حتميه
Determinism - Déterminisme
الحتمية
الحتمية determinism مذهب يرى أن كل ما يحدث في الكون على الإطلاق يخضع لقانون سببي ما، فلكل حادث تفسير سببي، أي لكل حادث أسباب ضرورية وكافية تفسّر حدوثه. وهذا ما دعا بعض المفكرين إلى القول إن الحتمية بمعناها البسيط ليست غير «الارتباط العلي»، فالعلية[ر: السببية] هي «التعبير الظاهري للحتمية»، وتكاد تكون مرادفاً للحتمية وعنواناً بديلاً لها عند أكثر الباحثين. والواقع أن مبدأ الحتمية يتضمن مسلمات تسبقه وتبرره وتهبه محتواه، أولها أن ثمة نظاماً في الطبيعة، وأن هذا النظام المتكرر الوقوع في اطراد، وتحكم ذلك الاطراد العلاقة بين العلة والمعلول (العلية).
ويؤمن فلاسفة الحتمية أن كل ما يحدث في الكون قابل للتفسير والتنبؤ من حيث المبدأ. وبهذا يفضي مفهوم الحتمية إلى الحقيقة القائلة إن: «معرفتنا لجميع الشروط التي تعين ظهور الظاهرة تمكننا من التنبؤ بما سيحدث حتماً»، وهذا التنبؤ وليد اطراد العلاقات بين الظواهر وترابطها، فتزايد معرفتنا بالظروف التي تحيط بسلوك الإنسان مثلاً كفيل بالمساعدة على اكتشاف القوانين الصحيحة التي تحكم سلوك البشر. وهذا يفترض طبعاً وجود تناظر منطقي تام بين التفسير والتنبؤ، بمعنى أن البنية المنطقية لعملية التنبؤ هي ذاتها البنية المنطقية لعملية التفسير. فكما أن التفسير يتخذ نمطاً استنباطياً ، كذلك هي الحال فيما يتعلق لعملية التنبؤ. والفرق الوحيد بين التفسير والتنبؤ ينحصر في كون التنبؤ عملية تسبق حدوث الحادث، موضوع التنبؤ، بينما التفسير هو لشيء حدث. ولكن في كلتا الحالتين، يتم استنباط الحادث ، موضوع التفسير أو التنبؤ، من القانون السببي المشار إليه ومن معرفة نوع الشروط السابقة.
يؤدي مبدأ الحتمية دوراً مهماً في ميدان العلم، والمنهج العلمي تحديداً، لأنه يمكن العلماء من الاستقراء والتعميم التجريبي، بحيث أنه ما يصدق على الأمثلة الملاحظة لظاهرة معلومة، يصدق على كل أمثلة الفئة المعينة التي تشبه الأمثلة الملاحظة. ومع التطورات والكشوفات العلمية المتزايدة، خاصة في القرن التاسع عشر، أخذت حدود الحتمية تتسع باطراد لتهدد مكانة الإنسان الفريدة خارج حدود السببية التي تعد أساساً لأي فهم حتمي للظواهر المختلفة، مستبعدة من قاموسها ألفاظاً، كالممكنات والاحتمالات والاختيارات التي تعد لصيقة بالوجود الإنساني، وتفترض إقراراً بالضرورة والسببية المطلقة، أو ما يدعوه «ليبنتز» بـ«السبب الكافي»، وتقييد الإرادة والقسر والإلزام.
وتعددت نظريات الحتمية بتعدد تطبيقاتها والاعتبارات التي دفعت إليها، لكن العنصر المشترك بينها جميعاً هي اتفاقها على خضوع الحوادث في الكون لقانون سببي، فأصحاب الحتمية الأخلاقية يقولون إن الإنسان يسعى إلى اختيار الأفضل، ولايمكن له أن يختار بمحض إرادته فعلاً ما يضر به نفسه، ومن ثم كان رأي سقراط وأفلاطون أن الإنسان لا يفعل الشر إلا مضطراً أو عن جهل، لأنه مفطور على الخير، وهي النتيجة التي يخلص إليها ديكارت وتوما الإكويني وليبتنز.
