دراسة: التطور ليس عشوائيا بالمرة، بل يتخذ أنماطا جينية يمكن توقعها
يبدو التطور و كأنه عملية عشوائية بالأساس، حيث تظهر خصائص معينة بالصدفة عن طريق الطفرات الجينية و يتم الحفاظ على الملائمة منها و التخلص من المضرة أو غير المفيدة منها عن طريق الانتخاب الطبيعي، و لكن دراسة حديثة تمت في جامعة برنستون الأمريكية تبين أن هنالك أنماطا جينية متكررة تلمِّح إلى إمكانية التنبؤ بتطور الكائنات إلى حد ما، و تتمثل تلك الأنماط في حلول جينية متطابقة أو شبه متطابقة ظهرت عند كائنات حية كثيرة و متنوعة لا تربط بينها صلة مباشرة، في مواجهة المشكلة البيئية ذاتها تقريبا.
الدراسة ركزت بالتحديد على بروتين يمكن الخلية الحية من التحكم في نسبة الصوديوم مقارنة مع البوتاسيوم داخلها، و الذي يتأثر بمادة الكاردينولايد التي تشل من قدرة هذه “المضخة”، و يواجه عدد كبير من الحشرات هذه المعضلة حيث تعتمد في غذائها على نباتات تحتوي على هذه المادة. و تتجلى تلك الحلول الجينية في عدد كبير من الطفرات المتطابقة أو شبه المتطابقة عند جميع الكائنات المدروسة التي أدت إلى زيادة مقاومة البروتين المضخة للسم، الأمر الذي يستحيل حدوثه تقريبا بالصدفة البحتة.
الترجمة الكاملة للمقال:
التطور، الذي يراه الكثيرون كسلسلة من التغيرات العشوائية، قد يكون في الواقع مدفوعا بحل جيني بسيط و متكرر لضغط بيئي معين تخضع له العديد من الأنواع، حسب دراسة حديثة.
دراسة من جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية، نشرت في المجلة العلمية “ساينس” التي يتم مراجعة محتواها من طرف نظراء*، تقترح أن معرفة جينات نوع ما، و الكيفية التي تؤثر بها بعض الظروف الخارجية على البروتينات التي ترمّزها الجينات، يمكن استعمالها لتحديد نمط تطوري قابل للتنبؤ مدفوع بعوامل خارجية. ما يمكن العلماء بعد ذلك من تحديد الكيفية التي تطورت بها الأشكال المتنوعة للتأقلم التي نراها في الطبيعة، حتى عند أنواع لا صلة مباشرة بينها.
“هل التطور قابل للتنبؤ؟ الجواب المثير للدهشة إلى أبعد حدود هو نعم”، يقول الباحث المتمرس بيتر أندولفاتو، أستاذ مساعد في شعبة علم البيئة و البيولوجيا التطورية بجامعة برنستون و مؤسسة لويس سيجلر لعلم الجينوم التكاملي. و قد قام بالبحث بمرافقة المحرر الرئيسي للبحث يينغ زهين، و ماثيو آرديما، و مولي شومر، و جميعهم من شعبة علم البيئة و البيولوجيا التطورية بجامعة برنستون، إضافة إلى إيدجار ميدينا، من جامعة أنديس بجمهورية كولومبيا.
قام الباحثون بفحص سلاسل دنا (الحمض النووي) ل 29 نوعا من الحشرات المتباعدة فيما بينها في الشجرة التطورية، و هي أكبر عينة لكائنات حية تم فحصها من أجل خاصية تطورية واحدة. 14 من بينها طورت خاصية شبه متماثلة نتيجة لتأثير خارجي وحيد: فهي تتغذى على نباتات تنتج مادة الكاردينولايد و هو نوع من السموم الشبيه بستيرويدات، التي تمثل دفاعا طبيعيا لدى نباتات مثل الصقلاب و قاتل الكلب.
