة خليطاً. فيها من العدنانية وفيها من الحميرية وفيها من الهجنة وبعض الرطانة النبيطية. وكان عرب الحيرة يستعملون الآرامية في الكتابة كالأنباط والتدمريين. وأدت الحيرة خدمة كبيرة للغة العربية بما احتضنته من الأدباء والشعراء كما أن لها فضلاً كبيراً في تعليم الخط العربي الذي انتقل إليها من الأنبار فأشاعته في مكة وفي عدد من أرجاء الجزيرة العربية.
وكانت العمارة في الحيرة متأثرة بالعمارة الساسانية، تقوم جدرانها أساساً على حشوة اللبن مكسوة بالآجر مزينة بالزخارف الجصية. وتحتوي القصور على بعض الأجزاء المكشوفة المرتفعة والمزينة بالشراريف المدرّجة والأعمدة الرشيقة. وقلما تستخدم القباب. وتكسو الجدران أشكال ملونة تمثل غالباً مشاهد من الحرب والقنص ومجالس الطرب. وينحو القصر الملكي نحو بلاط الأكاسرة من حيث الإيوان والأروقة الجانبية والأجنحة. ومن قصور الحيرة الشهيرة الخورنق والسدير وقد يكون السدير جزءاً من الخورنق. ومن قصور الحيرة الشهيرة قصر بني بقيلة من العباديين وقصر الزوراء والقصر الأبيض وكذلك عدد كبير من البيع والكنائس. واستخدمت أنقاض قصور الحيرة من آجر وأعمدة ورخام وزخارف في بناء المسجد الجامع في الكوفة. وبالإجمال أدى ميلاد الكوفة إلى الأفول التدريجي لمدينة الحيرة. ولكنها لم تهجر تماماً في العصر العباسي. وأقام هارون الرشيد في الحيرة مدة وشيد فيها بعض المباني فأثار ذلك سخط أهل الكوفة مما دعاه إلى تركها. وبقيت في الحيرة مساكن ومقاصف للهو واشتهر فيها الغناء الحيري والآلات الموسيقية مثل العود الحيري والمزمار والدف. واشتهر من أهلها عدد من الشعراء منهم عدي بن زيد العبادي وعدي بن مرينا.
في القرن العاشر الميلادي تعرضت الحيرة كغيرها من المواقع الحضرية في سواد العراق لغارات البدو، مما اقتضى إرسال الجند إليها. وفي النصف الثاني من ذلك القرن وصفت بأنها متسعة الجنبات قليلة السكان.
وكان أهل الحيرة زراعاً وتجاراً نشطاء وحرفيين مهرة في الصياغة وصناعة الأسلحة الفولاذية. وعُرفت الحيرة بالتطور الطبي فيها وظلت محافظة على هذه الشهرة حتى العصر الإسلامي ومن أشهر أطبائها حنين بن إسحاق طبيب المتوكل على الله وكان أبوه صيدلانياً في الحيرة. إن الازدهار الكبير الذي حققته الحيرة في النواحي العلمية والأدبية والفنية والعمرانية والاقتصادية هام جداً ولكن لم يصل بها إلى المستوى السياسي الذي أدركته تدمر والبتراء.
عدنان البني
Al-Hirah - Al-Hirah
الحيرة
يُرِجع الاخباريون تأسيس الحيرة إلى الملك الكلداني بختنصر (نبوخذ نصر) (604-561ق.م) دون مؤيد يركن إليه. ومن المحتمل أن بدايتها ترجع إلى زمن أقدم. ومن الواضح أنها كانت بالأصل محطة قديمة من محطات الفرات في المسيرة نحو الخليج العربي وسوقاً للبداة. ولا يمكن البت في أمر نشأتها الأولى إلا باستقصاء أثري شامل ومركّز. إذ إن أعمال التنقيب التي قامت بها البعثة الأثرية البريطانية في بعض تلالها الأثرية عام 1931 وكذلك التنقيب الذي نفذته السلطة الأثرية العراقية في أواخر الأربعينات، لم تتعمق في السويات الأدنى ولم تزد شيئاً على المعروف من مصنّفات الاخباريين العرب. حتى إن التل الذي عرف بالتواتر باسم تل الخورنق وغيره من تلال الحيرة القديمة، لم تظهر فيها مبان واضحة الهوية، إذ إن آجرَّ البناء والزخارف الجصية وما قد يكون فيها من أعمدة رخامية قد اقتلعت واستخدمت في تشييد أبنية في أبي صخير والنجف والكوفة خاصّة.
مسقط لأحد قصور الحيرة |
بدأ التوثق النسبي من أمر الحيرة بدءاً من مطلع القرن الثالث الميلادي حين غدت عاصمة لدولة عربية عرفت بدولة المناذرة أو دولة اللخميين، وضمت هذه الدولة مدينة الأنبار وامتدت في أوجها من الفرات الأوسط إلى منتصف الخليج العربي وسادت كل القبائل الضاربة في هذه المنطقة وفي غربها أحياناً حتى منطقة الحرات في سورية ،ودامت هذه الحال أربعة قرون ونصف، كان يقوم في أثنائها على رأس دولة الحيرة ملك له بلاط كبير على نسق بلاط الأكاسرة في المدائن، وله وزير يسمى الرديف، ويعتمد على قوات عسكرية نظامية وغير نظامية، وبعضها من الفرس.