أما أصحاب الحتمية المنطقية أمثال (ديودورس والميغاريون والرواقيون) فهم يرون أن هناك عللاً منطقية تستبقها بالضرورة نتائج منطقية محتومة. والدعوى بمنطقية الترابط الضروري بين العلل والنتائج، قاد الرواقية إلى القول إن العالم كله عقل وضرورة طالت الإنسان كما العالم، فهم يتحدثون عن أشياء مفروضة على الإنسان تخرج عن نطاق أفعاله، لا يتوقف وجودها عليه، وهي أمور ضرورية لأنها محتومة وخاضعة لجملة من المعوقات الخارجية، فالإنسان لا يستطيع تغيير مصيره والقدر هو القانون الكلي الشامل ولا سبيل للإفلات من ضرورة الأشياء، والحكيم مثلاً «من عرف قوانين الوجود فعمل على أن تطابق إرادته الباطنة تلك القوانين»، وعندها يكون الحديث عما يجب أن تكون عليه أخلاق الفرد والمسؤولية عن أفعاله وهماً باطلاً.
وتطورت هذه النظرة في مجال الدين، فيما يسمى بالحتمية اللاهوتية، لتتفق مع القائلين بالجبرية predestination، الذين يزعمون أن الإنسان مسيّر وليس مخيراً، والذي يلخصه شيخ الجبرية جهم بن صفوان بالقول «لافعل لأحد في الحقيقة إلا لله»[ر. الجهمية]. وقد أدى هذا النوع من الحتمية إلى القدرية fatalism، وله مظهر صوفي، واختلط بالفعل مع الاعتقاد بالقضاء والقدر الإلهيين. لكن الحتمية لا تعني الجبرية أو القدرية، لأن الفعل أو الحدث إذا كان مشروطاً بسوابقه عند الحتمية ، فهو عند الجبرية ضروري، ولا بد من حدوثه سواء وقعت سوابقه أو لم تقع؛ لأنه تقرر حدوثه بصورة سابقة، بغض النظر عن رغبات البشر وميولهم واختياراتهم وأفعالهم، فالأولى ضرورة مشروطة في حين الثانية ضرورة مطلقة.
وقد تطورت دلالة الحتمية، فظهرت أولاً الحتمية الميكانيكية الصارمة التي استمدت أساسها من نيوتن، وعبر عنها المفكر الرياضي الفرنسي بيير سيمون دو لابلاسLaplace عام(1749-1827) بمقولته المشهورة: «لو استطاع عقل ما أن يعلم في لحظة معينة جميع القوى التي تحرك الطبيعة، وموقع كل كائن من الكائنات التي تتكون منها، ولو كان هذا العقل من السعة بحيث يستطيع أن يخضع تلك المعطيات للتحليل، لاستطاع أن يعبر بصيغة واحدة عن حركة أكبر أجسام الكون، وعن حركة أخف الذرات وزناً، ولكان علمه بكل شيء يقينياً، ولأصبح المستقبل والماضي ماثلين أمام ناظريه كالحاضر تماماً». لكن التطورات العلمية دحضت هذه الحتمية المطلقة، لا بالرجوع إلى الطبيعة العضوية والحياة الاجتماعية فحسب، بل بالرجوع أيضاً للفيزياء.
وبرز بالمقابل موقف وسط دُعي بالحتمية المعتدلة soft determinism أضفى على الإنسان بعضاً من الحرية في حدود ما وفرته له من طبائع. وقد نعت وليم جيمس هذه الحتمية بالجبر الهيّن الذي يسمح بحرية أخلاقية للإنسان لجعله مسؤولاً عن قراراته وأفعاله. لهذا ميز توماس ريد بين أفعال الإنسان المرتبطة بدوافع داخلية، وحركاته التي تعد استجابة مباشرة لمؤثرات خارجية تقسر عليه، ولا شأن لهذه الدوافع فيه. وكان أرسطو يفرق بين الفعل الإنساني والحركة الحيوانية، كما كان كَنْت يميز بين السببية البشرية والسببية العادية.
