االتخييل وبلاغة السرد
"حرّاس العالم" لناظم مهنا نموذجاً
*عزت عمر
في "عبطة" الزلزال وتوابعه الكارثية، فقد المشهد الإبداعي السوري عدداً من رموزه المؤسّسة من مثل شوقي بغدادي أحد روّاد القصّة والشعر الحرّ فضلاً عن دوره الكبير في تأسيس رابطة الكتاب السوريين والعرب، وكان قد توفي قبله الشاعر والأديب المعروف عادل محمود، و المترجم المشهور رفعت عطفة، والأديب الشاعر نذير العظمة، ولكنّ الخسارة تفاقمت مع وفاة القاص المبدع ناظم مهنا إثر أزمة قلبية عن عمر ناهز 63 عاماً.
عمل ناظم مهنا في حقل الصحافة الثقافية، ونرأّس تحرير مجلة المعرفة السورية المشهورة، ولد في مدينة جبلة عام 1960، وتخرّج من جامعة دمشق - قسم اللغة العربية. وخلال مسيرته الإبداعية أخلص لفنّ القصّة القصيرة ولم يتّجه للرواية، وقد عُدّت تجربته القصصية من أهم التجارب القصصية السوريّة التي واكبت انعطافة مرحلة ما بعد الحداثة عالمياً، بل لعلّ أدبه نموذج سوريّ متقدّم لأفكارها ولاسيّما في بنائية النصّ السردي المتجاوز لمألوف الحبكات والصيغ النمطيّة.
قدّم ناظم مهنا للمكتبة العربية عدداً من الكتب والمجموعات القصصية: وهي على التوالي: "حرّاس العالم"، "مملكة التلال"، "الأرض القديمة"، "منازل صفراء ضاحكة" وغيرها من الإصدارات المعنية بأدب المقالة والسير الغيرية، أما الكتاب الذي بين أيدينا الآن، فهو عبارة عن مجلد ضمّ مختارات قصصية شملت مجموعاته المختلفة ونشر من قبل وزارة الثقافة السورية باسم "الأرض القديمة وقصص أخرى".
فضاءاته القصصية
كنت قد شرعت في قراءة أعمال ناظم مهنا في إطار اشتغالي على القصّة السورية القصيرة بعد أن أرسلها لي الصديق الشاعر صقر عليشي، ولم أكن أعرفه شخصياً، ولكن كتابته ومقترحاته السردية عرّفتني إليه كمبدع مخلص لهذا الضرب من السرد العابر لحدودات بالغة التعقيد اتّصفت بها قصص الحداثة العربية في أوج انزياحها نحو التجريب المبالغ فيه والشعرية الخالصة فضلاً عن الغموض غير المستحبّ الذي أخلّ بسيرورة تقدّمها الطبيعي، لينصرف القرّاء عنها نحو الرواية بآفاقها الواعدة.
ولعلّ السرّ في نجاح تجربة ناظم مهنا القصصية أنها تقترب أسلوبياً من فضاءات الرواية الماتعة وترتبط في مضامينها بجوانب مختلفة من حياة الإنسان في أزمنة وأمكنة معاشة أو مسترجعة من قبل شخصياته المثقفة في الغالب فضلاَ عن فاعلية التخييل الآسر ببلاغة تعبيرية مفهومة سلسة أشبه بنهر يتدفق ماء رقراقاً عذباً:
"طيبُ طًعم هذا الغروب يجعل الرأس ينتشي، والغسق يتقاعس، لكأنّ المدينة تخلع قميصها الشفّاف.
لأوّل مرة أرى العالم بهذا الصفاء الأخّاذ. كأنني في سفر إلى العصور الغابرة. ورغم أني كنت علي انتظار فإن شيئاً من الشعر يستخف بي ويجعلني أتلاشى. يمكن أن أقول:
إني في لحظة ازدهار خالص، وحيد ومتوحّد.
ليس من الصعب عليّ أن أعرف أنها لحظة لن تدوم، فبعد قليل ستأتي التراجيديا لتدخل في تفاصيل الحوار.
قبلاً سأجد لنفسي ملجأً أنا المتداعي كبرج من المرمر، أجمع صور العالم وأمزقها.
