اثيوبيه (تاريخ)
Ethiopia - Ethiopie
تاريخ إثيوبية وحضارتها
إثيوبية كلمة يونانية الأصل ومعناها بلاد الوجوه المحروقة، وقد ذكرها هوميروس في الأوديسة وفي الإلياذة،،وهيرودوت في تاريخه، واسترابو في جغرافيته، وديودوروس الصقلي في مؤلَّفه «مكتبة التاريخ»، وبلينيوس Pliny في موسوعته «التاريخ الطبيعي». ولكن أياً من هؤلاء لم يكن يعني إثيوبية الحالية، بل بلاداً - قد تكون قريبة منها أو بعيدة عنها - يسكنها أقوام ذوو بشرة داكنة. وأشار الإنجيل (أعمال الرسل 8/27) إلى أن وزير ملكة إثيوبية «كندالة» اعتنق المسيحية. غير أن المراد هنا مملكة تعاقب على حكمها بضع ملكات حملن هذا اللقب وكانت حاضرتها «مروى» على النيل شمال الخرطوم الحالية. أما وصف بعض الباحثين الأسرة الخامسة والعشرين (730- 665 ق,م) في مصر الفرعونية بأنها إثيوبية فلايعني سوى أنها نوبية أو سودانية.
ويرى بعض المؤلفين أن إثيوبية حملت أيضاً اسم «كوش» عند القدماء غير أن الراجح أنه ورد ذكر بلاد كوش في الكتابات المصرية القديمة منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة (1575- 1308 ق.م) ثم في تاريخ وقائع الملك الآشوري آشور بانيبال (668- 626ق.م) أما في العهد القديم فيرد اسم كوش علماً على أحد أبناء حام الأربعة أو اسماً لبلاد لم تحدد تحديداً دقيقاً وإن كان الغالب أن المراد بها النوبة والسودان. وتمثل رسوم على جدران معبد الملكة حتشبسوت (1490- 1468ق.م) - الأسرة الثامنة عشرة - في الدير البحري بطيبة الغربية بعثة بحرية أوفدتها الملكة إلى بلاد بونت Pont للحصول على أشجار الكندر والأبنوس والبخور والمرّ والعاج وسواها، وقد قيل إن تلك البلاد هي إثيوبية، بيد أن آراء الباحثين تذهب في تحديد موقعها مذاهب شتى حتى يجعلها بعضهم في الصومال بل في موريتانية.
أما الاسم الآخر لإثيوبية وهو «الحبشة» فقد ورد، أول ما ورد، في النقوش اليمنية القديمة بدءاً من أواخر القرن الثاني الميلادي إشارة إلى «أكسوم» أقدم دولة قامت هناك.
التاريخ القديم
ما قبل أكسوم: إن ما يتوافر من معلومات مستقاة من مصادر قديمة ومن الكشوف الأثرية لايعود بنا إلى تلك الحقبة البعيدة، ذلك أن نتائج دراسة المواقع الأثرية في شمالي إثيوبية ترجح عبور جماعات يمنية البحر الأحمر في النصف الثاني من الألف الأول ق.م، حيث استقرت أول الأمر في المنطقة الساحلية ثم توسعت إلى الداخل لتقيم حضارة شبيهة بتلك المعروفة في اليمن القديم، وتقدم الدليل على ذلك النقوش المكشوفة في المنطقتين المذكورتين من حيث لغتها وخطها ومضمونها، وكذلك الطراز المعماري وأسلوب النحت، فقد عثر على مجموعة من النقوش المكتوبة بالخط العربي الجنوبي «المُسند» أو بخط قريب منه - ولغتها سبئية أو وثيقة الصلة بها - تتضمن أسماء لآلهة وأشخاص وأمكنة وردت في النقوش اليمنية القديمة. وثمة شبه واضح بين تصميم واجهة معبد يحا Yeha - على بعد 50 كم من الشرق من أكسوم - وقاعدته المدرجة والمباني المماثلة له - ولاسيما المعبد الكبير - في مأرب، كما يلاحظ هذا الشبه في المباخر والمذابح الحجرية وكذلك في أسلوب المنحوتات البارزة وفي أشكال التماثيل ومنصات القرابين وفي استخدام الرموز المقدسة كالهلال مثلاً.
