ماركوس اوريليوس
Marcus Aurelius - Marcus Aurélius
ماركوس أوريليوس
(121 ـ 180م)
ماركوس أوريليوس أنطونينوس Marcus Aurelius Antoninus أحد أشهر الأباطرة الرومان. لُقّب بالفيلسوف الجالس على العرش، وكان من أبرز أعلام الفلسفة الرواقية الرومان. ولد في روما وعرف باسم ماركوس أنيوس ڤيروس M.Annius Verus. ينتمي إلى أسرة إسبانية الأصل وفدت إلى روما وبرز عدد من رجالاتها في الحياة السياسية والاجتماعية. مات والده وهو صغير، فكفله جده لأبيه الثري صاحب المكانة الرفيعة؛ إذ تولى القنصلية ثلاث مرات، كما أن أمه دوميتيا لوكيلا Domitia Lucilla كانت من أسرة ثرية صاحبة جاه ونفوذ؛ فتلقى تربية ممتازة على أيدي أفضل الأساتذة في البيان والبلاغة والنحو والقانون وعلى رأسهم كورنيليوس فرونتو Cornelius Fronto أستاذ البلاغة والأدب اللاتيني وهيرودِس أتيكوس Herodes Atticus أستاذ اللغة والأدب الإغريقي. لفت ماركوس منذ نعومة أظفاره أنظار الامبراطور هادريانوس[ر] الذي كان يدلّـله ويسميه ڤِريسّيموس Verissimus (أي الصدوق)، وأدخله في هيئة الكهنة الساليين.
أدار ماركوس ظهره إلى فن الخطابة منصرفاً إلى دراسة الفلسفة، وانهمك وهو في الثانية عشرة من عمره في حياة الزهد والتقشف على الرغم من كل المغريات حوله وتعرّف أفكار إبيكتيتوس Epiktetos والفلسفة الرواقية[ر]. وقد اعترف في كتاباته بأفضال أساتذته عليه وكيف أنه تلقى منهم مبادئ فكرة الدولة وقيمها ومثلها التي يسود فيها قانون واحد لجميع الناس وكذلك فكرة الحكومة الملكية التي تحترم حرية المحكومين أكثر من أي شيء سواها.
وبناء على وصية هادريانوس تبناه خليفته الامبراطور أنطونينوس بيوس[ر] Antoninus Pius الذي كان زوج عمته ومنحه اسمه ولقب قيصر فصار بمنزلة ولي العهد، ثم زوَّجه ابنته الصغرى فاوستينا Faustina عام 145م. وتقلد ماركوس منصب القنصلية مرات عدة. وفي عام 146 منحه أنطونينوس السلطة القضائية (التريبونية) وإدارة المستعمرات (البروقنصلية) ولقب أغسطس، وبذلك صار مشاركاً في الحكم. ومع هذا بقي يواصل دراساته الفلسفية إضافة إلى قيامه بواجباته الرسمية. وبموت أنطونينوس آل إليه عرش الامبراطورية الرومانية عام 161م، وكان أول عمل قام به هو أنه أشرك معه في الحكم أخاه بالتبني لوكيوس ڤيروس Lucius Verus وزوَّجه ابنته لوكيلا Lucilla، إلا أن أعباء الحكم بقيت على كاهله، لأن لوكيوس كان يغلّب ملذاته الشخصية على واجباته الرسمية.