عندما رأيت رجلاً يمتطي دراجة وينعطف في الشارع الضيّق ليدخل زقاقاً هادئاً. كان الموت يتثاءب على واجهات الدكاكين المتقابلة بينما الرجل يهتف وحيداً من اجل الثورة العالمية."
وإن لم يكن هذا الأسلوب السرديّ نهراً رقراق المياه، وكان هذا على سبيل الافتراض من قبلي، فلا بدّ لقارئ هذا المجتزأ من القصّة التي أسماها "زهرة الخوف" أن يقول: سرد شاعري ووصف متقصّ ذو دلالة يفتح النوافذ لعبير الزهر النديّ وللعصافير المغرّدة ولكثير من الدلالات التي يمكن للحصافة أن تعيد ترتيبها وفق الذائقة الجمالية وثقافة التلقّي.
فضاءات القصّصية مترعة بإجابات عن أسئلة لم تطرح بعد! نعم، نوع من العبث والتغريب يقترب من السريالية، ولا أعلم هنا أن ثمة سبباً يدفعني للربط ما بينه وبين هنري ميللر في
"مدار السرطان" أو
سلفادور دالي في شموخه اللوني، ولا حتّى بساراماجو في سردياته المثيرة فالدهشة كامنة في كيفية التناول وتوظيف هذه الأسماء الكبيرة كمتفاعلات نصّية واقعية تكشف عن جانب من ثقافة القاص وتماسه مع الثقافة العالمية ومشاهيرها، ومن جانب آخر كتقنية مستحبّة عبّرت عن براعة إبداعية في تشكيل النصّ، فهم حاضرون في كافة نصوصه، والنموذج قصّته اللافتة "ملف بورخيس" التي تناولت مرحلة الصحافة الورقيّة قبل انتشار الكمبيوتر والذاكرات الرقمية، حيث كان المثقفون في العادة يؤرشفون الصفحات الثقافية والملاحق الأدبية إلى جانب المجلاّت الأدبية لتغذو بعد حين عبءاً على المنزل، وفي يقظة ما سيحاول هذا المثقف جدولة وتصنيف ما لديه مما يعتبره مراجع مهمّة، ويشرع في تنظيم ملفّات خاصة بمن يريد الاحتفاظ بأعمالهم، ومنهم "بورخيس" الذي كان رائداً في الاشتغال القصصي والتجريب، ولاسيّما انفتاح أدبه على الثقافة العربية و "ألف ليلة وليلة" وكتب التاريخ بشخصياته العربية المعروفة في العصر العبّاسي بشكل خاص، فنتابع الشخصية الرئيسية في القصّة وراويها بضمير المتكلّم ناظم، ساعياَ للخلاص من أكداس الصحف والمجلاّت ولعلّ كثيراً من الكتّاب عاش هذه اللحظات الخائرة بين أن يتخلّى عمّا جمعه من أرشيف طوال سنين، أو أن يغرق المنزل بها وبما تجلبه من غبار و حشرات، وهنا تدفع به الحيرة للاحتفاظ بملف خاص عن "بورخيس" يجمع فيه كلّ ما كتب وما ترجم له، وهي عملية شاقة تقتضي الاطلاع على كافة المطبوعات الموجودة لديه، وقد تستغرق أياماً طويلة، ولعلّه كان محقّاً عندما أسماها "التنقيب" وفي خضم هذا التنقيب خطر على باله جمع ملف آخر لـ
"أكتافيو باث" الشاعر المكسيكي الحاصل على جائزة نوبل 1990 والشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الذي اشتهر عالمياً في تلك المرحلة من الوعي المتجاوز لأفكار الأمس القريب، بما يؤكّد أنّ هذا النمط من اشتغالات القصّة القصيرة ارتبط بوعي ساد في السبعينيات وما بعد في الأدب والفن العالمي، وقد اصطلح عليه حينها بـ "الواقعية الجديدة"، أو "الواقعية بلا ضفاف"، ولكنه برأينا كان تعبيراً صادقاً عن انتقالة نوعية نحو أدب "ما بعد الحداثة" باعتبارها