المتنبي (أحمد بن الحسين)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المتنبي (أحمد بن الحسين)

    متنبي (احمد حسين)

    Al-Mutanabi (Ahmad ibn al-Hussien-) - Al-Mutanabi (Ahmad ibn al-Hussien-)

    المتنبي (أحمد بن الحسين)
    (303 ـ 354هـ/915 ـ 965م)

    أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد، أبو الطيب المتنبي. أحد أبرز شعراء العصر العباسي والشعر العربي على الإطلاق.
    لا يتفق العلماء في نسبه إلا على اسم أبيه فقط، وتتعدد الآراء فيما وراء هذا النسب، وينسبه بعضهم إلى قبيلة «جُعفى» اليمانية. ومع ذلك كان المتنبي يكتم نسبه، وعندما سُئل عن سبب ذلك قال: «إني أنزل دائماً على قبائل العرب، وأحب ألا يعرفوني خيفة أن يكون لهم في قومي تِرَة».
    ولد في الكوفة في محلة كِندة منها، ولذلك ينسبونه أحياناً فيقولون: «الكندي» نسبة إلى هذه المحلة لا إلى القبيلة العربية المعروفة «كندة». كان أبوه سقّاء يبيع الماء في الكوفة، وحاول خصوم أبي الطيب أن ينالوا منه بتعييره بهذا المنبت الوضيع، ويبدو أنه كان يدرك هذا ويحاول أن يتجنبه بالفخر بنفسه لا بنسبه، كقوله:
    لا بقومي شَرُفتُ بل شَرُفُوا بي
    وبنفسي فَخَرْتُ لا بجدودي
    لا تذكر المصادر شيئاً عن طفولته ونشأته الأولى، وهذا أمر متوقع. توفيت أمه وهو صغير، فكفلته جدته وقامت على تربيته، وكان يذكرها في شعره، وعندما أصبح يافعاً ارتحل إلى البادية فأقام فيها سنتين، وبذلك نشأ نشأة بدوية، ثم عاد إلى الكوفة ولازم العلماء والأدباء والورّاقين (ناسخي الكتب) فأفاد منهم علماً متنوعاً غزيراً. وارتحل مع أبيه إلى بلاد الشام ووصل إلى عدد من مدنها. وكان المتنبي كثير المشي، يسير سيراً شديداً، وكان خبيراً بطرق البوادي ومواقع المياه، مما أعانه على ذلك، وقدم إلى اللاذقية وهو في نحو العشرين من عمره، فأُعجب الناسُ بفصاحته وحُسنِ سمته، ويقال: إنه نزل على أبي عبد الله معاذ بن إسماعيل اللاذقي؛ وادّعى أمامه أنه نبي، ولما أنكر عليه ذلك قال له:
    مثلي تأخـذُ النكباتُ منـه
    ويجزعُ من ملاقـاةِ الحِمامِ
    ولو برز الزمانُ إليَّ شخصاً
    لخضّبَ شعرَ مَفرِقه حسامي
    وقدّم له بعض ما يزعم أنه من معجزاته، فتبعه هو وأهله. ولما افتضح أمره قبض عليه والي حمص؛ وأودعه السجن، فأرسل إليه المتنبي أبياتاً يعلن توبته ويذكر أمه:
    بِيَدي أيها الأميرُ الأريبُ
    لا لشيء إلا لأنـي غريـبُ
    أو لأمٍّ لهـا إذا ذكرتْنـي
    دمعُ قلبٍ بدمعِ عينٍ سـكوبُ
    إن أكن قبلَ أن رأيتك أخطأ
    تُ فإني عـلى يـديك أتـوبُ
