المستقبل مجهول وما ينتظرنا فيه لا يمكن تصوّره كليًّا، إذ إنّ للقدر قوة كبيرة في تغيير الأمور وبعثرة تصوراتنا الاستباقية لها، لكنّ الرؤية الواضحة للأمور ومحاولة استشراف المستقبل ممكنة، خاصة إن تمّ ذلك بشيء من التركيز والتحليل الدقيق للحاضر الذي بدوره يصوّر لنا المستقبل من خلال ما يقع فيه.
في الرواية العربية لا توجد تجارب كثيرة وبارزة في الخيال العلمي، ففي الغرب تتكاثف مثل هذه التجارب وتتمخّض عنها تنظيرات مختلفة، وحتى السينما هي بنفس المقام من القول، ومع بزوغ صيت جيل جديد متفتّح على التكنولوجيا والعولمة بكل مقاييسها وتشعباتها نرى غمار تجارب جديدة.
هكذا تخوض الكاتبة السعودية نجوى العتيبي في رواية خيال علمي بعنوان "رفّ اليوم، ما لم يستطع السيّد الحصول عليه" (دار أثر 2022)، وهي تجربة أولى لها في الرواية حيث يمثل هذا لها تحدٍّ إذ أنها بدأت مسيرتها الروائية من مجال صعب الإدراك ولم تخض قبلها في تجربة روائية بسيطة بسرد عادي وأحداث واقعية سهلة التصوّر نوعًا ما، وتعمل الروائية على تبيان خطر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على حيواتنا في المستقبل وعلى الإنسانية، فيسرد لنا سيّد نصف آدمي نصف آلة حياته وما يدور فيها من مصاعب في ظلّ تحكم الآلة في كل شيء، وبشكل مبهم تتراءى لنا صورة والديه البشريين، يصير كل شيء يتحدث من خلال آلة، والتحكم في الحياة اليومية من طرف الآلة، إنه عصر الآلة المخيف! يتحدّث الطبيب مع بطل الرواية: "لا توجد دولة لا تحتاج إلى جند، لكنّ الجميع هناك مسالم ومسيّر تقريبًا لأنّ الأطباء ضبطوكم على النحو المطلوب"، فقد صار العِلم وسيلة لابتلاع البشرية وتعويضها بشكل من أشكال همجية التكنولوجيا بآلات تتكاثر صناعيًا، وحتى الطبّ أنبل المهن يتحول لآلة لتدمير الإنسانية وتعويضها بكل شيء صناعي.
تعمل رواية "رفّ اليوم، ما لم يستطع السيّد الحصول عليه" على تبيان خطر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على حيواتنا في المستقبل وعلى الإنسانية
يتخبط بطل القصة فيما يراه، فكل شيء مراقب ويكتشف من خلال صديق له أنه مراقب بشكل دقيق، حيث تم زرع رقاقة تتبع داخل عينه، ويتم سنّ قوانين ضيقة على الجميع، تتبخر الحرية ويعود مفهومها للزوال كما كان الأمر في غابر السنوات أين تمّت المقاومة لعصور من أجل الحصول عليها، هذا التحول الرهيب في مفهوم العيش يبدو مقلقًا بشكل مفزع، إذ إنّ الإنسان بقلبه ووجدانه وضميره يطغى ويجور فما بالنا بآلة لا تملك أي شيء من هذا وتحوز فقط على أوامر وإشارات؟ سيصير العالم مجمّعا كبيرا للاستبداد ولقتل الحرية، سيصير الطغيان عنوانا لكل شيء.
يصير الماضي الإنساني مبتغى الجميع، فيحدثنا "السيّد" (نصف بشري ونصف آلة) عن تعبه وعدم تحمله لكل ما يحصل له: "إنني عبء، ولا أعرف طريقة أستعيد بها نفسي، فأنا لا أعرف طريقة العودة، أعرف أن أطيع أوامرهم وحسب"، ماضي الإنسانية يزول وتبقى آثاره في الذاكرة كحنين مستحيل الإدراك في عالم تسيطر عليه قوة الآلة كسلطة وكمفهوم، وفي "بلد يطلق كل مرة خطًّا جديدًا لإنتاج الأطفال" فيتحول الغد للآلة يوما بعد يوم، ويتم إنتاج أطفال مهجنين من طرف التكنولوجيا يملكون تعليمات صارمة يعملون على تنفيذها.