ناتج الصراع الأيديولوجي ما بين جماعتي "الفن للفن" و"الواقعية الاشتراكية" فيما إذا اعتبرنا أن كلتا الفكرتين كانتا تنطويان على بذور فنائها من حيث الأساس، فكان لابدّ من هذه الانعطافة التي بدأت أفكارها وطرائق التعبير الإبداعية تترسّخ في المشهد العالمي على اعتبار أن ثمة طرقاً مختلفة للوصول إلى الحقيقة، وقد يكون مثل هذا الناتج من أدب ناظم مهنا يبدو لا معقولاً لدى بعض النقّاد الذين لم يطّلوا بعد على اجتراحات بورخيس أو ساراماجو و ديفيد معلوف وسواهم ممن بات نجماً مشهوراً في عالم السرد غير المنتهي في تكوّنه سواء وفي تجاور الحبكات أو في اختيار الشخصيات المهمّشة والوعي بوظائف السارد، فضلاً عن بعثرة خطّية الحكاية وزمنها المتصاعد بالدمج ما بين الواقعي والمتخيّل، كما في قصّته "جبل أوبتا" المتخيّلة، إذ إن الشخصيات الواقعية تدخل الحدث إلى جانب الشخصيات المتخيّلة في خطّين غير متوازيين بما يسمح بتدخّلها في الحدث وتغيير مساره المتوقّع وما سيسفر عنه من مفاجآت.
هواجس وجودية
من الملاحظ في قصص ناظم مهنا أن شخصياته الرئيسية جميعاً من النخبة المثقّفة القلقة إنسانياً، وهذا القلق مرتبط بالهاجس الوجودي المحدِّد لسلوك الشخصية تيعاً لجملة التفاعلات النفسية التي غالباً ما يحفر عميقاً كي يكشف خفاياها ولاسيّما الرغبة العارمة في أن يكون حرّاً لا تقيّده أية قيود، والمميّز في هذا الوعي الجامح التوغّل في شعور ولاشعور الشخصيات التي تشبهنا، يتكاثف السرد بلاغياً في الصورة البصرية المشهدية فتضيء مراحل زمنية تأتي على شكل تداعيات عفوية غير منتظمة إبّان اللقاءات الحميمية المسترجعة، لتضيء في النهاية حياة الشخصية بما فيها من ذكريات سعيدة أو حزينة، وبعضاً من معاناتها في الحياة سياسياً وعاطفياَ وغيرها من شؤون الإنسان الاجتماعي والثقافي بعامة، فضلاً عن وقفاته التاريخية عند الحضارات الإنسانية المتعاقبة، وما قدّمته كلّ حضارة من أجل تقدّم البشرية، كي في الخلاصة نستنتج أن هذه الثقافات تعايشت وتفاعلت فيما بينها، ولم تتحارب، باعتبار أنّها جميعاً ساهمت في إنجاز النصّ الإنساني الممتدّ في الزمن، صاغه المبدعون و كتّاب الأساطير والمفكرون المعاصرون بالرغم من وحشية الصراع السياسي المتمثّل في أزمنة العبودية والاستعمار بمختلف أشكاله وما تركه من أثر في الوجدان الإنساني العام، كما في قصّة: "حرّاس العالم" حيث يلتمس القارئ نصّاً ملحمياً تتجلّى في ما آلت إليه أحوال الشعوب والحضارات المتعاقبة من انكسارات أمام جبروت ثقافة القوّة والاستحواذ، وكان من الضروري أن يعزز القاص هذا التوجه بمزيد من المتفاعلات النصّية لشخصيات لعبت أدواراً تاريخية مهمّة من مثل: جلجامش وأوتنابشتيم، الأميرة أوربا وقدموس، هرقل وهنيبعل، وليام سارويان، وهنري ميللر، ونورمان كابوت صاحب "قيثارة العشب"
وسواهم ممن أشار إلى مرحلة أو نهضة أو انتكاسة إلى نبالة وفروسية أو إلى خزي وعار..
هي حكاية العالم في الأزمنة الغابرة والمثقفون المبدعون ومن في حكمهم هم حرّاسه.