    وقيل في سبب ادّعائه النبوة أقوالٌ أخرى، من ذلك أنه قال: لُقّبتُ بالمتنبي لقولي:
    أنا تِربُ الندى وربُّ القوافي
    وسِـمامُ الـعِدا وغيظُ الحسودِ
    أنا في أمةٍ تداركهـا اللــ
    ـهُ غـريبٌ كصالحٍ في ثمود
    وبعد أن أطلق سراحه، حاول الوصول إلى عدد من أمراء بلاد الشام ومدحهم، أمثال التنوخيين؛ الذين خلّدهم في قصائده، من ذلك ما قاله في رثاء محمد بن إسحاق التنوخي:
    وحفيفُ أجنحةِ الملائِك حولَهُ
    وعيونُ أهـلِ الـلاذقية صُوْرُ
    كما لقي بدر بن عمار؛ وعبد الله ابن طُغج والي «الرملة»؛ وأبا العشائر ابن حمدان قريب سيف الدولة وواليه على مدينة أنطاكية، وقد مدحه بقصائد كثيرة، فقرّبه من سيف الدولة وقدّمه إليه، فدخل إلى مجلسه سنة 337هـ، وأقام عنده نحو تسع سنين، «وحسُن موقعُه عنده، وقرّبه، وأجازه الجوائز السنية، ومالت نفسه إليه، وأحبه فسلّمه إلى الرُّوّاض، فعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة»، وصحبه في عدد من حروبه وغزواته ضد الروم، وأدام مديحه، وخلّد أعماله في شعره، كقوله في بناء «الحدث» من قبل سيف الدولة:
    على قَدْرِ أهلِ العَزْمِ تأتي العزائِمُ
    وتأتي على قَدْرِ الكِرامِ المكـارمُ
    وتَعْظُمُ في عَينِ الصغيرِ صغارُها
    وتَصْغُرُ في عينِ العظيمِ العظائمُ
    هَلِ الحَدَثُ الحَمراءُ تَعرفُ لونَها
    وتَعْلَـمُ أيُّ الساقِيَيـْنِ الغَمَائـِمُ
    بَنَاها فأعْلى وَالقَنـَا يَقْرَعُ القَنَـا
    ومَوْجُ المنايا حَوْلَهـا مُتَلاطِـمُ
    وقوله يذكر جهاده وحروبه مع الروم:
    أنتَ طولَ الحياةِ للـرومِ غـازٍ
    فمتى الـوعدُ أن يكونَ القُفـُولُ
    وسوى الرومِ خلفَ ظهركَ رومٌ
    فـعلى أي جـانِبَيـْـكَ تميـلُ
    ويبدو أن المنزلة العظيمة التي حظي بها المتنبي عند سيف الدولة قد أغاظت عدداً من روّاد مجلسه؛ وهيّجت حاسديه عليه كابن خالويه وأبي فراس الحمداني، وكان أبو الطيب المتنبي يدرك ذلك، فها هو يخاطب سيفَ الدولة بقوله:
    أزلْ حسَدَ الحُسّادِ عني بكَبتهِمِ
    فأنتَ الذي صَيـرتَهُم لي حُسّـدَا
    وقد حاول حُسّادُه الإيقاع بينهما، ونجحوا في ذلك، وأدرك المتنبي ما يحاك له عند سيف الدولة، وأنهم استطاعوا أن يوغروا صدر الأمير عليه، فقدِم إليه وأنشده القصيدة التي يقول فيها:
    ألا ما لِسيفِ الدولةِ اليومَ عاتِبـا
    فَداهُ الوَرى أمْضَى السيوفِ مَضَارِبا
    ومَالي إذا ما اشتقتُ أبصَرتُ دونَه
    تنائِـفَ لا أشتاقُهـا وَسَـباسِـبا
    وقد كان يُدْني مَجلِسي من سَمائِه
    أُحادِثُ فيهـا بَدرَهـا والكَوَاكِبــا