وفي القرن السابع عشر والثامن عشر، قامت الحتمية الفيزيائية نتيجة للتطور العلمي، وإحلال الملاحظة والتجريب محل التأمل الفلسفي الخالص، وخلص هذان إلى أن كل ما في الطبيعة، بما في ذلك الإنسان نفسه، يسير وفق نواميس وقوانين لايحيد عنها ولا تحيد، ولاشك أن فلسفة هوبز هي نموذج كل الفلسفات المادية التي ذهبت إلى هذا الرأي، فهو يرجع الكون إلى المادة، ويقول مع لوقيبوس وديمقريطس إن الأفكار والأحاسيس تغيرات في جزئيات المادة التي يتركب منها الإنسان، ومن ثم فإن السلوك يخضع للقوانين التي تخضع لها المادة، ومع ذلك فهو يعد أفعال الإنسان أفعال إرادية أو حرة لأنها تنبع من طبيعته ووفقاً لقوانينها. فالسلوك مترتب على احترام الرغبات. لكن «شوبنهور» و«شليك» و«آير» خالفوه في الرأي بزعم أن أفعال الإنسان تخضع أيضاً لمؤثرات خارجية تماماً كخضوعها للضرورات الداخلية.
ولم تكن الحتمية الفيزيائية إلا صورة من صور الحتمية العلمية التي شملت مجال علم النفس والعلوم الاجتماعية، فنادت الحتمية النفسية بما قاله هوبز، ومفاده تقييد نشاط الإنسان وسلوكه الإرادي بحالاته النفسية السابقة عليه، أي إن للسلوك مسبباته. فالإرادة مشروطة دائماً بالبواعث والدوافع الداخلية التي تحدد أفعال الإنسان، وإذا ما عرفت تلك البواعث يكون سهلاً التنبؤ بالأفعال. وقد ذهب إلى هذا الرأي لوك وهيوم فأقرا بنوع من الاطّراد في السلوك الإنساني يسمح بتقرير وجود نوع من الارتباط بين البواعث والأفعال، لأن الذوات ليست سوى نظام متعاقب ومتداعٍ من الظواهر اللاحقة والسابقة. وأضاف الطب النفسي إلى الدوافع الشعورية دوافع أخرى لا شعورية قال عنها إنها محددات السلوك الأصلية. وقد دافع جون هوسبرز عن هذا الرأي. وإن كان هنري مانسل قد انتقده بشدة بدعوى أنه صورة علمية للجبرية التي قال بها القدماء.
واتخذ مبدأ الحتمية دلالات جديدة بعد عودة الفكر الجدلي لتاريخية الفلسفة الحديثة في القرن التاسع عشر حتى اليوم، شملت المذهب المثالي والمذهب المادي معاً، ففي فلسفة الطبيعة والمجتمع والتاريخ البشري تمحور مبدأ «المادية الجدلية» أو الحتمية الجدلية على قانوني التناقض والتركيب اللذين يحكمان جميع العلاقات في مستوى الوجود - المادة، والمعرفة - الفكر، والمجتمع - العلاقات، ووسائط الانتاج والانتاجية. فظهرت في فلسفة التاريخ الاجتماعي مبدأ «الحتمية التاريخية» التي ترى أن التاريخ يسير وفق قوانين ثابتة، وأن للأمم والحضارات دورات حياة تشبه دورة حياة الكائنات الحية، ومن هؤلاء فيكو وهيغل وشبنغلر وتوينبي. فقد وجد هيغل أن البشرية تمر في تطورها التاريخي بمراحل لا تحيد عنها، تماثل مراحل تطور الوعي وهي ثلاث: مرحلة الروح المباشر (ويمثلها العالم القديم عالم الرومان واليونان)، ومرحلة الروح المغترب عن ذاته (يمثلها العالم الحديث)، ومرحلة الروح المتيقن من ذاتــه (يمثلها العالم المعاصر، عصر نابليون وألمانية الحديثة)، وهذه المراحل تخضع لقوانين موضوعية في تطورها. كما أنه يوجد برأي فيكو في تاريخ كل شعب ثلاثة أطوار، الطور الإلهي، البطولي والإنساني، والقانون يدفع الناس على الرغم من غرائزهم الفردية الوحشية إلى تكوين مجتمع وثقافة. ونادى ماركس بحتمية اقتصادية فسر بها حركة التاريخ بأنها صراع الطبقات وانعكاس لنمط الحياة الاقتصادية وعلاقات الإنتاج عند الشعوب.
