رمبرانت (هارمينزون فان رين)
Rembrandt (Harmenszoon van Rijn-) - Rembrandt (Harmenszoon van Rijn-)
رمبرانت (هارمينزون فان رين -)
(1606-1669)
هارمينزون فان رين رمبرانت Harmenszoon Van Rijn Rembrandt، مصور ورسام وحفار هولندي، وواحد من أعظم الفنانين في الغرب. ولد في مدينة ليدن Leyden، وتوفي في مدينة أمستردام Amsterdam. نشأ رمبرانت في طاحونة للغلال كان أبوه يملكها ويديرها، وترعرع في كنف أمه ابنة خباز بالمدينة. كان والده ميسور الحال فهيأ له أفضل ما يمكن أن تقدمه مدينة ليدن من فرص التعليم. وبعد أن درس اللاتينية في سن مبكرة، التحق، وهو في الرابعة عشرة، بجامعة ليدن، لكنه ما لبث أن تركها لدراسة التصوير على يد فنانين من أمثال ياكوب فان سواننبرغ Jacob Van Swanenburgh، وبيتر لَسْتمان Pieter Lastman وغيرهما. وبعد أن أمضى ستة أشهر في محترفات هذين المعلمين، وبرع في كل ما لقّناه، عاد إلى مسقط رأسه حيث استقر. تعلم رمبرانت طراز عصره «الباروك»[ر] Baroque، ثم تحول إلى دراسة الأضواء والظلال فأجاد توزيع الأضواء الساطعة والظلال الداكنة بعد دراسته لوحات المصور الإيطالي كارافاجو[ر]. ولكنه ما كاد يبلغ التاسعة عشرة من عمره حتى عكف على استنباط أسلوب مميز متفرد خاص به وحده عبّر من خلاله عن مكنون ذاته وكنوز خياله، وشكل علامة بارزة على طريق تطور الفن التشكيلي الأوربي، وقد تجلى هذا الأسلوب في طريقة تعامله مع الضوء والظل اللذين جعلهما أساساً في رؤيته التشكيلية، وفي منح وجوه شخوصه تعابيرها الإنسانية العميقة المفعمة بالحزن والشقاء والمعاناة.
أنشأ رمبرانت لنفسه مرسماً ظل يعمل فيه حتى عام 1632. وقد كشفت صوره المبكرة عما انتهى إليه من استقرار. ففي لوحاته: «بلعام»، و«داوود وجوليات»، و«تقدمة يسوع الطفل إلى الهيكل» بشخوصها التي تكوِّن في مجموعها شكلاً هرمياً، تتجلى لغة الإشارات والإيماءات التي يعبر بها الأفراد عما يؤدون ويريدون، وتحقق الخطوط المائلة كلما التقى الضوء بالظل إيقاعاً متناغماً يواكب وقار المشهد. أما في لوحتيه: «الهروب إلى مصر»، و«شمشون ودليلة» فقد حل محل تعدد ألوانه تآلف لوني وما تؤدي إليه تأثيرات الظل والنور التي يكتنفها الغموض والأسرار، والتي أدت بدءاً من عام 1631، إلى أسلوبه الساحر، والغنائي الباهر، والسردي الغامض.
عاد رمبرانت إلى أمستردام ثانية ليستقر فيها، وكانت لوحة «درس التشريح» أولى لوحاته التي لفتت الأنظار إليه، فذاع صيته في المدينة أكبر مصور للصور الشخصية، فانهالت عليه الطلبات تباعاً بين عامي (1632-1635) حتى بلغت أربعين لوحة في عامين، وكان يلبيها بحماسة، ونجح في كل ما تناوله من تصوير فضلاً عن أنه أضفى عمقاً سيكولوجياً جديداً على وجوه شخوصه، وأسبغ على مشاهد الحياة اليومية حركة غير مألوفة، وأثرى صوره الدينية بنبرة درامية مثيرة، كما أكسب مناظره الطبيعية امتداداً لم يعهده مصورو الشمال من قبل.