على الرغم من تباعدها ب 300 مليون سنة من التطور، عرفت هذه الحشرات المتنوعة، التي من بينها خنافس و فراشات و مَن (نوع من الحشرات الصغيرة التي تتغذى على عصارة النباتات، كما يعتبرها المزارعون حشرات ضارة ومؤذية للنبات ـ المترجم نقلا عن موسوعة ويكيبيديا)، عرفت تغيرات في بروتين أساسي يسمى ثالث فوسفاتاز الصوديوم ـ بوتاسيوم أدينوزين، أو مضخة الصوديوم ـ بوتاسيوم، و يقوم بمهمة حيوية هي ضبط نسبة الصوديوم مقارنة مع البوتاسيوم في الخلية. و قد طور هذا البروتين مقاومة للكاردينولايد الذي يقوم عادة بشل قدرة البروتين على “ضخ” البوتاسيوم إلى داخل الخلية و إخراج الصوديوم الزائد.
أندولفاتو و مساعدوه قاموا أولا بتحديد سلسلة الدنا للجينات المعبر عنها لدى الأنواع المدروسة و ثم قاموا بجمعها. و استعملوا بعد ذلك هذه السلاسل ليتنبأوا بالشفرة الجينية لمضخة الصوديوم و البوتاسيوم لدى كل نوع، اعتمادا على تعرضها لمادة الكاردينولايد.
“يستطيع العلماء باستخدام تقنيات مماثلة متابعة تغيرات بروتين ما في الحمض النووي لنوع معين لمعرفة عدد الأنظمة الحية المختلفة التي تطورت نتيجة لعوامل بيئية”، يقول أندولفاتو، و يضيف “لتحقيق هذه المقاربة ينبغي أن تكون للعالِم دراية ما بالأسس الجينية لخاصية معينة و من ثم يقوم ببحث كيفية تطور تلك الخاصية لدى مجموعة كبيرة من الأنواع التي واجهت مشكلة تطورية مشتركة”.
“على سبيل المثال، مضخة الصوديوم و البوتاسيوم هي موضع جيني محتمل متعلق بالقدرة على احتمال الملوحة. و إذا نظرنا إلى تغيرات هذا البروتين عند الكائن الحي المناسب، قد نعلم كيف تفاعل أو سيتفاعل مع تزايد الملوحة في المحيطات أو في مكان عيشه في الماء العذب”.
جيانزهي زهانغ أستاذ علم البيئة و البيولوجيا التطورية بجامعة ميتشيجان أشار إلى أن الدراسة التي تمت بجامعة برنستون بينت أن بعض الخصائص تعتمد على عدد محدود من الميكانيزمات الجزيئية، و أن عددا كبيرا من الأنواع الحية قد تشترك في نفس الميكانيزمات تلك. نتيجة لذلك، فمقطع عرضي لبعض الكائنات قد يعطي فكرة عن تطور كائنات أخرى، حسب قوله.
“اكتشاف وجود تطور متواز عند عدد كبير من الحشرات العاشبة يزيد من قيمة الدراسة، لأن هذا التوازي المتكرر بشدة لن يحدث في الغالب عن طريق الصدفة وحدها”، يقول زهانغ، الذي اطلع على الدراسة و لكنه لم يشارك فيها.
“يبين ذلك أن نفس الميكانيزم الجزيئي تستعمله حشرات عديدة مختلفة لتدافع عن نفسها ضد السموم في غذائها، ما يلمح إلى أن عدد الميكانيزمات المحتملة المستعملة لهذا الغرض محدود” يقول الباحث، و يضيف قائلا “أن يكون عدد كبير من الحشرات قد طور نفس الحيل بشكل مستقل لتدافع عن نفسها ضد نفس السم، قد يعني أن دراسة عدد صغير من الكائنات النموذجية يتم اخياره بعناية قد تمنحنا معلومات كثيرة عن أنواع حية أخرى. نعم، التطور يمكن التنبؤ به إلى حد ما.”