ما كاد ماركوس أوريليوس يتسلم سدة الحكم، حتى اندلعت الثورات في بريطانيا وجرمانيا وأماكن أخرى. ولكن أخطر الأحداث جرت في الشرق، فقد أعلن الملك الفرثي ڤولوغاسِس الثالث Vologases III الحرب على روما واجتاح بجيوشه أرمينيا ثم هاجم سورية فأرسل الامبراطور شريكه في الحكم على رأس قوات كبيرة للتصدي لذلك الهجوم، وفي حين انغمس لوكيوس في الملذات في أنطاكية، نجحت الجيوش الرومانية في استعادة أرمينيا وتمكنت بقيادة أڤيديوس كاسيوس Avidius Cassius من طرد الفرثيين من سورية ثم هاجمت بلاد الرافدين واستولت على سلوقية دجلة والعاصمة الفرثية طيسفون ودمرتهما (165- 166م). وعاد لوكيوس إلى روما ليحتفل مع ماركوس أوريليوس بالنصر على الفرثيين وعقد معاهدة سلام معهم؛ اعترفت للرومان بالسيادة على منطقة الجزيرة السورية حتى نهر الخابور ووضع حامية عسكرية في مدينة حرّان [ر]. ولكن الجيوش العائدة من الشرق حملت معها وباء الطاعون الذي انتشر في سائر الأنحاء، فكان من أشد الكوارث التي أصابت الامبراطورية الرومانية وأنهكت قواها العسكرية والبشرية والاقتصادية.
ماكادت الحرب تضع أوزارها في الشرق حتى اندلعت حرب دموية أخرى في وسط أوربا. فقد اجتاحت قبائل المركوماني والكوادي الجرمانية التحصينات الرومانية على جبهة نهر الدانوب ووصلت حتى شمالي إيطاليا، مستغلة الحرب مع الفرثيين وانتشار وباء الطاعون. فتحرك الامبراطور بحزم وشجاعة لمواجهة ذلك التهديد، وعمد إلى بيع أثاث القصر الامبراطوري ونفائسه وزينته في مزاد علني لتوفير الأموال اللازمة للحرب، وجهّز فرقتين عسكريتين على عجل (من العبيد والمجالدين والمرتزقة) وسار في مقدمة الجيش لفك الحصار عن مدينة أكويليا Aquileia، الذي انتهى بمجرد وصوله إلى هناك، وتحررت إيطاليا من الخطر الجرماني الذي كان يتهددها. وفي طريق العودة إلى روما مات شريكه في الحكم الامبراطور لوكيوس ڤيروس عام 169م، وصمّم ماركوس على إخضاع مناطق وسط أوربا بصورة دائمة للحكم الروماني، فسار على رأس جيوشه لطرد القوات الغازية ودحرها نحو الشمال وخاض معارك ضارية مظفرة، وكاد يقضي على خطر القبائل الجرمانية والسرماتية نهائياً ويجعل من تلك المناطق ولايتين رومانيتين، لولا الأحداث الخطيرة في الشرق. فقد ثار والي سورية وقائد جيوش الشرق أڤيديوس كاسيوس وأعلن نفسه امبراطوراً عام 175م على إثر إشاعة كاذبة بموت ماركوس أوريليوس في معارك الدانوب. وكان أفيديوس سوري الأصل من مدينة كيروس Kyrrhos (النبي هوري حالياً في أقصى شمالي سورية) اكتسب شهرة كبيرة بسبب انتصاراته على الفرثيين، لذلك دانت له سورية ومصر وآسيا الصغرى بسرعة. ولكن حركته لم تدم طويلاً، إذ قام أحد ضباطه باغتياله عندما تحرك الامبراطور بجيوشه نحو الشرق. واستقبل ماركوس في سورية ومصر بكل مظاهر الولاء والتكريم. وبعد أن أعاد السلم إلى المناطق الثائرة بإجراءاته الحكيمة، قفل عائداً إلى روما، ولكن ما كاد يصل إلى جبال طوروس حتى فقد زوجته فاوستينا التي أحبها حتى العبادة وعاش معها 31 سنة أنجبت له فيها عدداً من الأطفال، وتلقى الامبراطور الفيلسوف هذه الضربة بإيمان الرواقي الصامد أمام النكبات والشدائد. وفي طريق عودته زار مدينة أثينا واستمع إلى محاضرات كبار الأساتذة والعلماء وأنشأ فيها أربعة كراسي للمذاهب الفلسفية الرئيسية: الأفلاطونية والأرسطوطالية والرواقية والأبيقورية[ر]. ووصل إلى روما عام 176 حزيناً محطم الآمال ولم يعد أمامه سوى أن يختار ابنه لخلافته، وهكذا صار كومودوس Commodus شريكاً لوالده في الحكم ولما يبلغ الثامنة عشرة من عمره.