صارت الفرصة متاحة أمامه ليزيد من نجاحه، وازدهار عمله وشهرته بين أغنياء التجار والصناع وحكام الأقاليم، كما زاد احتكاكه بنصيري الفنون والآداب الميسورين الذين عهدوا إليه بالكثير من الصور الشخصية كان من بينها لوحته المشهورة الأولى لنقابة الجراحين «درس التشريح» للدكتور تولب، 1632، متحف لاهاي، التي امتازت بما يتحلى به الفنان من دقة الملاحظة ورهافة في التصوير تجاري دقة أبرع الفنانين. واللوحة تقدم الدكتور تولب بين أصدقائه والمعجبين به أستاذاً جراحاً في أثناء عملية جراحية تجريبية. إن الميزة الحقيقية لهذه اللوحة هي أنها تحدد مرحلة في تقدم رمبرانت الفني، إذ تدل على خطوة كبيرة تفصح عما يهدف إليه، إنها نموذج للصور الشخصية الجماعية التي شاعت آنذاك في هولندة، وقد ضمت هذه اللوحة الشخصيات البارزة في النقابة في توزيع متحرر غير مألوف للوجوه والضوء الذي اشتد سطوعاً على الجثة وعلى وجه الدكتور تولب.
تزوج رمبرانت في عام 1634 بفتاة اسمها ساسكيا Saskia، قريبة أحد تجار الأعمال الفنية الناجحين، فكانت زوجة صالحة تحملت في صبر وجلد عبقرية شريك حياتها المستغرق في العمل، وجلست إليه ليرسم لها صوراً كثيرة مثل: «فلورا إلهة الأزهار»، و«المشرقة الباسمة»، و«فلورا الحزينة». وفي إحدى اللوحات في درسدن يبدو وقد غمرته السعادة جالساً مع زوجه تفيض منه الابتسامة، رافعاً كأساً عاليةً ابتهاجاً بموفور الصحة والعافية والمال.
كُلِّف رمبرانت في عام 1634 تصوير ثلاثة مشاهد دينية: «الوضع في اللحد»، و«البعث» و«الصعود»، ثم أضيفت إليها لوحتان: «نصب الصليب»، و«إنزال الصليب». في هذه اللوحات واللوحات الأخرى مثل: «حجيج عيماوس» ومجموعة لوحات الفلاسفة في حالات التأمل، وصوره الشخصية الأولى، وصور المسنين وبعض المشاهد التوراتية، تجلى أسلوب رمبرانت الشخصي في معالجته للظل والنور، وتأكد هذا الأسلوب في تجنبه لتضادات كارافاجو الحادة، وفي تقديم شخوصه في منطقة ظليلة، وفي مزجه للضوء والنور بانتقالات رهيفة ودقيقة، وفي توحيده للمكان وتعميقه بتسليط الضوء على أجزاء من اللوحة محط الاهتمام.
وقد ساعدت قوة هذا الأسلوب الموحية، وقوة التعبير التي نتج منها، في البوح بروحانية جديدة، حارة ومكتومة، تجلت في الألوان المحركة للمشاعر رغم اتزانها، وفي التكوينات الكثيفة والمتراصة، وفي الفكر الاتباعي.
جعل رمبرانت من صورته الذاتية موضوعاً أثيراً لنفسه، لخص فيها فلسفته ورؤياه الفنية، وصور مختلف أنواع المشاعر والتعابير التي انتابت مسيرة حياته من الفتوة والشباب إلى الكهولة والشيخوخة، فرسم لنفسه صوراً شخصية كثيرة معروفة ومنتشرة في عدد من متاحف العالم. ولعل هذه الوفرة الوفيرة من الصور الذاتية تعود إلى نزوعه نحو التأمل العميق والبحث عن الذات، وميله إلى تغيير عصره ومكانته وبلده، فيبدو معتمراً بعمامة أو قلنسوة شرقية مرة، ومتزيناً بأحجار كريمة وغريبة مرة أخرى، أو مرتدياً زي صعلوك يشبه لصاً شقياً تارة، أو المسيح تارة أخرى.