(مجتزأ من دراسة منجزة)
لشارقة الثقافية ٢٠٢٣
"حرّاس العالم" لناظم مهنا نموذجاً
*عزت عمر
في "عبطة" الزلزال وتوابعه الكارثية، فقد المشهد الإبداعي السوري عدداً من رموزه المؤسّسة من مثل شوقي بغدادي أحد روّاد القصّة والشعر الحرّ فضلاً عن دوره الكبير في تأسيس رابطة الكتاب السوريين والعرب، وكان قد توفي قبله الشاعر والأديب المعروف عادل محمود، و المترجم المشهور رفعت عطفة، والأديب الشاعر نذير العظمة، ولكنّ الخسارة تفاقمت مع وفاة القاص المبدع ناظم مهنا إثر أزمة قلبية عن عمر ناهز 63 عاماً.
عمل ناظم مهنا في حقل الصحافة الثقافية، ونرأّس تحرير مجلة المعرفة السورية المشهورة، ولد في مدينة جبلة عام 1960، وتخرّج من جامعة دمشق - قسم اللغة العربية. وخلال مسيرته الإبداعية أخلص لفنّ القصّة القصيرة ولم يتّجه للرواية، وقد عُدّت تجربته القصصية من أهم التجارب القصصية السوريّة التي واكبت انعطافة مرحلة ما بعد الحداثة عالمياً، بل لعلّ أدبه نموذج سوريّ متقدّم لأفكارها ولاسيّما في بنائية النصّ السردي المتجاوز لمألوف الحبكات والصيغ النمطيّة.
قدّم ناظم مهنا للمكتبة العربية عدداً من الكتب والمجموعات القصصية: وهي على التوالي: "حرّاس العالم"، "مملكة التلال"، "الأرض القديمة"، "منازل صفراء ضاحكة" وغيرها من الإصدارات المعنية بأدب المقالة والسير الغيرية، أما الكتاب الذي بين أيدينا الآن، فهو عبارة عن مجلد ضمّ مختارات قصصية شملت مجموعاته المختلفة ونشر من قبل وزارة الثقافة السورية باسم "الأرض القديمة وقصص أخرى".
فضاءاته القصصية
كنت قد شرعت في قراءة أعمال ناظم مهنا في إطار اشتغالي على القصّة السورية القصيرة بعد أن أرسلها لي الصديق الشاعر صقر عليشي، ولم أكن أعرفه شخصياً، ولكن كتابته ومقترحاته السردية عرّفتني إليه كمبدع مخلص لهذا الضرب من السرد العابر لحدودات بالغة التعقيد اتّصفت بها قصص الحداثة العربية في أوج انزياحها نحو التجريب المبالغ فيه والشعرية الخالصة فضلاً عن الغموض غير المستحبّ الذي أخلّ بسيرورة تقدّمها الطبيعي، لينصرف القرّاء عنها نحو الرواية بآفاقها الواعدة.
ولعلّ السرّ في نجاح تجربة ناظم مهنا القصصية أنها تقترب أسلوبياً من فضاءات الرواية الماتعة وترتبط في مضامينها بجوانب مختلفة من حياة الإنسان في أزمنة وأمكنة معاشة أو مسترجعة من قبل شخصياته المثقفة في الغالب فضلاَ عن فاعلية التخييل الآسر ببلاغة تعبيرية مفهومة سلسة أشبه بنهر يتدفق ماء رقراقاً عذباً:
"طيبُ طًعم هذا الغروب يجعل الرأس ينتشي، والغسق يتقاعس، لكأنّ المدينة تخلع قميصها الشفّاف.
لأوّل مرة أرى العالم بهذا الصفاء الأخّاذ. كأنني في سفر إلى العصور الغابرة. ورغم أني كنت علي انتظار فإن شيئاً من الشعر يستخف بي ويجعلني أتلاشى. يمكن أن أقول:
إني في لحظة ازدهار خالص، وحيد ومتوحّد.
ليس من الصعب عليّ أن أعرف أنها لحظة لن تدوم، فبعد قليل ستأتي التراجيديا لتدخل في تفاصيل الحوار.
قبلاً سأجد لنفسي ملجأً أنا المتداعي كبرج من المرمر، أجمع صور العالم وأمزقها.