أندولفاتو و مساعدوه نظروا إلى هذا البروتين بالذات نظرا لمعرفتهم لحساسيته لمادة الكاردينولايد. ليكون بمقدور الخلية العمل بشكل جيد في ظروف شديدة التنوع يلزمها أن تتحكم في مستويات الصوديوم و البوتاسيوم. و بتموقعه على غشاء الخلية يستطيع هذا البروتين إنتاج النسبة المبتغاة من الصوديوم مقارنة مع البوتاسيوم عن طريق ضخ ثلاث ذرات من الصوديوم خارج الخلية لكل ذرتين من البوتاسيوم يُدخلهما.
الكاردينولايد يعطل تبادل الصوديوم و البوتاسيوم عن طريق تعطيل البروتين بالأساس، كما قال أندولفاتو. الجينوم البشري يحتوي على 4 نسخ من الجين المرتبط بالبروتين المضخة، و هو جين مرشح لعدد من الأمراض الجينية، منها فرط ضغط الدم الحساس للأملاح و الصداع النصفي. و قد استعمل الإنسان منذ زمن كميات قليلة من الكاردينولايد طبيا للتحكم في اضطراب النظم القلبي و قصور القلب، على سبيل المثال.
الباحثون من برنستون استعملوا مختبر مصفوفة الدنا الدقيقة بمؤسسة لويس سيجلر لعلم الجينوم التكاملي التابعة للجامعة، لتحديد سلسلة تعبير مضخة الصوديوم و البوتاسيوم البروتينية لأنواع حشرات تنتظم في ثلاث رتب مختلفة هي: الفراشات و العثات (Lepidoptera)، الخنافس و سوسة الفاكهة (Coleoptera)، المن و بق الفراش و بق الصقلاب و غيرها من الحشرات الماصة (Hemiptera).
و قد وجد الباحثون أن جينات الحشرات المقاومة للكاردينولايد تحتوي على عدد من الطفرات سمحت لها بمقاومة السم. في الإطار الزمني التطوري الذي تمت دراسته، تعرضت مضخة الصوديوم و البوتاسيوم لدى الحشرات التي تتغذى على نباتات قاتل الكلب و الصقلاب ل 33 طفرة في مناطق يعرف عنها تأثيرها على الحساسية للكاردينولايد. هذه الطفرات تمثلت في تغييرات متماثلة أو متطابقة في الأحماض الأمينية قلصت من إمكانية التأثر بالسم. من ناحية أخرى لم تقع سوى طفرة واحدة على مستوى المضخة لدى حشرات لا تتغذى على هذه النباتات.
أهم من ذلك، اكتشف الباحثون أن جينات معينة نسخت بشكل متكرر لدى أسلاف عدد من الحشرات المقاومة. و بذلك حصلت هذه الحشرات على بروتين مضخة الصوديوم و البوتاسيوم المعتاد، إضافة إلى نسخة “تجريبية” منه، كما قال أندولفاتو. عند هذه الحشرات، نجد النسخة الجديدة و القوية من المضخة في أنسجة الأمعاء، حيث تكون الحاجة إليها أكثر إلحاحا.
“عملية نسخ الجينات هو حل أنيق لمسألة التأقلم مع التغيرات البيئية”، يشير أندولفاتو. “تكُون أجسام الأنواع التي لديها مثل هذه النُّسَخ قادرة على القيام بتجارب على النسخة بينما تحافظ على الأخرى ثابتة، متجنبة بذلك خطر ألا يقوم البروتين بعمله الأساسي أيضا.”
ما توصل إليه الباحثون يوحد التصورات المشتتة للمحركات الرئيسية للتطور الجيني: تطور البروتينات، تطور العناصر التي تتحكم في تعبير البروتين في الجسم، و نسخ الجينات. هذه الدراسة تبين أن الميكانيزمات الثلاثة جميعها تُستعمَل لحل نفس المعضلة التطورية، حسب ما قاله أندولفاتو.