    إلا أنه لم يلق استجابة من سيف الدولة، فأدرك أن القطيعة بينهما قادمة لا محالة، فخرج وهو يفكر في قصيدة تكشف الحقائق وتبين زيف ما جاء به المغرضون، وعاد بعدها لينشد في المجلس أمام الجميع قصيدته:
    وَا حرَّ قلباهُ ممنْ قلبُـهُ شَبِـمُ
    وَمَنْ بجسمي وحالي عِنـدهُ سَقَـمُ
    مالي أُكتّمُ حُباً قد برى جسدي
    وتَدَّعي حبَّ سيفِ الدولةِ الأمــمُ
    يا أعدَلَ الناسِ إلا في مُعَامَلَتْي
    فيكَ الخصامُ وأنتَ الخصمُ والحَكَمُ
    أُعِيذها نَظَراتٍ منكَ صادِقَـةً
    أنْ تحسَبَ الشحمَ فيمن شحمُه وَرَمُ
    «وغضب سيف الدولة من كثرة مناقشته في هذه القصيدة وكثرة دعاويه فيها، وضربه بالدواة التي بين يديه، فقال المتنبي في الحال»:
    إنْ كانَ سَرّكمُ ما قالَ حاسِدُنا
    فَمـا لـجُرْحٍ إذَا أَرْضـاكُمُ ألَـمُ
    فرضي سيف الدولة وقبّل رأسه وأجلسه إلى جانبه، وأعطاه مالا كثيراً. ويبدو أنه تعرض لحادثة اغتيال بعد خروجه من المجلس، إذ رماه أحدهم بسهم، إلا أنه لم يُصبه. وأيقن أبو الطيب أن المقام في بلاط سيف الدولة أصبح شبه مستحيل محفوفاً بالمخاطر، فغادره متوجهاً إلى مصر التي كان يحكمها كافور الإخشيدي، فمرّ بدمشق ثم بالرملة التي أكرمه واليها في ذلك الحين الحسين بن طغج، ثم توجه إلى كافور وأقام عنده قريباً من أربع سنين، وكان يسعى إلى أن يلبي كافور رغبته في أن يكون والياً على إحدى المناطق، وهذا واضح في قوله عندما وصل إليه:
    وغيرُ كَثيـرٍ أنْ يَزُورَكَ راجِـلٌ
    فَيِّرْجعَ مَلْكاً للعَراقَيْنِ وَاليِــَـا
    فقد تَهَبُ الجيشَ الذي جاءَ غازِياً
    لِسائـِلِكَ الفَرْدِ الذي جاء عَـافِياً
    ومن مدائحه المشهورة في كافور:
    كفى بكَ داءً أن ترى الموتَ شَافِيَا
    وَحَسـْبُ المَنـَايَا أن يـكُنَّ أمانِيَا
    تَمَنّيْتََهَـا لمـا تَمنيتَ أن تَرى
    صديـقاً فأعْيَـا أوْ عَدُواًً مداجِيـَا
    وعلى الرغم مما قاله من مدائح في كافور، إلا أن المشهور من شعره هو أهاجيه فيه. وكان المتنبي قرر أن يغادر مصر، فأعد لرحيله العدة سراً، وكان آخر ما أنشده في مصر قصيدته التي أنشدها قبل رحيله بيوم:
    عيدٌ بأيةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ
    بـما مضى؟ أمْ لأمرٍ فيـكَ تجديـدُ
    ثم هرب عائداً إلى الكوفة فوصل إليها سنة 351هـ.
    تنقل أبو الطيب بعد عودته من مصر بين الكوفة وبغداد، إلا أن أخبار هذه الفترة نادرة، ولم تشر المصادر إلى تردده على ولاة بغداد وأمرائها، ويبدو أنهم لم يروقوا له فلم يمدحهم، ورغب بعض الولاة والأدباء كالصاحب بن عباد في استزارة المتنبي؛ إلا أنه أبى ذلك، وهذا مما زاد حقدهم عليه والتشهير به.