تحركت القبائل الجرمانية من جديد وهاجمت مناطق بانونيا Panonia (حالياً النمسا والمجر) فانطلق ماركوس لحربها وخاض معها معارك ضارية، وكاد يخضعها كلها لولا أن وافته المنية في مدينة ڤيندوبونا Vindobona (ڤيينا الحالية). وبدلاً من أن يتابع كومودوس سياسة والده بادر إلى عقد صلح مخزٍ مع تلك القبائل، وترك ميدان القتال عائداً إلى روما لينصرف إلى هواياته وملذاته الشخصية.
لم تُنسِ سنوات الحرب الطويلة ماركوس أوريليوس الأوضاع الداخلية في الامبراطورية، فقد كان حريصاً على الحفاظ على أفضل العلاقات مع مجلس الشيوخ الذي كان يستشيره دائماً في الملمات والقرارات المهمة. واهتم بإصلاح القضاء لتسهيل أمور الناس وبأوضاع الولايات والمدن والإدارات المختلفة. وسعى في سياسته إلى رعاية الفقراء، وتوفير حاجاتهم الأساسية، فأسس المدارس والمشافي وخفف الأعباء والضرائب عن كواهل الناس خاصة في أيام المحن والكوارث، وأصدر كثيراً من القوانين التي تحمي الأيتام والقاصرين وتخفف العقوبات الصارمة وجعل القوانين أكثر إنسانية ورحمة.
ظللت الحرب عهد هذا الامبراطور الفيلسوف ولكنه في ساعات الوحدة في أثناء المعارك وجد العزاء والسلوى في «تأملاته» التي تفيض بمبادئ الفلسفة الرواقية وتعاليمها الأخلاقية السامية، التي دوّنها باللغة الإغريقية في اثني عشر كتاباً بعنوان «إلى الذات» أو «التأملات» Tà eis Eaucón يستهلها بشكر أسرته وأصدقائه والآلهة وذكر فضائل أساتذته وما تلقاه منهم من دروس وحكم. لقد تعلم «أن يحكم نفسه وألا يسمح لشيء ما بأن يضله، وأن يكون بشوشاً في كل الظروف والأحوال. وأن يؤدي ما عليه من واجبات بلا تذمر». ثم ينتقل إلى صياغة أفكاره عن الحياة البشرية ومصائرها في ذلك العصر المضطرب، لذلك جاءت أفكاره متقطِّعة أحياناً وفيها كثير من التكرار.
كان ماركوس أوريليوس يرى، شأن كثير من فلاسفة عصره، أن الفلسفة مدرسة لتعليم الفضيلة وطريقة للحياة. وكان يؤمن في قرارة نفسه - على الرغم من حرصه على دين آبائه وأجداده - بألوهية الكون، «فثمة إله واحد يسري في كل شيء، ومادة واحدة وقانون واحد وحقيقة واحدة». فقد كان امبراطوراً فيلسوفاً بالمعنى الرواقي لهذا اللفظ لا الأفلاطوني. يقول محذّراً نفسه: «لاتؤمل قط أن تقيم جمهورية أفلاطون، وحسبك أنك أصلحت أحوال البشر إلى حد ما، ولا تظن أن هذا الإصلاح شأن قليل الخطر، إذ من ذا الذي يستطيع تغيير آراء الناس؟» ولهذا فقد وطد العزم على أن يعتمد القدوة الحسنة، لا سطوة القانون، فجعل نفسه بالفعل خادماً للدولة، وأخذ على عاتقه جميع أعباء الإدارة والقضاء وقيادة الجيوش إلى ميادين القتال، وأخضع نفسه لأقصى درجات امتحان الذات. وهكذا كان رجلاً نذر نفسه للحق والواجب يتبع صوت ضميره إلى حد جعل القديس أوغسطين [ر] يقول عنه معجباً: «إن حياة هذا الامبراطور الوثني جديرة بأن يقلِّدها المسيحيون».