النقطة المركزية في العمل التي تم القيام به هي العدد الكبير من الأنواع الحية التي درسها الباحثون باستعمال التقنيات الحديثة لتحديد سلاسل الدنا، يضيف الباحث.
في الماضي كانت دراسة التطور الجيني تتم على مستوى كائنات نموذجية مثل ذباب الفاكهة، كما أشار بيتر أندولفاتو، “الطرق الحديثة لتحديد سلاسل الدنا سمحت لنا بمقاربة الأسئلة التطورية من وجهة مختلفة و التوصل إلى أجابات أكثر شمولية مما لو اكتفينا بدراسة خاصية وحيدة لدى كائن ما.”
و يختم الباحث بقوله “قوة العمل الذي قمنا به تتجلى في إيجاد دليل دامغ على محدودية الحلول الممكنة لمواجهة مشكلة معينة من طرف عدد كبير من الكائنات المتنوعة. كون عدد كبير من هذه الحلول يتم استعمالها مرارا و تكرارا من طرف كائنات غير متعلق بعضها ببعض تبين أن المسار التطوري قابل للتكرار و يمكن التنبؤ به.”
*المترجم: المجلات العلمية المراجعة من طرف نظراء Peer Reviewed هي مجلات تضع كشرط أساسي لنشرها لأي مقال أو بحث علمي أن تتم مراجعته من طرف لجنة تتكون في العادة من 10 إلى 15 عالما متخصصا في المجال الذي يبحث فيه المنشور، و أن يصادقوا جميعا على سلامة الاستدلالات المنطقية و الطرق المتبعة للوصول إلى الاستنتاجات سواء اتفقت مع المعارف العلمية المسبقة أم لا.
ملاحظة: ينبغي أن نؤكد على أن الدراسة تشير فقط إلى إمكانية وجود قوانين رياضية تمكننا من فهم التطور و توقع مساره بشكل أفضل، و ليس إلى كون التطور مقادا من طرف قوة عليا.. و هي تبقى مسألة عقائدية خارج إطار العلم الذي يهتم فقط بما هو قابل للتجربة و القياس.
يبدو التطور و كأنه عملية عشوائية بالأساس، حيث تظهر خصائص معينة بالصدفة عن طريق الطفرات الجينية و يتم الحفاظ على الملائمة منها و التخلص من المضرة أو غير المفيدة منها عن طريق الانتخاب الطبيعي، و لكن دراسة حديثة تمت في جامعة برنستون الأمريكية تبين أن هنالك أنماطا جينية متكررة تلمِّح إلى إمكانية التنبؤ بتطور الكائنات إلى حد ما، و تتمثل تلك الأنماط في حلول جينية متطابقة أو شبه متطابقة ظهرت عند كائنات حية كثيرة و متنوعة لا تربط بينها صلة مباشرة، في مواجهة المشكلة البيئية ذاتها تقريبا.
الدراسة ركزت بالتحديد على بروتين يمكن الخلية الحية من التحكم في نسبة الصوديوم مقارنة مع البوتاسيوم داخلها، و الذي يتأثر بمادة الكاردينولايد التي تشل من قدرة هذه “المضخة”، و يواجه عدد كبير من الحشرات هذه المعضلة حيث تعتمد في غذائها على نباتات تحتوي على هذه المادة. و تتجلى تلك الحلول الجينية في عدد كبير من الطفرات المتطابقة أو شبه المتطابقة عند جميع الكائنات المدروسة التي أدت إلى زيادة مقاومة البروتين المضخة للسم، الأمر الذي يستحيل حدوثه تقريبا بالصدفة البحتة.
الترجمة الكاملة للمقال:
التطور، الذي يراه الكثيرون كسلسلة من التغيرات العشوائية، قد يكون في الواقع مدفوعا بحل جيني بسيط و متكرر لضغط بيئي معين تخضع له العديد من الأنواع، حسب دراسة حديثة.