أقام رمبرانت علاقات مع اللامرئي، مما حال دون إضاعة وقته في العلاقات الاجتماعية. فهو بعكس روبنز[ر] لم يكن دبلوماسياً، وإنما كان ينصرف إلى تأملاته وهمومه الداخلية الحميمة، وكان يعجز عن تنظيم نتائج نجاحه وفق منهج علمي، لذلك وجد نفسه مضطراً إلى رفض كل أعمال التوصية. فبعد السنوات التي تلت مجيئه إلى أمستردام، والتي كان ينتج فيها أعمالاً بالجملة، قرر أن يفضل الطريق الصعبة على الطريق السهلة، لكي لا يخضع لأذواق الآخرين، وليتفرغ لإرضاء نزعاته الفنية المحضة. وفي سبيل هذه الحرية أهمل اتصالاته بمن حوله، وزهد في كل شيء ما عدا جمع الآثار الفنية. كان كل همه أن يعمل بحرية، لذلك منع أياً كان من أن يقتحم محترفه، وكان يرفض استقبال أي إنسان، مهما علا شأنه، في الأوقات التي يتفرغ فيها لإبداعه.
أخرج الفنان في سنين اليسر (1634-1642) التحفة تلو التحفة، واستمر يرسم نفسه. وكانت آخر رسوم هذه الحقبة، وربما أعظم إنجازات رمبرانت اللوحة الضخمة (359×438سم) والتي تعرف في التاريخ باسم «حراسة الليل» أو«جولة العسس»، أنفس ما تحوي هولندة، وإحدى أشهر ما في العالم. يقول فيها الفنان والناقد الفرنسي أوجين فرومنتان Eugene Fromentin «إن جولة العسس تنتسب إلى تلك القلائد الدرية، لقد عد البعض اللوحة إحدى عجائب الدنيا، ورامبرانت أعظم ملون وجد أبداً، والحقيقة هي أن رمبرانت علم فذ في بلاده وفي جميع بلاد عصره وفي جميع العصور. وقد يكون ملوناً لكن بأسلوبه الشاذ، وقد يكون أيضاً رسام خط لكن كما لا أحد، وربما فاق على شروده كل ملون ومخطط، وأنه حين يتأنق لا يجد من يجاريه ولا من يباريه».
في عام 1639 اشترى رامبرانت داراً فسيحة كلفته ثلاثة عشر ألف فلورين، وهو مبلغ ضخم لم ينجح قط في دفعه كاملاً، فارتفعت فائدته إلى حد جره إلى هاوية الإفلاس. وفي الوقت نفسه كانت صحة زوجه ساسكيا آخذة في التدهور، وكانت قد أنجبت له ثلاثة أولاد، مات كل منهم في سن الطفولة، وفي عام 1641 أنجبت له ابناً أسماه تيتوس، ثم فارقت الحياة عام 1642 بعد أن أوصت بكل ما تملك إلى رمبرانت، شريطة أن تؤول التركة إلى ولدها إذا تزوج والده ثانية. وبدا، منذ ذلك الوقت، أن فكرة الموت تستبد به وتقلقه، وصار يؤثر الوحدة على الرفقة.
وفي عام 1649 رسم لوحة «هندريكا في المخدع»، وهندريكا هذه كانت وصيفة ساسكيا، بقيت مع الفنان الأرمل وعنيت به عناية فائقة، ولكنه لم يعلن زواجه بها لأنه كره أن يتخلى عن تركة ساسكيا لابنه تيتوس الذي كان في الثانية من العمر. ومع ذلك كانت زوجة أب فاضلة لتيتوس الذي أخذ يترعرع فاتناً، فكان عزاء وسلوى لأبيه رمبرانت الذي انصبت على رأسه الكوارث المالية واحدة تلو الأخرى. وبذل الفنان جهداً جباراً ليوازن بين موارده ونفقاته.