إن السبب في قبول الفرس قيام دولة اللخميين في الحيرة وقبول الروم بقيام دولة الغساسنة في الشام هو أن منازعاتهم في القرن الثالث الميلادي قد أضعفت الدولتين وهددت وجودهما في بادية الشام، الأمر الذي اتضح من تجمع القبائل العربية وتمركزها في التخوم وتنامي قوتها، وقد رأت الدولتان الإفادة من هذه القوة الشديدة البأس في صد غارات البدو عن المناطق الحضارية التابعة لهما، وتغاضيتا عن سعي قادة هذه القبائل اللخمية والغسانية لتأسيس السلطة الخاصة بهم وإنشاء سلالات ملكية.
أضعفت المنازعات بين الأخوة دولة المناذرة حتى أن النعمان الثالث بن المنذر(580-602م) أُبقي في بلاط الفرس سجيناً حتى مات، وأقام الفرس إياس بن قبيصة الطائي (602-611م) ملكا على الحيرة، دون أن يكون من سلالة المناذرة، وأشركوا معه في الحكم رجلاً فارسياً، تولى عرش الحيرة بعد موت إياس اثنان من اللخميين الموالين للفرس آخرهما المنذر الخامس الملقب بالمغرور، وبذلك عادت السيادة للخميين. لكن ذلك كان مؤقتاً لأن الجيوش العربية الإسلامية بدأت الفتوحات. واستولى خالد بن الوليد على الحيرة صلحاً (عام 13هـ/633م). وكانت أول ما افتتح من العراق.
الزخارف الجصية |
على أحد أبواب قصر في الحيرة |
كان سكان الحيرة ثلاثة أقسام أساسية: التنوخيون ولهم الشأن الكبير، والعباديون الذين كانوا مسيحيين على مذهب النساطرة وقليل منهم اليعاقبة. ولا يدل اسم العباديين على قبيلة أو بطن محدد، إنما يعني جماعة من قبائل شتى جمعت بينهم وحدة الدين ووحدة الموطن، وأطلق عليهم اسم العباديين لأنهم تعبدوا الله وخالفوا الوثنيين. وهم أهل قراءة وكتابة وحِرَفٍ وفنون. والقسم الثالث في الحيرة هم الأحلاف وهم قبائل عربية من غير اللخميين لحقت بهم إلى الحيرة. وكان في الحيرة جماعة من النبيط هم من قدماء أهل العراق يضاف إليهم جماعة من الفرس، أو على دين الفرس، وبعض معتنقي اليهودية.
وكانت لهجات أهل الحيرة خليطاً. فيها من العدنانية وفيها من الحميرية وفيها من الهجنة وبعض الرطانة النبيطية. وكان عرب الحيرة يستعملون الآرامية في الكتابة كالأنباط والتدمريين. وأدت الحيرة خدمة كبيرة للغة العربية بما احتضنته من الأدباء والشعراء كما أن لها فضلاً كبيراً في تعليم الخط العربي الذي انتقل إليها من الأنبار فأشاعته في مكة وفي عدد من أرجاء الجزيرة العربية.
وكانت العمارة في الحيرة متأثرة بالعمارة الساسانية، تقوم جدرانها أساساً على حشوة اللبن مكسوة بالآجر مزينة بالزخارف الجصية. وتحتوي القصور على بعض الأجزاء المكشوفة المرتفعة والمزينة بالشراريف المدرّجة والأعمدة الرشيقة. وقلما تستخدم القباب. وتكسو الجدران أشكال ملونة تمثل غالباً مشاهد من الحرب والقنص ومجالس الطرب. وينحو القصر الملكي نحو بلاط الأكاسرة من حيث الإيوان والأروقة الجانبية والأجنحة. ومن قصور الحيرة الشهيرة الخورنق والسدير وقد يكون السدير جزءاً من الخورنق. ومن قصور الحيرة الشهيرة قصر بني بقيلة من العباديين وقصر الزوراء والقصر الأبيض وكذلك عدد كبير من البيع والكنائس. واستخدمت أنقاض قصور الحيرة من آجر وأعمدة ورخام وزخارف في بناء المسجد الجامع في الكوفة. وبالإجمال أدى ميلاد الكوفة إلى الأفول التدريجي لمدينة الحيرة. ولكنها لم تهجر تماماً في العصر العباسي. وأقام هارون الرشيد في الحيرة مدة وشيد فيها بعض المباني فأثار ذلك سخط أهل الكوفة مما دعاه إلى تركها. وبقيت في الحيرة مساكن ومقاصف للهو واشتهر فيها الغناء الحيري والآلات الموسيقية مثل العود الحيري والمزمار والدف. واشتهر من أهلها عدد من الشعراء منهم عدي بن زيد العبادي وعدي بن مرينا.
في القرن العاشر الميلادي تعرضت الحيرة كغيرها من المواقع الحضرية في سواد العراق لغارات البدو، مما اقتضى إرسال الجند إليها. وفي النصف الثاني من ذلك القرن وصفت بأنها متسعة الجنبات قليلة السكان.
وكان أهل الحيرة زراعاً وتجاراً نشطاء وحرفيين مهرة في الصياغة وصناعة الأسلحة الفولاذية. وعُرفت الحيرة بالتطور الطبي فيها وظلت محافظة على هذه الشهرة حتى العصر الإسلامي ومن أشهر أطبائها حنين بن إسحاق طبيب المتوكل على الله وكان أبوه صيدلانياً في الحيرة. إن الازدهار الكبير الذي حققته الحيرة في النواحي العلمية والأدبية والفنية والعمرانية والاقتصادية هام جداً ولكن لم يصل بها إلى المستوى السياسي الذي أدركته تدمر والبتراء.
عدنان البني