دراسة من جامعة برنستون بالولايات المتحدة الأمريكية، نشرت في المجلة العلمية “ساينس” التي يتم مراجعة محتواها من طرف نظراء*، تقترح أن معرفة جينات نوع ما، و الكيفية التي تؤثر بها بعض الظروف الخارجية على البروتينات التي ترمّزها الجينات، يمكن استعمالها لتحديد نمط تطوري قابل للتنبؤ مدفوع بعوامل خارجية. ما يمكن العلماء بعد ذلك من تحديد الكيفية التي تطورت بها الأشكال المتنوعة للتأقلم التي نراها في الطبيعة، حتى عند أنواع لا صلة مباشرة بينها.
“هل التطور قابل للتنبؤ؟ الجواب المثير للدهشة إلى أبعد حدود هو نعم”، يقول الباحث المتمرس بيتر أندولفاتو، أستاذ مساعد في شعبة علم البيئة و البيولوجيا التطورية بجامعة برنستون و مؤسسة لويس سيجلر لعلم الجينوم التكاملي. و قد قام بالبحث بمرافقة المحرر الرئيسي للبحث يينغ زهين، و ماثيو آرديما، و مولي شومر، و جميعهم من شعبة علم البيئة و البيولوجيا التطورية بجامعة برنستون، إضافة إلى إيدجار ميدينا، من جامعة أنديس بجمهورية كولومبيا.
قام الباحثون بفحص سلاسل دنا (الحمض النووي) ل 29 نوعا من الحشرات المتباعدة فيما بينها في الشجرة التطورية، و هي أكبر عينة لكائنات حية تم فحصها من أجل خاصية تطورية واحدة. 14 من بينها طورت خاصية شبه متماثلة نتيجة لتأثير خارجي وحيد: فهي تتغذى على نباتات تنتج مادة الكاردينولايد و هو نوع من السموم الشبيه بستيرويدات، التي تمثل دفاعا طبيعيا لدى نباتات مثل الصقلاب و قاتل الكلب.
على الرغم من تباعدها ب 300 مليون سنة من التطور، عرفت هذه الحشرات المتنوعة، التي من بينها خنافس و فراشات و مَن (نوع من الحشرات الصغيرة التي تتغذى على عصارة النباتات، كما يعتبرها المزارعون حشرات ضارة ومؤذية للنبات ـ المترجم نقلا عن موسوعة ويكيبيديا)، عرفت تغيرات في بروتين أساسي يسمى ثالث فوسفاتاز الصوديوم ـ بوتاسيوم أدينوزين، أو مضخة الصوديوم ـ بوتاسيوم، و يقوم بمهمة حيوية هي ضبط نسبة الصوديوم مقارنة مع البوتاسيوم في الخلية. و قد طور هذا البروتين مقاومة للكاردينولايد الذي يقوم عادة بشل قدرة البروتين على “ضخ” البوتاسيوم إلى داخل الخلية و إخراج الصوديوم الزائد.
أندولفاتو و مساعدوه قاموا أولا بتحديد سلسلة الدنا للجينات المعبر عنها لدى الأنواع المدروسة و ثم قاموا بجمعها. و استعملوا بعد ذلك هذه السلاسل ليتنبأوا بالشفرة الجينية لمضخة الصوديوم و البوتاسيوم لدى كل نوع، اعتمادا على تعرضها لمادة الكاردينولايد.
“يستطيع العلماء باستخدام تقنيات مماثلة متابعة تغيرات بروتين ما في الحمض النووي لنوع معين لمعرفة عدد الأنظمة الحية المختلفة التي تطورت نتيجة لعوامل بيئية”، يقول أندولفاتو، و يضيف “لتحقيق هذه المقاربة ينبغي أن تكون للعالِم دراية ما بالأسس الجينية لخاصية معينة و من ثم يقوم ببحث كيفية تطور تلك الخاصية لدى مجموعة كبيرة من الأنواع التي واجهت مشكلة تطورية مشتركة”.