وترتكز النظرة الحتمية على حجج ومسوغات تؤيد موقفها، فطالما أن العالم كل واحد خاضع لسلطة واحدة، فإن فرض الحتمية الذي يتفق مع أهم مسلمات العلم وهو مبدأ العلية الشامل لا يطبق على عالم الظواهر الذي يدرسه العلم، وإنما يتسع ليشمل الإرادة الإنسانية وأفعال البشر بوصفها طرفاً في علاقة علية. فالقائل بالحتمية النفسية يرى أن أفعال الإنسان، حتى اختياراته، تحددها بواعث وشروط مسبقة، كما أن قراراته تأتي نتيجة لدوافع، مما يعزز القول بالأفعال المسببة، إضافة إلى أهمية اللاشعور اللاواعي وتأثيره في سلوك الفرد (فرويد).
في الواقع، إن استقراءات الفكر المعاصر في الربع الأخير للقرن العشرين اخترقت وما زالت تخترق دائرة اليقين الحتمي باتجاه اليقين الاحتمالي.
سوسان إلياس
Determinism - Déterminisme
الحتمية
الحتمية determinism مذهب يرى أن كل ما يحدث في الكون على الإطلاق يخضع لقانون سببي ما، فلكل حادث تفسير سببي، أي لكل حادث أسباب ضرورية وكافية تفسّر حدوثه. وهذا ما دعا بعض المفكرين إلى القول إن الحتمية بمعناها البسيط ليست غير «الارتباط العلي»، فالعلية[ر: السببية] هي «التعبير الظاهري للحتمية»، وتكاد تكون مرادفاً للحتمية وعنواناً بديلاً لها عند أكثر الباحثين. والواقع أن مبدأ الحتمية يتضمن مسلمات تسبقه وتبرره وتهبه محتواه، أولها أن ثمة نظاماً في الطبيعة، وأن هذا النظام المتكرر الوقوع في اطراد، وتحكم ذلك الاطراد العلاقة بين العلة والمعلول (العلية).
ويؤمن فلاسفة الحتمية أن كل ما يحدث في الكون قابل للتفسير والتنبؤ من حيث المبدأ. وبهذا يفضي مفهوم الحتمية إلى الحقيقة القائلة إن: «معرفتنا لجميع الشروط التي تعين ظهور الظاهرة تمكننا من التنبؤ بما سيحدث حتماً»، وهذا التنبؤ وليد اطراد العلاقات بين الظواهر وترابطها، فتزايد معرفتنا بالظروف التي تحيط بسلوك الإنسان مثلاً كفيل بالمساعدة على اكتشاف القوانين الصحيحة التي تحكم سلوك البشر. وهذا يفترض طبعاً وجود تناظر منطقي تام بين التفسير والتنبؤ، بمعنى أن البنية المنطقية لعملية التنبؤ هي ذاتها البنية المنطقية لعملية التفسير. فكما أن التفسير يتخذ نمطاً استنباطياً ، كذلك هي الحال فيما يتعلق لعملية التنبؤ. والفرق الوحيد بين التفسير والتنبؤ ينحصر في كون التنبؤ عملية تسبق حدوث الحادث، موضوع التنبؤ، بينما التفسير هو لشيء حدث. ولكن في كلتا الحالتين، يتم استنباط الحادث ، موضوع التفسير أو التنبؤ، من القانون السببي المشار إليه ومن معرفة نوع الشروط السابقة.