وكان الباحثون حتى عهد قريب يرون أن حضارة هذه الحقبة من صنع المهاجرين الذين عبروا البحر الأحمر وحدهم، غير أن الرأي السائد الآن يذهب إلى مشاركة السكان المحليين في ذلك ويقسمها إلى مرحلتين: أولاهما مرحلة سبئية - إثيوبية مشتركة تمتد من عام 500 ق.م إلى عام 300 ق.م، والثانية مرحلة يظهر فيها تأثير قادم من مملكة مروى في الشمال ممثلاً في الأدوات البرونزية والحديدية والفخارية وفي الحلي الذهبية، وكذلك من مصر الهلينية ممثلاً في الأساليب الفنية في النحت. ولكن هذا الأمر لايعني زوال تأثير اليمن القديم، إذ كشفت قطع برونزية مثقوبة على شكل بطاقات مزينة برسوم حيوانات تتضمن نقوشاً عربية جنوبية قصيرة يبدو فيها - وفي نقوش أخرى - تطور في الخط واللغة على السواء. أضف إلى ذلك استمرار ورود أسماء الآلهة وأسماء الأعلام المعروفة في النقوش اليمنية القديمة، وختام هذه المرحلة هو نهاية القرن الأول الميلادي.
مملكة أكسوم: ورد ذكر أكسوم أول مرة في كتاب «الإبحار في البحر الأحمر» أي في المحيط الهندي Periplus of the Erythraean Sea وهو دليل ملاحي ألّفه باليونانية رحالة مصري مجهول في مطلع القرن الثاني الميلادي ووصف ملكها زوسكالس Zoscales بأنه كان بخيلاً جشعاً عارفاً بلغة الإغريق وآدابهم، كما وصف ميناء عدولي Adulis جنوب مصوّع بأنه كان سوقاً للعاج. وأشار بلينيوس إلى هذا الميناء على أنه واحد من أهم موانئ البحر الأحمر آنذاك، وورد ذكر الأكسوميين لدى الجغرافي كلاوديوس بطليموس Claudius Ptolemaeus في القرن الثاني الميلادي. وجعل ماني Mani (216- 274م) مؤسس المانوية في كتاب «العقائد» Kephalaia مملكتهم إحدى الممالك الأربع في العالم. وتدل النقوش المكتوبة باللغتين الجعزية واليونانية - وكذلك النقوش السبئية المعاصرة لها المكشوفة في اليمن - على نشوء هذه المملكة في القرن الثاني الميلادي وعلى عبور الأكسوميين البحر الأحمر إلى الجنوب العربي في الربع الأخير من ذلك القرن.
وفي مجموعة من النقوش تنسب إلى الملك عيزانا Ezana ذكر لآلهتهم الكبرى مَحْرم Mahrem وبحر Beher ومدر Medr، ووصفاً لتوسعه هو وحلفاؤه شمالاً حتى مروى وجنوباً حتى بحيرة تانا. ومما يشير إلى هذا التوسع الألقاب التي اتخذها هؤلاء الملوك، مثل ملك أكسوم وحمير وكاسو وسبأ وحبشة وريدان وسلحين وسيدامو وبُجّة. ويرى الباحثون استناداً إلى استهلال أحد نقوش عيزانا بعبارة «بعون إله السماء والأرض» أن المملكة تحولت في عهده - أي في منتصف القرن الرابع أو الخامس - إلى المسيحية. ويرجع ازدهار هذه المملكة في المقام الأول إلى مواردها الوافرة من التجارتين البرية والبحرية بالسلع الرائجة آنذاك كالعاج والبخور والعطور والرقيق والذهب والفيلة. وقد أورد كوزماس أنديكوبلويستس Cosmas Indicopleustes وصفاً مستفيضاً لذلك في كتابه «الطبوغرافية المسيحية» الذي يرجع تأليفه إلى منتصف القرن السادس. وقد اشتملت الكشوف الأثرية على أدوات ومصنوعات فخارية وزجاجية من حوض المتوسط ومروى والهند. ويؤكد ذلك أيضاً المسكوكات الذهبية والفضية والنحاسية التي سكها ملوك أكسوم فحملت أسماء نحو عشرين منهم وإن كنا لانعرف عن معظمهم شيئاً. وكان لهذه الصلات التجارية الواسعة أثر واضح في الحضارة الأكسومية، فقد أصبحت الإغريقية - بعد أن تحولت إلى المسيحية - لغة البلاط حتى اتخذ الملوك أسماء يونانية نحو، زوسكاليس وأفيلاس Aphilas وأوساناس Ousanas وانديبيس Endybis وسمبروتس Semburthes، وأطلقت نقوشهم الإغريقية على الإله القومي محرم اسم أريس Ares إله الحرب الإغريقي.