حظي الامبراطور ماركوس أوريليوس و«تأملاته» باهتمام واسع في الدراسات التاريخية والفلسفية، وقد صدر الكتاب في طبعات نقدية محققة تُرجمت إلى كثير من اللغات، ومن أهم هذه الطبعات والترجمات A.S.L. Farquharson,Marcus Aurelius, Meditations 2 vols, 2nd edition (1952).
محمد الزين
Marcus Aurelius - Marcus Aurélius
ماركوس أوريليوس
(121 ـ 180م)
ماركوس أوريليوس أنطونينوس Marcus Aurelius Antoninus أحد أشهر الأباطرة الرومان. لُقّب بالفيلسوف الجالس على العرش، وكان من أبرز أعلام الفلسفة الرواقية الرومان. ولد في روما وعرف باسم ماركوس أنيوس ڤيروس M.Annius Verus. ينتمي إلى أسرة إسبانية الأصل وفدت إلى روما وبرز عدد من رجالاتها في الحياة السياسية والاجتماعية. مات والده وهو صغير، فكفله جده لأبيه الثري صاحب المكانة الرفيعة؛ إذ تولى القنصلية ثلاث مرات، كما أن أمه دوميتيا لوكيلا Domitia Lucilla كانت من أسرة ثرية صاحبة جاه ونفوذ؛ فتلقى تربية ممتازة على أيدي أفضل الأساتذة في البيان والبلاغة والنحو والقانون وعلى رأسهم كورنيليوس فرونتو Cornelius Fronto أستاذ البلاغة والأدب اللاتيني وهيرودِس أتيكوس Herodes Atticus أستاذ اللغة والأدب الإغريقي. لفت ماركوس منذ نعومة أظفاره أنظار الامبراطور هادريانوس[ر] الذي كان يدلّـله ويسميه ڤِريسّيموس Verissimus (أي الصدوق)، وأدخله في هيئة الكهنة الساليين.
وبناء على وصية هادريانوس تبناه خليفته الامبراطور أنطونينوس بيوس[ر] Antoninus Pius الذي كان زوج عمته ومنحه اسمه ولقب قيصر فصار بمنزلة ولي العهد، ثم زوَّجه ابنته الصغرى فاوستينا Faustina عام 145م. وتقلد ماركوس منصب القنصلية مرات عدة. وفي عام 146 منحه أنطونينوس السلطة القضائية (التريبونية) وإدارة المستعمرات (البروقنصلية) ولقب أغسطس، وبذلك صار مشاركاً في الحكم. ومع هذا بقي يواصل دراساته الفلسفية إضافة إلى قيامه بواجباته الرسمية. وبموت أنطونينوس آل إليه عرش الامبراطورية الرومانية عام 161م، وكان أول عمل قام به هو أنه أشرك معه في الحكم أخاه بالتبني لوكيوس ڤيروس Lucius Verus وزوَّجه ابنته لوكيلا Lucilla، إلا أن أعباء الحكم بقيت على كاهله، لأن لوكيوس كان يغلّب ملذاته الشخصية على واجباته الرسمية.
ما كاد ماركوس أوريليوس يتسلم سدة الحكم، حتى اندلعت الثورات في بريطانيا وجرمانيا وأماكن أخرى. ولكن أخطر الأحداث جرت في الشرق، فقد أعلن الملك الفرثي ڤولوغاسِس الثالث Vologases III الحرب على روما واجتاح بجيوشه أرمينيا ثم هاجم سورية فأرسل الامبراطور شريكه في الحكم على رأس قوات كبيرة للتصدي لذلك الهجوم، وفي حين انغمس لوكيوس في الملذات في أنطاكية، نجحت الجيوش الرومانية في استعادة أرمينيا وتمكنت بقيادة أڤيديوس كاسيوس Avidius Cassius من طرد الفرثيين من سورية ثم هاجمت بلاد الرافدين واستولت على سلوقية دجلة والعاصمة الفرثية طيسفون ودمرتهما (165- 166م). وعاد لوكيوس إلى روما ليحتفل مع ماركوس أوريليوس بالنصر على الفرثيين وعقد معاهدة سلام معهم؛ اعترفت للرومان بالسيادة على منطقة الجزيرة السورية حتى نهر الخابور ووضع حامية عسكرية في مدينة حرّان [ر]. ولكن الجيوش العائدة من الشرق حملت معها وباء الطاعون الذي انتشر في سائر الأنحاء، فكان من أشد الكوارث التي أصابت الامبراطورية الرومانية وأنهكت قواها العسكرية والبشرية والاقتصادية.