ثمة لوحات دينية عظيمة يرجع تاريخها إلى تلك الحقبة منها: «يعقوب يبارك حفدته»، و«المسيح عند النبع»، و«المسيح والمرأة السامرية»، ولوحات مستمدة من الأساطير مثل «أثينة»، و«مارس»، ولوحات لشخصيات معروفة مثل «نيقولا برونتج»، و«جان سكس» عمدة المدينة، و«الرجل ذو الخوذة الذهبية»، و«كوزيليوس قائد المئة».
بعد أن تخلف نصراؤه ورعاته عن الوفاء بمتطلباته، وجد نفسه، وقد أثقلته الديون، في حالة تدعو إلى اليأس، فأعلن إفلاسه وبيع أثاثه ولوحاته ورسومه ومجموعاته في عجلة كلفته كثيراً، وطُرد من الدار في عام 1657. وفي العقد الأخير من عمره (1660-1669) سهر للإبقاء على حياته ابنه وهندريكا. ثم جاءت سنة 1661 وجاءت معها آخر روائعه «خبراء نقابة تجار الأقمشة».
عندما صور رمبرانت نفسه في عام 1660 كان لا يزال يواجه الحياة بمزيج من الشجاعة والاستسلام، ولكنه في صورة أخرى، في العام نفسه، كانت ثمة نظرة قلقة حائرة تعتم الوجه وتكسوه بالتجاعيد حول الأنف، وفي عام 1661 رأى نفسه حائراً مرتبكاً. وصور نفسه في عامه الأخير وكأنما وجد الطمأنينة وهدوء البال في ارتضاء قيود الحياة وحدودها ومرحها الساخر.
ماتت هندريكا في عام 1662، ولكن تيتوس كان يمتعه بمنظر الشباب. وفي عام 1668 ابتهج الشيخ العجوز بزواج ابنه، ولما لحق الابن بهندريكا في العام نفسه، فقد الفنان قدرته على التشبث بالحياة.
كان رمبرانت غزيراً في فنه، إذ وصل عدد لوحاته إلى 650 لوحة، و300 محفورة، و1500 رسم. وتمثل لوحة «المسيح يشفي المرضى» المطبوعة بطريقة الحفر على سطح معدني والمشهورة باسم صورة المئة جيلدر (العملة الهولندية) نقطة تحول بارزة في تصاوير رمبرانت. فبعد أن كانت تصاويره الدينية في الثلاثينيات من القرن السابع عشر تتسم بتصوير العنف والقسوة، صارت تتسم باللطف والرقة، ومنذ ذلك الحين إلى ما بعده حرص رمبرانت على تصوير الإنجيل تصويراً مباشراً دون تكلف، وفي هذه اللوحة مس رمبرانت سطحاً معدنياً مغشى بالشمع بمرقم الحفر Stylus ينتهي إلى صورة نمطية خطية تنطبع على اللوحة المعدنية بمجرد غمسها في محلول حمضي، فإذا نقلت بعد ذلك إلى الورق امتد طيف الظلال من دكنة أشبه بدكنة المداد على نحو ما نرى وراء صورة المسيح إلى بياض ناصع مثل الصخرة في الطرف الأيسر من الصورة.
وصل رامبرانت بفن الحفر بالماء القوي والرسم بالمنقاش الصلب وتقانتهما إلى حد الكمال، حيث البساطة في التنفيذ والقوة في التعبير، فهو الذي كان يملي على تلاميذه: «عليكم أن تتركوا الأشكال التي ترسمونها مفتوحة للضوء، وأن توزعوا الظلال فور شروعكم في الرسم، وأن تتركوا لورق الرسم وحده توليد الضوء».