يؤدي مبدأ الحتمية دوراً مهماً في ميدان العلم، والمنهج العلمي تحديداً، لأنه يمكن العلماء من الاستقراء والتعميم التجريبي، بحيث أنه ما يصدق على الأمثلة الملاحظة لظاهرة معلومة، يصدق على كل أمثلة الفئة المعينة التي تشبه الأمثلة الملاحظة. ومع التطورات والكشوفات العلمية المتزايدة، خاصة في القرن التاسع عشر، أخذت حدود الحتمية تتسع باطراد لتهدد مكانة الإنسان الفريدة خارج حدود السببية التي تعد أساساً لأي فهم حتمي للظواهر المختلفة، مستبعدة من قاموسها ألفاظاً، كالممكنات والاحتمالات والاختيارات التي تعد لصيقة بالوجود الإنساني، وتفترض إقراراً بالضرورة والسببية المطلقة، أو ما يدعوه «ليبنتز» بـ«السبب الكافي»، وتقييد الإرادة والقسر والإلزام.
وتعددت نظريات الحتمية بتعدد تطبيقاتها والاعتبارات التي دفعت إليها، لكن العنصر المشترك بينها جميعاً هي اتفاقها على خضوع الحوادث في الكون لقانون سببي، فأصحاب الحتمية الأخلاقية يقولون إن الإنسان يسعى إلى اختيار الأفضل، ولايمكن له أن يختار بمحض إرادته فعلاً ما يضر به نفسه، ومن ثم كان رأي سقراط وأفلاطون أن الإنسان لا يفعل الشر إلا مضطراً أو عن جهل، لأنه مفطور على الخير، وهي النتيجة التي يخلص إليها ديكارت وتوما الإكويني وليبتنز.
أما أصحاب الحتمية المنطقية أمثال (ديودورس والميغاريون والرواقيون) فهم يرون أن هناك عللاً منطقية تستبقها بالضرورة نتائج منطقية محتومة. والدعوى بمنطقية الترابط الضروري بين العلل والنتائج، قاد الرواقية إلى القول إن العالم كله عقل وضرورة طالت الإنسان كما العالم، فهم يتحدثون عن أشياء مفروضة على الإنسان تخرج عن نطاق أفعاله، لا يتوقف وجودها عليه، وهي أمور ضرورية لأنها محتومة وخاضعة لجملة من المعوقات الخارجية، فالإنسان لا يستطيع تغيير مصيره والقدر هو القانون الكلي الشامل ولا سبيل للإفلات من ضرورة الأشياء، والحكيم مثلاً «من عرف قوانين الوجود فعمل على أن تطابق إرادته الباطنة تلك القوانين»، وعندها يكون الحديث عما يجب أن تكون عليه أخلاق الفرد والمسؤولية عن أفعاله وهماً باطلاً.
وتطورت هذه النظرة في مجال الدين، فيما يسمى بالحتمية اللاهوتية، لتتفق مع القائلين بالجبرية predestination، الذين يزعمون أن الإنسان مسيّر وليس مخيراً، والذي يلخصه شيخ الجبرية جهم بن صفوان بالقول «لافعل لأحد في الحقيقة إلا لله»[ر. الجهمية]. وقد أدى هذا النوع من الحتمية إلى القدرية fatalism، وله مظهر صوفي، واختلط بالفعل مع الاعتقاد بالقضاء والقدر الإلهيين. لكن الحتمية لا تعني الجبرية أو القدرية، لأن الفعل أو الحدث إذا كان مشروطاً بسوابقه عند الحتمية ، فهو عند الجبرية ضروري، ولا بد من حدوثه سواء وقعت سوابقه أو لم تقع؛ لأنه تقرر حدوثه بصورة سابقة، بغض النظر عن رغبات البشر وميولهم واختياراتهم وأفعالهم، فالأولى ضرورة مشروطة في حين الثانية ضرورة مطلقة.