ووفد على البلاد رهبان بيزنطيون يعرفون الإغريقية والسريانية، وأنشئت الكنائس والأديرة وأقيمت المسلات وشيّدت القصور. غير أن كثيراً منها لحقه الخراب والتدمير، فلم يبق من قصور أكسوم الثلاثة «اندا سمعون» و«إند ميكائيل» و«تعخا مريم» سوى قواعدها. على أن كوزماس يقول: إنه رأى في إثيوبية قصراً ملكياً يتألف من أربعة أبراج، مما يذكّرنا بالطراز المعماري الذي لايزال قائماً في اليمن حتى اليوم.
أما المسلات العملاقة فقد تهشمت خمس منها وبقيت اثنتان، أخذت إحداهما إلى رومة عام 1937، وظلت الثانية وارتفاعها 33 متراً في مكانها وقد حفر على أحد جوانبها رسم يمثل مبنى مؤلفاً من تسع طبقات. ويجد المرء قبالة هذه المسلات ألواحاً حجرية ضخمة يبلغ طول أحدها 17 متراً وعرضه 6 أمتار وسماكته متراً. أما العروش والتماثيل الضخمة التي ورد ذكرها في النقوش، أو وصفها كوزماس، فلم يبق منها سوى المصاطب والقواعد التي كانت تحملها. ومازالت أكسوم تعد حتى اليوم المدينة المقدسة عند نصارى إثيوبية جميعهم، ولم يبق في المراكز العمرانية الأكسومية الأخرى وأهمها عدولى - المهجورة الآن - ومطرا Matra عل بعد 135 كم إلى الجنوب من أسمرة وقوحايتو Kohayto - قرب مطرا - سوى أطلال كنائس وقصور وبيوت وقبور. غير أن أعمال التنقيب الأثري مستمرة في هذه المواقع وسواها في منطقة تبلغ مساحتها زهاء 50 ألف كم2 في أريترية وتغرين قلب المملكة الأكسومية آنذاك.
وتتحدث مصادر متعددة منها رسالة أزقير Azqir الإثيوبية وكتاب كوزماس وكتاب بروكوبيوس (وهو مؤرخ بيزنطي من القرن السادس) عن تاريخ الحروب، ومصادر أخرى عربية وغير عربية عن تدخل ملك «أكسوم إلاَّ - أصبحا» الملقب بـ «كالب» Kalib، الذي يرد في اليونانية في صيغة Ellesbaas على الأرجح بمساعدة الأسطول البيزنطي في اليمن، انتقاماً لنصارى نجران الذين اضطهدهم في أوائل القرن السادس يوسف ذو نواس، وإن كان المرء لايستطيع أن ينظر إلى هذا الأمر بمعزل عن الصراع الدائر آنذاك بين الامبراطوريتين الكبريين الفارسية والبيزنطية.
فلما حلّ القرن السابع بدأ ذكر مملكة أكسوم يضمحل شيئاً فشيئاً، إذ لايتجاوز ما يُعرف عنها آنذاك هجرة المسلمين إلى الحبشة وأسماء تسعة من ملوكها على مسكوكات تحمل إشارة الصليب، ويبدو أن اضمحلال دورها يعود إلى أمور ثلاثة: أحدها قيام الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وفارس ومصر مما أدى إلى إضعاف أكسوم سياسياً بإبعاد حليفتها بيزنطة من الشرق كله، واقتصادياً بإنهاء دورها التجاري براً وبحراً ولاسيما بعد فتح الأمويين جزائر دهلك في خليج مُصوّع وسيطرتهم على الطرق التجارية في البحر الأحمر. وثانيهما نشوء إمارات مسيحية منافسة في الشمال الغربي من المملكة وأهمها علوة ومُقُرَّة والنوبة. وثالثها زحف قبائل البجَّة من الشمال مما اضطر الأكسوميين إلى الابتعاد نحو الجنوب ليستبدلوا بأكسوم حاضرة جديدة هي الناصرة Nazaret . ولانكاد نعرف عن تاريخ الأكسوميين في القرن الثامن والتاسع شيئاً يستحق الذكر ما خلا حديث اليعقوبي ثم المسعودي عن حاضرة مزعومة للحبشة تدعى «كعبر» لم يتمكن أحد حتى اليوم من معرفة موقعها.ولعلّ هذا ما يجعل الباحثين - في تاريخهم لأكسوم - يقفون عند القرن السابع ولايجاوزونه.