كتب يوجين دولاكروا[ر] عنه يقول: «ربما يأتي يوم نجد فيه رمبرانت رساماً أعظم من رافايلو[ر]، وإني لأكتب الآن، دون تحيز، هذا التجديف الذي سوف يسبب انتصاب شعر الأكاديميين غضباً ودهشة».
فائق دحدوح
Rembrandt (Harmenszoon van Rijn-) - Rembrandt (Harmenszoon van Rijn-)
رمبرانت (هارمينزون فان رين -)
(1606-1669)
هارمينزون فان رين رمبرانت Harmenszoon Van Rijn Rembrandt، مصور ورسام وحفار هولندي، وواحد من أعظم الفنانين في الغرب. ولد في مدينة ليدن Leyden، وتوفي في مدينة أمستردام Amsterdam. نشأ رمبرانت في طاحونة للغلال كان أبوه يملكها ويديرها، وترعرع في كنف أمه ابنة خباز بالمدينة. كان والده ميسور الحال فهيأ له أفضل ما يمكن أن تقدمه مدينة ليدن من فرص التعليم. وبعد أن درس اللاتينية في سن مبكرة، التحق، وهو في الرابعة عشرة، بجامعة ليدن، لكنه ما لبث أن تركها لدراسة التصوير على يد فنانين من أمثال ياكوب فان سواننبرغ Jacob Van Swanenburgh، وبيتر لَسْتمان Pieter Lastman وغيرهما. وبعد أن أمضى ستة أشهر في محترفات هذين المعلمين، وبرع في كل ما لقّناه، عاد إلى مسقط رأسه حيث استقر. تعلم رمبرانت طراز عصره «الباروك»[ر] Baroque، ثم تحول إلى دراسة الأضواء والظلال فأجاد توزيع الأضواء الساطعة والظلال الداكنة بعد دراسته لوحات المصور الإيطالي كارافاجو[ر]. ولكنه ما كاد يبلغ التاسعة عشرة من عمره حتى عكف على استنباط أسلوب مميز متفرد خاص به وحده عبّر من خلاله عن مكنون ذاته وكنوز خياله، وشكل علامة بارزة على طريق تطور الفن التشكيلي الأوربي، وقد تجلى هذا الأسلوب في طريقة تعامله مع الضوء والظل اللذين جعلهما أساساً في رؤيته التشكيلية، وفي منح وجوه شخوصه تعابيرها الإنسانية العميقة المفعمة بالحزن والشقاء والمعاناة.
أنشأ رمبرانت لنفسه مرسماً ظل يعمل فيه حتى عام 1632. وقد كشفت صوره المبكرة عما انتهى إليه من استقرار. ففي لوحاته: «بلعام»، و«داوود وجوليات»، و«تقدمة يسوع الطفل إلى الهيكل» بشخوصها التي تكوِّن في مجموعها شكلاً هرمياً، تتجلى لغة الإشارات والإيماءات التي يعبر بها الأفراد عما يؤدون ويريدون، وتحقق الخطوط المائلة كلما التقى الضوء بالظل إيقاعاً متناغماً يواكب وقار المشهد. أما في لوحتيه: «الهروب إلى مصر»، و«شمشون ودليلة» فقد حل محل تعدد ألوانه تآلف لوني وما تؤدي إليه تأثيرات الظل والنور التي يكتنفها الغموض والأسرار، والتي أدت بدءاً من عام 1631، إلى أسلوبه الساحر، والغنائي الباهر، والسردي الغامض.