وقد تطورت دلالة الحتمية، فظهرت أولاً الحتمية الميكانيكية الصارمة التي استمدت أساسها من نيوتن، وعبر عنها المفكر الرياضي الفرنسي بيير سيمون دو لابلاسLaplace عام(1749-1827) بمقولته المشهورة: «لو استطاع عقل ما أن يعلم في لحظة معينة جميع القوى التي تحرك الطبيعة، وموقع كل كائن من الكائنات التي تتكون منها، ولو كان هذا العقل من السعة بحيث يستطيع أن يخضع تلك المعطيات للتحليل، لاستطاع أن يعبر بصيغة واحدة عن حركة أكبر أجسام الكون، وعن حركة أخف الذرات وزناً، ولكان علمه بكل شيء يقينياً، ولأصبح المستقبل والماضي ماثلين أمام ناظريه كالحاضر تماماً». لكن التطورات العلمية دحضت هذه الحتمية المطلقة، لا بالرجوع إلى الطبيعة العضوية والحياة الاجتماعية فحسب، بل بالرجوع أيضاً للفيزياء.
وبرز بالمقابل موقف وسط دُعي بالحتمية المعتدلة soft determinism أضفى على الإنسان بعضاً من الحرية في حدود ما وفرته له من طبائع. وقد نعت وليم جيمس هذه الحتمية بالجبر الهيّن الذي يسمح بحرية أخلاقية للإنسان لجعله مسؤولاً عن قراراته وأفعاله. لهذا ميز توماس ريد بين أفعال الإنسان المرتبطة بدوافع داخلية، وحركاته التي تعد استجابة مباشرة لمؤثرات خارجية تقسر عليه، ولا شأن لهذه الدوافع فيه. وكان أرسطو يفرق بين الفعل الإنساني والحركة الحيوانية، كما كان كَنْت يميز بين السببية البشرية والسببية العادية.
وفي القرن السابع عشر والثامن عشر، قامت الحتمية الفيزيائية نتيجة للتطور العلمي، وإحلال الملاحظة والتجريب محل التأمل الفلسفي الخالص، وخلص هذان إلى أن كل ما في الطبيعة، بما في ذلك الإنسان نفسه، يسير وفق نواميس وقوانين لايحيد عنها ولا تحيد، ولاشك أن فلسفة هوبز هي نموذج كل الفلسفات المادية التي ذهبت إلى هذا الرأي، فهو يرجع الكون إلى المادة، ويقول مع لوقيبوس وديمقريطس إن الأفكار والأحاسيس تغيرات في جزئيات المادة التي يتركب منها الإنسان، ومن ثم فإن السلوك يخضع للقوانين التي تخضع لها المادة، ومع ذلك فهو يعد أفعال الإنسان أفعال إرادية أو حرة لأنها تنبع من طبيعته ووفقاً لقوانينها. فالسلوك مترتب على احترام الرغبات. لكن «شوبنهور» و«شليك» و«آير» خالفوه في الرأي بزعم أن أفعال الإنسان تخضع أيضاً لمؤثرات خارجية تماماً كخضوعها للضرورات الداخلية.