الأسرة الزغوية: تصوّر المصادر الإثيوبية - ويجاريها في هذا الباحثون الغربيون - الصراع بين المملكة المسيحية الإثيوبية - بعد زوال مملكة أكسوم في القرن الثامن أو التاسع الميلادي - وجيرانها من المسلمين والوثنيين حتى القرن السادس عشر على أنه صراع بين نظام شرعي وعصاة متمردين. بيد أن الحقائق التاريخية تثبت أن هذه المملكة كانت طوال الحقبة المذكورة إحدى دول المنطقة، تتحالف معها مرة وتقاتلها مرات. وكانت حدودها تضيق أو تتسع من عهد إلى عهد. ولم يصل إلينا من أخبار هذه المملكة حتى منتصف القرن الثالث عشر سوى نتف متفرقة لاتكفي لتأليف صور واضحة عن تلك الحقبة فقد ذكر ابن حوقل المتوفى عام 977م في كتابه «صورة الأرض» أن المملكة المسيحية في زمانه كانت تحكمها منذ ثلاثين سنة - امرأة ثارت على ملكها المعروف باسم «الحضاني» وقتلته. وتؤكد المصادر الإثيوبية ذلك ولكنها لاتحددّ هوية المرأة بل تصفها بأبشع الأوصاف. ثم وصل إلى السلطة في ظروف غامضة أمراء منطقة لاستا في شمالي ولاية وَلّو Wallo الحالية. وترى
Ethiopia - Ethiopie
تاريخ إثيوبية وحضارتها
إثيوبية كلمة يونانية الأصل ومعناها بلاد الوجوه المحروقة، وقد ذكرها هوميروس في الأوديسة وفي الإلياذة،،وهيرودوت في تاريخه، واسترابو في جغرافيته، وديودوروس الصقلي في مؤلَّفه «مكتبة التاريخ»، وبلينيوس Pliny في موسوعته «التاريخ الطبيعي». ولكن أياً من هؤلاء لم يكن يعني إثيوبية الحالية، بل بلاداً - قد تكون قريبة منها أو بعيدة عنها - يسكنها أقوام ذوو بشرة داكنة. وأشار الإنجيل (أعمال الرسل 8/27) إلى أن وزير ملكة إثيوبية «كندالة» اعتنق المسيحية. غير أن المراد هنا مملكة تعاقب على حكمها بضع ملكات حملن هذا اللقب وكانت حاضرتها «مروى» على النيل شمال الخرطوم الحالية. أما وصف بعض الباحثين الأسرة الخامسة والعشرين (730- 665 ق,م) في مصر الفرعونية بأنها إثيوبية فلايعني سوى أنها نوبية أو سودانية.
ويرى بعض المؤلفين أن إثيوبية حملت أيضاً اسم «كوش» عند القدماء غير أن الراجح أنه ورد ذكر بلاد كوش في الكتابات المصرية القديمة منذ عهد الأسرة الثامنة عشرة (1575- 1308 ق.م) ثم في تاريخ وقائع الملك الآشوري آشور بانيبال (668- 626ق.م) أما في العهد القديم فيرد اسم كوش علماً على أحد أبناء حام الأربعة أو اسماً لبلاد لم تحدد تحديداً دقيقاً وإن كان الغالب أن المراد بها النوبة والسودان. وتمثل رسوم على جدران معبد الملكة حتشبسوت (1490- 1468ق.م) - الأسرة الثامنة عشرة - في الدير البحري بطيبة الغربية بعثة بحرية أوفدتها الملكة إلى بلاد بونت Pont للحصول على أشجار الكندر والأبنوس والبخور والمرّ والعاج وسواها، وقد قيل إن تلك البلاد هي إثيوبية، بيد أن آراء الباحثين تذهب في تحديد موقعها مذاهب شتى حتى يجعلها بعضهم في الصومال بل في موريتانية.