عاد رمبرانت إلى أمستردام ثانية ليستقر فيها، وكانت لوحة «درس التشريح» أولى لوحاته التي لفتت الأنظار إليه، فذاع صيته في المدينة أكبر مصور للصور الشخصية، فانهالت عليه الطلبات تباعاً بين عامي (1632-1635) حتى بلغت أربعين لوحة في عامين، وكان يلبيها بحماسة، ونجح في كل ما تناوله من تصوير فضلاً عن أنه أضفى عمقاً سيكولوجياً جديداً على وجوه شخوصه، وأسبغ على مشاهد الحياة اليومية حركة غير مألوفة، وأثرى صوره الدينية بنبرة درامية مثيرة، كما أكسب مناظره الطبيعية امتداداً لم يعهده مصورو الشمال من قبل.
صارت الفرصة متاحة أمامه ليزيد من نجاحه، وازدهار عمله وشهرته بين أغنياء التجار والصناع وحكام الأقاليم، كما زاد احتكاكه بنصيري الفنون والآداب الميسورين الذين عهدوا إليه بالكثير من الصور الشخصية كان من بينها لوحته المشهورة الأولى لنقابة الجراحين «درس التشريح» للدكتور تولب، 1632، متحف لاهاي، التي امتازت بما يتحلى به الفنان من دقة الملاحظة ورهافة في التصوير تجاري دقة أبرع الفنانين. واللوحة تقدم الدكتور تولب بين أصدقائه والمعجبين به أستاذاً جراحاً في أثناء عملية جراحية تجريبية. إن الميزة الحقيقية لهذه اللوحة هي أنها تحدد مرحلة في تقدم رمبرانت الفني، إذ تدل على خطوة كبيرة تفصح عما يهدف إليه، إنها نموذج للصور الشخصية الجماعية التي شاعت آنذاك في هولندة، وقد ضمت هذه اللوحة الشخصيات البارزة في النقابة في توزيع متحرر غير مألوف للوجوه والضوء الذي اشتد سطوعاً على الجثة وعلى وجه الدكتور تولب.
تزوج رمبرانت في عام 1634 بفتاة اسمها ساسكيا Saskia، قريبة أحد تجار الأعمال الفنية الناجحين، فكانت زوجة صالحة تحملت في صبر وجلد عبقرية شريك حياتها المستغرق في العمل، وجلست إليه ليرسم لها صوراً كثيرة مثل: «فلورا إلهة الأزهار»، و«المشرقة الباسمة»، و«فلورا الحزينة». وفي إحدى اللوحات في درسدن يبدو وقد غمرته السعادة جالساً مع زوجه تفيض منه الابتسامة، رافعاً كأساً عاليةً ابتهاجاً بموفور الصحة والعافية والمال.
كُلِّف رمبرانت في عام 1634 تصوير ثلاثة مشاهد دينية: «الوضع في اللحد»، و«البعث» و«الصعود»، ثم أضيفت إليها لوحتان: «نصب الصليب»، و«إنزال الصليب». في هذه اللوحات واللوحات الأخرى مثل: «حجيج عيماوس» ومجموعة لوحات الفلاسفة في حالات التأمل، وصوره الشخصية الأولى، وصور المسنين وبعض المشاهد التوراتية، تجلى أسلوب رمبرانت الشخصي في معالجته للظل والنور، وتأكد هذا الأسلوب في تجنبه لتضادات كارافاجو الحادة، وفي تقديم شخوصه في منطقة ظليلة، وفي مزجه للضوء والنور بانتقالات رهيفة ودقيقة، وفي توحيده للمكان وتعميقه بتسليط الضوء على أجزاء من اللوحة محط الاهتمام.
وقد ساعدت قوة هذا الأسلوب الموحية، وقوة التعبير التي نتج منها، في البوح بروحانية جديدة، حارة ومكتومة، تجلت في الألوان المحركة للمشاعر رغم اتزانها، وفي التكوينات الكثيفة والمتراصة، وفي الفكر الاتباعي.