    ويبدو أنه كان شديد الحنين إلى سيف الدولة، الذي أرسل إليه هدية ودعاه إلى العودة إلى مجلسه، فأرسل له قصيدة منها:
    ُلَّما رحّبت بنا الرَّوضُ قُلْنا:
    حَلَبٌ قصَْدُنا وأنتِ السَّبيِـلُ
    والمُسَمَّـوْنَ بالأميـر كثيـرٌ
    والأميرُ الذي بها المأمُـولُ
    الذي زُلتُ عنه شَرْقاً وغَرْبـاً
    ونَدَاهُ مُقابلـِي مـا يَـزُولُ
    مِنْ عَبيدي إنْ عِشتُ لي ألفُ كافو
    رٍ وَلِي مِنْ نَدَاكَ رِيفٌ ونِيلُ
    وتشير المصادر إلى زيارة قام بها إلى ابن العميد في «أرّجان» من بلاد فارس سنة 354هـ، ومدحه بقصيدته:
    بادٍ هواكَ صبْرتَ أم لم تصبِرَا
    وبُكاكَ إنْ لم يَجْرِ دَمعُكَ أو جَرَى
    كما أنه توجه إلى الأمير عضد الدولة حاكم شيراز تلبية لطلبه، وأقام عنده مدة قصيرة، ومدحه في عدة قصائد منها قوله:
    وقد رأيتُ الملوكَ قاطبةَ
    وسِـرتُ حتى رأيـتُ مـَوْلاها
    ثم استأذنه بالعودة إلى وطنه، فأذن له، فأنشده قبل خروجه قصيدة فيها توقّعٌ لهلاكه، من ذلك قوله:
    وأنّى شِئْتِ يا طُرُقي فَكُوني
    أذاةً، أو نجـَاةً، أو هَـلاكـَا
    وخرج من أصفهان سنة 354هـ متجهاً إلى العراق، فكمن له في الطريق بعض أعدائه وهو فاتك الأسدي، وأغاروا عليه فقتلوه وقتلوا معه ابنه مُحَسّداً وغلامَه مُفلحاً قرب دير عاقول غربي بغداد. وقيل في مقتله أقوال أخرى.
    كان المتنبي شديد الحافظة، حفظ شعر ابن الرومي، وكان لهذا الحفظ أثر كبير في تكوين الملكة الشعرية في نفس المتنبي. ويروى أنه حفظ رسالة وهو يتصفحها عند الورّاق، كما كان داهيةً، مُرَّ النفس، شجاعاً حافظاً للأدب، عارفاً بأخلاق الملوك، ولم يكن فيه ما يشينُه ويسقطه إلا بخلُه وشرهه على المال.
    وتعددت الآراء في أخلاقه وصفاته بتعدد مواقف الناس منه، ولكنّ المجمع عليه أنه كان مستقيماً، سريع الحافظة، شديد الاعتداد بنفسه، فيه استقامة وغرور وكبرياء، وعنده طموح إلى تولي منصب وزيادة ماله، كما كان مُلحفاً في الطلب، متقلب الهوى، قليل مداراة الناس، قليل العفو، رقيق العقيدة، فاحش الهجاء، فارساً شجاعاً وربما أظهر أحياناً شيئاً من الجبن والخوف.
    ويعدّ من أبرز شعراء العصر العباسي، بل من أبرز شعراء العربية؛ وإن اختلفت الآراء في منزلته الشعرية وفي شعره، حتى قيل عنه: «مالئ الدنيا وشاغل الناس». وإذا ذُكر المتنبي ذُكر معه أبو تمام والبحتري، وكثيراً ما فاضلوا بينهم فقدّموا أحدهم على الآخرَين، وكان ابن جني معجباً بشعره، وهو الذي قام على شرحه في كتابه الشهير «الفَسْر»، كما كان أبو العلاء المعري شديد الافتتان بشعره، وقد شرح ديوانه وسمّاه «معجز أحمد»، بينما شرح ديوان أبي تمام وسماه «ذكرى حبيب»، وديوان البحتري وسماه «عبث الوليد».