أما الاسم الآخر لإثيوبية وهو «الحبشة» فقد ورد، أول ما ورد، في النقوش اليمنية القديمة بدءاً من أواخر القرن الثاني الميلادي إشارة إلى «أكسوم» أقدم دولة قامت هناك.
التاريخ القديم
ما قبل أكسوم: إن ما يتوافر من معلومات مستقاة من مصادر قديمة ومن الكشوف الأثرية لايعود بنا إلى تلك الحقبة البعيدة، ذلك أن نتائج دراسة المواقع الأثرية في شمالي إثيوبية ترجح عبور جماعات يمنية البحر الأحمر في النصف الثاني من الألف الأول ق.م، حيث استقرت أول الأمر في المنطقة الساحلية ثم توسعت إلى الداخل لتقيم حضارة شبيهة بتلك المعروفة في اليمن القديم، وتقدم الدليل على ذلك النقوش المكشوفة في المنطقتين المذكورتين من حيث لغتها وخطها ومضمونها، وكذلك الطراز المعماري وأسلوب النحت، فقد عثر على مجموعة من النقوش المكتوبة بالخط العربي الجنوبي «المُسند» أو بخط قريب منه - ولغتها سبئية أو وثيقة الصلة بها - تتضمن أسماء لآلهة وأشخاص وأمكنة وردت في النقوش اليمنية القديمة. وثمة شبه واضح بين تصميم واجهة معبد يحا Yeha - على بعد 50 كم من الشرق من أكسوم - وقاعدته المدرجة والمباني المماثلة له - ولاسيما المعبد الكبير - في مأرب، كما يلاحظ هذا الشبه في المباخر والمذابح الحجرية وكذلك في أسلوب المنحوتات البارزة وفي أشكال التماثيل ومنصات القرابين وفي استخدام الرموز المقدسة كالهلال مثلاً.
وكان الباحثون حتى عهد قريب يرون أن حضارة هذه الحقبة من صنع المهاجرين الذين عبروا البحر الأحمر وحدهم، غير أن الرأي السائد الآن يذهب إلى مشاركة السكان المحليين في ذلك ويقسمها إلى مرحلتين: أولاهما مرحلة سبئية - إثيوبية مشتركة تمتد من عام 500 ق.م إلى عام 300 ق.م، والثانية مرحلة يظهر فيها تأثير قادم من مملكة مروى في الشمال ممثلاً في الأدوات البرونزية والحديدية والفخارية وفي الحلي الذهبية، وكذلك من مصر الهلينية ممثلاً في الأساليب الفنية في النحت. ولكن هذا الأمر لايعني زوال تأثير اليمن القديم، إذ كشفت قطع برونزية مثقوبة على شكل بطاقات مزينة برسوم حيوانات تتضمن نقوشاً عربية جنوبية قصيرة يبدو فيها - وفي نقوش أخرى - تطور في الخط واللغة على السواء. أضف إلى ذلك استمرار ورود أسماء الآلهة وأسماء الأعلام المعروفة في النقوش اليمنية القديمة، وختام هذه المرحلة هو نهاية القرن الأول الميلادي.
مملكة أكسوم: ورد ذكر أكسوم أول مرة في كتاب «الإبحار في البحر الأحمر» أي في المحيط الهندي Periplus of the Erythraean Sea وهو دليل ملاحي ألّفه باليونانية رحالة مصري مجهول في مطلع القرن الثاني الميلادي ووصف ملكها زوسكالس Zoscales بأنه كان بخيلاً جشعاً عارفاً بلغة الإغريق وآدابهم، كما وصف ميناء عدولي Adulis جنوب مصوّع بأنه كان سوقاً للعاج. وأشار بلينيوس إلى هذا الميناء على أنه واحد من أهم موانئ البحر الأحمر آنذاك، وورد ذكر الأكسوميين لدى الجغرافي كلاوديوس بطليموس Claudius Ptolemaeus في القرن الثاني الميلادي. وجعل ماني Mani (216- 274م) مؤسس المانوية في كتاب «العقائد» Kephalaia مملكتهم إحدى الممالك الأربع في العالم. وتدل النقوش المكتوبة باللغتين الجعزية واليونانية - وكذلك النقوش السبئية المعاصرة لها المكشوفة في اليمن - على نشوء هذه المملكة في القرن الثاني الميلادي وعلى عبور الأكسوميين البحر الأحمر إلى الجنوب العربي في الربع الأخير من ذلك القرن.