جعل رمبرانت من صورته الذاتية موضوعاً أثيراً لنفسه، لخص فيها فلسفته ورؤياه الفنية، وصور مختلف أنواع المشاعر والتعابير التي انتابت مسيرة حياته من الفتوة والشباب إلى الكهولة والشيخوخة، فرسم لنفسه صوراً شخصية كثيرة معروفة ومنتشرة في عدد من متاحف العالم. ولعل هذه الوفرة الوفيرة من الصور الذاتية تعود إلى نزوعه نحو التأمل العميق والبحث عن الذات، وميله إلى تغيير عصره ومكانته وبلده، فيبدو معتمراً بعمامة أو قلنسوة شرقية مرة، ومتزيناً بأحجار كريمة وغريبة مرة أخرى، أو مرتدياً زي صعلوك يشبه لصاً شقياً تارة، أو المسيح تارة أخرى.
أقام رمبرانت علاقات مع اللامرئي، مما حال دون إضاعة وقته في العلاقات الاجتماعية. فهو بعكس روبنز[ر] لم يكن دبلوماسياً، وإنما كان ينصرف إلى تأملاته وهمومه الداخلية الحميمة، وكان يعجز عن تنظيم نتائج نجاحه وفق منهج علمي، لذلك وجد نفسه مضطراً إلى رفض كل أعمال التوصية. فبعد السنوات التي تلت مجيئه إلى أمستردام، والتي كان ينتج فيها أعمالاً بالجملة، قرر أن يفضل الطريق الصعبة على الطريق السهلة، لكي لا يخضع لأذواق الآخرين، وليتفرغ لإرضاء نزعاته الفنية المحضة. وفي سبيل هذه الحرية أهمل اتصالاته بمن حوله، وزهد في كل شيء ما عدا جمع الآثار الفنية. كان كل همه أن يعمل بحرية، لذلك منع أياً كان من أن يقتحم محترفه، وكان يرفض استقبال أي إنسان، مهما علا شأنه، في الأوقات التي يتفرغ فيها لإبداعه.
أخرج الفنان في سنين اليسر (1634-1642) التحفة تلو التحفة، واستمر يرسم نفسه. وكانت آخر رسوم هذه الحقبة، وربما أعظم إنجازات رمبرانت اللوحة الضخمة (359×438سم) والتي تعرف في التاريخ باسم «حراسة الليل» أو«جولة العسس»، أنفس ما تحوي هولندة، وإحدى أشهر ما في العالم. يقول فيها الفنان والناقد الفرنسي أوجين فرومنتان Eugene Fromentin «إن جولة العسس تنتسب إلى تلك القلائد الدرية، لقد عد البعض اللوحة إحدى عجائب الدنيا، ورامبرانت أعظم ملون وجد أبداً، والحقيقة هي أن رمبرانت علم فذ في بلاده وفي جميع بلاد عصره وفي جميع العصور. وقد يكون ملوناً لكن بأسلوبه الشاذ، وقد يكون أيضاً رسام خط لكن كما لا أحد، وربما فاق على شروده كل ملون ومخطط، وأنه حين يتأنق لا يجد من يجاريه ولا من يباريه».
رامبريت: «حراسة الليل» أو «جولة العسس» (1642) |
وفي عام 1649 رسم لوحة «هندريكا في المخدع»، وهندريكا هذه كانت وصيفة ساسكيا، بقيت مع الفنان الأرمل وعنيت به عناية فائقة، ولكنه لم يعلن زواجه بها لأنه كره أن يتخلى عن تركة ساسكيا لابنه تيتوس الذي كان في الثانية من العمر. ومع ذلك كانت زوجة أب فاضلة لتيتوس الذي أخذ يترعرع فاتناً، فكان عزاء وسلوى لأبيه رمبرانت الذي انصبت على رأسه الكوارث المالية واحدة تلو الأخرى. وبذل الفنان جهداً جباراً ليوازن بين موارده ونفقاته.