ماكادت الحرب تضع أوزارها في الشرق حتى اندلعت حرب دموية أخرى في وسط أوربا. فقد اجتاحت قبائل المركوماني والكوادي الجرمانية التحصينات الرومانية على جبهة نهر الدانوب ووصلت حتى شمالي إيطاليا، مستغلة الحرب مع الفرثيين وانتشار وباء الطاعون. فتحرك الامبراطور بحزم وشجاعة لمواجهة ذلك التهديد، وعمد إلى بيع أثاث القصر الامبراطوري ونفائسه وزينته في مزاد علني لتوفير الأموال اللازمة للحرب، وجهّز فرقتين عسكريتين على عجل (من العبيد والمجالدين والمرتزقة) وسار في مقدمة الجيش لفك الحصار عن مدينة أكويليا Aquileia، الذي انتهى بمجرد وصوله إلى هناك، وتحررت إيطاليا من الخطر الجرماني الذي كان يتهددها. وفي طريق العودة إلى روما مات شريكه في الحكم الامبراطور لوكيوس ڤيروس عام 169م، وصمّم ماركوس على إخضاع مناطق وسط أوربا بصورة دائمة للحكم الروماني، فسار على رأس جيوشه لطرد القوات الغازية ودحرها نحو الشمال وخاض معارك ضارية مظفرة، وكاد يقضي على خطر القبائل الجرمانية والسرماتية نهائياً ويجعل من تلك المناطق ولايتين رومانيتين، لولا الأحداث الخطيرة في الشرق. فقد ثار والي سورية وقائد جيوش الشرق أڤيديوس كاسيوس وأعلن نفسه امبراطوراً عام 175م على إثر إشاعة كاذبة بموت ماركوس أوريليوس في معارك الدانوب. وكان أفيديوس سوري الأصل من مدينة كيروس Kyrrhos (النبي هوري حالياً في أقصى شمالي سورية) اكتسب شهرة كبيرة بسبب انتصاراته على الفرثيين، لذلك دانت له سورية ومصر وآسيا الصغرى بسرعة. ولكن حركته لم تدم طويلاً، إذ قام أحد ضباطه باغتياله عندما تحرك الامبراطور بجيوشه نحو الشرق. واستقبل ماركوس في سورية ومصر بكل مظاهر الولاء والتكريم. وبعد أن أعاد السلم إلى المناطق الثائرة بإجراءاته الحكيمة، قفل عائداً إلى روما، ولكن ما كاد يصل إلى جبال طوروس حتى فقد زوجته فاوستينا التي أحبها حتى العبادة وعاش معها 31 سنة أنجبت له فيها عدداً من الأطفال، وتلقى الامبراطور الفيلسوف هذه الضربة بإيمان الرواقي الصامد أمام النكبات والشدائد. وفي طريق عودته زار مدينة أثينا واستمع إلى محاضرات كبار الأساتذة والعلماء وأنشأ فيها أربعة كراسي للمذاهب الفلسفية الرئيسية: الأفلاطونية والأرسطوطالية والرواقية والأبيقورية[ر]. ووصل إلى روما عام 176 حزيناً محطم الآمال ولم يعد أمامه سوى أن يختار ابنه لخلافته، وهكذا صار كومودوس Commodus شريكاً لوالده في الحكم ولما يبلغ الثامنة عشرة من عمره.