    وقد امتلك المتنبي زمام اللغة، لانت له فسهل عليه قيادها وتوجيهها، كما اقتدر على تفتيق المعاني فأبدع في ذلك أيما إبداع، وكثر في شعره الأمثال والحكم، وشُغِلت به الألسن، وسهرت في أشعاره الأعين، وكثر الناسخ لشعره والغائص في بحره والمفتش عن جُمانه ودُرّه، وقد طال فيه الخُلف وكثر عنه الكشف، وله شيعةٌ تغلو في مدحه، وعليه خوارج تتعب في جرحه، ولذلك صح فيه القول: مالئ الدنيا وشاغل الناس.
    كما كان المتنبي يزدري الشعراء الذين يحاولون بلوغ الشهرة من خلال التعرض له، فقال فيهم:
    أفي كلِّ يومٍ تحت ضِبْني شُوَيعِرٌ
    ضعيفٌ يُقاويني قصيـرٌ يُطاوِلُ
    لسِانِي بنُطْقِي صَامتٌ عنه عادِلٌ
    وقلبي بصمتي ضاحكٌ منه هازِلُ
    يعد المتنبي من الشعراء المكثرين، إذ بلغ مجموع شعره نحو ستة آلاف بيت، وهو يُذكَر مع شعراء الصنعة، كما أنه يُحسب مع شعراء الطبع، وتعددت أغراضه الشعرية، وموضوعات قصائده، وتكاد جميع الأغراض الشعرية تظهر في قصائده، منهاالغزل الذي تميز بالإكثار من الحديث عن مواقف الفراق والوداع، كقوله:
    حُشاشةَ نفسٍ ودّعتْ يوم ودّعوا
    فلم أدرِ أيَّ الظاعِنَيْـن أودّعُ
    أشاروا بتسليـمٍ فجُدْنـا بأنفُسٍ
    تسيلُ من الآماقِ والسمُّ أدْمُعُ
    وبالتغزل بالنساء العربيات والبدويات، كقوله:
    ما أوجُهُ الحَضَرِ المُسْتَحسَناتُِ بهِ
    كأوجـهِ البدوياتِ الـرعَابيبِ
    حُسنُ الحضارة مجلوبٌ بتطريةِ
    وفي البداوةِ حُسْنٌ غيرُ مجلوبِ
    وظهر الرثاء في شعره، إلا أنه كان قليلا، من ذلك رثاؤه لأخت سيف الدولة:
    أرى العراقَ طويلَ الليَّل مُذْ نُعيَت
    فكيف ليلُ فتى الفتيان في حَلَبِ
    يظـنُّ أن فؤادي غيـرُ مُلْتَهـبِ
    وأن دَمْعَ جُفُوِني غيـرُ مُنْسَكِبِ
    وتعددت موضوعات الوصف عنده، فوصف الطبيعة الصامتة، والحيوانات، والحرب وأسلحتها، وغير ذلك، ومن شعره الوصفي قوله يصف (شِعبَ بَوّان):
    لها ثمـرٌ تُشيرُ إليكَ مـنه
    بأشْـــرِبَةٍ وقَفَـنَ بلا أوَان
    وأمْواهٌ تَصِلُّ بها حَصَاهـا
    صليلَ الحَلي في أيدي الغَوَاني
    إذا غَنَّى الحمامُ الوُرْقُ فيها
    أجابَتْــه أغانِـيُّ القِيــان
    وبرز في شعره الجانب الفلسفي، فبدا من خلاله أثر ما أخذه عن أهل المنطق، وما اكتسبه من ثقافة عصره، كقوله في مسألة الروح وخلودها:
    تَخالَفَ الناسُ حتى لا اتفاقَ لهم
    إلا على شَجَبٍ والخُلْفُ في الشَّجَب
    فقيل: تخلُصُ نَفْسُ المَرْءَِ سالِمةً
    وقيلَ تَشْرَكُ جسمَ المرْءِ في العَطَبِ
    وَمَنْ تَفَكّرَ في الدنيا ومُهْجَتِهِ
    أقـامَهُ الفِكْرُ بينَ العَجْزِ والتـَّعَبِ
    وكثرت شكوى المتنبي من كثير من أمور الحياة، ومن الناس، حتى قال:
    ألا ليتَ شِعري هل أقولُ قصيدةً
    فـلا أشـتكي فيـها ولا أتـعتّبُ
    وقال شاكياً من الناس:
    ولمّا صارَ وُدُّ الناس خِبّاً
    جـَزَيْتُ على ابتسـامٍ بابتِسـامِ
    وصَِرتُ أشكُّ فيمنْ أصْطفيهِ
    لِعـِلْمي أنـَّه بـعضُ الأنـامِ
    وله أشعار يظهر فيها النقد الاجتماعي، كقوله فيمن يتعلق بالمظاهر ويترك الجوهر:
    أغايةُ الدينِ أن تُحفوا شوارِبَكم
    يا أمةً ضحكتْ من جهلِها الأُمَمُ
    وكثر فخره الشخصي، كقوله:
    أنا الذي نَظَرَ الأعمى إلى أدَبي
    وأسْمَعَتْ كلماتي مَنْ بهِ صَمَـمُ
    الخيلُ والليلُ والبيداءُ تَعرفُني
    والسَّيفُ والرُّمحُ والقرطاسُ والقَلَمُ
    سَيَعلَمُ الجَمعُ ممن ضمَّ مجلِسُنا
    بأنَّني خَيـرُ من تَسْعى بهِ قَـدَمُ
    ويُعدُّ المتنبي ممن أكثر من المدائح وتكسب في شعره، ومعظم مدائحه الصادقة في سيف الدولة، ومنها قوله:
    لكلِّ امرئِ من دَهـرهِ ما تَعَـوَّدا
    وعاداتُ سيف الدولة الطعنُ في العِدا
    هوَ البحرُ غُصْ فيهِ إذا كانَ ساكناً
    على الدَّرّ واحْذَرْهُ إذا كـانَ مُزْبِــدا
    تظلُّ ملوكُ الأرضِ خاضعـةً لــه
    تُفـارِقُـهُ هَلْـكَى وتَلْقـاهُ سُجَّــدا
    وغلب على هجائه التعريض بالآخرين وإن بدا فيه شيء من التهكم والفحش أحياناً، ومن هجائه:
    إنِّـي نَزَلْتُ بكذّابيـن ضَيفُهــمُ
    عن القِرى وعن التَّرحالِ محدودُ
    جودُ الرجالِ من الأيدي وجودُهُـمُ
    مِنَ اللسانِ فلا كانُوا ولا الجُـودُ
    ما يقبِضُ الموتُ نفساً مِنْ نفوسِهِم
    إلا وفي كفـه من نَتْنِـها عُـود
    طُبع ديوان المتنبي عدة طبعات، واهتم به العلماء والدارسون، وقاموا بشرحه والتعليق عليه ومقارنته بأشعار فحول الشعراء، فقد شرحه الواحدي، وهو مطبوع، كما شرحه أبو الفتح بن جني شرحاً موسعاً أطلق عليه اسم «الفَسْر» طُبعت بعض أجزائه، كما طبع شرحٌ آخر يُنسبُ للعُكبَري، وشرح للبرقوقي وهو من المتأخرين، وثمة شروح أخرى بعضها مطبوع وبعضها مخطوط، وبعضها يتناول قضايا محددة في شعره.
    وكثرت الكتب والدراسات والمقالات حول حياة المتنبي وشعره قديماً وحديثاً كثرة واضحة قلّ أن يوجد مثيل لها في غيره من شعراء العربية، فممن تناول شعره من القدماء ابن جني في كتابه «الفتح الوهبي على مشكلات المتنبي»، وابن سيده الأندلسي في كتابه «شرح المشكل من شعر المتنبي»، والقاضي الجرجاني في «الوساطة بين المتنبي وخصومه»، والحاتمي في «الرسالة الموضحة في سرقات أبي الطيب المتنبي وساقط شعره»، ويوسف البديعي في «الصبح المنبي عن حيثية المتنبي»، وغيرهم كثير. أما الدراسات المعاصرة فهي كثيرة جداً.
    علي أبوزيد
يعمل...
X