لعلّ أدب الخيال العلمي يحتاج دراسات استشرافية معمّقة خاصة في العالم العربي، أين نجد قصورًا في هذا المجال، لأنّه يمثّل صورة جديدة وغير واضحة بما أنّه يخوض في عوالم تخييلية وموضوعات غير ملموسة، لكنّ الحقيقة أنّ هذا المجال يمثّل رهانًا أساسيًا في حياتنا اليوم، فليس الخيال العلمي بعيدًا عن تفسير قضايا العصر لأنّ العلم اليوم سلاح ذو حدّين كما كان دائمًا، فكل التطورات التي تحصل بالتكنولوجيا يمكن لها أن تضرّ بشكل كبير بالإنسانية، فكما تمّ اختراع القنبلة الذرية وجعلها وسيلة للقتل والإجرام يمكن لتكنولوجيا العصر بالخصوص تقنيات الذكاء الاصطناعي أن تلتهم عصرنا وتتحوّل لوسيلة تدمير في يدّ الإمبريالية وقوة المال، وفي يدّ النظم السياسية التي تمارس الرقابة والتقييد على الأفراد، ولعلّ نجوى العتيبي في روايتها هذه تعطي حيّزًا كبيرًا لتمثيل سلطة هذه النظم من خلال العالم المصوَّر هنا، فالقلق الدائم لـ"السيّد" يثير آثار هذه الفكرة وكيف تتجلى إذ يقول: "مستشعرات الخلية المزروعة في عيني تقدّم تحذيرات أو قراءة معينة كل فترة وتطلق أجهزة إنذار إذا استدعى الأمر... نوع من الذكاء الاصطناعي يعني! شيء يمس حركة ما بعد الإنسانية الجديدة"، هذا المصطلح الأخير يبرز نوعًا من أنواع إفرازات الذكاء الاصطناعي ويبعث السؤال على ماهية هذه الإنسانية القادمة. ويمكن لنا أن نقارب هذا مع فكرة مارتن هيدغر حول إشكالية التقنية، حيث ينظر لها أنّها سلاح ذو حدّين فكما تقدم للإنسان الرقيّ والازدهار فهي قناع على حدّ تعبيره تسلب من الإنسان قيمته الإنسانية وتحدّ بذلك من مشروعيته كوجود حرّ، ومنها ستتأتى خطورتها كسلاح غير قابل للتحكّم خاصة عندما يلبس قناعها الإنسان بخلفية تدميرية.
لقد تحوّل أدب وسينما الخيال العلمي لوسائل للتنظير لعصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي، ويعملان على توطيد هذه الفكرة في العالم لبعث الحيرة في النفوس وإعطائها ميعادًا مع مستقبل مجهول غامض، تلوح في أفقه صورة مخيفة لعصر التكنولوجيا وتهافت الإنسان، في عالم تأخذ الآلة دور الإنسان، عمله ورتبته وتعيد التأسيس لفكرة الاستعباد بشكل مختلف وناعم.
تنبّئنا الرواية عن فكرة خطيرة وهي التورط مع التكنولوجيا، كيف ستتحول نقمة على حيواتنا وتبتلع كل أسس العقلانية والإنسانية، من سيكون الفائز حينها؟ ومن يتحكم بهذه الآلات وبالعالم إذن حينها؟ ألن تكون قوة بشرية هي من تفتعل كل هذا الجنون؟ ولعلّ أن الأخطر هو تحوّل هذه الآلات على صاحبها فهي ذات جنون غريب لن تقبل بأي حوار أو أخذ ورد بل ستلتهم كل شيء من أجل بقاء الآلة وفناء البشرية، أو ربّما استعبادها! عالم رهيب ومقلق ترسمه رواية نجوى العتيبي، ولعلّه تحذير من مستقبل لا نعي كيف نؤسس له من خلال ممارسات اليوم.