ثمة لوحات دينية عظيمة يرجع تاريخها إلى تلك الحقبة منها: «يعقوب يبارك حفدته»، و«المسيح عند النبع»، و«المسيح والمرأة السامرية»، ولوحات مستمدة من الأساطير مثل «أثينة»، و«مارس»، ولوحات لشخصيات معروفة مثل «نيقولا برونتج»، و«جان سكس» عمدة المدينة، و«الرجل ذو الخوذة الذهبية»، و«كوزيليوس قائد المئة».
بعد أن تخلف نصراؤه ورعاته عن الوفاء بمتطلباته، وجد نفسه، وقد أثقلته الديون، في حالة تدعو إلى اليأس، فأعلن إفلاسه وبيع أثاثه ولوحاته ورسومه ومجموعاته في عجلة كلفته كثيراً، وطُرد من الدار في عام 1657. وفي العقد الأخير من عمره (1660-1669) سهر للإبقاء على حياته ابنه وهندريكا. ثم جاءت سنة 1661 وجاءت معها آخر روائعه «خبراء نقابة تجار الأقمشة».
عندما صور رمبرانت نفسه في عام 1660 كان لا يزال يواجه الحياة بمزيج من الشجاعة والاستسلام، ولكنه في صورة أخرى، في العام نفسه، كانت ثمة نظرة قلقة حائرة تعتم الوجه وتكسوه بالتجاعيد حول الأنف، وفي عام 1661 رأى نفسه حائراً مرتبكاً. وصور نفسه في عامه الأخير وكأنما وجد الطمأنينة وهدوء البال في ارتضاء قيود الحياة وحدودها ومرحها الساخر.
ماتت هندريكا في عام 1662، ولكن تيتوس كان يمتعه بمنظر الشباب. وفي عام 1668 ابتهج الشيخ العجوز بزواج ابنه، ولما لحق الابن بهندريكا في العام نفسه، فقد الفنان قدرته على التشبث بالحياة.
كان رمبرانت غزيراً في فنه، إذ وصل عدد لوحاته إلى 650 لوحة، و300 محفورة، و1500 رسم. وتمثل لوحة «المسيح يشفي المرضى» المطبوعة بطريقة الحفر على سطح معدني والمشهورة باسم صورة المئة جيلدر (العملة الهولندية) نقطة تحول بارزة في تصاوير رمبرانت. فبعد أن كانت تصاويره الدينية في الثلاثينيات من القرن السابع عشر تتسم بتصوير العنف والقسوة، صارت تتسم باللطف والرقة، ومنذ ذلك الحين إلى ما بعده حرص رمبرانت على تصوير الإنجيل تصويراً مباشراً دون تكلف، وفي هذه اللوحة مس رمبرانت سطحاً معدنياً مغشى بالشمع بمرقم الحفر Stylus ينتهي إلى صورة نمطية خطية تنطبع على اللوحة المعدنية بمجرد غمسها في محلول حمضي، فإذا نقلت بعد ذلك إلى الورق امتد طيف الظلال من دكنة أشبه بدكنة المداد على نحو ما نرى وراء صورة المسيح إلى بياض ناصع مثل الصخرة في الطرف الأيسر من الصورة.
وصل رامبرانت بفن الحفر بالماء القوي والرسم بالمنقاش الصلب وتقانتهما إلى حد الكمال، حيث البساطة في التنفيذ والقوة في التعبير، فهو الذي كان يملي على تلاميذه: «عليكم أن تتركوا الأشكال التي ترسمونها مفتوحة للضوء، وأن توزعوا الظلال فور شروعكم في الرسم، وأن تتركوا لورق الرسم وحده توليد الضوء».
كتب يوجين دولاكروا[ر] عنه يقول: «ربما يأتي يوم نجد فيه رمبرانت رساماً أعظم من رافايلو[ر]، وإني لأكتب الآن، دون تحيز، هذا التجديف الذي سوف يسبب انتصاب شعر الأكاديميين غضباً ودهشة».
فائق دحدوح