“على سبيل المثال، مضخة الصوديوم و البوتاسيوم هي موضع جيني محتمل متعلق بالقدرة على احتمال الملوحة. و إذا نظرنا إلى تغيرات هذا البروتين عند الكائن الحي المناسب، قد نعلم كيف تفاعل أو سيتفاعل مع تزايد الملوحة في المحيطات أو في مكان عيشه في الماء العذب”.
جيانزهي زهانغ أستاذ علم البيئة و البيولوجيا التطورية بجامعة ميتشيجان أشار إلى أن الدراسة التي تمت بجامعة برنستون بينت أن بعض الخصائص تعتمد على عدد محدود من الميكانيزمات الجزيئية، و أن عددا كبيرا من الأنواع الحية قد تشترك في نفس الميكانيزمات تلك. نتيجة لذلك، فمقطع عرضي لبعض الكائنات قد يعطي فكرة عن تطور كائنات أخرى، حسب قوله.
“اكتشاف وجود تطور متواز عند عدد كبير من الحشرات العاشبة يزيد من قيمة الدراسة، لأن هذا التوازي المتكرر بشدة لن يحدث في الغالب عن طريق الصدفة وحدها”، يقول زهانغ، الذي اطلع على الدراسة و لكنه لم يشارك فيها.
“يبين ذلك أن نفس الميكانيزم الجزيئي تستعمله حشرات عديدة مختلفة لتدافع عن نفسها ضد السموم في غذائها، ما يلمح إلى أن عدد الميكانيزمات المحتملة المستعملة لهذا الغرض محدود” يقول الباحث، و يضيف قائلا “أن يكون عدد كبير من الحشرات قد طور نفس الحيل بشكل مستقل لتدافع عن نفسها ضد نفس السم، قد يعني أن دراسة عدد صغير من الكائنات النموذجية يتم اخياره بعناية قد تمنحنا معلومات كثيرة عن أنواع حية أخرى. نعم، التطور يمكن التنبؤ به إلى حد ما.”
أندولفاتو و مساعدوه نظروا إلى هذا البروتين بالذات نظرا لمعرفتهم لحساسيته لمادة الكاردينولايد. ليكون بمقدور الخلية العمل بشكل جيد في ظروف شديدة التنوع يلزمها أن تتحكم في مستويات الصوديوم و البوتاسيوم. و بتموقعه على غشاء الخلية يستطيع هذا البروتين إنتاج النسبة المبتغاة من الصوديوم مقارنة مع البوتاسيوم عن طريق ضخ ثلاث ذرات من الصوديوم خارج الخلية لكل ذرتين من البوتاسيوم يُدخلهما.
الكاردينولايد يعطل تبادل الصوديوم و البوتاسيوم عن طريق تعطيل البروتين بالأساس، كما قال أندولفاتو. الجينوم البشري يحتوي على 4 نسخ من الجين المرتبط بالبروتين المضخة، و هو جين مرشح لعدد من الأمراض الجينية، منها فرط ضغط الدم الحساس للأملاح و الصداع النصفي. و قد استعمل الإنسان منذ زمن كميات قليلة من الكاردينولايد طبيا للتحكم في اضطراب النظم القلبي و قصور القلب، على سبيل المثال.
الباحثون من برنستون استعملوا مختبر مصفوفة الدنا الدقيقة بمؤسسة لويس سيجلر لعلم الجينوم التكاملي التابعة للجامعة، لتحديد سلسلة تعبير مضخة الصوديوم و البوتاسيوم البروتينية لأنواع حشرات تنتظم في ثلاث رتب مختلفة هي: الفراشات و العثات (Lepidoptera)، الخنافس و سوسة الفاكهة (Coleoptera)، المن و بق الفراش و بق الصقلاب و غيرها من الحشرات الماصة (Hemiptera).