عندما رأيت رجلاً يمتطي دراجة وينعطف في الشارع الضيّق ليدخل زقاقاً هادئاً. كان الموت يتثاءب على واجهات الدكاكين المتقابلة بينما الرجل يهتف وحيداً من اجل الثورة العالمية."
وإن لم يكن هذا الأسلوب السرديّ نهراً رقراق المياه، وكان هذا على سبيل الافتراض من قبلي، فلا بدّ لقارئ هذا المجتزأ من القصّة التي أسماها "زهرة الخوف" أن يقول: سرد شاعري ووصف متقصّ ذو دلالة يفتح النوافذ لعبير الزهر النديّ وللعصافير المغرّدة ولكثير من الدلالات التي يمكن للحصافة أن تعيد ترتيبها وفق الذائقة الجمالية وثقافة التلقّي.
فضاءات القصّصية مترعة بإجابات عن أسئلة لم تطرح بعد! نعم، نوع من العبث والتغريب يقترب من السريالية، ولا أعلم هنا أن ثمة سبباً يدفعني للربط ما بينه وبين هنري ميللر في
"مدار السرطان" أو
سلفادور دالي في شموخه اللوني، ولا حتّى بساراماجو في سردياته المثيرة فالدهشة كامنة في كيفية التناول وتوظيف هذه الأسماء الكبيرة كمتفاعلات نصّية واقعية تكشف عن جانب من ثقافة القاص وتماسه مع الثقافة العالمية ومشاهيرها، ومن جانب آخر كتقنية مستحبّة عبّرت عن براعة إبداعية في تشكيل النصّ، فهم حاضرون في كافة نصوصه، والنموذج قصّته اللافتة "ملف بورخيس" التي تناولت مرحلة الصحافة الورقيّة قبل انتشار الكمبيوتر والذاكرات الرقمية، حيث كان المثقفون في العادة يؤرشفون الصفحات الثقافية والملاحق الأدبية إلى جانب المجلاّت الأدبية لتغذو بعد حين عبءاً على المنزل، وفي يقظة ما سيحاول هذا المثقف جدولة وتصنيف ما لديه مما يعتبره مراجع مهمّة، ويشرع في تنظيم ملفّات خاصة بمن يريد الاحتفاظ بأعمالهم، ومنهم "بورخيس" الذي كان رائداً في الاشتغال القصصي والتجريب، ولاسيّما انفتاح أدبه على الثقافة العربية و "ألف ليلة وليلة" وكتب التاريخ بشخصياته العربية المعروفة في العصر العبّاسي بشكل خاص، فنتابع الشخصية الرئيسية في القصّة وراويها بضمير المتكلّم ناظم، ساعياَ للخلاص من أكداس الصحف والمجلاّت ولعلّ كثيراً من الكتّاب عاش هذه اللحظات الخائرة بين أن يتخلّى عمّا جمعه من أرشيف طوال سنين، أو أن يغرق المنزل بها وبما تجلبه من غبار و حشرات، وهنا تدفع به الحيرة للاحتفاظ بملف خاص عن "بورخيس" يجمع فيه كلّ ما كتب وما ترجم له، وهي عملية شاقة تقتضي الاطلاع على كافة المطبوعات الموجودة لديه، وقد تستغرق أياماً طويلة، ولعلّه كان محقّاً عندما أسماها "التنقيب" وفي خضم هذا التنقيب خطر على باله جمع ملف آخر لـ
"أكتافيو باث" الشاعر المكسيكي الحاصل على جائزة نوبل 1990 والشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الذي اشتهر عالمياً في تلك المرحلة من الوعي المتجاوز لأفكار الأمس القريب، بما يؤكّد أنّ هذا النمط من اشتغالات القصّة القصيرة ارتبط بوعي ساد في السبعينيات وما بعد في الأدب والفن العالمي، وقد اصطلح عليه حينها بـ "الواقعية الجديدة"، أو "الواقعية بلا ضفاف"، ولكنه برأينا كان تعبيراً صادقاً عن انتقالة نوعية نحو أدب "ما بعد الحداثة" باعتبارها ناتج الصراع الأيديولوجي