وفي مجموعة من النقوش تنسب إلى الملك عيزانا Ezana ذكر لآلهتهم الكبرى مَحْرم Mahrem وبحر Beher ومدر Medr، ووصفاً لتوسعه هو وحلفاؤه شمالاً حتى مروى وجنوباً حتى بحيرة تانا. ومما يشير إلى هذا التوسع الألقاب التي اتخذها هؤلاء الملوك، مثل ملك أكسوم وحمير وكاسو وسبأ وحبشة وريدان وسلحين وسيدامو وبُجّة. ويرى الباحثون استناداً إلى استهلال أحد نقوش عيزانا بعبارة «بعون إله السماء والأرض» أن المملكة تحولت في عهده - أي في منتصف القرن الرابع أو الخامس - إلى المسيحية. ويرجع ازدهار هذه المملكة في المقام الأول إلى مواردها الوافرة من التجارتين البرية والبحرية بالسلع الرائجة آنذاك كالعاج والبخور والعطور والرقيق والذهب والفيلة. وقد أورد كوزماس أنديكوبلويستس Cosmas Indicopleustes وصفاً مستفيضاً لذلك في كتابه «الطبوغرافية المسيحية» الذي يرجع تأليفه إلى منتصف القرن السادس. وقد اشتملت الكشوف الأثرية على أدوات ومصنوعات فخارية وزجاجية من حوض المتوسط ومروى والهند. ويؤكد ذلك أيضاً المسكوكات الذهبية والفضية والنحاسية التي سكها ملوك أكسوم فحملت أسماء نحو عشرين منهم وإن كنا لانعرف عن معظمهم شيئاً. وكان لهذه الصلات التجارية الواسعة أثر واضح في الحضارة الأكسومية، فقد أصبحت الإغريقية - بعد أن تحولت إلى المسيحية - لغة البلاط حتى اتخذ الملوك أسماء يونانية نحو، زوسكاليس وأفيلاس Aphilas وأوساناس Ousanas وانديبيس Endybis وسمبروتس Semburthes، وأطلقت نقوشهم الإغريقية على الإله القومي محرم اسم أريس Ares إله الحرب الإغريقي.
ووفد على البلاد رهبان بيزنطيون يعرفون الإغريقية والسريانية، وأنشئت الكنائس والأديرة وأقيمت المسلات وشيّدت القصور. غير أن كثيراً منها لحقه الخراب والتدمير، فلم يبق من قصور أكسوم الثلاثة «اندا سمعون» و«إند ميكائيل» و«تعخا مريم» سوى قواعدها. على أن كوزماس يقول: إنه رأى في إثيوبية قصراً ملكياً يتألف من أربعة أبراج، مما يذكّرنا بالطراز المعماري الذي لايزال قائماً في اليمن حتى اليوم.
أما المسلات العملاقة فقد تهشمت خمس منها وبقيت اثنتان، أخذت إحداهما إلى رومة عام 1937، وظلت الثانية وارتفاعها 33 متراً في مكانها وقد حفر على أحد جوانبها رسم يمثل مبنى مؤلفاً من تسع طبقات. ويجد المرء قبالة هذه المسلات ألواحاً حجرية ضخمة يبلغ طول أحدها 17 متراً وعرضه 6 أمتار وسماكته متراً. أما العروش والتماثيل الضخمة التي ورد ذكرها في النقوش، أو وصفها كوزماس، فلم يبق منها سوى المصاطب والقواعد التي كانت تحملها. ومازالت أكسوم تعد حتى اليوم المدينة المقدسة عند نصارى إثيوبية جميعهم، ولم يبق في المراكز العمرانية الأكسومية الأخرى وأهمها عدولى - المهجورة الآن - ومطرا Matra عل بعد 135 كم إلى الجنوب من أسمرة وقوحايتو Kohayto - قرب مطرا - سوى أطلال كنائس وقصور وبيوت وقبور. غير أن أعمال التنقيب الأثري مستمرة في هذه المواقع وسواها في منطقة تبلغ مساحتها زهاء 50 ألف كم2 في أريترية وتغرين قلب المملكة الأكسومية آنذاك.