و قد وجد الباحثون أن جينات الحشرات المقاومة للكاردينولايد تحتوي على عدد من الطفرات سمحت لها بمقاومة السم. في الإطار الزمني التطوري الذي تمت دراسته، تعرضت مضخة الصوديوم و البوتاسيوم لدى الحشرات التي تتغذى على نباتات قاتل الكلب و الصقلاب ل 33 طفرة في مناطق يعرف عنها تأثيرها على الحساسية للكاردينولايد. هذه الطفرات تمثلت في تغييرات متماثلة أو متطابقة في الأحماض الأمينية قلصت من إمكانية التأثر بالسم. من ناحية أخرى لم تقع سوى طفرة واحدة على مستوى المضخة لدى حشرات لا تتغذى على هذه النباتات.
أهم من ذلك، اكتشف الباحثون أن جينات معينة نسخت بشكل متكرر لدى أسلاف عدد من الحشرات المقاومة. و بذلك حصلت هذه الحشرات على بروتين مضخة الصوديوم و البوتاسيوم المعتاد، إضافة إلى نسخة “تجريبية” منه، كما قال أندولفاتو. عند هذه الحشرات، نجد النسخة الجديدة و القوية من المضخة في أنسجة الأمعاء، حيث تكون الحاجة إليها أكثر إلحاحا.
“عملية نسخ الجينات هو حل أنيق لمسألة التأقلم مع التغيرات البيئية”، يشير أندولفاتو. “تكُون أجسام الأنواع التي لديها مثل هذه النُّسَخ قادرة على القيام بتجارب على النسخة بينما تحافظ على الأخرى ثابتة، متجنبة بذلك خطر ألا يقوم البروتين بعمله الأساسي أيضا.”
ما توصل إليه الباحثون يوحد التصورات المشتتة للمحركات الرئيسية للتطور الجيني: تطور البروتينات، تطور العناصر التي تتحكم في تعبير البروتين في الجسم، و نسخ الجينات. هذه الدراسة تبين أن الميكانيزمات الثلاثة جميعها تُستعمَل لحل نفس المعضلة التطورية، حسب ما قاله أندولفاتو.
النقطة المركزية في العمل التي تم القيام به هي العدد الكبير من الأنواع الحية التي درسها الباحثون باستعمال التقنيات الحديثة لتحديد سلاسل الدنا، يضيف الباحث.
في الماضي كانت دراسة التطور الجيني تتم على مستوى كائنات نموذجية مثل ذباب الفاكهة، كما أشار بيتر أندولفاتو، “الطرق الحديثة لتحديد سلاسل الدنا سمحت لنا بمقاربة الأسئلة التطورية من وجهة مختلفة و التوصل إلى أجابات أكثر شمولية مما لو اكتفينا بدراسة خاصية وحيدة لدى كائن ما.”
و يختم الباحث بقوله “قوة العمل الذي قمنا به تتجلى في إيجاد دليل دامغ على محدودية الحلول الممكنة لمواجهة مشكلة معينة من طرف عدد كبير من الكائنات المتنوعة. كون عدد كبير من هذه الحلول يتم استعمالها مرارا و تكرارا من طرف كائنات غير متعلق بعضها ببعض تبين أن المسار التطوري قابل للتكرار و يمكن التنبؤ به.”
*المترجم: المجلات العلمية المراجعة من طرف نظراء Peer Reviewed هي مجلات تضع كشرط أساسي لنشرها لأي مقال أو بحث علمي أن تتم مراجعته من طرف لجنة تتكون في العادة من 10 إلى 15 عالما متخصصا في المجال الذي يبحث فيه المنشور، و أن يصادقوا جميعا على سلامة الاستدلالات المنطقية و الطرق المتبعة للوصول إلى الاستنتاجات سواء اتفقت مع المعارف العلمية المسبقة أم لا.
ملاحظة: ينبغي أن نؤكد على أن الدراسة تشير فقط إلى إمكانية وجود قوانين رياضية تمكننا من فهم التطور و توقع مساره بشكل أفضل، و ليس إلى كون التطور مقادا من طرف قوة عليا.. و هي تبقى مسألة عقائدية خارج إطار العلم الذي يهتم فقط بما هو قابل للتجربة و القياس.