في الرواية العربية لا توجد تجارب كثيرة وبارزة في الخيال العلمي، ففي الغرب تتكاثف مثل هذه التجارب وتتمخّض عنها تنظيرات مختلفة، وحتى السينما هي بنفس المقام من القول، ومع بزوغ صيت جيل جديد متفتّح على التكنولوجيا والعولمة بكل مقاييسها وتشعباتها نرى غمار تجارب جديدة.
هكذا تخوض الكاتبة السعودية نجوى العتيبي في رواية خيال علمي بعنوان "رفّ اليوم، ما لم يستطع السيّد الحصول عليه" (دار أثر 2022)، وهي تجربة أولى لها في الرواية حيث يمثل هذا لها تحدٍّ إذ أنها بدأت مسيرتها الروائية من مجال صعب الإدراك ولم تخض قبلها في تجربة روائية بسيطة بسرد عادي وأحداث واقعية سهلة التصوّر نوعًا ما، وتعمل الروائية على تبيان خطر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على حيواتنا في المستقبل وعلى الإنسانية، فيسرد لنا سيّد نصف آدمي نصف آلة حياته وما يدور فيها من مصاعب في ظلّ تحكم الآلة في كل شيء، وبشكل مبهم تتراءى لنا صورة والديه البشريين، يصير كل شيء يتحدث من خلال آلة، والتحكم في الحياة اليومية من طرف الآلة، إنه عصر الآلة المخيف! يتحدّث الطبيب مع بطل الرواية: "لا توجد دولة لا تحتاج إلى جند، لكنّ الجميع هناك مسالم ومسيّر تقريبًا لأنّ الأطباء ضبطوكم على النحو المطلوب"، فقد صار العِلم وسيلة لابتلاع البشرية وتعويضها بشكل من أشكال همجية التكنولوجيا بآلات تتكاثر صناعيًا، وحتى الطبّ أنبل المهن يتحول لآلة لتدمير الإنسانية وتعويضها بكل شيء صناعي.
تعمل رواية "رفّ اليوم، ما لم يستطع السيّد الحصول عليه" على تبيان خطر التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على حيواتنا في المستقبل وعلى الإنسانية
يتخبط بطل القصة فيما يراه، فكل شيء مراقب ويكتشف من خلال صديق له أنه مراقب بشكل دقيق، حيث تم زرع رقاقة تتبع داخل عينه، ويتم سنّ قوانين ضيقة على الجميع، تتبخر الحرية ويعود مفهومها للزوال كما كان الأمر في غابر السنوات أين تمّت المقاومة لعصور من أجل الحصول عليها، هذا التحول الرهيب في مفهوم العيش يبدو مقلقًا بشكل مفزع، إذ إنّ الإنسان بقلبه ووجدانه وضميره يطغى ويجور فما بالنا بآلة لا تملك أي شيء من هذا وتحوز فقط على أوامر وإشارات؟ سيصير العالم مجمّعا كبيرا للاستبداد ولقتل الحرية، سيصير الطغيان عنوانا لكل شيء.
يصير الماضي الإنساني مبتغى الجميع، فيحدثنا "السيّد" (نصف بشري ونصف آلة) عن تعبه وعدم تحمله لكل ما يحصل له: "إنني عبء، ولا أعرف طريقة أستعيد بها نفسي، فأنا لا أعرف طريقة العودة، أعرف أن أطيع أوامرهم وحسب"، ماضي الإنسانية يزول وتبقى آثاره في الذاكرة كحنين مستحيل الإدراك في عالم تسيطر عليه قوة الآلة كسلطة وكمفهوم، وفي "بلد يطلق كل مرة خطًّا جديدًا لإنتاج الأطفال" فيتحول الغد للآلة يوما بعد يوم، ويتم إنتاج أطفال مهجنين من طرف التكنولوجيا يملكون تعليمات صارمة يعملون على تنفيذها.