وتتحدث مصادر متعددة منها رسالة أزقير Azqir الإثيوبية وكتاب كوزماس وكتاب بروكوبيوس (وهو مؤرخ بيزنطي من القرن السادس) عن تاريخ الحروب، ومصادر أخرى عربية وغير عربية عن تدخل ملك «أكسوم إلاَّ - أصبحا» الملقب بـ «كالب» Kalib، الذي يرد في اليونانية في صيغة Ellesbaas على الأرجح بمساعدة الأسطول البيزنطي في اليمن، انتقاماً لنصارى نجران الذين اضطهدهم في أوائل القرن السادس يوسف ذو نواس، وإن كان المرء لايستطيع أن ينظر إلى هذا الأمر بمعزل عن الصراع الدائر آنذاك بين الامبراطوريتين الكبريين الفارسية والبيزنطية.
فلما حلّ القرن السابع بدأ ذكر مملكة أكسوم يضمحل شيئاً فشيئاً، إذ لايتجاوز ما يُعرف عنها آنذاك هجرة المسلمين إلى الحبشة وأسماء تسعة من ملوكها على مسكوكات تحمل إشارة الصليب، ويبدو أن اضمحلال دورها يعود إلى أمور ثلاثة: أحدها قيام الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية وبلاد الشام والعراق وفارس ومصر مما أدى إلى إضعاف أكسوم سياسياً بإبعاد حليفتها بيزنطة من الشرق كله، واقتصادياً بإنهاء دورها التجاري براً وبحراً ولاسيما بعد فتح الأمويين جزائر دهلك في خليج مُصوّع وسيطرتهم على الطرق التجارية في البحر الأحمر. وثانيهما نشوء إمارات مسيحية منافسة في الشمال الغربي من المملكة وأهمها علوة ومُقُرَّة والنوبة. وثالثها زحف قبائل البجَّة من الشمال مما اضطر الأكسوميين إلى الابتعاد نحو الجنوب ليستبدلوا بأكسوم حاضرة جديدة هي الناصرة Nazaret . ولانكاد نعرف عن تاريخ الأكسوميين في القرن الثامن والتاسع شيئاً يستحق الذكر ما خلا حديث اليعقوبي ثم المسعودي عن حاضرة مزعومة للحبشة تدعى «كعبر» لم يتمكن أحد حتى اليوم من معرفة موقعها.ولعلّ هذا ما يجعل الباحثين - في تاريخهم لأكسوم - يقفون عند القرن السابع ولايجاوزونه.
الأسرة الزغوية: تصوّر المصادر الإثيوبية - ويجاريها في هذا الباحثون الغربيون - الصراع بين المملكة المسيحية الإثيوبية - بعد زوال مملكة أكسوم في القرن الثامن أو التاسع الميلادي - وجيرانها من المسلمين والوثنيين حتى القرن السادس عشر على أنه صراع بين نظام شرعي وعصاة متمردين. بيد أن الحقائق التاريخية تثبت أن هذه المملكة كانت طوال الحقبة المذكورة إحدى دول المنطقة، تتحالف معها مرة وتقاتلها مرات. وكانت حدودها تضيق أو تتسع من عهد إلى عهد. ولم يصل إلينا من أخبار هذه المملكة حتى منتصف القرن الثالث عشر سوى نتف متفرقة لاتكفي لتأليف صور واضحة عن تلك الحقبة فقد ذكر ابن حوقل المتوفى عام 977م في كتابه «صورة الأرض» أن المملكة المسيحية في زمانه كانت تحكمها منذ ثلاثين سنة - امرأة ثارت على ملكها المعروف باسم «الحضاني» وقتلته. وتؤكد المصادر الإثيوبية ذلك ولكنها لاتحددّ هوية المرأة بل تصفها بأبشع الأوصاف. ثم وصل إلى السلطة في ظروف غامضة أمراء منطقة لاستا في شمالي ولاية وَلّو Wallo الحالية. وترى