ولم تكن الحتمية الفيزيائية إلا صورة من صور الحتمية العلمية التي شملت مجال علم النفس والعلوم الاجتماعية، فنادت الحتمية النفسية بما قاله هوبز، ومفاده تقييد نشاط الإنسان وسلوكه الإرادي بحالاته النفسية السابقة عليه، أي إن للسلوك مسبباته. فالإرادة مشروطة دائماً بالبواعث والدوافع الداخلية التي تحدد أفعال الإنسان، وإذا ما عرفت تلك البواعث يكون سهلاً التنبؤ بالأفعال. وقد ذهب إلى هذا الرأي لوك وهيوم فأقرا بنوع من الاطّراد في السلوك الإنساني يسمح بتقرير وجود نوع من الارتباط بين البواعث والأفعال، لأن الذوات ليست سوى نظام متعاقب ومتداعٍ من الظواهر اللاحقة والسابقة. وأضاف الطب النفسي إلى الدوافع الشعورية دوافع أخرى لا شعورية قال عنها إنها محددات السلوك الأصلية. وقد دافع جون هوسبرز عن هذا الرأي. وإن كان هنري مانسل قد انتقده بشدة بدعوى أنه صورة علمية للجبرية التي قال بها القدماء.
واتخذ مبدأ الحتمية دلالات جديدة بعد عودة الفكر الجدلي لتاريخية الفلسفة الحديثة في القرن التاسع عشر حتى اليوم، شملت المذهب المثالي والمذهب المادي معاً، ففي فلسفة الطبيعة والمجتمع والتاريخ البشري تمحور مبدأ «المادية الجدلية» أو الحتمية الجدلية على قانوني التناقض والتركيب اللذين يحكمان جميع العلاقات في مستوى الوجود - المادة، والمعرفة - الفكر، والمجتمع - العلاقات، ووسائط الانتاج والانتاجية. فظهرت في فلسفة التاريخ الاجتماعي مبدأ «الحتمية التاريخية» التي ترى أن التاريخ يسير وفق قوانين ثابتة، وأن للأمم والحضارات دورات حياة تشبه دورة حياة الكائنات الحية، ومن هؤلاء فيكو وهيغل وشبنغلر وتوينبي. فقد وجد هيغل أن البشرية تمر في تطورها التاريخي بمراحل لا تحيد عنها، تماثل مراحل تطور الوعي وهي ثلاث: مرحلة الروح المباشر (ويمثلها العالم القديم عالم الرومان واليونان)، ومرحلة الروح المغترب عن ذاته (يمثلها العالم الحديث)، ومرحلة الروح المتيقن من ذاتــه (يمثلها العالم المعاصر، عصر نابليون وألمانية الحديثة)، وهذه المراحل تخضع لقوانين موضوعية في تطورها. كما أنه يوجد برأي فيكو في تاريخ كل شعب ثلاثة أطوار، الطور الإلهي، البطولي والإنساني، والقانون يدفع الناس على الرغم من غرائزهم الفردية الوحشية إلى تكوين مجتمع وثقافة. ونادى ماركس بحتمية اقتصادية فسر بها حركة التاريخ بأنها صراع الطبقات وانعكاس لنمط الحياة الاقتصادية وعلاقات الإنتاج عند الشعوب.
وترتكز النظرة الحتمية على حجج ومسوغات تؤيد موقفها، فطالما أن العالم كل واحد خاضع لسلطة واحدة، فإن فرض الحتمية الذي يتفق مع أهم مسلمات العلم وهو مبدأ العلية الشامل لا يطبق على عالم الظواهر الذي يدرسه العلم، وإنما يتسع ليشمل الإرادة الإنسانية وأفعال البشر بوصفها طرفاً في علاقة علية. فالقائل بالحتمية النفسية يرى أن أفعال الإنسان، حتى اختياراته، تحددها بواعث وشروط مسبقة، كما أن قراراته تأتي نتيجة لدوافع، مما يعزز القول بالأفعال المسببة، إضافة إلى أهمية اللاشعور اللاواعي وتأثيره في سلوك الفرد (فرويد).
في الواقع، إن استقراءات الفكر المعاصر في الربع الأخير للقرن العشرين اخترقت وما زالت تخترق دائرة اليقين الحتمي باتجاه اليقين الاحتمالي.
سوسان إلياس