لعلّ أدب الخيال العلمي يحتاج دراسات استشرافية معمّقة خاصة في العالم العربي، أين نجد قصورًا في هذا المجال، لأنّه يمثّل صورة جديدة وغير واضحة بما أنّه يخوض في عوالم تخييلية وموضوعات غير ملموسة، لكنّ الحقيقة أنّ هذا المجال يمثّل رهانًا أساسيًا في حياتنا اليوم، فليس الخيال العلمي بعيدًا عن تفسير قضايا العصر لأنّ العلم اليوم سلاح ذو حدّين كما كان دائمًا، فكل التطورات التي تحصل بالتكنولوجيا يمكن لها أن تضرّ بشكل كبير بالإنسانية، فكما تمّ اختراع القنبلة الذرية وجعلها وسيلة للقتل والإجرام يمكن لتكنولوجيا العصر بالخصوص تقنيات الذكاء الاصطناعي أن تلتهم عصرنا وتتحوّل لوسيلة تدمير في يدّ الإمبريالية وقوة المال، وفي يدّ النظم السياسية التي تمارس الرقابة والتقييد على الأفراد، ولعلّ نجوى العتيبي في روايتها هذه تعطي حيّزًا كبيرًا لتمثيل سلطة هذه النظم من خلال العالم المصوَّر هنا، فالقلق الدائم لـ"السيّد" يثير آثار هذه الفكرة وكيف تتجلى إذ يقول: "مستشعرات الخلية المزروعة في عيني تقدّم تحذيرات أو قراءة معينة كل فترة وتطلق أجهزة إنذار إذا استدعى الأمر... نوع من الذكاء الاصطناعي يعني! شيء يمس حركة ما بعد الإنسانية الجديدة"، هذا المصطلح الأخير يبرز نوعًا من أنواع إفرازات الذكاء الاصطناعي ويبعث السؤال على ماهية هذه الإنسانية القادمة. ويمكن لنا أن نقارب هذا مع فكرة مارتن هيدغر حول إشكالية التقنية، حيث ينظر لها أنّها سلاح ذو حدّين فكما تقدم للإنسان الرقيّ والازدهار فهي قناع على حدّ تعبيره تسلب من الإنسان قيمته الإنسانية وتحدّ بذلك من مشروعيته كوجود حرّ، ومنها ستتأتى خطورتها كسلاح غير قابل للتحكّم خاصة عندما يلبس قناعها الإنسان بخلفية تدميرية.
لقد تحوّل أدب وسينما الخيال العلمي لوسائل للتنظير لعصر الروبوتات والذكاء الاصطناعي، ويعملان على توطيد هذه الفكرة في العالم لبعث الحيرة في النفوس وإعطائها ميعادًا مع مستقبل مجهول غامض، تلوح في أفقه صورة مخيفة لعصر التكنولوجيا وتهافت الإنسان، في عالم تأخذ الآلة دور الإنسان، عمله ورتبته وتعيد التأسيس لفكرة الاستعباد بشكل مختلف وناعم.
تنبّئنا الرواية عن فكرة خطيرة وهي التورط مع التكنولوجيا، كيف ستتحول نقمة على حيواتنا وتبتلع كل أسس العقلانية والإنسانية، من سيكون الفائز حينها؟ ومن يتحكم بهذه الآلات وبالعالم إذن حينها؟ ألن تكون قوة بشرية هي من تفتعل كل هذا الجنون؟ ولعلّ أن الأخطر هو تحوّل هذه الآلات على صاحبها فهي ذات جنون غريب لن تقبل بأي حوار أو أخذ ورد بل ستلتهم كل شيء من أجل بقاء الآلة وفناء البشرية، أو ربّما استعبادها! عالم رهيب ومقلق ترسمه رواية نجوى العتيبي، ولعلّه تحذير من مستقبل لا نعي كيف نؤسس له من خلال ممارسات اليوم.