ما بين جماعتي "الفن للفن" و"الواقعية الاشتراكية" فيما إذا اعتبرنا أن كلتا الفكرتين كانتا تنطويان على بذور فنائها من حيث الأساس، فكان لابدّ من هذه الانعطافة التي بدأت أفكارها وطرائق التعبير الإبداعية تترسّخ في المشهد العالمي على اعتبار أن ثمة طرقاً مختلفة للوصول إلى الحقيقة، وقد يكون مثل هذا الناتج من أدب ناظم مهنا يبدو لا معقولاً لدى بعض النقّاد الذين لم يطّلوا بعد على اجتراحات بورخيس أو ساراماجو و ديفيد معلوف وسواهم ممن بات نجماً مشهوراً في عالم السرد غير المنتهي في تكوّنه سواء وفي تجاور الحبكات أو في اختيار الشخصيات المهمّشة والوعي بوظائف السارد، فضلاً عن بعثرة خطّية الحكاية وزمنها المتصاعد بالدمج ما بين الواقعي والمتخيّل، كما في قصّته "جبل أوبتا" المتخيّلة، إذ إن الشخصيات الواقعية تدخل الحدث إلى جانب الشخصيات المتخيّلة في خطّين غير متوازيين بما يسمح بتدخّلها في الحدث وتغيير مساره المتوقّع وما سيسفر عنه من مفاجآت.
هواجس وجودية
من الملاحظ في قصص ناظم مهنا أن شخصياته الرئيسية جميعاً من النخبة المثقّفة القلقة إنسانياً، وهذا القلق مرتبط بالهاجس الوجودي المحدِّد لسلوك الشخصية تيعاً لجملة التفاعلات النفسية التي غالباً ما يحفر عميقاً كي يكشف خفاياها ولاسيّما الرغبة العارمة في أن يكون حرّاً لا تقيّده أية قيود، والمميّز في هذا الوعي الجامح التوغّل في شعور ولاشعور الشخصيات التي تشبهنا، يتكاثف السرد بلاغياً في الصورة البصرية المشهدية فتضيء مراحل زمنية تأتي على شكل تداعيات عفوية غير منتظمة إبّان اللقاءات الحميمية المسترجعة، لتضيء في النهاية حياة الشخصية بما فيها من ذكريات سعيدة أو حزينة، وبعضاً من معاناتها في الحياة سياسياً وعاطفياَ وغيرها من شؤون الإنسان الاجتماعي والثقافي بعامة، فضلاً عن وقفاته التاريخية عند الحضارات الإنسانية المتعاقبة، وما قدّمته كلّ حضارة من أجل تقدّم البشرية، كي في الخلاصة نستنتج أن هذه الثقافات تعايشت وتفاعلت فيما بينها، ولم تتحارب، باعتبار أنّها جميعاً ساهمت في إنجاز النصّ الإنساني الممتدّ في الزمن، صاغه المبدعون و كتّاب الأساطير والمفكرون المعاصرون بالرغم من وحشية الصراع السياسي المتمثّل في أزمنة العبودية والاستعمار بمختلف أشكاله وما تركه من أثر في الوجدان الإنساني العام، كما في قصّة: "حرّاس العالم" حيث يلتمس القارئ نصّاً ملحمياً تتجلّى في ما آلت إليه أحوال الشعوب والحضارات المتعاقبة من انكسارات أمام جبروت ثقافة القوّة والاستحواذ، وكان من الضروري أن يعزز القاص هذا التوجه بمزيد من المتفاعلات النصّية لشخصيات لعبت أدواراً تاريخية مهمّة من مثل: جلجامش وأوتنابشتيم، الأميرة أوربا وقدموس، هرقل وهنيبعل، وليام سارويان، وهنري ميللر، ونورمان كابوت صاحب "قيثارة العشب"
وسواهم ممن أشار إلى مرحلة أو نهضة أو انتكاسة إلى نبالة وفروسية أو إلى خزي وعار..
هي حكاية العالم في الأزمنة الغابرة والمثقفون المبدعون ومن في حكمهم هم حرّاسه.
(مجتزأ من دراسة منجزة)
لشارقة الثقافية ٢٠٢٣