تحركت القبائل الجرمانية من جديد وهاجمت مناطق بانونيا Panonia (حالياً النمسا والمجر) فانطلق ماركوس لحربها وخاض معها معارك ضارية، وكاد يخضعها كلها لولا أن وافته المنية في مدينة ڤيندوبونا Vindobona (ڤيينا الحالية). وبدلاً من أن يتابع كومودوس سياسة والده بادر إلى عقد صلح مخزٍ مع تلك القبائل، وترك ميدان القتال عائداً إلى روما لينصرف إلى هواياته وملذاته الشخصية.
لم تُنسِ سنوات الحرب الطويلة ماركوس أوريليوس الأوضاع الداخلية في الامبراطورية، فقد كان حريصاً على الحفاظ على أفضل العلاقات مع مجلس الشيوخ الذي كان يستشيره دائماً في الملمات والقرارات المهمة. واهتم بإصلاح القضاء لتسهيل أمور الناس وبأوضاع الولايات والمدن والإدارات المختلفة. وسعى في سياسته إلى رعاية الفقراء، وتوفير حاجاتهم الأساسية، فأسس المدارس والمشافي وخفف الأعباء والضرائب عن كواهل الناس خاصة في أيام المحن والكوارث، وأصدر كثيراً من القوانين التي تحمي الأيتام والقاصرين وتخفف العقوبات الصارمة وجعل القوانين أكثر إنسانية ورحمة.
ظللت الحرب عهد هذا الامبراطور الفيلسوف ولكنه في ساعات الوحدة في أثناء المعارك وجد العزاء والسلوى في «تأملاته» التي تفيض بمبادئ الفلسفة الرواقية وتعاليمها الأخلاقية السامية، التي دوّنها باللغة الإغريقية في اثني عشر كتاباً بعنوان «إلى الذات» أو «التأملات» Tà eis Eaucón يستهلها بشكر أسرته وأصدقائه والآلهة وذكر فضائل أساتذته وما تلقاه منهم من دروس وحكم. لقد تعلم «أن يحكم نفسه وألا يسمح لشيء ما بأن يضله، وأن يكون بشوشاً في كل الظروف والأحوال. وأن يؤدي ما عليه من واجبات بلا تذمر». ثم ينتقل إلى صياغة أفكاره عن الحياة البشرية ومصائرها في ذلك العصر المضطرب، لذلك جاءت أفكاره متقطِّعة أحياناً وفيها كثير من التكرار.
كان ماركوس أوريليوس يرى، شأن كثير من فلاسفة عصره، أن الفلسفة مدرسة لتعليم الفضيلة وطريقة للحياة. وكان يؤمن في قرارة نفسه - على الرغم من حرصه على دين آبائه وأجداده - بألوهية الكون، «فثمة إله واحد يسري في كل شيء، ومادة واحدة وقانون واحد وحقيقة واحدة». فقد كان امبراطوراً فيلسوفاً بالمعنى الرواقي لهذا اللفظ لا الأفلاطوني. يقول محذّراً نفسه: «لاتؤمل قط أن تقيم جمهورية أفلاطون، وحسبك أنك أصلحت أحوال البشر إلى حد ما، ولا تظن أن هذا الإصلاح شأن قليل الخطر، إذ من ذا الذي يستطيع تغيير آراء الناس؟» ولهذا فقد وطد العزم على أن يعتمد القدوة الحسنة، لا سطوة القانون، فجعل نفسه بالفعل خادماً للدولة، وأخذ على عاتقه جميع أعباء الإدارة والقضاء وقيادة الجيوش إلى ميادين القتال، وأخضع نفسه لأقصى درجات امتحان الذات. وهكذا كان رجلاً نذر نفسه للحق والواجب يتبع صوت ضميره إلى حد جعل القديس أوغسطين [ر] يقول عنه معجباً: «إن حياة هذا الامبراطور الوثني جديرة بأن يقلِّدها المسيحيون».
حظي الامبراطور ماركوس أوريليوس و«تأملاته» باهتمام واسع في الدراسات التاريخية والفلسفية، وقد صدر الكتاب في طبعات نقدية محققة تُرجمت إلى كثير من اللغات، ومن أهم هذه الطبعات والترجمات A.S.L. Farquharson,Marcus Aurelius, Meditations 2 vols, 2nd edition (1952).
محمد الزين